|
الانحيازات المعرفية وتأثيرها على القبول المجتمعي لانتهاكات حقوق الإنسان: العراق نموذجاً
خليل إبراهيم كاظم الحمداني
الحوار المتمدن-العدد: 8288 - 2025 / 3 / 21 - 14:06
المحور:
حقوق الانسان
مقدمة : تلعب الانحيازات المعرفية دورًا جوهريًا في تشكيل مواقف الأفراد والمجتمعات تجاه انتهاكات حقوق الإنسان، حيث تؤثر على قدرة الأفراد على إدراك هذه الانتهاكات وتحليلها بشكل نقدي. في المجتمعات المشرقية، ومنها العراق، تتداخل العوامل الثقافية، الدينية، والسياسية مع هذه الانحيازات، مما يؤدي إلى تبرير أو إنكار الانتهاكات بشكل ممنهج. يهدف هذا المقال إلى تحليل أثر الانحيازات المعرفية في تشكيل المواقف العامة تجاه حقوق الإنسان في العراق، مع التركيز على السياقات الاجتماعية والسياسية التي تغذي هذه الانحيازات. الانحيازات المعرفية: جذورها وتأثيرها الانحيازات المعرفية (Cognitive Biases) هي أنماط منهجية من التفكير تؤدي إلى انحراف في الحكم على القضايا والأحداث، مما يؤثر على كيفية إدراك الأفراد للواقع واتخاذهم للقرارات. هذه الانحيازات ليست مجرد أخطاء عابرة، بل هي نتاج عمليات عقلية معقدة تتشكل من خلال التفاعل بين العوامل النفسية، الثقافية، والسياسية. لفهم هذه الظاهرة بشكل أعمق، يمكننا الرجوع إلى عدة نظريات وأطر مفاهيمية من علم النفس، الاقتصاد السلوكي، والفلسفة. 1. الأصول النفسية: علم النفس المعرفي علم النفس المعرفي هو المجال الذي يدرس العمليات العقلية مثل الإدراك، الذاكرة، والتفكير. الانحيازات المعرفية تعود جذورها إلى أعمال علماء النفس الذين حاولوا فهم كيف يعالج العقل البشري المعلومات. - هربرت سيمون ونظرية العقلانية المحدودة (Bounded Rationality): قدم سيمون فكرة أن العقل البشري لا يمكنه معالجة جميع المعلومات المتاحة بسبب محدودية الموارد المعرفية. لذلك، يستخدم الأفراد "اختصارات عقلية" (Heuristics) لاتخاذ القرارات بسرعة. هذه الاختصارات، رغم فائدتها في بعض الأحيان، يمكن أن تؤدي إلى انحيازات معرفية. - دانيال كانيمان وأموس تفيرسكي ونظرية الاستدلال والانحيازات (Heuristics and Biases): في سبعينيات القرن العشرين، قدم كانيمان وتفيرسكي إطارًا نظريًا يشرح كيف تؤدي الاختصارات العقلية إلى انحيازات معرفية. على سبيل المثال، انحياز التوفر (Availability Heuristic) هو الميل إلى الحكم على احتمالية الأحداث بناءً على مدى سهولة استدعائها في الذاكرة، مما قد يؤدي إلى تقديرات خاطئة. 2. الأصول الاقتصادية: الاقتصاد السلوكي الاقتصاد السلوكي هو مجال يدمج بين علم النفس والاقتصاد لدراسة كيف تؤثر العوامل النفسية على القرارات الاقتصادية. الانحيازات المعرفية تلعب دورًا كبيرًا في هذا المجال. - ريتشارد ثالر ونظرية الدفع (Nudge Theory): يوضح ثالر كيف يمكن للانحيازات المعرفية أن تؤثر على القرارات اليومية، مثل الإنفاق أو الادخار. على سبيل المثال، انحياز الوضع الراهن (Status Quo Bias) يجعل الأفراد يميلون إلى البقاء على الوضع الحالي حتى لو كان التغيير مفيدًا. - سلوك المستهلك وقرارات الاستثمار: الانحيازات المعرفية مثل انحياز الثقة المفرطة (Overconfidence Bias) تؤثر على قرارات المستثمرين، حيث يميلون إلى المبالغة في تقدير معرفتهم وقدرتهم على التنبؤ بتحركات السوق. 3. الأصول الفلسفية: فلسفة العقل والمعرفة الفلسفة قدمت إطارًا نظريًا لفهم كيف تشكل الانحيازات المعرفية تصوراتنا عن العالم. - إيمانويل كانط ونظرية المعرفة: يجادل كانط بأن العقل البشري لا يدرك العالم كما هو، بل من خلال "عدسات" مفاهيمية تشكلها بنياتنا العقلية. هذه الفكرة تشير إلى أن الانحيازات المعرفية قد تكون نتاجًا لبنيات عقلية مسبقة. - فريدريش نيتشه ونقد الحقيقة الموضوعية: نيتشه يرى أن الحقيقة ليست مطلقة، بل هي نتاج لانحيازاتنا وتصوراتنا. هذا النقد يعزز فكرة أن الانحيازات المعرفية قد تكون متأصلة في كيفية تفكيرنا. 4. الأصول الاجتماعية: علم النفس الاجتماعي علم النفس الاجتماعي يدرس كيف تؤثر البيئة الاجتماعية على تفكير الأفراد وسلوكهم. الانحيازات المعرفية غالبًا ما تتشكل من خلال التفاعل الاجتماعي. - نظرية الهوية الاجتماعية (Social Identity Theory): قدمها هنري تاجفيل، وتوضح كيف يميل الأفراد إلى تعزيز هويتهم الاجتماعية من خلال تفضيل المجموعة التي ينتمون إليها (In-group Bias). هذا الانحياز يمكن أن يؤدي إلى تحيزات ضد المجموعات الأخرى. - تأثير الجماعة (Groupthink): يحدث عندما تميل المجموعات إلى التوافق على قرارات دون نقاش نقدي، مما يؤدي إلى انحيازات جماعية. هذا النمط من التفكير يمكن أن يعزز القبول المجتمعي للانتهاكات. 5. الأصول العصبية: علم الأعصاب المعرفي علم الأعصاب المعرفي يدرس الأساس العصبي للعمليات المعرفية، بما في ذلك الانحيازات. - دور اللوزة الدماغية (Amygdala): اللوزة الدماغية تلعب دورًا في معالجة المشاعر، خاصة الخوف. هذا يمكن أن يفسر لماذا يميل الأفراد إلى الانحياز نحو المعلومات التي تثير الخوف (انحياز التوفر). - - نظام المكافأة في الدماغ: الانحيازات مثل انحياز التكلفة الغارقة (Sunk Cost Fallacy) يمكن أن تكون مرتبطة بنظام المكافأة في الدماغ، حيث يميل الأفراد إلى الاستمرار في استثمارات فاشلة بسبب الرغبة في تجنب الخسارة. 6. الأصول الثقافية: الأنثروبولوجيا المعرفية الأنثروبولوجيا المعرفية تدرس كيف تشكل الثقافة العمليات المعرفية. - الثقافة والانحيازات: الثقافة يمكن أن تعزز انحيازات معينة. على سبيل المثال، في الثقافات الجماعية (Collectivist Cultures)، قد يكون انحياز الاستمرارية (Status Quo Bias) أكثر انتشارًا بسبب التركيز على الاستقرار الاجتماعي. - اللغة والتفكير: نظرية سابير-وورف (Sapir-Whorf Hypothesis) تقترح أن اللغة تشكل طريقة تفكيرنا. هذا يمكن أن يفسر كيف تؤثر الثقافة واللغة على الانحيازات المعرفية. ان الانحيازات المعرفية هي نتاج تفاعل معقد بين العوامل النفسية، العصبية، الاجتماعية، والثقافية. فهم هذه الانحيازات يتطلب نهجًا متعدد التخصصات يشمل علم النفس، الاقتصاد، الفلسفة، وعلم الأعصاب. من خلال فهم التأصيل النظري لهذه الانحيازات، يمكننا تطوير استراتيجيات لتقليل تأثيرها السلبي على قراراتنا وسلوكياتنا، مما يسهم في بناء مجتمعات أكثر عدالة ووعيًا. الانحيازات المعرفية هي أخطاء منهجية في التفكير تؤثر على أحكامنا وقراراتنا، وغالبًا ما تكون نتاجًا لعمليات عقلية تهدف إلى تبسيط المعلومات المعقدة. هذه الانحيازات ليست مجرد أخطاء عابرة، بل هي نتاج تراكمات تاريخية وثقافية وسياسية عميقة. في المجتمعات المشرقية، حيث التاريخ مليء بالصراعات والاحتلالات والاستبداد، أصبحت هذه الانحيازات جزءًا لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي. على سبيل المثال، تحيز الرضوخ (Acquiescence Bias) — وهو الميل إلى الموافقة على السلطة أو القبول بالأمر الواقع دون اعتراض — يظهر بوضوح في المجتمعات التي عانت من حكم استبدادي طويل الأمد، كما في العراق. العراق: نموذجًا للانحيازات المعرفية وانتهاكات حقوق الإنسان العراق، بوصفه جزءًا من المشرق العربي، يمثل حالة دراسية مثيرة للاهتمام في هذا السياق. تاريخ العراق الحديث مليء بالصراعات الداخلية والخارجية، بدءًا من الحكم العثماني، مرورًا بالاحتلال البريطاني، وصولًا إلى الحكم البعثي الذي استمر لعقود، وانتهاءً بالغزو الأمريكي عام 2003 وما تلاه من فوضى سياسية واجتماعية. في كل هذه المراحل، كانت انتهاكات حقوق الإنسان حاضرة بقوة، ولكنها غالبًا ما تم تبريرها أو إنكارها من قبل أفراد المجتمع أنفسهم. هنا، يظهر تحيز الرضوخ بوضوح: فالأفراد، نتيجة للقمع المستمر، يميلون إلى قبول الواقع كما هو، حتى لو كان ذلك على حساب كرامتهم الإنسانية. هرم ماسلو والحاجات الإنسانية لتفهم كيف تؤثر الانحيازات المعرفية على انتهاكات حقوق الإنسان، يمكننا الرجوع إلى نظرية هرم ماسلو للحاجات الإنسانية. وفقًا لماسلو، فإن الحاجات الإنسانية مرتبة في هرم يبدأ بالحاجات الأساسية مثل الطعام والمأوى، ويصل إلى الحاجات العليا مثل تحقيق الذات والكرامة الإنسانية. في المجتمعات التي تعاني من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، مثل العراق، غالبًا ما يتم إهمال الحاجات العليا لصالح الحاجات الأساسية. هذا الإهمال يؤدي إلى تقليل قيمة الكرامة الإنسانية، مما يجعل الأفراد أكثر عرضة للرضوخ للانتهاكات وقبولها كجزء من حياتهم اليومية. الكرامة الإنسانية: الضحية الأولى الكرامة الإنسانية هي الضحية الأولى في سياق الانحيازات المعرفية وانتهاكات حقوق الإنسان. في العراق، حيث الحروب والصراعات الطائفية أضعفت مؤسسات الدولة وأفقدت المجتمع ثقته بنفسه، أصبحت الكرامة الإنسانية سلعة نادرة. الأفراد الذين يعيشون في ظل هذه الظروف غالبًا ما يطورون آليات دفاعية نفسية، مثل الإنكار أو التبرير، كوسيلة للتعامل مع الواقع المؤلم. هذه الآليات، وإن كانت تساعد الفرد على الاستمرار في الحياة اليومية، إلا أنها تعزز الانحيازات المعرفية التي تسمح بانتهاكات حقوق الإنسان بالاستمرار دون مقاومة تذكر. السياق التاريخي والثقافي لنفهم بشكل أعمق كيف تشكلت هذه الانحيازات في العراق، يجب أن ننظر إلى السياق التاريخي والثقافي. العراق، كجزء من المشرق العربي، يحمل تراثًا ثقافيًا ودينيًا غنيًا، ولكنه أيضًا يحمل إرثًا من الصراعات والاستبداد. الحكم العثماني، الذي استمر لأربعة قرون، ترك أثرًا عميقًا في بنية المجتمع العراقي، حيث تم تعزيز ثقافة الطاعة العمياء للسلطة. هذا الإرث استمر خلال فترة الاحتلال البريطاني، حيث تم استخدام القوة المفرطة لقمع أي مقاومة. وفي عهد صدام حسين، تم تأصيل ثقافة الخوف والرضوخ، حيث كان أي معارضة للحكم تعني الموت أو السجن. في النهاية، يمكن القول إن الانحيازات المعرفية ليست مجرد أخطاء فردية، بل هي نتاج تراكمات تاريخية وثقافية وسياسية عميقة. في العراق، كما في بقية المجتمعات المشرقية، تلعب هذه الانحيازات دورًا كبيرًا في تشكيل المواقف تجاه انتهاكات حقوق الإنسان. من خلال فهم هذه الانحيازات وتحليلها، يمكننا البدء في كسر حلقة الإنكار والتبرير، والعمل نحو بناء مجتمع أكثر وعيًا وعدالة. هذا المقال يهدف إلى أن يكون خطوة في هذا الاتجاه، من خلال تسليط الضوء على الأسباب الجذرية لهذه الانحيازات وآثارها المدمرة على حقوق الإنسان. إطار نظري : الانحيازات المعرفية وحقوق الإنسان الانحيازات المعرفية هي أنماط منهجية من التفكير تؤدي إلى انحراف في الحكم على القضايا والأحداث، مما يؤثر على كيفية إدراك الأفراد والمجتمعات للواقع واتخاذهم للقرارات. هذه الانحيازات ليست مجرد أخطاء عابرة، بل هي نتاج عمليات عقلية معقدة تتشكل من خلال التفاعل بين العوامل النفسية، الثقافية، والسياسية. في سياق حقوق الإنسان، تلعب هذه الانحيازات دورًا محوريًا في تشكيل المواقف تجاه الانتهاكات، سواء من خلال تبريرها، إنكارها، أو حتى تعزيزها. 1. انحياز التأكيد (Confirmation Bias) انحياز التأكيد هو الميل إلى البحث عن المعلومات التي تؤكد المعتقدات المسبقة وتجاهل الأدلة التي تناقضها. هذا الانحياز يظهر بقوة في المجتمعات التي تعاني من انقسامات سياسية أو طائفية، مثل العراق. على سبيل المثال، في سياق الصراعات الطائفية، يميل الأفراد إلى تصديق الروايات التي تدعم انتماءاتهم الطائفية أو السياسية، بينما يتجاهلون الأدلة التي تشير إلى انتهاكات حقوق الإنسان من قبل "طرفهم". هذا الانحياز يعزز الانقسامات ويمنع الحوار الموضوعي، مما يجعل من الصعب تحقيق العدالة أو المصالحة. 2. انحياز التوفر (Availability Heuristic) انحياز التوفر هو الميل إلى الحكم على احتمالية الأحداث بناءً على مدى سهولة استدعائها في الذاكرة. في المجتمعات التي تعاني من العنف المستمر، مثل العراق، يميل الأفراد إلى المبالغة في تقدير خطر العنف بسبب سهولة استدعاء ذكريات الهجمات أو التفجيرات. هذا الانحياز يمكن أن يؤدي إلى خلق حالة من الخوف المبالغ فيه، مما يحد من قدرة الأفراد على المطالبة بحقوقهم أو المشاركة في الحياة العامة. كما يمكن أن يستغل هذا الانحياز من قبل الأنظمة السياسية لتبرير إجراءات قمعية تحت ذريعة "الحفاظ على الأمن". 3. انحياز الثقة المفرطة (Overconfidence Bias) انحياز الثقة المفرطة هو الميل إلى المبالغة في تقدير المعرفة أو القدرة على تحليل الأوضاع. هذا الانحياز يظهر غالبًا في النخب السياسية أو الدينية التي تعتقد أنها تملك الحقيقة المطلقة. في العراق، على سبيل المثال، أدى هذا الانحياز إلى إصرار بعض القادة السياسيين على سياسات فاشلة، مثل التمييز الطائفي أو الفساد، دون مراعاة للآثار المدمرة على حقوق الإنسان. الثقة المفرطة في الرأي الذاتي تعيق الحوار البناء وتزيد من تعقيد الأزمات. 4. انحياز الإدراك المتأخر (Hindsight Bias) انحياز الإدراك المتأخر هو الاعتقاد بعد وقوع الحدث بأنه كان متوقعًا بشكل واضح. هذا الانحياز يظهر في المجتمعات التي تعاني من صدمات جماعية، مثل الحروب أو الكوارث السياسية. في العراق، بعد الغزو الأمريكي عام 2003، ادعى العديد من الأفراد أنهم "كانوا يعرفون" أن الفوضى ستحدث، مما أدى إلى إلقاء اللوم على الضحايا بدلاً من تحليل الأسباب الجذرية للانتهاكات. هذا الانحياز يعيق التعلم من الأخطاء ويمنع تطوير استراتيجيات فعالة لحماية حقوق الإنسان في المستقبل. 5. انحياز الاستمرارية (Status Quo Bias) انحياز الاستمرارية هو تفضيل الوضع القائم على التغيير، حتى لو كان التغيير ضروريًا. في العراق، حيث التغيير غالبًا ما يرتبط بالعنف وعدم الاستقرار، يميل الأفراد إلى التمسك بالوضع القائم، حتى لو كان ذلك يعني استمرار انتهاكات حقوق الإنسان. هذا الانحياز يعزز من سيطرة الأنظمة الفاسدة أو القمعية، حيث يخشى الأفراد من المجهول أكثر مما يكرهون الواقع المؤلم. 6. انحياز التكلفة الغارقة (Sunk Cost Fallacy) انحياز التكلفة الغارقة هو الميل إلى الاستمرار في دعم خيارات غير فعالة بسبب استثمار سابق فيها. في العراق، يمكن ملاحظة هذا الانحياز في استمرار دعم الأحزاب السياسية الفاسدة أو الفاشلة بسبب الولاءات العائلية أو الطائفية. الأفراد يخشون التخلي عن هذه الخيارات لأنهم استثمروا وقتًا، جهدًا، أو موارد فيها، حتى لو كانت هذه الخيارات تؤدي إلى انتهاكات حقوق الإنسان. هذا الانحياز يعيق التغيير السياسي والاجتماعي الضروري لتحقيق العدالة. 7. تحيز الرضوخ (Acquiescence Bias) تحيز الرضوخ هو الميل إلى قبول السلطة أو الوضع الراهن دون اعتراض، حتى لو كان ذلك على حساب الحقوق الأساسية. في العراق، حيث تاريخ طويل من الحكم الاستبدادي، أصبح هذا التحيز جزءًا من الثقافة السياسية. الأفراد يميلون إلى قبول انتهاكات حقوق الإنسان كجزء من الحياة اليومية، مما يعزز من سيطرة الأنظمة القمعية ويحد من قدرة المجتمع على المطالبة بالتغيير. 8. هرم ماسلو والحاجات الإنسانية هرم ماسلو للحاجات الإنسانية يقدم إطارًا نظريًا لفهم كيف تؤثر الانحيازات المعرفية على انتهاكات حقوق الإنسان. في المجتمعات التي تعاني من عدم الاستقرار، مثل العراق، غالبًا ما يتم إهمال الحاجات العليا مثل الكرامة الإنسانية لصالح الحاجات الأساسية مثل الأمن والغذاء. هذا الإهمال يؤدي إلى تقليل قيمة حقوق الإنسان، مما يجعل الأفراد أكثر عرضة للرضوخ للانتهاكات. 9. السياقات التاريخية والثقافية السياقات التاريخية والثقافية تلعب دورًا كبيرًا في تشكيل الانحيازات المعرفية. في العراق، تاريخ طويل من الاستعمار، الحكم الاستبدادي، والصراعات الطائفية أدى إلى تعزيز انحيازات مثل تحيز الرضوخ وانحياز الاستمرارية. هذه الانحيازات أصبحت جزءًا من النسيج الاجتماعي، مما يجعل من الصعب كسر حلقة الانتهاكات. 10. التجارب التاريخية والممارسات التجارب التاريخية، مثل الحكم البعثي في العراق، تظهر كيف يمكن للانحيازات المعرفية أن تستخدم كأداة للسيطرة. النظام البعثي استخدم الخوف والترهيب لتعزيز انحيازات مثل تحيز الرضوخ وانحياز التأكيد، مما أدى إلى تبرير انتهاكات حقوق الإنسان على نطاق واسع. الانحيازات المعرفية ليست مجرد أخطاء فردية، بل هي نتاج تراكمات تاريخية وثقافية وسياسية عميقة. في العراق، كما في بقية المجتمعات المشرقية، تلعب هذه الانحيازات دورًا كبيرًا في تشكيل المواقف تجاه انتهاكات حقوق الإنسان. من خلال فهم هذه الانحيازات وتحليلها، يمكننا البدء في كسر حلقة الإنكار والتبرير، والعمل نحو بناء مجتمع أكثر وعيًا وعدالة. العراق كنموذج: كيف تعزز الانحيازات القبول المجتمعي للانتهاكات؟ العراق، بوصفه مجتمعًا يعاني من تراكمات تاريخية من الصراعات السياسية والطائفية والاجتماعية، يمثل حالة دراسية مثالية لفهم كيف تعزز الانحيازات المعرفية القبول المجتمعي لانتهاكات حقوق الإنسان. هذه الانحيازات ليست مجرد أخطاء عقلية فردية، بل هي نتاج تفاعل معقد بين العوامل النفسية، الثقافية، والسياسية. في هذا الجزء، سنستعرض كيف تسهم الانحيازات المعرفية في تعزيز هذا القبول، مع التركيز على السياقات التاريخية والممارسات التي تشكلت في العراق. 1. انحياز التأكيد والإعلام الرسمي في العراق، تلعب وسائل الإعلام دورًا حاسمًا في تعزيز انحياز التأكيد (Confirmation Bias) من خلال تقديم روايات أحادية عن الأحداث السياسية والأمنية. الإعلام الرسمي، وكذلك الإعلام الطائفي، غالبًا ما يقدم روايات تدعم الرواية الرسمية للسلطة أو الجماعة التي يمثلها. على سبيل المثال، خلال الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت في عام 2019، تم تصوير المتظاهرين على أنهم "عملاء للخارج" أو "مخربين"، بينما تم تجاهل مطالبهم المشروعة بالعدالة والكرامة. هذا النهج الإعلامي يعزز لدى الجمهور قناعة بعدم شرعية هذه المطالب، مما يقلل من التعاطف مع الضحايا ويسهل تبرير القمع. وتأريخيا يمكن مقارنة هذا النهج بما حدث في عهد صدام حسين، حيث كان الإعلام يُستخدم كأداة لتبرير القمع. فالمعارضون كانوا يُوصمون بـ"الخيانة الوطنية"، مما جعل المجتمع يتقبل انتهاكات حقوق الإنسان كجزء من "حماية الدولة". 2. انحياز التوفر والتركيز على التهديدات الأمنية نظرًا للصراعات المستمرة والتهديدات الإرهابية في العراق، يصبح العنف الرسمي ضد المعارضين مبررًا بحجة "حماية الدولة". انحياز التوفر (Availability Heuristic) يلعب دورًا كبيرًا هنا، حيث يتم التركيز الإعلامي والسياسي على المخاطر الأمنية، مما يجعل هذه التهديدات تبدو أكثر إلحاحًا من قضايا حقوق الإنسان. على سبيل المثال، بعد سقوط الموصل بيد تنظيم داعش في عام 2014، تم تبرير العديد من الانتهاكات بحجة "مكافحة الإرهاب"، مما أدى إلى تغييب قضايا حقوق الإنسان. وهنا يحضر الفيلسوف نيكولو مكيافيلي بمقولته في "الغاية تبرر الوسيلة"، حيث يتم تبرير الانتهاكات بحجة أنها ضرورية لتحقيق الأمن والاستقرار. 3. انحياز الاستمرارية والتطبيع مع الانتهاكات يتجلى انحياز الاستمرارية (Status Quo Bias) في القبول السلبي للانتهاكات كجزء من الحياة اليومية. في العراق، يُنظر إلى الفساد والقمع كأمر طبيعي أو "أقل الشرور" مقارنة بالفوضى المحتملة. هذا الانحياز يعزز من سيطرة الأنظمة الفاسدة، حيث يخشى الأفراد من المجهول أكثر مما يكرهون الواقع المؤلم. وتاريخيا يمكن مقارنة هذا الوضع بما حدث في أوروبا خلال العصور الوسطى، حيث كان القمع الممنهج من قبل الكنيسة والسلطة السياسية يُقبل كجزء من النظام الاجتماعي، بل وحتى يُعتبر مقدسًا. 4. انحياز الإدراك المتأخر وإعادة تفسير الأحداث بعد وقوع أحداث عنيفة، مثل قتل المتظاهرين، يتم إعادة تفسيرها على أنها كانت ضرورية للحفاظ على النظام العام. انحياز الإدراك المتأخر (Hindsight Bias) يجعل الأفراد يعتقدون أن هذه الأحداث كانت متوقعة وحتمية، مما يقلل من احتمالية محاسبة المسؤولين. على سبيل المثال، بعد قمع احتجاجات ساحة التحرير في بغداد، تم تصوير الضحايا على أنهم "مثيري فوضى"، مما أدى إلى تبرير العنف ضدهم. وكأنما يتبعون مقولة الفيلسوف فريدريش نيتشه: "ما لا يقتلني يجعلني أقوى"، حيث يتم تفسير المعاناة على أنها جزء من عملية بناء الشخصية، مما يعزز قبول الانتهاكات. 5. انحياز التكلفة الغارقة في الولاءات الطائفية والسياسية في ظل النظام السياسي الطائفي في العراق، يتمسك الأفراد بولاءاتهم السياسية حتى عندما يرتكب ممثلوهم انتهاكات جسيمة. انحياز التكلفة الغارقة (Sunk Cost Fallacy) يجعل الأفراد يخشون التخلي عن هذه الولاءات لأنهم استثمروا وقتًا، جهدًا، أو موارد فيها. هذا الانحياز يعيق التغيير السياسي والاجتماعي الضروري لتحقيق العدالة. تاريخياً يمكن مقارنة هذا الوضع بما حدث في يوغوسلافيا السابقة، حيث استمر الأفراد في دعم القادة الطائفيين رغم انتهاكاتهم الجسيمة لحقوق الإنسان. 6. متلازمة ستوكهولم والتلذذ بالانتهاك من الظواهر النفسية التي يمكن ربطها بقبول الانتهاكات، متلازمة ستوكهولم، حيث يتعاطف الضحايا مع الجناة نتيجة التكيف مع العنف الممنهج والاعتياد عليه. في العراق، يظهر هذا بوضوح لدى بعض الفئات التي تبرر الانتهاكات أو تدافع عنها، معتبرة أنها شكل من أشكال "التضحية" من أجل الاستقرار أو الأمن. كما يتجلى جلد الذات في الاستعداد لتحمل القمع باعتباره "قدراً محتوماً"، مما يعيق أي تحرك نحو مقاومة هذه الانتهاكات أو مساءلة مرتكبيها. وهما تبدو دقيقة جدا مقولة الفيلسوف جان بول سارتر: "الجحيم هو الآخرون"، حيث يتم تفسير القمع على أنه نتيجة حتمية للتفاعل الاجتماعي، مما يعزز قبول الانتهاكات. 7. هرم ماسلو والحاجات الإنسانية هرم ماسلو للحاجات الإنسانية يقدم إطارًا نظريًا لفهم كيف تؤثر الانحيازات المعرفية على انتهاكات حقوق الإنسان. في العراق، غالبًا ما يتم إهمال الحاجات العليا مثل الكرامة الإنسانية لصالح الحاجات الأساسية مثل الأمن والغذاء. هذا الإهمال يؤدي إلى تقليل قيمة حقوق الإنسان، مما يجعل الأفراد أكثر عرضة للرضوخ للانتهاكات. وقديماً ثمة مقولة تنسب للفيلسوف أرسطو في "الإنسان حيوان سياسي"، حيث يتم تفسير القبول بالانتهاكات على أنه جزء من الطبيعة البشرية. الاستنتاج والتوصيات يؤدي تفاعل الانحيازات المعرفية مع العوامل السياسية والثقافية إلى تعزيز القبول المجتمعي لانتهاكات حقوق الإنسان في العراق. من أجل كسر هذه الدائرة، يجب تعزيز التفكير النقدي، تحسين التغطية الإعلامية، ودعم مؤسسات حقوق الإنسان المستقلة. إن الوعي بهذه الانحيازات هو الخطوة الأولى نحو مجتمع أكثر عدالة ووعيًا بحقوق الإنسان. التوصيات العملية: 1. تعليم التفكير النقدي: يجب إدخال مناهج تعليمية تعزز التفكير النقدي والوعي بالانحيازات المعرفية في المدارس والجامعات. 2. إصلاح الإعلام: يجب دعم وسائل الإعلام المستقلة التي تقدم روايات متوازنة وتعزز الحوار البناء. 3. تمكين المجتمع المدني: يجب دعم مؤسسات المجتمع المدني التي تعمل على تعزيز حقوق الإنسان ومساءلة السلطات. 4. التوعية بحقوق الإنسان: يجب تنظيم حملات توعية واسعة حول أهمية حقوق الإنسان وكيفية مقاومة الانتهاكات. من خلال هذه الجهود، يمكن للعراق أن يبدأ في كسر حلقة الانحيازات المعرفية التي تعزز القبول المجتمعي لانتهاكات حقوق الإنسان، والعمل نحو بناء مجتمع أكثر عدالة وكرامة.
#خليل_إبراهيم_كاظم_الحمداني (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الخيانة المقننة: كيف تستخدم الحكومات قوانين العمالة للأجنبي
...
-
تعيين مستشار للمفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق : أزمة
...
-
السيداو و التوصية 40: هل تجرؤ الحكومات على إعادة تشكيل -خرائ
...
-
العراق في مواجهة التقييم الدولي توصيات الاستعراض الدوري الشا
...
-
عشقٌ مشروط، ووداعٌ محسوب: أمريكا ومجلس حقوق الإنسان
-
العراق في الاستعراض الدوري الشامل تحت الأضواء مجددًا.. اختبا
...
-
-أن تكون مثقفًا في بلاد تحاول أن لا تموت على مهل-
-
-الكرامة الغاضبة: كيف يولد الغضب الثورات ويعيد تشكيل العالم-
...
-
إعادة إنتاج الاضطهاد: قراءة مادية تاريخية للعنف ضد المرأة
-
الفضاء الرقمي كساحة جديدة للعنف ضد النساء قراءة تحليلية في ا
...
-
الديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية جدلية العلاقة وتحديات الت
...
-
الديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية جدلية العلاقة وتحديات الت
...
-
المجال العام والحق في المدينة: قراءةٌ نقديةٌ لـ هايبرماس ولو
...
-
الهشاشة المتقاطعة: العنف ضد النساء من الأقليات والفئات المست
...
-
إرث الأدوار: رحلة الجندر في مجتمع مأزوم ((حيرة الجندر الحزين
...
-
إرث الأدوار: رحلة الجندر في مجتمع مأزوم ((حيرة الجندر الحزين
...
-
المثقفون في زمن الإلتباس : هل خانوا الكلمة أم خانتهم الكلمة؟
-
أنياب السياسة وقضم حقوق الإنسان
-
-انحدار تصنيف المفوضية العليا لحقوق الانسان في العراق: هل ست
...
-
“العالم بين الرؤية الاقتصادية ورؤية حقوق الإنسان- محاولة بنا
...
المزيد.....
-
تركيا.. صور اشتباكات عنيفة بعد اعتقال منافس أردوغان أكرم إما
...
-
لجنة أممية: إسرائيل خرقت معاهدة عالمية لحماية الأطفال في غزة
...
-
الأمم المتحدة تحذر من -صدمة نفسية هائلة- لأطفال غزة
-
فيديو.. فتح: حرب إسرائيل الحالية تهدف للتطهير العرقي وتهجير
...
-
تركيا.. اشتباكات عنيفة مع استمرار الاحتجاجات على اعتقال إمام
...
-
فرنسا تعرب عن استيائها من إصابة مواطنين في قصف استهدف مبنيين
...
-
تفكيك شبكة دولية لتهريب المهاجرين عبر ليبيا وضبط ثلاثة من عن
...
-
تنفيذ حكم الإعدام بحق متعاون مع إسرائيل في غزة رميا بالرصاص
...
-
تونس تسحب اعترافها باختصاص المحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان
-
تفجير مستشفى “الصداقة التركي” جريمة حرب وامعاناً في جريمة ال
...
المزيد.....
-
مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي
/ عبد الحسين شعبان
-
حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة
/ زهير الخويلدي
-
المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا
...
/ يسار محمد سلمان حسن
-
الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نطاق الشامل لحقوق الانسان
/ أشرف المجدول
-
تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية
/ نزيهة التركى
-
الكمائن الرمادية
/ مركز اريج لحقوق الانسان
-
على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
المزيد.....
|