محفوظ بجاوي
الحوار المتمدن-العدد: 8292 - 2025 / 3 / 25 - 22:49
المحور:
سيرة ذاتية
لم تكن الغربة يومًا خيارًا سهلًا، لكنها كانت ضرورة. غادر وطنه، ولم يكن وحده، بل أخذ معه أبناءه، حاملاً معهم أحلامًا كبيرة ومستقبلًا أراده مشرقًا. أراد لهم حياة كريمة، تعليمًا جيدًا، فرصًا أفضل مما كان متاحًا في أرضه الأولى. كان يظن أنه بفعل ذلك سيحميهم من الغربة، لكنه لم يكن يدرك أنه يزرعها فيهم وفي نفسه على حد سواء.
مرت السنوات، كبر الأبناء، اندمجوا في المجتمع الجديد، أصبحوا جزءًا منه، لغتهم تغيرت، عاداتهم تبدلت، وأصبحوا يرون أنفسهم أبناء هذا الوطن الجديد أكثر من أبناء وطنهم الأم. لكنه، هو، لم يتغير. بقي قلبه معلقًا بجذوره، روحه لم تستطع الاندماج، ظل غريبًا في الأرض التي أفنى عمره فيها، غريبًا حتى داخل بيته
الغربة الأولى: الوطن الذي لفظه
ترك وطنه ولم يلتفت كثيرًا، فقد كان يعامله وكأنه لم يكن ينتمي إليه منذ البداية. وعندما عاد إليه بعد سنوات، لم يجد إلا وجوهًا غريبة، أماكن لم تعد كما كانت، وشعورًا قاسيًا بأنه لم يعد مرحبًا به هناك. تغير كل شيء، حتى الناس، حتى القيم التي عرفها. وكأنه عاد إلى وطن لا يعرفه، ووطن لا يعرفه.
الغربة الثانية: الأبناء الذين ابتعدوا رغم قربهم
كان يرى فيهم امتدادًا له، لكن الزمن جعله يرى الحقيقة بوضوح: هو الماضي، وهم المستقبل. يحاول التحدث معهم عن أيامه الصعبة، عن تضحياته، لكنهم يسمعونه بآذان غريبة، وكأن ما يقوله قصة من زمن بعيد، لا تعنيهم كثيرًا. في البداية، كان يظن أنهم منشغلون بالحياة، لكن الحقيقة المؤلمة ظهرت شيئًا فشيئًا: هم لم يعودوا يشبهونه، ولم يعد يشبههم.
حتى أحفاده، الذين انتظرهم بشوق، ينظرون إليه وكأنه زائر نادر. يتكلم معهم، لكنهم يجيبونه بلغة أخرى، بفكر آخر، وكأنهم لم ينتموا يومًا لجذوره. يريد أن يكون جزءًا من حياتهم، لكنه يشعر وكأنه شخص غريب يحاول فرض نفسه عليهم.
الغربة في غربة... والنهاية بلا وطن
لم يعد له وطن يعود إليه، ولم يعد له بيت يحتويه، ولم يعد له قلب يشعر به. أصبح غريبًا بين أهله، زائرًا في بيته، مجرد ذكرى بين أبنائه، وأحيانًا، عبئًا لا يريدون الاعتراف به.
يريد الرحيل، لكنه لا يعرف إلى أين. هل يعود إلى وطن لا يعرفه، أم يبقى في وطن لا يريده؟ هل يعود إلى ماضٍ لم يعد له وجود، أم يبقى في حاضر لا يعترف به؟
وهكذا، تنتهي رحلة الغربة بحقيقة موجعة: أحيانًا، لا تكون الغربة مجرد مكان، بل شعور يرافقك أينما ذهبت، حتى بين الذين ظننت أنهم سيكونون ملاذك الأخير.
#محفوظ_بجاوي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟