|
اعتقال محمود خليل أحد دلالات الفاشية في نظام ترمب
سعيد مضيه
الحوار المتمدن-العدد: 8291 - 2025 / 3 / 24 - 10:13
المحور:
العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية
ترجمة سعيد مضية
"ما يقلق ترامب وأنصاره ان خليل ، شأن الكثيرين من الشباب، يرفض الرضوخ لحكمهم الاستبدادي . نشاطه يتحدى بشكل مباشر الإيديولوجيا التي يسعون لفرضها – إيديولوجيا تتطلب الطاعة ، وتجرّم المقاومة وتسعى لمحو كل إمكانية للتضامن بين الشعوب المضطهدة" يورد الأكاديمي الأمريكي هنري غيرو في مفال نشره في 21 مارس / آذار الجاري.
مقدمة ليس اختطاف محمود خليل حدثًا معزولًا، بل هو شهادة مروعة على التوجه الاستبدادي في الولايات المتحدة، حيث لا تُقابل المعارضة بالنقاش، بل بالقوة الغاشمة، وتتحرك آلية إرهاب الدولة بدقة لا هوادة فيها. على حد تعبيره، ودون سابق إنذار، اعتقل عملاء دائرة -الهجرة والجمارك محمود خليل، خريج جامعة كولومبيا، والناشط في سبيل حرية فلسطين، والمقيم الدائم بالولايات المتحدة - اقتيد مُكبّل اليدين من بهو شقته، ودُفع إلى سيارة سوداء بدون علامات، واختفى. في دقائق، انتُهكت حقوقه، وأصبح جسده عرضة للخطر وقابلًا للتصرف. أصبح خليل على الفور ضحية أخرى في حرب إدارة ترامب المتصاعدة ضد أولئك الذين يرفضون الرضوخ لسياساتها القائمة على عنصرية تفوق العرق الأبيض، والعنف الاستعماري الاستيطاني، والتهديدات المشؤومة، والفوضى العارمة. يُعد اختفاؤه سابقةً وتحذيرًا في آنٍ واحد - تذكيرًا صارخًا بأنه، في الأنظمة القائمة على القمع، يفرض الصمت وتُعتبر المقاومة جريمة. ما حدث لخليل يتردد صداه عبر التاريخ، من ملاحقة الجستابو للمعارضين السياسيين إلى "الحروب القذرة" في أمريكا اللاتينية، حيث وُصف الطلاب والمثقفون والناشطون بالإرهابيين وأُجبروا على الاختفاء دون أثر. إن مساواة المعارضة بالإرهاب سمة أساسية من سمات الأنظمة الاستبدادية. ونهايتها هي غرف التعذيب، والسجون، ومعسكرات الاعتقال، وزوال أي أثر لحقوق الإنسان، وللحريات المدنية، وللديمقراطية. واليوم، يُبعث منطق القوة نفسه تحت ستار الأمن القومي، حيث تُفكك حكومة ترامب بشكل منهجي حق الاحتجاج، وحرمة المواطنة، والمُثُل الديمقراطية التي كانت يومًا حصنًا منيعًا ضد الاستبداد. إن فهم اختطاف خليل يعني مواجهة الهجوم الأوسع على المعارضة في عصرٍ تُمارس فيه الدولة سلطة إخفاء أولئك الذين يرفضون الانصياع أو التواطؤ. إن الاختطاف غير القانوني لخليل لا يتعلق فقط بالاعتداء على حرية التعبير، بل يتعلق أيضًا بتدمير الذاكرة التاريخية، وإشاعة الأمية المدنية، وشطب المؤسسات التي تُوفر ثقافة النقد التي تُنشئ مواطنين مُستنيرين. إن إرهاب الدولة المُتجلي في قضية خليل لا يتعلق فقط بطالب واحد، أو احتجاج واحد، أو إدارة واحدة - بل يتعلق بمصير الديمقراطية نفسها. السؤال الآن ليس ما إذا كنا نُدرك هذه العلامات التحذيرية، بل ما إذا كنا نتحرك قبل فوات الأوان.
عودة الكابوس
أطلقت عودة ترامب إلى البيت الأبيض هجومًا شاملًا على الحريات المدنية والمؤسسات الديمقراطية، بل وحتى على إمكانية محاسبة السلطة. لم يعد ترامب مقيدًا بمن سعوا يومًا لكبح جماح أسوأ دوافعه، بل يحكم الآن بازدراء علني لسيادة القانون، مدفوعًا بحركة تكتسب القوة بالقسوة والظلم والعنف المستمر. لطالما كانت لغته سلاحًا - شحذها الخوف، وشحذها التهديد، واستُخدمت للتحريض على العنف ضد المهاجرين والأمريكيين السود، وكل من يجرؤ على تحدي حكمه. على مدى سنين طويلة والصحافة الرئيسة تتجاهل خطاب ترامب، اعتبرته مجرد كلام فاحش - عملٌ مُصمم للترفيه أو الاستفزاز المُبالغ فيه، وليس دعوةً حقيقيةً لنمط سلطة. بغير هزة كتف لم يُقابل إعلانه عن رغبته في أن يكون "ديكتاتورًا ليوم واحد"، وما تلاه من اقتباسٍ مفاده: "من يُنقذ وطنه لا يُخالف أي قانون"، ولم يُعامل بقلق يُذكر. وافترض الكثيرون أن تهديداته الفاشية ليست سوى مسرحيات فارغة، مُطمئنين للاعتقاد بأنه سيظل تحت سيطرة المُديرين والقيود القانونية. لكن هذا الوهم قد تبدد الآن. مع تكشّف ملامح رئاسته الثانية، لم تعد آلية الاستبداد في طور البزوغ، بل تعمل بكامل طاقتها. بجرأة تنتصب الآن دولة العقوبات، تُجرّم المعارضة، تشهر نظام العدالة سلاحا، تُفكّك التعليم العام والعالي، تختطف الأفراد، تحتضن الفساد، وتُنفّذ عمليات ترحيل جماعي بكفاءة باردة ومحسوبة تُذكّر ببعض أحلك فصول التاريخ الأمريكي. يتردد صدى هذا الإرث في مداهمات بالمر خلال العامين ١٩١٩ و١٩٢٠، حين اعتُقل آلاف اليساريين والفوضويين والمهاجرين دون سبب، وكثيرًا ما كابدوا المعاملة الشرسة ، وشكلت فترة "الرعب الأحمر"، خاصةً خلال عهد مكارثي في خمسينيات القرن الماضي، فصلًا قاتمًا آخر، حيث دمرت حملات مطاردة الساحرات التي أقرتها الحكومة حياةً ومسيرةً مهنيةً بناءً على أبسط الاتهامات. وفي أعقاب حرب فيتنام، وُصفت المعارضة للصراع بأنها غير أمريكية، وبلغت ذروتها بالوفيات المأساوية لطلاب جامعة ولاية كينت. والى عهد أقرب، وسّعت إدارة بوش، في حربها على الإرهاب بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، هذا التقليد الكئيب، من خلال المراقبة الجماعية، والاحتجاز لأجل غير مسمى، وإساءة معاملة السجناء في خليج غوانتانامو على نطاق واسع - وكلها وجدت تبريرها باسم الأمن القومي. من غارات بالمر والمكارثية إلى انتهاكات عهد بوش، تُشكّل هذه الأحداث استمرارية شرسة، كل منها متجذّر في تجريم المعارضة واستهداف المجتمعات المهمّشة. إنها تكشف عن تقليد راسخ للدولة قضى باستخدام سلطاتها القمعية لقمع المعارضة وفرض الأيديولوجيا المتزمتة(الأرثوذكسية).. لم يكتفِ ترامب بالكشف عن هذا الإرث المظلم من عنف الدولة والحرب على المعارضة، بل أدخل عليه تحديثات، إذ حاز على تكتيكات صُقلت خلال "الحروب القذرة" بالأرجنتين، والقمع المميت للطلاب في عهد بينوشيه بتشيلي، والأساليب الشبيهة بالجيستابو استخدمتها ألمانيا النازية- لتنفيذ حملات التطهير العرقي ونهج التخلص من الفضلات البشرية . وبذلك، أعاد إحياءَ كتابٍ تاريخيٍّ خطير، حوّله إلى سلاحٍ ضدّ من يجرؤون على المقاومة، ومن يؤيدون فكرةَ المواطنةِ العالمية.
للتاريخ أهميته
يكتسب التاريخ أهمية - بما يحمله من ذكريات خطيرة – لأنه يبقي على انكشاف ظلال الاستبداد العالقة ، طارحا تحذيرات أساسية لوعي عودتها بأشكال جديدة ومقاومتها. كما يذكرنا باول غيلروي، "تلك الأهوال تظل على الدوام أقرب إلينا مما نتخيل؛ ومنع تكرارها من جديد يتطلب حفظها بالذاكرة". ليست فاشية اليوم نسخة طبق الأصل عن الماضي؛ لكن انفعالاتها المحفزة لم تزل مألوفة بشكل خطير. يتردد في عصرنا صدى تحذير بريمو ليفي الاستشرافي: "لكل عصر فاشيته الخاصة، ونرى إشارات تحذيرية حيثما ينكر تمركز السلطة على المواطنين إمكانية وأساليب التعبير والتصرف بإرادتهم الحرة". في عهد ترامب، لا تعكس معاملة المعارضين نفس ما رأيناه في عهود هتلر، بينوشيه أو الديكتاتورية الأرجنتينية؛ لكنها تحمل ما أسماه مارتن وولف “ استبداد بخصائص فاشية". كما يُعلّمنا التاريخ، يبدأ القمع باللغة قبل أن يصبح قانونًا، ودور القانون يسبق العنف. أطلق النازيون صفة الإرهاب على المعارضين، بصراحة قال هاينريش هيملر أن الطلاب الذين تحدوا الرايخ لا مكان لهم في مجال رؤيته ، مُشبّهًا إياهم بالآفات التي يجب إبادتها . وصف بينوشيه الجامعات بحاضنة الإرهابيين، مبررًا بذلك الاعتقالات الجماعية والتعذيب والإعدامات. اختطف النظام العسكري الأرجنتيني الطلاب أُلقى بهم من الطائرات [بقر بطونهم كي تجتذب رائحة الدم أسماك القرش وتلتهمهم وتطمس للجريمة-المترجم] . قتل أكثر من 30 ألفًا. لم ترتكب إدارة ترامب مثل هذه الفظائع، لكن الخطاب والسياسات موجودة. يجري بناء الآلية، والتاريخ يحذرنا: حالما تتهيأ الظروف، يمكن أن تعود الأهوال التي ظننا أنها تنتمي إلى الماضي بصيغة لم نكن لنتخيلها . يحتفظ بالأهمية الفائقة التأكيد على أن الاختطاف والتعريض للاضطهاد لكل من خليل وطلبة أخرين مناضلين من أجل حرية فلسطين ، إلى جانب دفاعهم عن الجامعة كمصلحة عامة ديمقراطية، ليس فقط اعتداء على حرية التعبير والحرية الأكاديمية - بل هو تجسيد مباشر لخاصية محورية بالفاشية كما وصفها جي. إم. تاماس: "العداء للمواطنة العالمية".لا يرى ترامب بالمواطنة حقا دستوريا، بل شيئا بمستطاعه منحه كجزء من سلطة لا تجارى باتت بحوزته. يرى تاماس بحق أن هذه هي السمة المركزية لما أسماه ما فوق الفاشية. وهذا يزيح النقاب عن شيء أكثر غدرا ودموية : فالسيل المتدفق لهجمات ترامب ضد أفراد الشيوعيين والمتحولين جنسياً والمهاجرين والسود واليهود ليست مجرد أنشطة هجوم أيديولوجي؛ إنما هي محاولات لتجريد هذه المجموعات من إنسانيتها بالذات. وبتعبير تاماس، "يؤطرهم غير مواطنين"، يضعهم ترامب في مصاف غير بشر، ويحط من قدرهم الى ما دون الاعتراف والحقوق. هذا التجريد من الإنسانية هو ترس محور الفاشية، يمهد الطريق للعنف التالي حتما . العنف المطروح في إطار التبرير، بل الضروري كذلك. إن الإجراءات البربرية التي اتخذتها دائرة الهجرة والجمارك وعناصر أخرى من دولة العقوبات ، تعمل بصفة "قوة شرطة عنصرية" - تتورط في أحيان كثيرة باعتقالات واختطافات غير قانونية ومفرطة ضد الطلبة، وتنظيم مسيرات بشعة لمهاجرين مقيدين بسلاسل كأنهم عصابات جريمة – تبعث نغمة مخفضة لعنصرية ظلامية. إن الدفاع عن هذه الأفعال مشبع بسم الشرطة العنصرية الشرسة وتشجيع أعمال الحراسة الذاتية، تسمم المجتمعات وتعري الجذور العميقة والخطيرة للعنف العنصري الذي ينتشر في أركان المجتمع الأمريكي كافة.
الإرهاب المحلي مبدأ منظم للنشاط السياسي يرى ترامب وأتباعه المتملقون المفرغون من القيم الأخلاقية، ان الحرب قد تنفي الديمقراطية، إن لم تنفر النشاط السياسي بالذات. بتركيزها على القضاء على المعارضين والمنتقدين، ومن يُعتبرون خونة وفضلات بشرية يجب التخلص منها تنتقل عسكرة جميع جوانب المجتمع من الهوامش الى " صلب الحكم". وكما أوضح ثيودور أدورنو وآخرون، تعكس أنشطة ترامب أصداء أنماط راسخة منذ امد للهيمنة، تتبلور في صقيع احتفاءٍ بالسلطة وبالفظاعة وعبادة الذكورة، تبرز معالمها جميعا الازدراء العميق لمن يُعتبرون ضعفاء. بانحيازه لصف بالحكام المتسلطين ، لا يُعلي ترامب من شأن الديكتاتوريين وحسب، بل كذلك يشكل خطرا يهدد بتفكيك التحالفات المشكلة عبر الأجيال، مُطلقًا سلسلة حروب تجارية في أعقابها وعدوان إقليمي . نظامه ليس نقيضا للقانون وحسب ـ إنما هو تفكيكٌ مُتعمّدٌ ومنهجيٌّ للمعايير الديمقراطية، يُعيد تشكيل الولايات المتحدة إلى نظامٍ فاشيٍّ يزيد صلابة السلطة، وتزداد ثروات طبقة المليارديرات ، ويفرض الصمت على المعارضة من خلال التخويف والاضطهاد والفوضى التي يحركها ترامب نفسه. وهذا ليس حكومة ، بل هو انحدارٌ إلى حالة من الاضطراب المستدام، مصمم لضمان السيطرة بأي ثمن. يتضح بجلاء هذا النمط من الحكم الاستبدادي في هجومه على التعليم العالي والعام، حيث يشن حملة لا هوادة فيها لحظر الكتب المتعلقة بالجندر [الوظيفة الاجتماعية للمرأة]، وتاريخ السود، والدورات التي تتناول قضايا المتحولين جنسيًا، وضغوط الظلم الاجتماعي. لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد. فكما يشير جيسون ستانلي، فإن خطة ترامب لتفكيك وزارة التعليم هي محاولة وقحة لسحب التمويل من الباب الأول، وهو برنامج يوفر دعمًا فيدراليًا أساسيًا للطلبة في المدارس الحضرية والريفية التي تعاني من نقص التمويل، وبرامج التعليم الخاص للطلاب ذوي الإعاقة، ومجموعة من المبادرات التعليمية الحيوية الأخرى. كما هدد ترامب، مستخدمًا تهمة ملفقة بمعاداة السامية، بسحب التمويل الفيدرالي من 60 كلية وسيلة لإكراه الجامعات على الخضوع. وبذلك، استهدف أعضاء هيئة التدريس والطلاب وبرامج أكاديمية بأكملها اعتبرها غير متوافقة مع رؤية للتعليم وفق أصولية مسيحية البيض. هذا ليس مجرد هجوم؛ بل محاولة لتكييف التعليم أداة للتلقين الأيديولوجي وسيطرة الاستبداد. المزعج أن عددًا متزايدًا من الجامعات يذعن لهذه المطالب، وجامعة كولومبيا من بين الجامعات التي تسمح بذلك. ولسوء الحظ يلزم الصمت العديد من رؤساء الجامعات والأكاديميين، "رافضين الدفاع العلني الحازم عن الديمقراطية" - مما يضعهم متواطئين مع نموذج تعليمي يحمل شبها مقلقا للسوابق التاريخية - ألمانيا النازية والواقع الحالي للمجر بقيادة أوربان. بوضوح تتطلب خطورة اللحظة الراهنة أكثر من مجرد التحليلات المعتادة للفساد والتجاوزات السياسية. ما نشهده ليس مجرد تفكيك للحماية الدستورية أو توسع دولة عنيفة - بل هو إرهاب محلي يدار من أعلى مستويات الحكومة؛ ليس مجرد تداع للحقوق، بل هو إشاعة محسوبةٌ للخوف، آليةٌ اضطهاد نشأت محليا بدلت الحكم الى أداة إرهاب. شرعيةٌ خبيثةٌ تُشنُّ حربًا ضد الجمهور الأمريكي تحت ستار القانون والنظام، حيث لم تعد السلطة تُعاقب فحسب، بل تسعى إلى استحضار محقق على من تصنفهم اعداء. أطلق على اعتقال خليل وآخرين - يهودًا وغير يهود - ممن تضامنوا مع حرية الفلسطينيين، بأنه عنف معادٍ للسامية. هذا التأطير يطمس الخط الفاصل بين قمع الدولة والهجوم الأوسع على الفكر النقدي بالذات. في ظل نظام ترامب، يُنظر إلى التفكيرعلى أنه أحد أشكال الجبن الأخلاقي؛ وكما لاحظ، ببصيرة نفاذة، أمبرتو إيكو في نقده للفاشية، فإن التفكير النقدي يُوصَف أيضًا بأنه أحد أشكال الإخصاء.
سياسة الإبادة والاختفاء
هذه سياسة إبادة - سياسة لا تقتل دائمًا بشكل مباشر، بل تُبقي شعوبًا بأكملها في حالة من العوز[ دخل لا يلبي الحاجات وعير ثابت] المستدام، عالق بين البقاء والاختفاء. وكما حذِّرت جوديث بتلر، فإن هذا هو منطق الحكم الذي "يُنتج العوز، ويُبقي الجماهير على حافة الموت، أحيانًا يقتل أفرادها ويوفر البعض احيانا ". إنه أحد أشكال العنف البطيء، حيث يغدو الوجود ذاته هشا، وحيث يُترك المهاجرون والمعارضون والفقراء والمهمشون على أساس عرقي في حالة من الضعف الدائم، وحياتهم لا يحددها حكم القانون، بل نزوات السلطة. ان السيل المتدفق لأكاذيب ترامب اللامبالية وعدم توقفه عن كيل التهم للمعارضة "إرهابيين" و "أنصار حماس " و "أعداء من الداخل"، الى جانب دعواته للانتقام الشرس بسجن خصومه- صحافيين وقضاة وسياسيين ومدعين عامين- تشكل هندسة مشينة للإرهاب والتخلي عن حكم القانون. نظام مكرس لإسكات كل من يعارضه أو إخفاؤه او تصفيته. علينا ان نتوقف ونتأمل حين يزعم المدعي العام، بوندي، ان القاضي يساند الإرهاب لمجرد ان يحكم ضد النفي الجماعي بموجب "قانون العدو الأجنبي"؛ أو عندما ينفذ قرار غير قانوني بإبعاد الدكتورة رشا علوية ، الطبيبة من أصل لبناني، المتميزة المختصة بزراعة الكلى والأستاذة بجامعة براون، وتحمل فيزا للمهنيين المتخصصين . على كل حال من المهم جدا اعتبار السياق العنصري والديني لهذا التصرف. فالدكتورة عدوية امرأة عربية مسلمة لم يجر استهدافها بناءً على عمل إجرامي ، إنما الاحتمال الأكبر بسبب هويتها . ان اضطهاد محمود خليل ليس مظلمة معزولة ، بل جزءٌ من نمط ممنهج اوسع من اضطهاد شرعته الدولة -اضطهاد تستهدف بموجبه الأفراد من سلالة الإسلام أو العرب ، ليس بسبب اي جريمة ارتكبوها، إنما بسبب أصولهم. وكما يلاحظ جيفري سانت كلير فإن خليل يواجه الآن الإبعاد رغم انه لم توجه اليه اي تهمة. في الحقيقة "الإساءة “ الوحيدة الصادرة عنه التجرؤ بممارسة حقه في حرية التعبير - الاستنكار بصراحة أخلاقية ، لحرب الإبادة التي ارتكبتها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، وأقر بذلك عدد لا يحصى من منظمات حقوق الإنسان. ان هذا بالتحديد المأخذ ضد محمود خليل من قبل عنصريي القومية البيضاء ، دونالد ترمب ، ماركو روبيو وستيفن ميلّر و تحويله الى سجين سياسي من طراز خطير. ولا ينفصل هجومهم عليه عن حربهم الواسعة ضد المعارضة ، وضد مقاومة الشباب ، وضد الحق في التنديد بفظائع تبيحها الدولة. جريمة خليل في اعينهم ليست العنف ولا التطرف، او اي انتهاك للقانون – انها رفض الصمت بوجه مجزرة غير شرعية ومستنكرة أخلاقيا ، مجزرة ارتكبها نتنياهو وحكومته اليمينية ضد نساء واطفال أبرياء في غزة. ما يقلق ترامب وأنصاره ان خليل ، شأن الكثيرين من الشباب، يرفض الرضوخ لحكمهم الاستبدادي . نشاطه يتحدى بشكل مباشر الإيديولوجيا التي يسعون لفرضها – إيديولوجيا تتطلب الطاعة ، وتجرم المقاومة وتسعى لمحو كل إمكانية للتضامن بين الشعوب المضطهدة . يتجلى هذا بالوضوح الأبرز في رغبة إدارة ترامب في استخدام كامل قوة دولة العقوبات بلا رادع تسحق كل من يجرؤ على اعتبار السلطة عرضة للمحاسبة. الصقت الحكومة بخليل صفة الخطَر، متهمة إياه زوراً بالانضمام لصفوف الإرهابيين، و حمل يهود الولايات المتحدة على "الشعور بعدم الأمان"، والتحالف مع حماس. ومع ذلك، وكما يوضح سانت كلير، فإن تصريحات خليل بصدد إسرائيل دبلوماسية بشكل لافت للنظر، متجذرة في رؤية للعدالة تقر بالرابطة الوثيقة بين التحرير الفلسطيني واليهودي. يقتبس سانت كلير من أقوال خليل ما يوضح هذه النقطة: "بصفتي طالبا فلسطينيا، أعتقد أن تحرير الشعب الفلسطيني والشعب اليهودي متشابكان ويسيران جنبًا إلى جنب، ولا يمكنك تحقيق أحدهما بدون الآخر". كما وصف الحركة بأنها إحدى الحركات المناضلة “من أجل العدالة الاجتماعية والحرية والمساواة للجميع". وقال خليل لشبكة سي إن إن ، عام 2024: "بالطبع، لا مجال لمعاداة السامية؛ فما نشهده مشاعر معادية للفلسطينيين تتخذ أشكالًا مختلفة، منها اللاسامية والخوف من الإسلام والعنصرية . قضية خليل لا تتعلق به فقط. إنها تتعلق بالهجوم الأوسع تشنه إدارة ترامب ضد الديمقراطية، وضد الاحتجاج، وضد كل حق في مقاومة الظلم . بات رمزًا لدولة مصممة على إسكات منتقديها، دولة تعاقب الشباب لرفضهم الخضوع لإملاءاتها. وفي ذلك، يقف بمثابة تحذير وإلهام. ذلك ان اضطهاد خليل ان انطوى على شيء ، فهو أن النضال من أجل العدالة لم ينته بعد ــ وأن أولئك الذين يقبضون على السلطة سوف يستخدمون كل أدوات العنف التي تستخدمها الدولة لقمع النضال. رغم كل ما قيل، فمصير خليل ليس مأساة معزولة؛ إنما هو نذير تحولات أعمق وأكثر خبثًا - انحدار نحو نظام خارج عن القانون يتحدى المحاكم علنًا، ويستغل قوانين قديمة كقانون الأعداء الأجانب المتخذ عام 1798، ويمحو الإجراءات القانونية الواجبة بحصانة من المساءلة. ليس حالة شاذة دفع ترامب السافر لطرد مئات المهاجرين الفنزويليين، دون مبرر قانوني؛ إنما هو نموذج، وطلقة تحذير لمستقبل تُجرّم فيه المعارضة نفسها، حيث يمكن دمغ أي شخص - فلسطينيًا، مهاجرًا، طالبًا، متظاهرًا – بصفة "إرهابي" ونفيه من ضمير الأمة. وكما يحذر، بمنتهى الدقة ، نورمان أورنشتاين، وهو ليس راديكاليًا،: هذا هو الغيستابو الأمريكي. غير ان التاريخ أثبت، مرة تلو أخرى ، أن الحركات التي تولد من الحقيقة لا تموت تحت الاضطهاد، بل تزداد قوة.
#سعيد_مضيه (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التعليم العالي حين يكرس للأغراض الحربية(3من3) معهد ماساتشوست
...
-
التعليم العالي حين يكرس للأغراض الحربية معهد ماساتشوستس للتك
...
-
التعليم العالي حين يكرس للأغراض الحربية معهد ماساتشوستس للتك
...
-
التطهير العرقي جار جنوب الضفة الغربية
-
فيضان الثقافة العادمة يغرق الولايات المتحدة(3من3)
-
فيضان الثقافة العادمة يغرق الولايات المتحدة(2من3)
-
فيضان الثقافة العادمة يغرق الولايات المتحدة(حلقة 1من3)
-
الأبارتهايد أصل الداء وتصفيته هي الدواء
-
مرتزقة امريكيون في ممر نبتساريم بغزة
-
إدارة ترامب تستثمر الليبرالية الجديدة فاشية جديدة
-
ترمب يرى غزة عقارا للاستثمار وليس ضحية إبادة جماعية
-
هذه فاتشية، يجب إيقافها
-
بالإرادة الصلبة المتماسكة تُفشل مخططات التهجير ويدحر الاحتلا
...
-
سياسات سوقية تنتهجها إدارة ترامب
-
ثقافة استسلمت لأسوأ غرائزها في مجتمع يعول على النسيان
-
الميديا الرئيسة في عالم الرأسمال تزيف الوقائع وتحتفي بقتل ال
...
-
الاستعمار الاستيطاني سينتهي في فلسطين وإسرائيل
-
نظام يمارس الخداع بمهارة وعلة الدوام
-
ذئاب ترامب شرعت العواء على فلسطين
-
تنديد بتجار الموت – التحذير النبوئي للدكتور مارتن لوثر كينغ
المزيد.....
-
حزب الشعب الجمهوري يتبنى أشكالا أخرى من الاحتجاج
-
صوفيا ملك// -لن أَدفع! لنْ أَدفع!-
-
بلاغ الجبهة المغربية لدعم الشعب الفلسطيني ومناهضة
-
غزة: مئات المتظاهرين الفلسطينيين في بيت لاهيا يرددون شعارات
...
-
مسيرة إحياء لذكرى يوم الأرض في رام الله
-
الاحتجاجات المنددة بسجن رئيس بلدية إسطنبول لا تهدأ وأردوغان
...
-
مصر.. ضخ 2.7 مليار جنيه لإحياء شركة محلية كبرى من زمن عبد ال
...
-
عالِمة نفس تتحدى الطريقة التي ننظر بها إلى المرض النفسي
-
غدًا تجديد حبس القيادي العمالي “شادي محمد” وخمسة شباب في قضي
...
-
تجديد حبس القيادي العمالي شادي محمد وخمسة شباب 45 يومًا في ق
...
المزيد.....
-
مَشْرُوع تَلْفَزِة يَسَارِيَة مُشْتَرَكَة
/ عبد الرحمان النوضة
-
الحوكمة بين الفساد والاصلاح الاداري في الشركات الدولية رؤية
...
/ وليد محمد عبدالحليم محمد عاشور
-
عندما لا تعمل السلطات على محاصرة الفساد الانتخابي تساهم في إ
...
/ محمد الحنفي
-
الماركسية والتحالفات - قراءة تاريخية
/ مصطفى الدروبي
-
جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ودور الحزب الشيوعي اللبناني
...
/ محمد الخويلدي
-
اليسار الجديد في تونس ومسألة الدولة بعد 1956
/ خميس بن محمد عرفاوي
-
من تجارب العمل الشيوعي في العراق 1963..........
/ كريم الزكي
-
مناقشة رفاقية للإعلان المشترك: -المقاومة العربية الشاملة-
/ حسان خالد شاتيلا
-
التحالفات الطائفية ومخاطرها على الوحدة الوطنية
/ فلاح علي
-
الانعطافة المفاجئة من “تحالف القوى الديمقراطية المدنية” الى
...
/ حسان عاكف
المزيد.....
|