شادي أبو كرم
كاتب سوري
(Shadi Abou Karam)
الحوار المتمدن-العدد: 8287 - 2025 / 3 / 20 - 19:28
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
لا يمكن فهم علاقة الإسلام السياسي بالديمقراطية دون حفر عميق في بنيته النفسية. أمامنا ظاهرة أعقد من مجرد حركات سياسية تسعى للسلطة. نحن أمام بنية نفسية تنظر إلى السلطة كامتداد للمقدس، لا كوظيفة مجتمعية مؤقتة. هذه البنية هي التي تفسر ذلك التناقض في خطاب الإسلاميين وممارساتهم، حيث يدافعون عن الديمقراطية حين يكونون خارج الحكم، وينقلبون عليها حين يلتهمون كرسي السلطة.
الإسلاموي، في علاقته بالديمقراطية، كائن منشطر. يعاني ما يمكن تسميته "ازدواجية وجودية". فهو يستخدم الديمقراطية كأداة للوصول إلى السلطة، ويرفضها كفلسفة لتداول هذه السلطة. هذه الازدواجية أبعد من مجرد نفاق سياسي براغماتي، هي تعبير عن صراع داخلي بين نزعتين: نزعة نفعية تريد الوصول إلى السلطة بأي ثمن، ونزعة أصولية ترى في تداول السلطة انتهاكاً للمقدس.
الإسلاموي عندما يدخل اللعبة الديمقراطية، يدخلها بإحساس المغترب، وليس المنتمي. هو يستخدم قواعدها وشروطها دون أن يؤمن بها، كمن يستعير لغة لا يتقنها للوصول إلى مبتغاه، ثم يتخلى عنها ما إن يتحقق هدفه. إنه كائن مزدوج الولاء نفسياً: ولاء مؤقت للديمقراطية كآلية، وولاء أبدي للحاكمية الإلهية كمرجعية نهائية.
في هذه البنية النفسية المركبة، لا يعود الآخر السياسي مجرد منافس على السلطة، بل "عدو للحق" و"خصم للدين" يجب تحييده وإقصاؤه. وهذا التصور العدائي للآخر يجعل من المستحيل على الإسلاموي أن يتقبل فكرة أن يكون في المعارضة يوماً ما. كيف يقبل الهزيمة أمام من يراه مجسداً للباطل؟ وكيف يسلّم السلطة لمن يعتبره "مفسداً في الأرض"؟
الإسلاموي يعاني أيضاً من علاقة ملتبسة مع المجال العام. هو يريد أن يستفيد من حرية هذا المجال وانفتاحه للوصول إلى السلطة، لكنه يسعى لاحقاً إلى تقييد هذه الحرية باسم "الفضيلة" و"الأخلاق الإسلامية". هنا تظهر مفارقة أخرى: يستخدم الحرية لإلغائها، ويتسلح بالتعددية للقضاء عليها.
البنية النفسية للإسلام السياسي لا تنشأ من الفراغ، هي تتشكل ضمن سياق اجتماعي وثقافي معقد. الإسلام السياسي، كظاهرة سوسيولوجية، يعيش حالة من الانفصام الحاد بين الخطاب المعلن والممارسة الفعلية. يتحدث عن الشورى، لكنه يمارس أبشع أشكال الاستبداد. يرفع شعارات الحرية، لكنه يقمع كل صوت مخالف. يطالب بحقه في المشاركة حين يكون في المعارضة، لكنه ينكر هذا الحق على الآخرين حين يمسك بزمام السلطة.
الإشكالية السوسيولوجية هنا تكمن في ذلك التناقض الحاد بين مستويين من الخطاب: خطاب خارجي موجه للآخر يتبنى المفردات الديمقراطية ويوظفها، وخطاب داخلي موجه للجماعة يعيد إنتاج المنظومة الاستبدادية ذاتها، لكن بمسميات دينية. هذا الانفصام جزء من استراتيجية تقوم على "التكيّف الظاهري" مع متطلبات العصر، مع الاحتفاظ بجوهر رافض لهذه المتطلبات.
في هذا السياق، يتحول مفهوم "التقية" السياسية من مجرد تكتيك مؤقت إلى استراتيجية ممتدة تقوم على خداع الآخر باسم المصلحة العليا للمشروع الإسلامي. ما يحدث هنا أخطر من مجرد مناورة سياسية. نحن أمام منظومة فكرية ترى في الكذب على الخصم فضيلة. ترى في خداع الآخر ضرورة مقدسة. وهنا تتحول الديمقراطية من كونها قيمة في ذاتها إلى مجرد أداة للوصول إلى السلطة. هي تلك الساحة التي يتم استدراج الخصم إليها، ثم تغيير قواعد اللعبة في منتصف الطريق.
هذه الازدواجية تتجذر في بُعد سوسيولوجي آخر أكثر عمقاً، يتمثل في الفجوة الهائلة بين مفهومي "جماعة المؤمنين" و"مجتمع المواطنين". الإسلام السياسي يتعامل مع أنصاره باعتبارهم "جماعة المؤمنين" التي تملك الحقيقة المطلقة وحدها، ويتعامل مع معارضيه باعتبارهم "الآخر الضال" الذي يجب إقصاؤه أو تحييده. هذه الثنائية الحادة تجعل من المستحيل عليه قبول فكرة المجتمع السياسي كفضاء مشترك للمواطنين المتساوين بغض النظر عن انتماءاتهم العقائدية.
ما يزيد المشهد تعقيداً هو تلك المعادلة الاجتماعية المركبة التي يوظفها الإسلام السياسي بمهارة: مزيج من المظلومية التاريخية، والتفوق الأخلاقي المفترض، والشرعية الدينية المتخيلة. هذا المزيج القاتل يخلق حالة من "النرجسية الجماعية" التي ترى نفسها فوق المحاسبة وفوق النقد، وتعتبر أي معارضة لها معارضة للدين ذاته. وهنا يظهر وجه آخر للاستبداد: استبداد يتحصن بالمقدس، ويحمي نفسه بسياج من التابوهات.
البنية النفسية والسوسيولوجية للإسلام السياسي تنتج ما يمكن تسميته بـ"متلازمة الأنا المتضخمة". وهي حالة مرضية يتحول فيها المشروع السياسي من مجرد برنامج قابل للتقييم والنقد، إلى رسالة مقدسة تتجاوز العقل البشري. والسلطة ليست مسؤولية مجتمعية مؤقتة، هي أمانة إلهية لا يجوز التخلي عنها أو التفريط فيها.
هذه النظرة الاستعلائية إلى الذات تخلق حالة من "التعالي المعرفي" الذي يجعل من الحوار الديمقراطي مستحيلاً. كيف يمكن للإسلاموي أن يحاور من يراه "ضالاً" أو "مفسداً"؟ وكيف يمكن أن يتقبل هزيمة أمام من يعتبره "عدواً للحق"؟ وكيف يمكن أن يتنازل عن سلطة يراها "تكليفاً إلهياً"؟
المفارقة الكبرى في هذا السياق هي أن الإسلام السياسي يطالب بالديمقراطية حين يكون خارج السلطة، ويسعى إلى تقويضها حين يمسك بزمامها. يستخدم حق الاختلاف للوصول إلى السلطة، ثم ينكر هذا الحق على الآخرين حين يصل إليها. يرفع شعار "الشعب مصدر السلطات" في المعارضة، لكنه يتبنى مبدأ "الحاكمية لله" في الحكم.
هذه الازدواجية تكشف أزمة طفي بنية التفكير الإسلاموي ذاته. فهو يريد أن يستفيد من منجزات الحداثة السياسية (الديمقراطية، الانتخابات، حقوق الإنسان) دون أن يقبل بالمرجعية الفلسفية لهذه المنجزات (سيادة الإرادة البشرية، نسبية الحقيقة، فصل الديني عن السياسي). يريد أن يقطف ثمار شجرة هو نفسه يسعى لاقتلاعها من جذورها.
وهنا يتجلى التناقض الأعمق في المشروع الإسلاموي: يريد أن يصل إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع، لكنه يرفض المبدأ الذي تقوم عليه هذه الصناديق، وهو أن السلطة ملك للشعب يمنحها لمن يشاء ويسحبها متى شاء. هو يقبل بالديمقراطية كإجراء، لكنه يرفضها كفلسفة.
تتعزز هذه البنية النفسية والسوسيولوجية من خلال خطاب تعبوي يقسم المجتمع إلى معسكرين متصارعين: "فسطاط الإيمان" و"فسطاط الكفر". هذا التقسيم الثنائي الحاد يجعل من المستحيل تصور المجتمع السياسي كفضاء مشترك للتعايش والتعاون، ويحوله إلى ساحة للصراع الأبدي بين الحق والباطل.
في هذا الإطار، يتحول الآخر السياسي من مجرد معارض يختلف معك في الرأي، إلى "آخر وجودي" يهدد هويتك ومشروعك ووجودك بالكامل. وهذه النظرة العدائية للآخر هي التي تجعل الإسلام السياسي غير قادر على التعايش مع التعددية والاختلاف. فهو لا يرى في التنوع ثراءً، وإنما تهديداً يجب القضاء عليه.
هذه البنية المانوية (نسبة إلى ماني) التي تقسم العالم إلى "خير مطلق" و"شر مطلق" تجعل من الديمقراطية مستحيلة. فالديمقراطية، في جوهرها، هي قبول بالتعددية وبنسبية الحقيقة، وهو ما يتناقض مع رؤية الإسلام السياسي للعالم والمجتمع.
الأخطر في هذا التقسيم أنه لا يكتفي بتصنيف الآخر كمختلف، بل يصنفه كـ"مارق" أو "مفسد" أو "عدو للإسلام". وهذا التصنيف الأخلاقي والديني للخصم السياسي هو الذي يجعل الإسلام السياسي غير قادر على القبول بالهزيمة في أي استحقاق انتخابي. فكيف يقبل بأن "يحكم المفسدون"؟ وكيف يسلم السلطة إلى "أعداء الله"؟
النتيجة الحتمية لهذه البنية النفسية والسوسيولوجية المركبة هي تلك المعادلة المستحيلة: إسلام سياسي يستخدم الديمقراطية للوصول إلى السلطة، ثم يسعى إلى تقويضها بمجرد وصوله إليها. هو يريد أن يستفيد من قواعد اللعبة الديمقراطية دون أن يلتزم بها، ويطالب بالحقوق دون أن يقبل بالواجبات.
في هذا السياق، تظهر المعضلة الكبرى التي تواجه المجتمعات العربية: كيف يمكن للديمقراطية أن تحمي نفسها من أولئك الذين يستخدمونها لتدميرها؟ هل يجب أن تسمح لهم بالمشاركة، وتخاطر بأن يقضوا عليها؟ أم أنها تمنعهم من المشاركة، وتنتهك أهم مبادئها، وهو الشمولية والتعددية؟
إذاً الجواب ليس بسيطاً، لكنه يكمن في فهم أن الديمقراطية ليست مجرد إجراءات شكلية، هي منظومة قيم متكاملة. من يقبل بها يجب أن يقبل بها كاملة: تداول السلطة، احترام التعددية، قبول الهزيمة، احترام حقوق الأقليات. من يرفض هذه القيم يضع نفسه خارج اللعبة الديمقراطية، ليس لأنه إسلامي، بل لأنه يرفض مبدأ المواطنة المتساوية الذي تقوم عليه الديمقراطية الحديثة.
الديمقراطية، في نهاية المطاف، هي نظام يحتاج إلى حماية نفسه من الذين يريدون تدميره من الداخل، وليست انتحاراً جماعياً. هي ليست مفتوحة على مصراعيها لكل من يريد هدمها، هي منظومة لها شروطها وقواعدها. من يقبل بهذه الشروط يحق له المشاركة، ومن يرفضها يضع نفسه خارج النظام الديمقراطي.
في النهاية: المأزق لا يكمن في وجود الإسلام السياسي، وإنما في عقيدته الجوهرية حول السلطة. إنه يحمل في جيناته الفكرية استحالة التعايش مع النظام الديمقراطي. طالما ظل يتعامل مع نفسه كوكيل حصري للحقيقة المطلقة، وحامل تفويض إلهي للحكم، وصاحب ولاية على البشر باسم السماء، فسيبقى عدواً وجودياً للديمقراطية، ليس خصماً يمكن استيعابه، بل نقيضاً يستحيل احتواؤه.
الديمقراطية لا تخشى الاختلاف، لأنها تعتبره شرطاً لازدهارها. لكنها حين تواجه من يريد استخدام تعدديتها لإلغائها، فهي لا تواجه اختلافاً فكرياً فقط، وإنمامشروع اغتيال لذاتها وكينونتها. هذا هو التناقض الدموي: الإسلام السياسي لا يرفض فقط قواعد اللعبة الديمقراطية، بل يرفض فكرة اللعبة نفسها.
ما لا يحتاجه العالم اليوم هو ديمقراطية ساذجة تضع رأسها طوعاً تحت سيف خصومها، ولا طغياناً علمانيًا يعيد إنتاج القمع بأقنعة مختلفة. ما نحتاجه هو ديمقراطية تعرف كيف تحمي نفسها، تدرك أن البقاء لا يكون بالخطاب الوديع ولا بالاستسلام لشعارات زائفة عن التسامح مع من لا يعترف أصلاً بفكرة التسامح. ديمقراطية تفهم أن المشاركة السياسية ليست حقاً مُطلقاً يُمنح لكل من يطالب به، بل امتياز يرتبط بالالتزام بقيم الحرية، بالمساواة كقاعدة لا تُمس، وبالتعددية كشرط لا يقبل التأويل.
الديمقراطية هي عقد اجتماعي متكامل، قائم على الالتزام بقيم تضمن بقاءها واستمراريتها. من يتسلل عبر دهاليزها للوصول إلى السلطة، ثم يُقيم المشانق لقيمها، لا يمارس السياسة بل يرتكب جريمة مع سبق الإصرار والترصد. هذه ليست صدفة ولا خطأ في الحسابات ولا تنظير ظالم، إنها معادلة دموية متكررة: الإسلام السياسي يصعد على سلم الديمقراطية، يتقمص خطاب التعددية وحرية التعبير، وما إن يبلغ القمة حتى يركل السلم بعنف، ليحرم الآخرين من ذات الطريق الذي سلكه. إنه لا يرى في الديمقراطية أكثر من فرصة مؤقتة، أداة مرحلية، ممر آمن للتمكين، ثم ينقض عليها كذئب ليلتهم فريسته.
#شادي_أبو_كرم (هاشتاغ)
Shadi_Abou_Karam#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟