|
الماركسية الغربية والإمبريالية: حوار
حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي
(Hussain Alwan Hussain)
الحوار المتمدن-العدد: 8286 - 2025 / 3 / 19 - 04:51
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
بقلم جون بِلامي فوستر وغابرييل روكهِل مجلة "المراجعة الشهرية"، عدد 1 مارس 2025 https://monthlyreview.org/2025/03/01/western-marxism-and-imperialism-a-dialogue/ ترجمة: حسين علوان حسين جون بِلامي فوستر (John Bellamy Foster) هو محرر مجلة "مَنْثلي ريفيو" (Monthly Review = المراجعة الشهرية) والأستاذ الفخري لعلم الاجتماع في جامعة أوريغون. وهو مؤلف كتاب " جدليات البيئة" (مطبعة مَنثلي ريفيو، ٢٠٢٤). غابرييل روكهِل (Gabriel Rockhill) هو المدير التنفيذي لورشة عمل النظرية النقدية/ورشة نقد النظرية، وأستاذ الفلسفة والدراسات العالمية متعددة التخصصات في جامعة فيلانوفا في بنسلفانيا. وهو بصدد إكمال كتابه الخامس، الذي ألفه بمفرده بعنوان : " من دَفَعَ ثَمَنَ الماركسية الغربية؟" ، بالإضافة إلى مخطوطة - شاركه في كتابتها أيمريك مونفيل - بعنوان " قداس للنظرية الفرنسية " (كلاهما سيصدر قريبًا عن مطبعة مَنثلي ريفيو). غابرييل روكهِل: أود أن أبدأ هذا النقاش، أولاً وقبل كل شيء، بمعالجةالمفهوم الخاطئ الذي يتعلق بالماركسية الغربية، وهو أمر أعلم أنه محل الاهتمام المشترك فيما بيننا. إن مفهوم "الماركسية الغربية" لا يتطابق مع "الماركسية في الغرب". الماركسية الغربية هي نسخة خاصة، نشأت، لأسباب مادية تماماً، في قلب الإمبريالية، حيث يوجد الضغط الأيديولوجي الكبير للامتثال لإملاءاتها. وبصفتها أيديولوجيا سائدة فيما يتعلق بالماركسية، فإنها تُحدد حياة العاملين في لب الامبريالية، وبالتالي، في الدول الرأسمالية حول العالم؛ ولكنها لا تُحدد بدقة البحث العلمي والتنظيم الماركسي الكائن في هذه المناطق. وأبسط دليل على ذلك هو أننا - أنا وأنت - لا نُعرّف أنفسنا بكوننا "ماركسيين غربيين"، رغم أننا ماركسيان نعمل في الغرب، تمامًا مثل الفيلسوف الإيطالي دومينيكو لوسوردو، الذي نُشر كتابه "الماركسية الغربية" مؤخرًا من دار نشر "مَنثلي ريفيو برس". ما رأيك في العلاقة بين مفهومي: "الماركسية الغربية" و"الماركسية في الغرب"؟ جون بِلامي فوستر: لستُ مولعًا بمصطلح "الماركسية الغربية"، ويرجع ذلك جزئيًا إلى اعتماده كشكل من أشكال التعريف الشخصي من طرف مفكرين يرفضون ليس فقط الماركسية السوفيتية، بل وأيضًا الكثير من مكونات الماركسية الكلاسيكية لكارل ماركس وفريدريك إنجلز، بالإضافة إلى ماركسية الجنوب العالمي. في الوقت نفسه، فقد اتجهت أجزاء كبيرة جدًا من الماركسية في الغرب، بما في ذلك التحليلات الأكثر مادية والسياسية والاقتصادية والتاريخية، إلى استبعاد هذا النوع من الماركسية الغربية التي تُعرّف نفسها بهذا الاسم، والتي مع ذلك تظاهرت بأنها المحكِّم على الفكر الماركسي والمهيمن على الماركسية الغربية. عادةً، عند تناول مسألة الماركسية الغربية نظريًا، أشير إلى أن ما نتعامل معه هنا إنما هو تقليد فلسفي محدد. بدأ هذا التقليد مع موريس ميرلوبونتي (وليس مع جورج لوكاش، مثلما يُفترض عادةً)، وتميز بالتخلي عن مفهوم جدليات الطبيعة المرتبط بإنجلز (ولكن أيضًا بماركس). وهذا يعني أن مفهوم الماركسية الغربية قد تم إزالته بشكل منهجي من المادية الوجودية في المصطلحات الماركسية، واتجه نحو المثالية، التي تتناسب بشكل جيد مع تراجعه عن جدليات الطبيعة. علاوة على ذلك، ورغم أن هذا ليس جزءًا من التعريف الذاتي للماركسية الغربية - وإن أكد عليه لوسوردو بحق - إلا أنه كان تراجعًا عن نقد الإمبريالية وعن مشكلة النضال الثوري في العالم الثالث أو الجنوب العالمي برمته. في هذا الصدد، مال من يعرّفون أنفسهم بالماركسيين الغربيين إلى المنظور الأوروبي المركزي، وغالبًا ما أنكروا أهمية "الإمبريالية"، وبالتالي يُمكننا الحديث عن ماركسية غربية أوروبية مركزية المنحى. لذا، عند تناول هذه القضايا، أنا أميل إلى التأكيد على هذين الجانبين، وهما: (1) أنه تقليد فلسفي ماركسي غربي رفض جدليات الطبيعة والمادية الوجودية، منفصلًا بذلك عن كلٍ من ماركسية ماركس وإنجلز الكلاسيكية؛ و(2) أنه ماركسية غربية أوروبية مركزية، رفضت مفهوم المرحلة الإمبريالية للرأسمالية (والرأسمالية الاحتكارية)، وقلّلت من أهمية النضالات الثورية في العالم الثالث والأفكار الثورية الجديدة التي ولّدتها. وهكذا، فقد أصبحت الماركسية، في هذا التجسيد الماركسي الغربي الضيق، مجرد مجال أكاديمي معني بدائرة التشيؤ، أو مجرد بُنى بلا موضوع، أي: النفي لفلسفة الممارسة. غابرييل روكهِل: في الواقع، هذه سماتٌ مهمة لما يُسمى بالماركسية الغربية، والتي أتفق معك على أنها تعبيرٌ قد يُساء فهمه بسهولة. ولهذا السبب، في رأيي، يُعدّ النهج الجدلي بالغ الأهمية هنا: فهو يُمكّننا من الانتباه إلى التناقضات القائمة بين تبسيط المفاهيم وتعقيدات الواقع المادي، مع السعي إلى تفسير هذه الأخيرة من خلال صقل وتنقيح فئاتنا المفاهيمية وتحليلاتنا قدر الإمكان. بالإضافة إلى السمتين اللتين أبرزتهما، أود أن أضيف أيضًا، على الأقل بالنسبة للنواة النظرية للماركسية الغربية - كما هو الحال في أعمال رواد مدرسة فرانكفورت وجزء كبير من الماركسية النظرية الفرنسية والبريطانية بعد الحرب - ميلها للتراجع عن الاقتصاد السياسي لصالح التحليل الثقافي، بالإضافة إلى الرفض النقدي للعديد من مشاريع بناء الدولة الاشتراكية في العالم الحقيقي، إن لم يكن جميعها (وهو ما يتداخل بالطبع مع نقطتك الثانية). في محاولتنا تحديد معالم الماركسية الغربية والقوى الدافعة لها بدقة قدر الإمكان، أعتقد أنه من المهم وضع شكلها الفريد من الإنتاج الفكري ضمن علاقات الإنتاج النظري الشاملة، والتي تندرج بدورها ضمن علاقات الإنتاج الاجتماعية بشكل عام. بعبارة أخرى، يتطلب التحليل الماركسي للماركسية الغربية، على مستوى ما، الانخراط في الاقتصاد السياسي لإنتاج المعرفة وتداولها واستهلاكها. وهذا ما يسمح لنا بتحديد القوى الاجتماعية والاقتصادية المؤثرة وراء هذا التوجه الأيديولوجي الخاص، مع الاعتراف، بالطبع، بشبه استقلالية الأيديولوجيا. بالاعتماد على أعمال ماركس وإنجلز، شخّص فلاديمير إيليتش لينين بدقة كيف كان الوجود المادي لـ"أرستقراطية العمال" في قلب الإمبراطورية، أي القطاع المتميز من الطبقة العاملة العالمية، هو الدافع وراء ميل اليسار الغربي إلى الانحياز إلى مصالح برجوازيته أكثر من انحيازه إلى جانب البروليتاريا في المحيط الاستعماري وشبه الاستعماري. يبدو لي أنه إذا ما أردنا الوصول إلى جذور الأمور، فعلينا تطبيق هذا الإطار الأساسي نفسه على فهم التراجعات الجذرية للماركسية الغربية، وميلها إلى تجاهل أو التقليل من شأن أو حتى تشويه ورفض الماركسية الثورية للجنوب العالمي، والتي لم تكتفِ بتفسير العالم، بل غيّرته جذريًا بكسرها لقيود الإمبريالية. أليس الماركسيون الغربيون، عمومًا، أعضاءً فيما يمكن أن نسميه بـ "أرستقراطية العمل الفكري"، بمعنى استفادتهم من بعض أفضل الظروف المادية للإنتاج النظري في العالم، وهو أمرٌ يسهل ملاحظته عند مقارنته، على سبيل المثال، بالماركسية التي طورها ماو تسي تونغ في الريف الصيني، وهو تشي منه في فيتنام المحاصرة، وإرنستو "تشي" غيفارا في سييرا مايسترا، أو أمثلة أخرى مماثلة؟ ألا يستفيدون، مثل أرستقراطية العمل عمومًا، من الفتات الذي يسقط من مائدة وليمة الطبقة الحاكمة الإمبريالية؛ وألا يُحدد هذا الواقع المادي نظرتهم - دون تحديد دقيق ؟ جون بِلامي فوستر: النقطة المتعلقة بالانفصال عن الاقتصاد السياسي التي ميَّزت الكثير من الماركسية الغربية هي نقطة مهمة. أنا بدأت دراساتي العليا بجامعة يورك في تورنتو في منتصف السبعينيات من القرن الماضي. كانت لديَّ خلفية في الاقتصاد سابقًا، بما في ذلك الاقتصاد الكلاسيكي الجديد والاقتصاد السياسي الماركسي. كانت تلك هي السنوات التي قاد فيها "اتحاد الاقتصاد السياسي الراديكالي" في الولايات المتحدة ثورة في الاقتصاد. لكنني كنت مهتمًا أيضًا بالنظرية النقدية وبالدراسات الهيغلية. في المجال الفلسفي. درستُ، بالإضافة إلى ماركس، كتاب "ظاهراتية الروح" لجورج فيلهلم فريدريش هيجل ، ومعظم أعمال هربرت ماركوزه، ونظرية الاغتراب لإستفان ميزاروس، والعديد من النصوص الأخرى في الفلسفة النقدية. لذا، فقد التحقت بكلية الدراسات العليا وأنا أتوقع متابعة الدراسات في كل من الاقتصاد السياسي الماركسي والنظرية النقدية. زرتُ جامعة يورك عام ١٩٧٥، ولكنني عندما وصلتُ إليها بعد عام لبدء دراساتي العليا، فوجئتُ باكتشافي أن برنامج الفكر السياسي الاجتماعي في يورك (وإلى حدٍّ ما، "اليسار" في قسم العلوم السياسية هناك) قد طرأ عليه الانقسام الحادّ، حيث فُصِلَ فيه بين مَن يُطلق عليهم "الاقتصاديون السياسيون" و"المنظرون النقديون". كان ذلك في وقتٍ توفّرت فيه لأول مرة بعضٌ من أهمّ كتابات مدرسة فرانكفورت لمفكّرين مثل تيودور أدورنو وماكس هوركهايمر بترجماتٍ إنجليزية. على سبيل المثال، فقد تُرجم كتاب " مفهوم الطبيعة عند ماركس" لألفريد شميدت إلى الإنجليزية عام ١٩٧١، وكتاب "جدليات التنوير" لهوركهايمر وأدورنو عام ١٩٧٢، وكتاب "الديالكتيك السلبي" لأدورنو عام ١٩٧٣. لم يقتصر هذا على تعزيز النقاشات داخل الماركسية فحسب، بل شكّل أيضًا، من نواحٍ عديدة، القطيعة مع الماركسية الكلاسيكية، التي كثيرًا ما جرى انتقادها في مثل هذه الأعمال. وهكذا، فقد كان أول ما سمعته عند التحاقي بدورة النظرية النقدية هو أن "جدليات الطبيعة" غير مقبولة. كا تم رفض نقاشات ماركس "الأنثروبولوجية" المبكرة حول التفاعلات البشرية مع الطبيعة رفضًا قاطعًا. أما المُقرَّر الوحيد الذي كان يُدرّس عن هيجل فكان لألكسندر كوجيف، والذي كان محلّ شغف اليسار الفرنسي، وكذلك - للمفارقة - لدى بعض المفكرين المحافظين. وقد ركزتُ أنا في تلك السنوات بشكل أكبر على الاقتصاد السياسي الماركسي. ميزاروس، الذي كان عامل جذب كبير لي في قراري بالذهاب إلى يورك، غادر جامعة يورك في نفس العام الذي وصلتُ فيه، مدفوعًا باشمئزازه من كلا طرفي الانقسام. في تلك السنة الأولى لي في جامعة يورك، كنت أعمل مع أستاذ ليبرالي ذي خبرة واسعة في الشؤون الصينية. وقد بيَّن لي حيرته بشأن تطور الماركسية، ووضع بين يدي كتاب بيري أندرسن: " تأملات في الماركسية الغربية"، وطلب مني قراءته وشرح محتواه. جلست وقرأت كتاب أندرسن، وصدمت في حينها، إذ إنه استخدم شتى الأساليب للتأكيد على تحول النظرية الماركسية نحو الفلسفة والثقافة بعيدًا عن الاقتصاد السياسي والتاريخ - وهو ما لم يكن صحيحًا في الواقع، ولكنه كان يتناسب مع توجه المفكرين الذين كان قد اختار أن يُمجِّدهم. وهكذا، فقد استَبعَدتْ "الماركسية الغربية"، بمصطلحات أندرسن، بشكل رئيسي الاقتصاديين السياسيين والمؤرخين. وإلى جانب ذلك، اعتُبرت منفصلة عن "الماركسية الكلاسيكية"، بما في ذلك التركيزات الرئيسية لماركس وإنجلز نفسيهما. وبطبيعة الحال، لم يستطع أندرسن إنكار وجود الاقتصاديين السياسيين والمؤرخين الماركسيين في مناقشته لـ"الماركسية الغربية"، لكن استبعادهم كان واضحًا تمامًا. وبصرف النظر عن الطرق المحددة التي استُبعد فيها المفكرون السياسيون والاقتصاديون، يكفي النظر إلى فهرس ذلك الكتاب لمعرفة طبيعة ترسيمات أندرسن. إنه يبرز الفلاسفة والمنظرين الثقافيين في توصيفه للماركسيين الغربيين. وهكذا، فقد ذُكر لويس ألتوسير في أربع وثلاثين صفحة، ولوكاش في إحدى وثلاثين، وجان بول سارتر في ثمان وعشرين، وماركوزه في خمس وعشرين، وأدورنو في أربع وعشرين، وغالفانو ديلا فولبي في تسع عشرة، ولوسيو كوليتي في ثماني عشرة، وهوركهايمر في اثنتي عشرة، وهنري لوفيفر في اثنتي عشرة، وفالتر بنيامين في إحدى عشرة، ولوسيان غولدمان في ثمانٍ، وميرلوبونتي في ثلاث، وبيرتولت بريشت في صفحتين، وفريدريك جيمسن في صفحة واحدة. ولكن عندما نلجأ إلى خبراء الاقتصاد السياسي والمؤرخين الماركسيين (بما في ذلك المؤرخين الثقافيين) في نفس الفترة تقريباً، فإننا نحصل على صورة مختلفة تماماً: إذ يُذكر إسحاق دويتشر في أربع صفحات فقط، وبول م. سويزي في أربع، وإرنست ماندل في صفحتين، وبول أ. باران في صفحة واحدة، وميخال كاليكي في صفحة واحدة، ونيكوس بولانتزاس في صفحة واحدة، وبييرو سرافا في صفحة واحدة، وريموند ويليامز في صفحة واحدة فقط. ولم يُذكر أيٌّ من العلماء الماركسيين إطلاقًا، كما لو كانوا غائبين تمامًا. في حين اعتبر أندرسن بعض الماركسيين، الذين كانوا محور النقاشات في الغرب، أكثر شرقيةً منهم غربيةً لاختيارهم العيش على الجانب الآخر مما سُمى بالستار الحديدي، وهم بريشت، الذي يُشار إليه في صفحتين، وإرنست بلوخ، الذي لم يظهر اسمه في أيٍّ منهما. بالنسبة لي، كان توصيف أندرسن هذا لـ"الماركسية الغربية" غريبًا منذ البداية. فرغم أن أندرسن، كأي مفكر آخر، يحق له التركيز على أقرب المفكرين إلى تحليله، إلا أن نهجه في تصنيف "الماركسيين الغربيين" - الذي ركز بالأساس على من يشتغل منهم في مجالات الفلسفة والثقافة - قد انفصل تمامًا عن الماركسية الكلاسيكية، والاقتصاد السياسي، والصراع الطبقي، ونقد الإمبريالية. كانت "الماركسية الغربية"، في توصيف أندرسن ذاك، نوعًا من النفي للجوانب الجوهرية للماركسية الكلاسيكية، إلى جانب الماركسية السوفيتية. ولا ينبغي لوم أندرسن على هذا تمامًا: لقد كان يتعامل مع الأمر الواقع. لكن الواقع هنا كان هو الابتعاد الهائل عن الماركسية الكلاسيكية، وحتى مع تحقيق التقدم النظري الكبير في بعض المجالات. ليس هناك شك، إذن، في أن الماركسية الغربية، وفقًا لتعريف أندرسن، أو حتى وفقًا للترسيم الأكثر نظرية الذي حدده التخلي عن جدليات الطبيعة، قد جُردت من الكثير من النقد الماركسي الأصلي، حتى لو استكشفت بشكل أكثر شمولاً بعض القضايا مثل ديالكتيك التشييء. ومن خلال استبعادها للاقتصاديين السياسيين وللمؤرخين وللعلماء الماركسيين، وبالتالي للمادية، أصبحت الماركسية الغربية بهذه المصطلحات أيضًا بعيدة عن الطبقة وعن الإمبريالية، وبالتالي عن فكرة النضال ذاتها. وكانت النتيجة هي إنشاء نادٍ حصري، أو ما أشار إليه لوكاش بشكل نقدي على أنه مجموعة من المفكرين الذين جلسوا في "شرفة فندق الهاوية العظيمة"، بعيدًا بشكل متزايد حتى عن فكرة الممارسة الثورية. لا أعتقد أنه من المنطقي ربط هذا مباشرة بأرستقراطية العمال (على الرغم من أهمية هذا التحليل في حد ذاته). بل لقد برز هؤلاء المفكرون كنخبة من أعضاء الأكاديمية البرجوازية. لقد كانوا بالكاد يُنظر إليهم على أنهم ماركسيون، ناهيك عن كونهم عمالًا، وكثيرًا ما شغلوا مناصب أكاديمية قيادية ونالوا أوسمة التكريم الرسمية. وكان وضعهم، إجمالًا، أفضل من أولئك الذين ظلوا ثابتين على التقليد الماركسي الكلاسيكي. غابرييل روكهِل: في كتابيه حول هذا الموضوع، يقدم أندرسن وصفًا ماركسيًا غربيًا للماركسية الغربية. وهذا، في رأيي، ما يُشكل تحديدًا لنقاط القوة والضعف الحتمية في نهجه. فمن جهة، نجده يُقدم تشخيصًا ثاقبًا لجوانب مختارة من توجهها الأيديولوجي الأساسي، بما في ذلك انسحابها من السياسة العملية لصالح النظرية وتبنيها للانهزامية السياسية. ومن جهة أخرى، لا فإنه يتطرق إلى جوهر المسألة بوضع الماركسية الغربية، كما يفهمها، ضمن علاقات الإنتاج الاجتماعية العالمية (بما في ذلك الإنتاج النظري) والصراع الطبقي الدولي. وفي النهاية، فإنه يُقدم لنا وصفًا غير مادي تمامًا لأنه لا ينخرط بجدية في الاقتصاد السياسي لإنتاج المعرفة وتداولها واستهلاكها، ولا يضع الإمبريالية في صميم تحليله. من المنظور الماركسي، وبعيدًا عن تزييفها الغربي، ليست الأفكار هي التي تحرك التاريخ، بل القوى المادية هي التي تفعل ذلك. لذا، يجب تحديد موقع التاريخ الفكري - بما في ذلك تاريخ الماركسية كمشروع نظري- بوضوح ضمن علاقته بهذه القوى؛ مع الأخذ في الاعتبار، بطبيعة الحال، أن الأيديولوجيا تعمل بشكل شبه مستقل عن القاعدة الاجتماعية والاقتصادية. وغالبًا ما عمل المثقفون الماركسيون في أوروبا إبّان أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين خارج نطاق الأوساط الأكاديمية، أحيانًا كمنظمين سياسيين أو كصحفيين، وكانوا أكثر ارتباطًا بالصراع الطبقي العملي بطرق مختلفة. وعندما حدث الانقسام في الحركة الاشتراكية خلال الحرب العالمية الأولى، أدار بعض هؤلاء المثقفين ظهورهم للبروليتاريا العالمية، واصطفوا، عن قصد أو بغير قصد، مع مصالح برجوازياتهم الوطنية. مع ذلك، فقد اتفق آخرون مع لينين على أن الحرب الوحيدة التي تستحق الدعم هي الحرب الطبقية الدولية، والتي تجلّت بوضوح في الثورة الروسية، وليس في التنافس الإمبريالي المؤقت للطبقة الرأسمالية الحاكمة. لهذا السبب، يستخدم لوسوردو هذا الانقسام لتأطير كتابه عن الماركسية الغربية، وهو أحد أسباب تفوقه بشكل كبير على رواية أندرسن: الماركسية الغربية هي التقليد الذي انبثق من الشوفينية الاجتماعية للتقليد الماركسي الأوروبي، الذي اعترض على الثورات المناهضة للاستعمار خارج أوروبا. وكما أوضح لينين بشكل حاسم، لم يكن ذلك لمجرد أن المثقفين الماركسيين الغربيين قد ارتكبوا الأخطاء النظرية، بل كان ذلك بسبب وجود قوى مادية تُحدد توجهاتهم الأيديولوجية: فبصفتهم أعضاءً في أرستقراطية العمال في لب الرأسمالية، فقد كانت لديهم المصلحة الراسخة في الحفاظ على النظام العالمي الإمبريالي. وقد تطور هذا الانقسام الأصلي إلى انقسام كبير مع استمرار التنافس الإمبريالي المؤقت للحرب العالمية الأولى خلال الحرب العالمية الثانية، مما أدى في النهاية إلى نوع من الجمود العالمي، حيث عارض المنتصر في المعسكر الإمبريالي (الولايات المتحدة) المعسكر الاشتراكي المتنامي بقيادة الدولة التي لعبت الدور الحاسم في هزيمة الفاشية ودعمت العديد من الثورات المناهضة للاستعمار حول العالم (الاتحاد السوفيتي). في سياق الحرب الباردة، أصبح الماركسيون الغربيون بشكل متزايد أساتذة جامعيين في الغرب، يميلون إلى التشكيك في التطورات العملية للماركسية في الجنوب العالمي، وينخرطون في مراجعات نظرية مهمة للماركسية الكلاسيكية لماركس وإنجلز ولينين. ولأسباب مادية للغاية، مال تنقيحهم المناهض للشيوعية إلى تعزيز مكانتهم داخل المؤسسات الغربية وقطاع النظرية. لم يحدث هذا فجأة، ولم تتسارع القوى الاجتماعية الموضوعية والتوجهات الذاتية، حيث كان هناك عدد من التناقضات التي ميزت هذه التطورات. كان من أبرز شخصيات مدرسة فرانكفورت، أدورنو وهوركهايمر، ناقدين متعصبين مناهضين للشيوعية وللاشتراكية القائمة، وقد حظيا بتمويل ودعم الطبقة الرأسمالية الحاكمة والدول الإمبريالية الرائدة لعرضهما هذه الآراء. في فرنسا، اكتشف سارتر نسخته الذاتية من الماركسية خلال الحرب العالمية الثانية، ودعم بعض جوانب الحركة الشيوعية العالمية في أعقابها، ولكنه أظهر أيضًا تشككًا متزايدًا مع استمرار الحرب الباردة. وانضم ألتوسير إلى الحزب الشيوعي الفرنسي بعد الحرب، لكنه اعتنق أيضًا التوجه النظري المناهض للديالكتيك المتمثل في البنيوية، وخاصة اللاكانية. يجب أخذ هذه التناقضات على محمل الجد، مع الاعتراف أيضًا بأن المنحنى العام للتاريخ قد أدى، على سبيل المثال، إلى أن يصبح "آلان باديو"، وهو من أتباع سارتر ألتوسيري، أشهر ماركسي غربي في فرنسا اليوم. وهو يلوّح براية حمراء نظرية، ويزعم أنه من بين الشيوعيين الأحياء القلائل الباقين، ويؤكد أنه "لم تعد الدول الاشتراكية ولا نضالات التحرر الوطني، ولا الحركة العمالية، تُشكل مرجعيات تاريخية قادرة على ضمان عالمية الماركسية الملموسة". وهكذا، فإن "الماركسية اليوم... قد دُمِّرت تاريخيًا"، وكل ما تبقى هو "فكرة الشيوعية" الجديدة التي يطرحها باديو بنفسه من إحدى المؤسسات الأكاديمية الرائدة في الغرب الإمبراطوري. (1) وهو يقول "إذا كانت الماركسية كنظرية متجسدة في الممارسة قد ماتت، فإننا مع ذلك نشجع على الاحتفال ببعثها الروحي من خلال النسخة الماركسية من النظرية الفرنسية". وبدمجه السافر لمسيحانيته مع الترويج الذاتي الانتهازي، حيث يُشبه شعار باديو التسويقي الضمني لعمله تحريفًا مسيحيًا لمقولة ماركس الشهيرة عن الثورة. إنه يقول: "ماتت الماركسية. عاشت فكرتي عن الشيوعية!"؛ إلا أن باديو، في حماسه للبعث النظري، يغفل عن ذكر أن فكرته الجديدة المزعومة، في جوهرها العملي، إنما هي في الواقع فكرة قديمة جدًا، سبق أن انتقدها إنجلز بشدة؛ إنها فكرة "الاشتراكية الطوباوية". هذا هو أحد أسباب أهمية التقييم الديالكتيكي للماركسية الغربية. فهو يتيح لنا إجراء تحليل متنوع للمفكرين والحركات الفردية، مع تسليط الضوء على مواطن توافقهم مع الأيديولوجية السائدة للماركسية الغربية، وكذلك على كيفية اختلافهم عنها في جوانب معينة أو في مراحل زمنية محددة (مثل سارتر وألتوسير). علاوة على ذلك، يجب أن يكون هذا النهج الديالكتيكي ماديًا تمامًا من خلال استناده على تحليل العلاقات الاجتماعية للإنتاج الفكري. إن أشهر الماركسيين الغربيين المعاصرين هم أساتذة جامعيون في قلب الإمبريالية، وبعضهم من روّاد النظرية الإمبريالية عالميًا، وقد أثَّر هذا بلا شك على نوعية عملهم. علاوة على ذلك، فإن اندماج الماركسية مع الأكاديمية البرجوازية قد أخضعها لعدد من التغييرات المهمة. ففي قلب الرأسمالية، لا توجد أكاديميات للماركسية حيث يمكن تدريب المرء، ثم تثقيف الآخرين، على الماركسية كعلم شامل يشمل العالمين الطبيعي والاجتماعي. بدلاً من ذلك، يوجد نظام "تايلري" فكري قائم على التقسيم التخصصي للعمل بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية. هذا النظام، كجزء من البنية الفوقية، مدفوع في نهاية المطاف بمصالح الرأسمالية. في هذا الصدد، تم تهميش الماركسية، إلى حد كبير، أو رفضها كإطار للعلوم الطبيعية البرجوازية، وغالبًا ما تم اختزالها إلى نموذج تفسيري - غير صحيح أو غير كافٍ - في كثير من العلوم الاجتماعية البرجوازية. إن العديد من الماركسيين الغربيين الأكثر شهرة يدرّسون في أقسام العلوم الإنسانية، أو أقسام العلوم الاجتماعية المجاورة للعلوم الإنسانية، وهم يمارسون الانتقائية النظرية، ويجمعون عمداً بين النظرية الماركسية والاتجاهات النظرية البرجوازية. في ظل هذا السياق المادي، ليس من المستغرب أن يميل الماركسيون الغربيون إلى رفض العلم المادي، والتخلي عن الانخراط الصارم في الاقتصاد السياسي والتاريخ المادي، والانغماس في النظرية والتحليل الثقافي البرجوازي لمصلحتهم الخاصة. إن جوهر النظرية الماركسية، بالنسبة لأكثر الماركسيين الغربيين فظاظة، مثل سلافوي جيجك، ليس تغيير العالم الذي يروّج لهم كنجوم بارزين، بل تفسيره بطريقة تجعل مسيرتهم المهنية تتقدم داخل الأكاديميات الإمبريالية والصناعات الثقافية. إن النظام الموضوعي والمادي لإنتاج المعرفة يحدد مساهماتهم الذاتية فيه. ما يفتقرون إليه هو التقييم النقدي الذاتي والمادي الجدلي لظروف إنتاجهم الفكري، والذي يعود جزئيًا إلى الطريقة التي تدربوا بها أيديولوجيًا على يد النظام الذي يروّج لهم. إنهم المؤدلِجون للماركسية الإمبريالية. جون بِلامي فوستر: ما تقدمه هنا هو نقد مادي تاريخي كلاسيكي يركز على الأسس الطبقية للأيديولوجيا، فيما يتعلق بالتقاليد الماركسية الغربية. لقد كان ماركس، كما أوضح كارل مانهايم الشهير في كتابه "الأيديولوجيا واليوتوبيا"، هو الذي أنشأ نقد الأيديولوجيا لأول مرة. ومع ذلك، فقد اتهم مانهايم الماركسية بأنها فشلت في النقد الذاتي اللازم لعلم اجتماع متطور للمعرفة بسبب عدم قدرتها على فصل نفسها عن وجهة نظرها البروليتارية الثورية (وهو فشل نسبه إلى لوكاش على وجه الخصوص). ومع ذلك، وعلى النقيض من ذلك، فإن هذا النقد الذاتي، أي التغييرات الجذرية في النظرية والممارسة الثورية استجابة لتغير الظروف المادية الطبقية، كما زعم ميزاروس، هو ما يساعد في تفسير الحيوية النظرية المستمرة للنظرية الماركسية، بالإضافة إلى الثورات الفعلية في الجنوب العالمي. بالنسبة للماركسية الغربية كتقليد متميز، كان هذا النقد الذاتي مستحيلاً بالطبع، دون الكشف عن قواعد اللعبة برمتها. وليس من قبيل المصادفة أن أشد جدل الماركسيين الغربيين كان موجهاً ضد لوكاش عندما وسّع نقده لللاعقلانية ضمناً ليشمل اليسار الغربي المفتتن بمعاداة الإنسانية عند مارتن هايدغر. في التقليد الفلسفي الماركسي الغربي، فقد رُفضت جميع الأنطولوجيات الإيجابية، حتى تلك الخاصة بماركس وهيجل، إلى جانب التحليل التاريخي. ما تبقى كان جدلية محدودة، مُختزلة إلى منطق العلامات والدلالات، ومنفصلة عن الأنطولوجيا المادية والصراع الطبقي وحتى التغيير التاريخي. لقد أصبحت الإنسانية، وحتى الإنسانية الماركسية، هي العدو. وبعد أن تخلوا عن كل محتوى حقيقي، ساعد الماركسيون الغربيون الذين عرّفوا أنفسهم بأنفسهم في إدخال المنعطف الخطابي السائد. وأدى هذا إلى اندماجه في مابعد-الماركسية، وما بعد البنيوية، وما بعد الحداثة، وما بعد الإنسانية، وما بعد الاستعمار، وما بعد الرأسمالية. هنا، غالبًا ما كان مصطلح "ما بعد" يعني الزحف إلى الوراء، بدلًا من التقدم إلى الأمام. ويمكننا تلخيص الكثير من نقاشنا حتى الآن بالقول إن التراث الماركسي الغربي، على الرغم من ثرائه بالرؤى النقدية، قد وقع في تراجع رباعي الأبعاد: (1) التراجع عن الطبقة؛ (2) التراجع عن نقد الإمبريالية؛ (3) التراجع عن الطبيعة/المادية/العلم؛ و(4) التراجع عن العقل. ومع غياب الوجود الإيجابي، لم يبقَ لدى اليسار ما بعد الحداثي وما بعد الماركسي سوى الكلمة، أو عالم من الخطاب الفارغ الذي يوفر أساسًا لتفكيك الواقع، ولكنه خالٍ من أي مشروع تحرري. المهمة الحالية، إذًا، هي في استعادة المادية التاريخية وإعادة بنائها كنظرية وممارسة ثورية، في سياق الأزمة الكوكبية التي نمر بها. قال ماكس فيبر مقولته الشهيرة: "المادية التاريخية ليست سيارة يمكن قيادتها إلى أي مكان". قد يجيبه قائل بأن الماركسية، بمعناها الكلاسيكي، لا تهدف إلى نقل الإنسانية إلى أي مكان؛ بل إن هدفها هو عالم من المساواة الجوهرية والاستدامة البيئية: الاشتراكية الكاملة. غابرييل روكهِل: يُشكّل هذا التراجع الرباعي تراجعاً من الواقع المادي إلى عالم الخطاب والأفكار. وهو بالتالي انقلاب أيديولوجي للماركسية الكلاسيكية يَقلب العالم رأسًا على عقب. والنتيجة السياسية الرئيسية لهذا التوجه هي التخلي عن مهمة بناء الاشتراكية في العالم الواقعي، وهي مهمة معقدة ومتناقضة في كثير من الأحيان. إن التراجعات الأربع المذكورة أعلاء، والتي تُلغي ما أسماه لينين بالجوهر الثوري للماركسية، إنما تُغذي بالتالي انسحابًا من المهمة العملية الأساسية للماركسية، ألا وهي تغيير العالم، لا مجرد تفسيره. وللحفاظ على التحليل الجدلي الشامل، من المهم التأكيد على أن التراجعات الأربع والتخلي التام عن الاشتراكية الواقعية لا يعملان كمبادئ آلية تُحدد بشكل اختزالي جميع جوانب أي خطاب ماركسي غربي. بل إنهما سمتان لحقل أيديولوجي واسع يمكن رسمه من خلال مخطط "فين". يمكن لكل خطاب محدد أن يشغل مواقع مختلفة داخل هذا الحقل الأيديولوجي. في أحد الأطراف، توجد خطابات مثالية خرافية ابتعدت عن جميع أشكال التحليل المادي لصالح توجهات "ما بعد" مختلفة - ما بعد الماركسية، وما بعد البنيوية، وما بعد الحداثة، وما إلى ذلك - وهي رجعية للغاية. في الطرف الآخر، توجد خطابات تدعي أنها ماركسية راسخة وتنخرط، إلى حد ما، في نسخة عقلانية من التحليل الطبقي. ولكنهم يسيئون فهم ديناميكيات الطبقة الأساسية العاملة في الإمبريالية، وهم يميلون إلى رفض الاشتراكية في العالم الحقيقي باعتبارها مشروع بناء دولة مناهض للإمبريالية لصالح نسخ من الاشتراكية الطوباوية أو الشعبوية أو المتمردة ذات التوجه الفوضوي (وقد قام لوسوردو بتشخيص هذه الاتجاهات الثلاثة بشكل ثاقب في كتابه عن الماركسية الغربية). وفي حين أن مختلف توجهات "ما بعد-" يسهل مواجهتها نسبيًا من منظور مادي صارم، إلا أن الطعن في التحليل الماركسي الغربي قد يكون أصعب نظرًا لقوته المؤسسية والتزامه الظاهري بالمادية التاريخية. لذلك، من الأهمية بمكان، في إطار مهمة إحياء المادية الجدلية والتاريخية كنظرية وممارسة ثورية، مكافحة من يسمون أنفسهم بالماركسيين ويشوهون صورة الإمبريالية والنضال التاريخي العالمي ضدها. مقالاتك الأخيرة حول هذا الموضوع في مجلة "المراجعة الشهرية" ضرورية لأنها تتناول جوهر إحدى أهم قضايا الصراع الطبقي المعاصر من الناحية النظرية، ألا وهي كيفية فهم الإمبريالية. (2) وبينما تواصل تحليلك النقدي، آمل أن تستمر في إلقاء الضوء على واحدة من أكثر الانقلابات الأيديولوجية الماركسية الغربية انحرافا: تصوير تلك البلدان المنخرطة في النضال ضد الإمبريالية - من الصين إلى روسيا وإيران وما وراء ذلك - على أنها إمبريالية بشكل أساسي، تعكس الغرب الجماعي في أفعالها وطموحاتها، أو حتى منخرطة في شكل أكثر استبدادًا وقمعًا من أشكال الإمبريالية من الديمقراطيات البرجوازية في الغرب. جون بِلامي فوستر: إن علاقة الماركسية الغربية بالإمبريالية معقدة للغاية. جزء من المشكلة هو أن ما نحتاج إلى تحليله أولاً هو المركزية الأوروبية المتأصلة في الثقافة الغربية (بما في ذلك، بالطبع، ليس أوروبا فقط، بل الدول الاستعمارية الاستيطانية: الولايات المتحدة وكندا في أمريكا الشمالية وأستراليا ونيوزيلندا في أستراليا، بالإضافة إلى إسرائيل في سياق مختلف نوعًا ما). لقد جادل مارتن برنال في كتابه " أثينا السوداء" بأن الأسطورة الآرية المتعلقة باليونان القديمة والتي شكلت البداية الحقيقية للمركزية الأوروبية إنما نشأت في زمن غزو نابليون لمصر في نهاية القرن الثامن عشر - على الرغم من وجود آثار لها بالتأكيد قبل ذلك. وقد حصلت المركزية الأوروبية على دفعة أخرى مع صعود ما أسماه لينين بالمرحلة الإمبريالية للرأسمالية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، والتي تجسدت في التقسيم المتبادل لأفريقيا من قبل القوى العظمى. لا ينبغي النظر إلى المركزية الأوروبية على أنها مجرد نوع من المركزية العرقية. بل إن المركزية الأوروبية هي الرأي الذي عبر عنه "فيبر" بشكل حاد في مقدمته لعلم اجتماع الأديان (نُشر باعتباره "مقدمة المؤلف" في الترجمة الإنجليزية الرئيسية التي كتبها تالكوت بارسونز لكتاب الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية). هناك اتخذ فيبر موقفًا مفاده أن الثقافة الأوروبية هي الثقافة العالمية الوحيدة. ومن المؤكد أن هناك ثقافات أخرى خاصة حول العالم، من وجهة نظره، بعضها متقدم للغاية، لكنها جميعًا قد أُجبرت على التوافق مع الثقافة العالمية لأوروبا إذا أرادت التحديث، وهو ما يعني التطور وفقًا للعقلانية الأوروبية والرأسمالية. يمكن للدول الأخرى، وفقًا لهذا الرأي، أن تتطور ، ولكن فقط من خلال تبني الثقافة العالمية، التي كانت تُعتبر أساس الحداثة، وهي نتاج خاص لأوروبا. إن المركزية الأوروبية بهذا المعنى على وجه التحديد هي التي تناولها جوزيف نيدهام بشكل نقدي في كتابه " داخل البحار الأربعة" (1969)، والتي قام سمير أمين بتفكيكها تاريخياً في كتابه "المركزية الأوروبية" (1988). لقد تطور الفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر في سياق مركزية أوروبية ناشئة بهذا المعنى. يمكن للمرء أن يفكر في النموذج الاستعماري والعنصري للعالم المقدم في فلسفة التاريخ لهيجل. ومع ذلك، فإن عمل ماركس وإنجلز لم يتأثر بشكل ملحوظ بمثل هذه المركزية الأوروبية. علاوة على ذلك، وبحلول أواخر خمسينيات القرن التاسع عشر، بينما كانا لا يزالان في الثلاثينيات من عمريهما، ومنذ تلك النقطة فصاعدًا، فقد دعم ماركس وانجلز بقوة النضالات والثورات المناهضة للاستعمار في الصين والهند والجزائر وجنوب إفريقيا. كما أعربا عن إعجابهما العميق بأمم اتحاد الإيروكوا في أمريكا الشمالية. لم يقم أي مفكر رئيسي آخر في القرن التاسع عشر، غير ماركس، بالادانة االقوية لما أسماه بـ "استئصال السكان الأصليين للأمريكتين واستعبادهم ودفنهم في المناجم"، ولا عارض أحد العبودية الرأسمالية بشدة مثله. لقد كان ماركس أشد المعارضين الأوروبيين لحروب الأفيون البريطانية والفرنسية على الصين والمجاعات التي أحدثتها السياسة الإمبريالية البريطانية في الهند. ولقد جادل بأن بقاء الكوميونة الروسية أو "المير" يعني أن الثورة الروسية يمكن أن تتطور في ظروف مختلفة عن أوروبا، بل وربما تتجاوز مسار التطور الرأسمالي. وقدّم إنجلز مفهوم أرستقراطية العمال (الذي طوره لينين لاحقًا) لشرح سكون العمال البريطانيين وضعف احتمالات الاشتراكية هناك. كانت الفقرة الأخيرة، بصرف النظر عن بضع رسائل، التي كتبها إنجلز، قبل شهرين من وفاته عام 1895، إشارة - في السطور الختامية لطبعته للمجلد الثالث من كتاب " رأس المال" لماركس - إلى كيفية تقسيم رأس المال المالي (أو بورصة الأوراق المالية) للقوى الأوروبية الرائدة لأفريقيا. كان هذا هو الواقع ذاته الذي سكَّل الأساس لمفهوم لينين للمرحلة الإمبريالية للرأسمالية. ولكن لا يُمكن القول بأن موقف الماركسيين في الجيل التالي كان مُنسجمًا تمامًا مع مشاكل الإمبريالية أو مُتعاطفًا بشدة مع الشعوب المُستعمَرة. في الحرب العالمية الأولى، دعمت جميع الأحزاب الاشتراكية تقريبًا في أوروبا دولها القومية الإمبريالية فيما كان في المقام الأول، كما أوضح لينين، حرباً حول أي دولة أو دول ستستغل المستعمرات وشبه المستعمرات. لم يُعارض هذا سوى حزب لينين البلشفي ورابطة سبارتاكوس الصغيرة بقيادة روزا لوكسمبورغ وكارل ليبكنخت. بعد الحرب العالمية الأولى، تم تبني تحليل لينين للإمبريالية في كتابه "الإمبريالية: أعلى مراحل الرأسمالية" وتطويره، بدعم من لينين، ضمن نطاق الكومنترن. وفي وثائق الكومنترن نرى أول ظهور لما كان يسمى بنظرية "التبعية"، والتي تم تطويرها بعد ذلك بشكل أكبر في أمريكا اللاتينية وأماكن أخرى وتوسعت لاحقًا لتشمل تحليل "التبادل غير المتكافئ" و"نظرية النظام العالمي". كانت هذه فترة الثورات وإنهاء الاستعمار في جميع أنحاء الجنوب العالمي. واستجابة لهذه التطورات، فقد انقسمت الماركسية جذريًا. حيث اتخذ بعض المنظرين الماركسيين في الغرب الموقف، الذي عبر عنه سويزي بوضوح في الستينيات، بأن الثورة، ومعها البروليتاريا الثورية والتركيز المناسب للنظرية الماركسية، قد انتقلت إلى العالم الثالث أو إلى الجنوب العالمي. في المقابل، اعتبر معظم المنتمين إلى ما يُعرّف نفسه بالماركسية الغربية الماركسية خاصيةً خاصة بالغرب، حيث تأسست، مع أن النضالات الثورية الرئيسية حول العالم كانت تدور في أماكن أخرى. وبطبيعة الحال، فقد اقترن هذا بتهميش ظاهرة الإمبريالية، في أحسن الأحوال، ورفضها رفضًا تامًا في أسوأها. ولقد انقطعت هذه الديناميكية بفعل بعض ثورات العالم الثالث الرئيسية، التي كان من المستحيل تجاهلها، مثل الثورتين الجزائرية والفيتنامية. وهكذا، فقد تأثرت شخصية مثل ماركوزه، الذي ينتمي عمومًا إلى التقليد الفلسفي الماركسي الغربي، تأثرًا عميقًا بثورة فيتنام. ومع ذلك، كان ذلك بعيدًا كل البعد عن عمله النظري. في الغالب، تصرف التقليد الماركسي الغربي، بشكله الأكاديمي الأكثر تجريدًا، كما لو أن أوروبا كانت ما تزال هي قطب الاهتمام، متجاهلًا الآثار العميقة للإمبريالية على البنية الاجتماعية للغرب، ومُبديًا احترامًا ضئيلًا نسبيًا للمنظرين الماركسيين خارج أوروبا. لقد غرس جون س. سول - الذي ركز عمله على نضالات التحرير في أفريقيا - بنفسي مفهوم "التناقض الأساسي". رأى لينين أن التناقض الأساسي للرأسمالية الاحتكارية إنما هو الإمبريالية؛ وفي الواقع أكدت الثورة تلو الثورة في الجنوب العالمي (واستجابات الثورة المضادة في الشمال العالمي) ذلك. ولكن لم يتم تجاهل ذلك كثيرًا من قبل اليسار الغربي فحسب، بل وشهدنا أيضًا المزيد والمزيد من التحركات اليائسة لإنكار أن الشمال قد استغل الجنوب اقتصاديًا، مع رفض فكرة أن هذا كان في قلب نظرية لينين. وقد رافقت ذلك الهجمات المتكررة على نظريات "التبعية" و"التبادل غير المتكافئ" ونظرية "النظام العالمي". ويمكن أن يفكر المرء في عمل "بيل وارن"، الذي حاول أن يجادل بأن ماركس رأى الإمبريالية على أنها "رائدة الرأسمالية"، أي أنها تلعب دورًا تقدميًا (حتى لو لم يفعل لينين ذلك)؛ ومحاولة "روبرت برينر" في مجلة "نيو ليفت ريفيو" (مراجعة اليسار الجديد) وصف سويزي وأندريه غوندر فرانك وإيمانويل والرشتاين بـ"الماركسيين الجدد" على أساس أنهم، مثل آدم سميث (والمفترض أنهم كانوا معارضين لماركس)، قد انتقدوا استغلال البلدان الواقعة على أطراف الرأسمالية أو حولها. (كانت انتقادات سميث نفسه موجهة نحو المذهب التجاري وذلك دعمًا للتجارة الحرة). في الولايات المتحدة، برز الاقتصاد السياسي الماركسي بشكل كبير في ستينيات القرن الماضي. معظم من اعتنقوا الماركسية آنذاك لم يكونوا نتيجةً لنشاط الأحزاب اليسارية، التي كانت شبه غائبة، كما هو الحال مع الحركة العمالية الراديكالية. لذا، فقد انجذب اليساريون إلى المادية التاريخية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، ويعود ذلك بشكل رئيسي إلى نقدهم للإمبريالية وغضبهم من حرب فيتنام. إضافةً إلى ذلك، فقد تأثرت الماركسية في الولايات المتحدة تأثرًا عميقًا بالحركة الراديكالية السوداء التي ركزت دائمًا على علاقة الرأسمالية والإمبريالية والعرق، ولعبت دورًا قياديًا في فهم هذه العلاقات. مع ذلك، في أمريكا الشمالية وأوروبا، فقد تراجع نقد الإمبريالية في أواخر سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي بسبب انتشار النزعة المركزية الأوروبية. وكانت هناك أيضًا مشكلة، بعبارات أكثر انتهازية، تتمثل في الاستبعاد من الأوساط الأكاديمية والحركات اليسارية لمن يبالغ من الماركسيين في التركيز على نقد الإمبريالية. ومن الواضح أن اليسار قد اتخذ خيارات معينة هنا. ففي الولايات المتحدة، تصطدم جميع محاولات إنشاء حركة يسارية ليبرالية أو ديمقراطية اجتماعية بحقيقة أنه لا يجب على المرء معارضة العسكرة أو الإمبريالية الأمريكية بنشاط، ولا دعم الحركات الثورية في الخارج إذا أراد المرء أن يكون له موضع قدم في باب النظام السياسي "الديمقراطي". وحتى في الأوساط الأكاديمية، توجد ضوابط غير معلنة في هذا الصدد. ونشهد اليوم حركة متنامية بين المثقفين الذين يدّعون الماركسية، والذين يرفضون علنًا نظرية الإمبريالية بمعناها اللينيني، وبمعناها الماركسي على مدى القرن الماضي أو أكثر. وتُستخدم حججٌ متنوعة، منها حصر الإمبريالية في الصراعات بين القوى العظمى (أي النظر إليها أساسًا من منظور أفقي)؛ واستبدال الإمبريالية بمفهومٍ مبهمٍ للعولمة أو العولمة الوطنية؛ وإنكار قدرة دولةٍ على استغلال دولةٍ أخرى؛ واختزال الإمبريالية في فئةٍ أخلاقيةٍ بحيث تُربط بالدول الاستبدادية لا بـ "الديمقراطيات"؛ أو جعل مفهوم الإمبريالية شائعًا لدرجةٍ تجعله عديم الفائدة، متناسين أن دول مجموعة السبع اليوم (مع إضافة كندا) هي نفسها القوى الإمبريالية العظمى للرأسمالية الاحتكارية التي أشار إليها لينين قبل أكثر من قرن. إن هذا يمثل تحولاً جذرياً يقسِّم اليسار، حيث أن الحرب الباردة الجديدة ضد الصين - وهي أيضاً حرب ضد الجنوب العالمي - تقود جزءاً كبيراً من اليسار إلى الانحياز إلى القوى الغربية، التي يُنظر إليها على أنها متفوقة "ديمقراطيا" بطريقة ما، وبالتالي فهي أقل إمبريالية. كل هذا يعيدنا إلى مسألة المركزية الأوروبية. لقد أدان منظرو ما بعد الاستعمار مؤخرًا الماركسية باعتبارها مؤيدة للإمبريالية أو أنها أوروبية المركز. ومن السهل دحض محاولات نسب هذه الآراء إلى ماركس وإنجلز ولينين على أساس واقعي. وكما قال باروخ سبينوزا، "الجهل ليس حجة". لكن المشكلة تصبح أعمق بقدر ما يتخذ العديد من منظري ما بعد الاستعمار مقياسهم للماركسية من المفاهيم الثقافية والفلسفية للماركسية الغربية الرئيسية التي تنحدر منها نظرية ما بعد الاستعمار نفسها إلى حد كبير. لا شك في أن منظري الماركسية الغربية، الذين ركزوا أنظارهم فقط على أوروبا أو الولايات المتحدة، كانوا غالبًا منجرفين نحو المركزية الأوروبية. علاوة على ذلك، فقد صَوّرت الماركسية الغربية الماركسية الكلاسيكية على أنها الحتمية الاقتصادية غير الحساسة للمسائل الوطنية والثقافية. كل هذا أدى إلى تشويه سجلها التاريخي والنظري. في الواقع، يوجد عالم كامل من التحليل الماركسي، ينشأ معظمه من الصراعات المادية. لقد كنتُ أقرأ كتابًا مثيرًا للاهتمام من تأليف سيمين فادائي (Simin Fadaee) بعنوان " الماركسية العالمية: إنهاء الاستعمار والسياسات الثورية" ، الذي نشرته مطبعة جامعة مانشستر في عام 2024. والكاتبة تجادل فيه بأن الماركسية هي عالمية المنحى، وتقدم فصولًا منفصلة عن ماو وهو وأميلكار كابرال وفرانز فانون وتشي جيفارا وغيرهم. وهي تقول في نهاية مقدمة كتابها: "في الواقع، أنه من قبيل التشبث بالمركزية الأوروبية أن ندعي بأن الماركسية هي أوروبية ، لأن هذا يستلزم رفض حجر الزاوية لبعض الحركات الأكثر تحولًا والمشاريع الثورية في التاريخ البشري الحديث. وبدلاً من تقديم مثل هذه الادعاءات الشاملة، فإن الانخراط الأكثر إثمارًا في التاريخ سيحثنا بدلاً من ذلك على التعلم من تجربة الجنوب العالمي مع الماركسية والتساؤل عما يمكننا تعلمه من الأهمية العالمية للماركسية". غابرييل روكهِل: إن الماركسية الغربية هي انتاج أيديولوجي للإمبريالية، ووظيفتها الرئيسية هي طمس الامبريالية أو إخفاؤها، مع تحريف النضال ضدها. أنا أقصد هنا "الإمبريالية" بمعناها الأوسع، كعملية إرساء وتطبيق لعمليات نقل ممنهجة للقيمة من مناطق معينة من العالم، وتحديدًا الجنوب العالمي، إلى مناطق أخرى (الشمال العالمي)، من خلال استخراج الموارد الطبيعية، واستخدام العمالة المجانية أو الرخيصة، وخلق الأسواق لتفريغ السلع، وغيرها. ولقد شكلت هذه العملية الاجتماعية والاقتصادية القوة الدافعة وراء تخلف غالبية دول العالم مقابل النمو المفرط للنواة الإمبريالية، بما في ذلك صناعاتها لإنتاج المعرفة. وقد أدى هذا، داخل الدول الإمبريالية الرائدة، إلى نشوء بنية فوقية إمبريالية، تتكون من الجهاز السياسي والقانوني للدولة والنظام المادي للإنتاج الثقافي والتداول والاستهلاك، والذي يمكننا أن نسميه، على غرار بريشت، بـ "الجهاز الثقافي". وتُعتبر صناعات إنتاج المعرفة المهيمنة في النواة الإمبريالية جزءًا من الجهاز الثقافي للدول الإمبريالية الرائدة. بزعمي أن الماركسية الغربية هي نتاج أيديولوجي للإمبريالية، فأنا أعني أنها نسخة محددة من الماركسية نشأت داخل البنية الفوقية - وتحديدًا الجهاز الثقافي - للدول الإمبريالية الرائدة. إنها شكل خاص من الماركسية يفتقد الصلة بطموح الماركسية العالمي في توضيح النظام العالمي الرأسمالي علميًا وتحويله عمليًا. في كتابي القادم بعنوان: " من الذي دَفَعَ ثمن الماركسية الغربية؟" ، أُحدد موقع هذه النسخة من الماركسية داخل البنية الفوقية الإمبريالية، وأدرس القوى السياسية والاقتصادية التي كانت تحركها. ومن السمات اللافتة للنظر هي مدى تمويل الطبقة الرأسمالية الحاكمة والدول الإمبريالية ودعمها المباشر لها. على سبيل المثال، فقد استثمر آل روكفلر - وهم من أشهر أباطرة السطو في تاريخ الرأسمالية الأمريكية - ما يعادل ملايين الدولارات اليوم في "مشروع الماركسية اللينينية" الدولي. وكان هدفه الرئيسي الترويج للماركسية الغربية كسلاح أيديولوجي في الحرب ضد الماركسية التي تُستثمر في تطوير الاشتراكية في العالم الحقيقي كحصن منيع ضد الإمبريالية. كان ماركوزه في قلب هذا المشروع، وكذلك صديقه المقرب وداعمه الأكاديمي فيليب موزلي، الذي كان مستشارًا رفيع المستوى وطويل الأمد في وكالة المخابرات المركزية، منخرطًا بعمق في الحرب العقائدية. بالإضافة إلى كونه أحد أشهر الماركسيين الغربيين، فقد عمل ماركوزه لسنوات كخبير بارز في الشؤون الشيوعية بوزارة الخارجية الأمريكية. وهذا مهم لأنه يُبرز مدى تعاون عناصر الدولة البرجوازية مع فصائل البرجوازية للترويج للماركسية الغربية. إنهم يشتركون في الهدف الأساسي نفسه، ألا وهو بناء نسخة من الماركسية قابلة للنشر على نطاق واسع، لأنها تخدم مصالحهم في نهاية المطاف. ولا شك أن هذا تنازل طبقي، إذ يفضل الإمبرياليون القضاء على الماركسية بشكل كامل. لكن، بما أنهم عجزوا عن ذلك، فقد انتهجوا نهجًا تسويقيًا متهاونًا، ساعين إلى الترويج للماركسية الغربية على أنها الشكل الوحيد المقبول والمحترم للماركسية. وتكمن المشكلة الجوهرية، من نواحٍ عديدة، في أن الماركسية الغربية لا تُدرِك التناقض الأساسي للنظام العالمي الرأسمالي، ألا وهو الإمبريالية. كما أنها لا تفهم علميًا الظهور الجدلي للاشتراكية داخل العالم الإمبريالي، ولا تُدرِك أن مشاريع بناء الدولة الاشتراكية في جميع أنحاء الجنوب العالمي كانت العائق الرئيسي أمام الإمبريالية. إن عدم فهمها للإمبريالية ومكافحتها يعني أنها في نهاية المطاف تفتقر إلى الدقة العلمية. فبإخفائها للتناقض الأساسي وتجاوزه ماديًا عبر الاشتراكية الواقعية، فإنها تُقلب الواقع المادي أيديولوجيًا بطرق مُختلفة ومُتنوعة. ورغم وجود درجات مُختلفة من الماركسية الغربية، كما ناقشنا سابقًا، إلا أنها دائمًا ما تحمل جرعة من اللاعلمية. إن رفضها للوجود المادي هو الامتداد لانكفائها الشامل عن العلم المادي. وهذا أمرٌ بديهي، لكن "العلم" هنا لا يُفهم من منظور النسخة الوضعية التي غالبًا ما يُشوّهها الماركسيون الغربيون. العلم، أو ما أسماه ماركس وإنجلز( Wissenschaft )، والذي يحمل معنى أوسع بكثير في اللغة الألمانية، يشير إلى العملية المستمرة القابلة للخطأ لإنشاء أفضل إطار تفسيري ممكن بشكل جماعي من خلال اختباره باستمرار في الواقع المادي وتعديله على أساس الخبرة العملية. إذاً، عند اكتمال الدائرة، يُمكن القول إن الماركسية الغربية يُفضّل وصفها بـ"الماركسية الإمبريالية" بالمعنى الدقيق للكلمة، أي أنها نتاج أيديولوجي للبنية الفوقية الإمبريالية التي تُخفي الإمبريالية في نهاية المطاف - بهدف تعزيزها - بينما تُكافح ضد الاشتراكيات القائمة بالفعل. وعلى النقيض من ذلك، فإن المشروع الماركسي العالمي المُناهض للإمبريالية تمامًا في عالمنا، وهو مشروع علمي دقيق: فهو يُقرّ بالواقع المادي الذي يجعل مشاريع بناء الدولة الاشتراكية الوسيلة الرئيسية لمحاربة الإمبريالية والتقدم نحو الاشتراكية. هذا لا يعني، بالطبع، أن الماركسيين العالميين يتبنون دون تمحيص أي مشروع يرفع راية الاشتراكية أو يدّعي مناهضة الإمبريالية. ففي تفانيها للدقة العلمية، تُكرّس الماركسية العالمية نفسها للتدقيق النقدي والتقييم المادي الدقيق. وللتوضيح، فإن هذا لا يعني التخلي عن جميع الأعمال المنجزة في إطار الماركسية الإمبريالية. بل ينبغي لنا، بدلاً من ذلك، مقاربتها جدلياً، معترفين بمساهماتها - على سبيل المثال - في تحليل الرأسمالية والنظرية الماركسية بطرق مختلفة. وهذا أمر منطقي تماماً بالنظر إلى المستوى العالي للتطور المادي للبنية الفوقية الإمبريالية التي تدعمها. مع ذلك، فمن الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الماركسية التي لا تدرك التناقض الرئيسي للنظام العالمي الاجتماعي والاقتصادي لا يمكن اعتبارها علمية أو تحررية. ومن الأهمية بمكان أيضاً إدراك سبب تحول هذه النسخة إلى الشكل السائد للماركسية داخل صناعة النظرية الإمبريالية. فبدلاً من مكافحة الإمبريالية والمساهمة في النضال العملي لبناء الاشتراكية، فهي متوافقة أيديولوجياً مع المصالح الإمبريالية. جون بِلامي فوستر: من المنظور الماركسي، فإن القول بأن الإمبريالية هي التناقض الأساسي للرأسمالية في عصرنا هو القول بأن واقع النضالات الثورية ضد الإمبريالية هو التناقض الأساسي للرأسمالية. فلأكثر من قرن، اندلعت ثورات في الجنوب العالمي ضد الإمبريالية، متجذرة في أفعال الطبقات المضطهدة، ونُفذت باسم الماركسية أو كانت مستوحاة منها. ويمكن اعتبار نضالات عمال الشمال العالمي ضد بنية الرأسمالية الاحتكارية جزءًا موضوعيًا من هذه الجدلية نفسها. لقد اتسم التقليد الماركسي الغربي في البداية بمعارضته الشديدة للماركسية السوفيتية برمتها، وليس فقط بشكلها الستاليني. ولذلك، فقد دعم الماركسيون الغربيون في كثير من الأحيان جهود الغرب خلال الحرب الباردة ببنيته الإمبريالية. أيديولوجيًا، أدان الماركسيون الغربيون إنجلز وكل من جاء بعده في الأمميتين الثانية والثالثة، إلى جانب الجدليات المادية. ووُصفت الثورات ضد الإمبريالية في الجنوب العالمي بأنها غير ذات صلة إلى حد كبير بالنظرية والممارسة الماركسية، التي اعتُبرت النتاج الوحيد للغرب. وعلى الرغم من أن الحركات الشيوعية الأوروبية قد قدمت لبعض الوقت بدائل أكثر جذرية، إلا أن التقليد الماركسي الغربي تبرأ منها إلى حد كبير حتى في أوجها، قبل أن تستسلم تمامًا لسياسات الديمقراطية الاجتماعية. كل ما تبقى من الماركسية الكلاسيكية، إذن، داخل الماركسية الغربية، على الرغم من ادعاءاتها الفكرية الكبرى، كان مجالًا محدودًا من الزخارف الفلسفية المستوحاة من نقد ماركس لرأس المال. كانت الماركسية الغربية منفصلة عن الطبقة العاملة في الغرب، وعالميًا عن ثورة العالم الثالث، وعن معارضة الإمبريالية، وفي النهاية منفصلة عن العقل. وهنا يجدر بنا أن نتذكر أن ماركس وإنجلز قد أطلقا على عملهما المبكر " العائلة المقدسة" عنوانًا فرعيًا "نقد النقد النقدي". ولقد عارضا فيه بشدة ذلك النمط من التحليل الذي ينحدر إلى ما لا يعدو أن يكون سوى "نقدًا نقديًا"، و"مثالية تأملية" خالصة لا علاقة لها بـ "الإنسانية الحقيقية" أو التاريخ الحقيقي أو المادية الحقيقية. لم يفشل هذا النقد النقدي، المنفصل عن المادية والممارسة، في التماهي مع نضالات العمال فحسب، بل إنه لم يصل حتى إلى مستوى نضال البرجوازية الثورية نفسها. لقد اختفى تمامًا بعد ثورة 1848. اليسار الغربي الذي ينكر أو يتجاهل النضالات الثورية الرئيسية الجارية في العالم، ويتجاهل أو يقلل من شأن دور الاستغلال الإمبريالي، الذي روّج له الغرب لقرون، قد قطع، نتيجةً لهذا الاستبعاد عن الواقع، كل علاقة عملية له بالماركسية، ناهيك عن العلاقة الفلسفية بها. وبهذا المعنى، تحتاج الماركسية الغربية، كنموذج خاص، إلى إفساح المجال لمنظور جدلي أكثر شمولية، تمثله الماركسية الكلاسيكية، وما يمكن أن نسميه اليوم بالماركسية العالمية أو الماركسية الشاملة. ويمكن عكس مسار التراجعات الأربعة المذكورة أعلاه حين يُعيد نظام التراكم العالمي الحالي توحيد نضالات العمال حول العالم على أسس مادية. مع ذلك، تُبرِز إشارتك إلى ماركوزه إلي مسألة أن ما نُناقشه هنا إنما هو نقدٌ لا إدانةٌ مطلقةٌ للتقاليد الماركسية الغربية لما بعد الحرب العالمية الثانية (باستثناء مسألة النظرية الفرنسية ما بعد الحداثية والتحول إلى اللاعقلانية). كان ماركوزه ماركسيًا بلا شك، وليس ماركسيًا غربيًا فحسب. لكنه كان أكثر راديكاليةً بكثير من أدورنو أو هوركهايمر، بل كان ينتقد كليهما بشدةٍ لتوجههما اليميني المتزايد. لقد تأثرتُ أنا بشدة بماركوزه عندما كنت صغيرًا- خلال أول عامين من دراستي الجامعية. ولطالما كانت لدي تحفظاتي العميقة بشأن كتابه "الإنسان الأحادي البعد" بسبب جدلية النكوص المتضمنة فيه. وقد أوضح ماركوزه هناك وفي أماكن أخرى أنه قد تخلى عن الديالكتيك المادي. كما تراجع عن أي إيمان بالطبقة العاملة على هذا النحو. ولم تكن الإمبريالية جزءًا لا يتجزأ من تحليله الشامل. كان هذا الرفض الكبير، في مواجهة مجتمع الجماهير الأحادي البعد، مفهومًا ضعيفًا للغاية بحيث لا يشكل عقلًا نقديًا وممارسة عملية، كما هو الحال عند ماركس. إن بيانه في استنتاجه لكتاب "الإنسان الأحادي البعد" ، حيث كتب أنه "على أسس نظرية وتجريبية، يعلن المفهوم الجدلي عن يأسه"، يتعارض مع روح كتابه السابق: "العقل والثورة: هيجل وصعود النظرية الاجتماعية ". لقد تأثر ماركوز بشدة بسيغموند فرويد وبمارتن هايدغر. وعلى الرغم من أن كتابه "إيروس والحضارة" يُعد عملاً رئيسيًا لليسار الفرويدي، إلا أنه يمثل خطوة نحو علم النفس الذي يميل إلى تفكيك الموضوع بغية تحقيق المزيد من الملموسية، مع التركيز بشكل أقل على التاريخ والظروف المادية وعلى البُنية. ومن هايدغر، اخذ ماركوزه وجهة نظره للتكنولوجيا، والتي على الرغم من كونها نقدية، إلا أنها كانت منفصلة إلى حد كبير عن مسألة العلاقات الاجتماعية، وتجسد وجهة نظر سلبية مناهضة للتنوير كانت متعارضة مع الكثير من بقية فكره. كانت هذه التأثيرات من فرويد وهايدغر، ويعود الأخير إلى سنواته الأولى، بالإضافة إلى الافتقار إلى التحليل التاريخي الحقيقي، هي التي أدت إلى رؤيته للولايات المتحدة في الخمسينيات على أنها شيء أكثر صلابة وثباتًا مما كانت عليه في الواقع، مما أدى إلى ظهور فكرة الرأسمالية الخالية من الأزمات والديالكتيك اليائس للإنسان أحادي البعد . ومع ذلك، فإن كتاب "العقل والثورة" لماركوزه ، الذي نُشر عام 1941 (أي قبل عصر الحرب الباردة)، كان عملاً مختلفًا تمامًا وأكثر ثورية. لا يزال بإمكاني تذكر حماسي عندما واجهته في أواخر سنوات مراهقتي. ولقد قادني هذا والعديد من الآخرين إلى دراسة مكثفة لظاهراتية هيجل . ثم، في خضم الأزمات الاقتصادية والطاقة في الفترة من 1973 إلى 1975، فقد كتب كتابه "الثورة المضادة والتمرد". كان فصله "اليسار في ظل الثورة المضادة" واضحًا بشأن الإمبريالية، حتى لو كان التكامل النظري الأكبر لهذا مفقودًا في تحليله بشكل عام. ولا يمكن للمرء أن ينسى بسهولة السطور الافتتاحية حيث ذكر: "لقد أُطلقت المجازر بالجملة في الهند الصينية وإندونيسيا والكونغو ونيجيريا وباكستان والسودان ضد كل شيء يُسمى" شيوعيًا "أو الذي يثور ضد الحكومات الخاضعة للدول الإمبريالية". في فصله عن "الطبيعة والثورة"، سعى إلى تطبيق المنظور الماركسي البيئي على حركة بيئية ناشئة، حتى أنه خالف في مرحلة ما تحريم الماركسية الغربية للطبيعية الجدلية. وكان فصل "الفن والثورة"، الذي أشار فيه إلى عمله "البعد الجمالي"، آخر محاولاته لنقد الرأسمالية. ولكن كان هناك جانب آخر في سيرة ماركوزه والذي يبدو متناقضًا مع هذا. كيف نفسر مشاركته المباشرة لفترة في "المشروع الماركسي اللينيني" المناهض للشيوعية الذي تشير إليه؟ أنا لم أقرأ كتابه "الماركسية السوفيتية" الذي صدر في الخمسينيات من القرن الماضي إلا في وقت لاحق، في الدراسات العليا ، والذي بدا وكأنه مزيج من الواقعية والدعاية، ولسوء الحظ كان يحتوي على قدر أكبر من الأخيرة مقارنة بالأولى. لقد كان عملاً يمثل إلى حد كبير انقسامًا كستار حديدي داخل الماركسية نفسها. وقد تم تعيين ماركوزه، مثل غيره من المفكرين الماركسيين البارزين الذين انضموا إلى الجيش في الحرب ضد النازية، بما في ذلك سويزي وفرانز نيومان، في "مكتب الخدمات الستراتيجية" (OSS)، سلف وكالة المخابرات المركزية. وكان بحث ماركوزه في مكتب الخدمات الستراتيجية، كما كشفت عنه تقاريره، موجهًا إلى تقديم تحليل للرايخ الألماني تحت قيادة أدولف هتلر. ومع ذلك، فقد استمر في العمل مع أجهزة الاستخبارات حتى السنوات الأولى من الحرب الباردة. وفي عام ١٩٤٩ كتب تقريرًا عن "إمكانات الشيوعية العالمية" لمكتب أبحاث الاستخبارات، والذي كان أساسًا لماركسيته السوفيتية؛ وهذا يُضفي طابعًا مختلفًا تمامًا على الأمور. ومع ذلك، كانت هناك نوعية جذرية دائمة في عمل ماركوزه ضمن الحدود التي فرضتها على نفسها للماركسية الغربية. فقد ظل ملتزمًا بنقد الرأسمالية وبالتحرر الثوري. وربما تكون الأعمال العظيمة التي اشتهر بها من " إيروس والحضارة" (1952) إلى "الإنسان أحادي البعد" (1964) أقل أهمية من محاولاته الأكثر تشويشًا لدعم الحركات الراديكالية في الستينيات. وهذا أمر لم يكن مستعدًا له جيدًا، لأنه يعني قلب تقييمه الخاص لأحادية بُعد المجتمع الجماهيري رأسًا على عقب. ومع ذلك، من " مقال في التحرير" (1969) إلى "البعد الجمالي" (1978) نرى أن ماركوزه، لم يعد هو المحاضر الأبرز، بل ولا المثقف في الخنادق الذي كان محبوبًا من جانب الحركة الطلابية في الستينيات والسبعينيات. وهكذا، ربما يُمثل ماركوزه مأساة الماركسية الغربية بكاملها، أو على الأقل جزءها المتمثل بمدرسة فرانكفورت. ورغم أن أدورنو وهوركهايمر ازدادا تراجعًا في سعيهما الحثيث نحو التجسيد، إلا أن ماركوزه احتفظ بمنظور جذري. وقد جمع موقفه الأخير بين تشاؤم الفكر وجمالية الإرادة. وأصبح الفن الأساس المطلق للمقاومة. ورغم ميله إلى رؤية هذا الأمر من منظور نخبوي إلى حد ما، إلا أنه ينطوي على إمكانية دمجه في منظور مادي أصيل. هذا يشير إلى أن النقد (critique)، الذي يتضمن الجانب الإيجابي بدلًا من الإدانة المطلقة، هو النهج الأنسب لما يمكن تسميته حقًا بالماركسية الغربية، في الحالات التي نجد فيها، كما في حالة ماركوزه، تراجعًا رباعيًا دون الاستسلام الكامل. تكمن مشكلة التقليد الماركسي الغربي، بالمعنى الذي تناوله أندرسن والطريقة التي انتقده بها لوسوردو، في أنه إنما مَثّل جدلية الهزيمة، حتى خلال العقود التي اتسعت فيها رقعة الثورة في جميع أنحاء العالم. وطالما كانت الماركسية موجودة - منذ عهد ماركس وإنجلز وحتى يومنا هذا - فلا مجال فيها للتراجع الجذري أو التسوية الدائمة مع النظام القائم. أنها الماركسية المعادية للرأسمالية وللإمبريالية بلا تحفظ، لأنها تجد أساسها في النضالات الثورية الحقيقية حول العالم. في أي نقد للماركسية الغربية، يجب في نهاية المطاف مراعاة الوجود المتزامن للماركسية الأكثر عالمية أو الكونية، حتى في الغرب. لكن هذا أمر لا يمكننا تناوله هنا. ومع ذلك، من المهم إدراك أن سبب أهمية نقد الماركسية الغربية ذات المركزية الأوروبية اليوم هو الانقسام الحالي في الحرب الباردة الجديدة بين اليسار الأوروبي المركزي والماركسية العالمية. حيث يقلل اليسار الأوروبي المركزي من شأن القوى الإمبريالية المركزية أو ينكرها، أو - في الحالات القصوى - يحتضنها. الماركسية العالمية ليست أقل تصميمًا في معارضتها الكاملة. الماركسية الغربية ذات المركزية الأوروبية هي الآن في آخر رمق لها، وهي مقوَّضة، كما أشار جيمسن، بالعولمة. ورغم أن الماركسية الغربية ترى في نفسها الأساس الأصيل للماركسية، إلا انها تُستبدل الآن بالماركسية العالمية، وذلك على نهج ماركس وإنجلز ولينين والمنظرين الرئيسيين للرأسمالية الاحتكارية والإمبريالية. ولا يقتصر التحليل للماركسية العالمية هنا على تلك البقعة الصغيرة من العالم في شمال غرب أوروبا، حيث نشأت الرأسمالية الصناعية والاستعمار/الإمبريالية، بل يجد أساسه المادي في نضالات البروليتاريا العالمية. غابرييل روكهِل: أتفق تمامًا مع أهمية تجنب المناهج غير الديالكتيكية للماركسية الغربية، التي تعزز إما الاحتفاء غير النقدي أو الإدانة الكاملة. يتجنب النقد الديالكتيكي هذه الثنائية الاختزالية من خلال توضيحه لمساهمات الماركسية الغربية، وكذلك حدودها، مع تقديم سرد مادي لكليهما. الهدف العام لمثل هذا النقد هو تعزيز المشروع الإيجابي للماركسية العالمية والدولية، والذي يمكن إبرازه بشكل أوضح وتطويره بشكل أكبر من خلال التغلب على تحريفات الماركسية التي هي، على مستوى معين، أحدى النواتج الثانوية لتاريخ الإمبريالية. السبب الرئيسي لتحديد مشاكل هذا التقليد، إذن، ليس على الإطلاق الانغماس في التنديد الشامل أو التفاخر النظري. إنه التعلم من حدوده وتجاوزها بالانتقال إلى مستوى أعلى من التوضيح العلمي والأهمية العملية. هذا هو تحديدًا ما فعله ماركس وإنجلز في انتقاداتهما للفلسفة الديالكتيكية المثالية، وللاقتصاد السياسي البرجوازي، وللاشتراكية الطوباوية (لذكر المكونات الثلاثة للماركسية التي شخّصها لينين بذكاء). إن النقد الديالكتيكي انما ينخرط بعملية التفكيك النظري والعملي، بمعنى التجاوز (Aufhebung) الذي يدمج أي عناصر مفيدة مما قد تم تجاوزه. يتضمن التقييم الجدلي للماركسية الغربية، كما ذُكر آنفًا، تحليلًا لاتساع مجالها الأيديولوجي وللتنوعات التي تخللته، والتي يمكن رسمها بطرق مختلفة، مثل مخطط "فين" للتراجعات الأربعة. ويحتاج هذا التحديد للمجال الأيديولوجي الموضوعي إلى أن يقترن بسرد دقيق للمواقف الذاتية داخله وتنوعاتها عبر الزمن. إن التحليل المشترك لتعقيدات المجال الأيديولوجي ولخصوصيات المواقف الذاتية داخله هو بالتحديد ما يوفر لنا سردًا أكثر شمولًا ودقة للماركسية الغربية كأيديولوجيا تتجلى بشكل مختلف في مشاريع ذاتية ذات أشكالها الخاصة. وهذا هو النقيض التام للنهج الاختزالي الذي يحاول اختزال مجمل المواقف الذاتية في أيديولوجيا واحدة متجانسة تُحددها آليًا. تُعدّ حالة ماركوزه كاشفة للغاية في هذا الصدد، ويمكن تخصيص وقت طويل لتفصيل التغييرات الذاتية في أعماله ووضعها ضمن المجال الأيديولوجي الأوسع للماركسية الغربية. وبتسليط الضوء فقط على مواقفه الأكثر تطرفًا، يمكننا القول إنه تحوّل من عميل بارز مناهض للشيوعية في وزارة الخارجية خلال بداية الحرب الباردة إلى مُنظّر راديكالي عبّر عن دعمه القوي لبعض جوانب الحركات الطلابية، وللمناهضة للحرب، وللنسوية، والمناهضة للعنصرية، وللبيئية. لم يكن عمله في وزارة الخارجية ومكتب الخدمات الستراتيجية حميدًا كما ادّعى لاحقًا. حيث تُظهر السجلات الأرشيفية بوضوح تعاونه الوثيق مع وكالة المخابرات المركزية طوال سنوات، بل ولقد شارك حتى في إعداد تقديرين استخباراتيين وطنيين على الأقل (أعلى مستوى استخباراتي في الإمبراطورية الرائدة في العالم). علاوة على ذلك، فقد ارتبط هذا العمل بسلاسة بالدور الذي لعبه في لب مشاريع الحرب الأيديولوجية التي أدارتها الطبقة الرأسمالية الحاكمة ضد الماركسية السوفيتية - والشرقية بشكل عام. مع ذلك، في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، فقد تطرّف على يد حركات اليسار الجديد آنذاك، مما أدخله في صراع حاد مع الماركسيين الإمبرياليين من مدرسة فرانكفورت، مثل أدورنو. ورغم أن الرجل الذي روّجته الصحافة البرجوازية كأب روحي لليسار الجديد لم يقطع علاقته جدياً بمعاداة الشيوعية أو بالماركسية الغربية، إلا أن ملفه العريض لدى مكتب التحقيقات الفيدرالي يُظهر أن بعض عناصر الدولة البرجوازية قد اعتبرته تهديداً محتملاً. من الجوانب الأخرى الجديرة بالذكر في أعمال ماركوزه هو انتقائيتها، وتحديدًا محاولته - كغيره من الماركسيين الغربيين - دمج الماركسية مع الخطابات غير الماركسية، والتي غالبًا ما تكون ذاتية، مثل الظاهراتية والوجودية، بالإضافة إلى التحليل النفسي. فمن الافتراضات السائدة لدى بعض الماركسيين الغربيين أن الماركسية الكلاسيكية تُبالغ في التركيز على القوى الاجتماعية الموضوعية على حساب التجربة الذاتية، وأن الخطابات الأكثر ذاتية ضرورية لتصحيحها. وهذا هو أحد الأسباب الرئيسية لكون الماركسية الفرويدية جزءًا لا يتجزأ من الماركسية الغربية، وهو اتجاه استمر في اللاكانية-الألتوسيرية لشخصيات معاصرة مثل باديو وجيجيك. وسيستغرق الأمر وقتًا طويلاً لتفكيك المشاكل المتعددة المرتبطة بهذا التوجه. يجب أن يبدأ هذا بالكشف عن التشويه الحاصل للتفسير الجدلي للذاتية والموضوعية في الماركسية الكلاسيكية، بتصويره كما لو كان لا يُولي اهتمامًا كافيًا للتجربة الذاتية أو لعلم النفس، مما يُشوّه بوضوح تفسير أيديولوجيتها. كما يجب أن يتضمن تقييمًا نقديًا لما يعنيه تعزيز الادعاء الأساسي بضرورة دمج المادية الجدلية والتاريخية مع الأيديولوجية الليبرالية (الإطار التوجيهي للفرويدية)، بدلًا من الانخراط، على سبيل المثال، في النقد الجدلي للتحليل النفسي من منظور ماركسي (وهو مشروع ساهمت فيه شخصيات مثل ليف فيجوتسكي وفالنتين فولوشينوف). لا يتسع المجال هنا لتحليل هذا الجانب من استمرار الأيديولوجية الليبرالية داخل الماركسية الغربية، ولكن من المهم الإشارة إلى أن ذاتية جزء كبير من هذا التقليد غالبًا ما ترتبط بميله إلى تبني الثقافوية والنفسية على حساب التحليل الطبقي. جادل تود كرونان، في هذا الصدد، بأن أدورنو وهوركهايمر قد وضعا عناصر فوقية كالهويات العرقية أو الإثنية أو الدينية كعناصر أساسية، مما سمح للبنية التحتية الاقتصادية بالتراجع إلى الخلفية؛ فيما مالا إلى إعادة تفسير الطبقة على أنها مسألة سلطة في المقام الأول. أدورنو، على غرار ماركوزه، انخرط أيضًا بشكل علني في الثقافوية من خلال السعي، على سبيل المثال، إلى تفسير الفاشية - وكذلك الشيوعية! - من حيث ما يسمى بـ "الشخصية الاستبدادية". إن الثقافوية، كما أوضح أمين، هي واحدة من أقدم أعداء الماركسية؛ وينطبق الأمر نفسه على الثقافوية وغيرها من أشكال التفسير الذاتية. ما لدينا هنا، باختصار، هو الانقلاب على الفهم الماركسي للعلاقة بين البنية الفوقية والبنية التحتية. حيث ينخرط جزء كبير من الماركسية الغربية في إعلاء شأن الثقافي والذاتي على حساب القوى الموضوعية للقاعدة الاجتماعية والاقتصادية. وهذا أحد الأسباب التي تجعلني أجد النهج الماركسي الغربي للفن والثقافة إشكاليًا للغاية. إن فكرة أن الفن - وتحديدًا المفهوم البرجوازي للفن وممارسته، بما أنه المحور الرئيسي للماركسيين الغربيين - يمكن أن يكون موقعًا رئيسيًا للمقاومة، تميل إلى حصر العلاقات الاجتماعية المادية للإنتاج الثقافي بين قوسين، أو النظر إليها نقديًا فقط في حالة الفن الجماهيري والترفيه، وليس الفن الرفيع والنظرية. كما أن هذا النهج يتاجر بالأيديولوجية البرجوازية للفن من خلال اعتباره إياه عملاً في مجال إنتاج فريد يفلت، أو على الأقل يطمح إلى الهروب، من علاقات الإنتاج الاجتماعية العامة في المجتمع. صحيح أن أدورنو قد كتب عن آثار التصنيع على الأشكال الشعبية للثقافة، وبعض أعماله الأكثر ثاقبة تحلل آثار تقنيات التسجيل على الموسيقى. ومع ذلك، فإن حسابه لاستقلالية الفن، وهو الإلهام المباشر لماركوزه في البعد الجمالي ، مشبع بجرعة كبيرة من تقديس السلع الثقافية. وبالتالي، بدلاً من تقديم التحليل المادي للقوى الاجتماعية والاقتصادية العاملة في إنتاج وتوزيع واستهلاك الفن البرجوازي، يحتفل ماركوزه بالأعمال الفنية المعزولة باعتبارها مستودعات سحرية للمقاومة، دون أن يوضح أبدًا كيف يمكن أن تؤثر على تحقيق التغيير الاجتماعي الذي له معنى. علاوة على ذلك، يميل الماركسيون الغربيون مثل ماركوزه وأدورنو إلى تجاهل الفن الاشتراكي أو التقليل من شأنه (ما لم يتم دمجه في الشريعة البرجوازية). وبدلاً من تحديد كيفية تقديم الفن صورة وافية للواقع وأدوات تحويله جماعياً، كما فعل بريشت وآخرون، يُضلّل منظرو الفن البرجوازيون من التيار الماركسي الغربي طاقات الناس السياسية بتوجيهها صوب الإيمان الخرافي بالقوى السحرية للفن البرجوازي. ولأنهم لم يتمكنوا قط من تفسير كيف يمكن لقراءة أشعار شارل بودلير أو الاستماع إلى الموسيقى اللانغمية أن تؤدي إلى التحول الاجتماعي الثوري، يجب أن يكون واضحاً أن جماليتهم الانهزامية إنما هي مشروع طبقي يُحافظ في نهاية المطاف على الوضع الراهن. إنه يُرسّخ النظام الثقافي البرجوازي ويدعم الطبقة البرجوازية الصغيرة كحارس نظري للأيديولوجيا البرجوازية، بينما يُشوّه أو يتجاهل عموماً الفنون الشعبية للطبقة العاملة والجهود الاشتراكية لدمقرطة الثقافة. إذا كان الحل السياسي الوحيد الذي يقدمه هؤلاء المثقفون الغربيون هو تجنيد الناس للاستثمار في التفسيرات النظرية العليا للفن البرجوازي، فإن هذا يعني عمليًا تطويرًا أكبر لطبقة المثقفين البرجوازية الصغيرة كوصي على الثقافة البرجوازية. هذا المشروع الطبقي لا يخدم مصالح الجماهير العاملة والمضطهدة في العالم، بل يشجع الناس على الانسحاب من الصراع الطبقي والاستثمار في الفن البرجوازي - أي الأيديولوجية البرجوازية - كمكان حقيقي للمقاومة. هذه الجمالية الانهزامية تُكمل الانهزامية السياسية للماركسية الغربية، وكلاهما يُسهم في التخلي عن الصراع الطبقي من القاعدة لصالح الإيمان الأيديولوجي بالقوى السحرية للنظرية العليا وللثقافة البرجوازية (التي تُسهم في نهاية المطاف في الصراع الطبقي من الأعلى). أود أن أختتم بتوضيح السبب الرئيسي لأهمية هذا النقد الجدلي للماركسية الإمبريالية. فالنظرية لا تصبح قوة حقيقية في العالم إلا عندما تنحسر عن النطاق الضيق للنخبة المثقفة وتسيطر على الجماهير. والسبب الرئيسي لضرورة النضال الأيديولوجي ضد الماركسية الغربية هو آثاره الأوسع في تضليل اليسار. فمع تفاقم التناقضات العالمية، والحرب الباردة الجديدة، وصعود الفاشية في أرجاء العالم الإمبريالي، نجد أنفسنا في قلب الإمبريالية وبعض أطراف الرأسمالية، حيث اليسار، بما في ذلك عناصر من اليسار الاشتراكي أو الشيوعي المعلن، مؤيد للإمبريالية ومعادٍ للشيوعية، صراحةً أو ضمناً (ويعود بعض ذلك إلى تأثير الماركسية الغربية). وإذا كان التغلب على التراجعات الأربع المذكرة أعلاه وتجديد الماركسية المناهضة للإمبريالية من أكثر مهام الصراع الطبقي إلحاحاً في النظرية اليوم، فإن هذا لا يعود فقط إلى الحاجة إلى التصحيح النظري. بل إننا إذا أردنا النجاح في مواجهة أكثر مشاكل عصرنا إلحاحًا - بما في ذلك الإبادة البيئية، ومخاطر نهاية العالم النووية، والقتل الاجتماعي الرأسمالي المتواصل، وتصاعد الفاشية، وما إلى ذلك - فإننا بحاجة إلى إعادة بناء وتجديد جبهة نضالية اشتراكية قوية مناهضة للإمبريالية، ترتكز على تقاليد المادية الجدلية والتاريخية. هذا هو الهدف الأسمى للنقد الجدلي للماركسية الغربية. جون بلِامي فوستر: ما يلفت انتباهي في نقاشنا حول ماركوزه والماركسيين الغربيين الآخرين هو مدى انصياعهم لأيديولوجية النظام الرأسمالي، وخاصةً رؤيتهم للولايات المتحدة كمجتمع جماهيري شامل وكنتيجة عقلانية لعصر التنوير. هنا، نراهم قد أغفلوا التحليل الطبقي، بينما تبنوا أطرًا ثقافية ومثالية وأشكالًا من علم النفس بعيدة عن المادية (بما في ذلك المادية الثقافية) والتي تقوض تحليلهم. كان هذا النهج أقرب إلى فيبر - بثقافته، ومثاليته النيو كانطية، وتصوره للرأسمالية على أنها ببساطة الانتصار للمجتمع التكنوقراطي العقلاني - منه إلى ماركس. كان ماركوزه عالقًا في قفص فيبر الحديدي، تمامًا مثلما كان فيبر نفسه عالقاً فيه. لقد أثار نقد هايدغر أحادي البعد للتكنولوجيا إعجاب ماركوزه لدرجة أنه جعل من قفص فيبر الحديدي هذا قفصه الخاص. كانت الماركسية الغربية، وخاصة مدرسة فرانكفورت، بهذا المعنى، نتاجًا لعصرها، لما أسماه سي. رايت ميلز ساخرًا بـ "العيد الأمريكي". بل إن النظرية الفرنسية ذهبت إلى أبعد من ذلك، إذ رضخت تمامًا للأيديولوجية الأمريكية في عملية تفكيك لا تشبه إلا التسويق ما بعد الحداثي. بالنسبة للماركسية الغربية، بما في ذلك الممثلين الرئيسيين لمدرسة فرانكفورت، فإن مدى التراجع مثير للقلق. فقد تم اتخاذ خيارات حقيقية للانضمام إلى الغرب في نضاله، ومهاجمة الماركسيين في الشرق. لم يمنع الرفض الكبير لماركوزه من العمل لصالح المخابرات الوطنية الأمريكية خلال الحرب الباردة المبكرة. ولم تمنع نسخة أدورنو من الماركسية الغربية أيضًا، إلى جانب هوركهايمر، من قبول دعم السلطات الأمريكية في ألمانيا الغربية المحتلة بعد الحرب العالمية الثانية أو مهاجمة لوكاش بشراسة في منشور أنشأه الجيش الأمريكي وموّلته وكالة المخابرات المركزية ( دي موناته )، بينما كان جالسًا على شرفة "هوة الفندق الفخم". ومن المهم أن أشد الإدانات اللاذعة لكتابات لوكاش حتى يومنا هذا، مثل تلك التي وجهها جيمسن وإنزو ترافيرسو، كانت موجهة إلى خاتمة كتاب "تدمير العقل" . هناك، أشار لوكاش، في كتاباته في زمن الحرب الكورية، إلى أن الولايات المتحدة كانت الوريثة لتقاليد اللاعقلانية بأكملها، مع ما يعنيه ذلك من أن اليسار الغربي في استمراره باعتناق أفكار فريدريك نيتشه، إلى جانب هايدغر وكارل شميت ــ وكلاهما كانا من كبار منظري النازية ــ كان يزرع اللاعقلانية داخل نفسه؛ وهو الأمر الذي بدا أن لوكاش كان مدركاً له قبل أي شخص آخر. وهكذا، فقد وقع الجزء الأكبر من اليسار الغربي في فخّ تراجعٍ رباعيّ بدا أحيانًا أشبه بالهزيمة الساحقة، مُظهرًا شعورًا بالاندحار والذعر، نازعًا إياهم إلى إعادة إنتاج النظام الحالي مرارًا وتكرارًا على أفتراض أنه نظام لا يُقهر. وفي جميع تحليلات تناقضات النظام الرأسمالي، نادرًا ما سُلِّط الضوء على هشاشته الحقيقية وأهواله، وتم تجاهل جوهريًا الموت الذي ألحقه الغرب بالملايين. ولكن، تجدر الإشارة إلى أن ليس جميع الماركسيين قد وقعوا في هذا الفخّ نفسه. هنا، أودّ أن أختم باقتباس رسالة من باران، الصديق المقرب لماركوزه، والتي تعود إلى فترة عملهما في معهد البحوث الاجتماعية في فرانكفورت (حيث كان باران باحثًا اقتصاديًا لدى فريدريش بولوك). واصل باران، على عكس أبرز ممثلي ما يُعرف بالتراث الماركسي الغربي، كتابة " الاقتصاد السياسي للنمو" عام ١٩٥٧، وهو أعظم عمل ماركسي عن الإمبريالية في عصره، وكتابة "رأس المال الاحتكاري" مع سويزي. في العاشر من أكتوبر/تشرين الأول عام 1963، كتب باران، في رسالة إلى سويزي، ما أعتقد أنه يلخص قدراً كبيراً مما كنا نقوله: "ما هو على المحك في الوقت الحاضر، بل والأكثر إلحاحًا، هو السؤال عما إذا كان الديالكتيك الماركسي قد انهار، أي ما إذا كان من الممكن أن يتراكم هذا [البراز]، وأن يتخثر، وأن يغطي المجتمع بأكمله (وجزءًا كبيرًا من العالم المرتبط به) دون إنتاج القوة المضادة الجدلية التي من شأنها أن تخترقه وتنفخه في الهواء. هيك رودس، هيك سالتا ! إذا كانت الإجابة بنعم، فإن الماركسية في شكلها التقليدي قد أصبحت عتيقة. لقد تنبأت بالبؤس، وشرحت جيدًا أسباب شموله كما هو؛ ومع ذلك، فقد أخطأت في أطروحتها المركزية القائلة بأن البؤس يولد من نفسه قوى إلغائه." "لقد انتهيت للتو من قراءة كتاب ماركوزه الجديد [ الإنسان أحادي البعد ]، والذي يطرح بطريقة شاقة الموقف ذاته الذي يسمى بالرفض الكبير أو النفي المطلق. كل شيء قذارة : الرأسمالية الاحتكارية والاتحاد السوفيتي، الرأسمالية والاشتراكية كما نعرفها؛ لقد تحقق الجزء السلبي من قصة ماركس - وظل الجزء الإيجابي منها مجرد خيال. لقد عدنا إلى حالة الطوباويين الصرفة والبسيطة؛ يجب أن يكون هناك عالم أفضل ولكن لا توجد قوة اجتماعية في الأفق لتحقيقه. ليس فقط أن الاشتراكية ليست إجابة، ولكن لا يوجد من يقدم هذه الإجابة على أي حال. بين الرفض الكبير والنفي المطلق إلى الانسحاب الكبير والخيانة المطلقة لاتوجد سوى خطوة قصيرة جدًا. لديّ شعورٌ قويٌّ بأنّ هذا الأمرَ يشغلُ تفكيرَ المثقفين (ومشاعرهم) في الوقتِ الراهن، ليس هنا فحسب، بل في أمريكا اللاتينية وغيرها، وأنّ من واجبنا جميعًا مواجهةُ هذا الشعورِ والتصالحُ معه. لا يوجدُ أحدٌ آخرَ تقريبًا. اليسارُ الرسميّ يصرخُ ببساطةٍ: "لقد وقعَتُم ضحيةً" على غرارِ صحيفةِ "الشؤونِ السياسية" ، بينما يُصابُ الآخرونَ بالحيرة. المطلوب هو التحليل الرصين للوضع برمته، واستعادة المنظور التاريخي، والتذكير بالأبعاد الزمنية ذات الصلة، وما هو أكثر من ذلك بكثير. لو استطعنا القيام بعملٍ جيدٍ في هذا الأمر [في رأس المال الاحتكاري ]... لقدّمنا مساهمةً كبيرةً وقدّمنا عملاً "مُحرِّراً" بحقٍّ فيما يتعلق بالعديد من الأعمال ." ما كان باران يتحدث عنه هنا هو ما أسماه في موضع آخر بـ "مواجهة الواقع مع العقل". وهذا يتطلب إعادة إرساء المنهج التاريخي الذي يشمل رؤيةً أوسع، مع إعادة ربط الديالكتيك الماركسي بالمادية. وهذا من شأنه أن يوضح ضرورة، وبالتالي إمكانية، وجود "قوة مضادة ديالكتيكية"، في الحاضر كتاريخ، تتصور المسارات نحو التحرير في جميع أنحاء العالم. هذه الرؤية، التي هي رؤية ماركسية مطلقة وعالمية وغير مشروطة، ما تزال هي مهمة عصرنا - ليس فقط من الناحية النظرية، بل كفلسفة عملية. إنها تتطلب القطيعة مع الماركسية الغربية، التي وصلت إلى طريق مسدود تاريخيًا. لقد عادت الشامة الحمراء للظهور مرة أخرى في عصرنا، ولكن بطرق جديدة وأكثر عالمية، ولم تعد مقتصرة على الغرب.
الملاحظات (1) آلان باديو، هل يمكن التفكير في السياسة؟، ترجمة برونو بوستيلز (دورهام، كارولاينا الشمالية: مطبعة جامعة ديوك، ٢٠١٨)، ٥٧، ٦٠. (2) انظر جون بِلامي فوستر، " الإنكار الجديد للإمبريالية على اليسار "، مجلة المراجعة الشهرية 76، العدد 6 (نوفمبر 2024)، وكذلك جون بِلمي فوستر، " اللاعقلانية الجديدة "، مجلة المراجعة الشهرية 76، العدد 9 (فبراير 2023). (3) بول أ. باران إلى بول م. سويزي، ١٠ أكتوبر ١٩٦٣، في كتاب بول أ. باران وبول م. سويزي، " عصر رأس المال الاحتكاري: مراسلات مختارة، ١٩٤٩١٩٦٤ "، تحرير نيكولاس باران وجون بِلامي فوستر (نيويورك: دار نشر منثلي ريفيو، ٢٠١٧)، الصفحات ٤٢٩٤٣٠. 2025 ، المجلد 76، العدد 10 (مارس 2025).
#حسين_علوان_حسين (هاشتاغ)
Hussain_Alwan_Hussain#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حرامي -البدون-
-
أنا متأكسدة
-
الرد على مقالة الباحث: السيد عبد الحسين سلمان/ 18-19-20/20
-
الرد على مقالة الباحث: السيد عبد الحسين سلمان/ 17-20
-
الرد على مقالة الباحث: السيد عبد الحسين سلمان/ 16-20
-
الرد على مقالة الباحث: السيد عبد الحسين سلمان/ 15-20
-
الرد على مقالة الباحث: السيد عبد الحسين سلمان/ 14-20
-
الرد على مقالة الباحث: السيد عبد الحسين سلمان/ 13-20
-
مأساة أوجلان: مأساة شعب مظلوم
-
الرد على مقالة الباحث: السيد عبد الحسين سلمان/ 12-20
-
الرد على مقالة الباحث: السيد عبد الحسين سلمان/ 11-20
-
الرد على مقالة الباحث: السيد عبد الحسين سلمان/ 10-20
-
الرد على مقالة الباحث: السيد عبد الحسين سلمان/ 9-20
-
الرد على مقالة الباحث: السيد عبد الحسين سلمان/ 8-20
-
الرد على مقالة الباحث: السيد عبد الحسين سلمان/ 7-20
-
الرد على مقالة الباحث: السيد عبد الحسين سلمان/ 6-20
-
الرد على مقالة الباحث: السيد عبد الحسين سلمان/ 5-20
-
الرد على مقالة الباحث: السيد عبد الحسين سلمان/ 4-20
-
الرد على مقالة الباحث: السيد عبد الحسين سلمان/ 3-20
-
الرد على مقالة الباحث: السيد عبد الحسين سلمان/ 2-20
المزيد.....
-
صحفيو الصحف القومية المؤقتين يطالبون الوطنية للصحافة بإنهاء
...
-
الشرطة الإسرائيلية تغلق شارع غزة في القدس تزامنا مع انطلاق م
...
-
بلاغ صحفي حول اجتماع المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية
...
-
آلاف المتظاهرين في لندن ينددون باستئناف حرب الإبادة في غزة
...
-
عاجل | إذاعة الجيش الإسرائيلي: إغلاق الطريق السريع بين تل أب
...
-
كل الدعم لعمال “الوطنية للزراعة”.. النظام يحبس عاملات وذوي ه
...
-
عدوان أمريكي بريطاني يستهدف اليمن
-
الاحتلال الصهيوني يهاجم غزة بعد أسبوعين من الحصار
-
انضمام حركة المقاومة المناهضة للرأسمالية ACR إلى الأممية الر
...
-
حَراك 20 فبراير 2011: نضال ومطالب النساء، والحركة النسائية
المزيد.....
-
الماركسية الغربية والإمبريالية: حوار
/ حسين علوان حسين
-
ماركس حول الجندر والعرق وإعادة الانتاج: مقاربة نسوية
/ سيلفيا فيديريتشي
-
البدايات الأولى للتيارات الاشتراكية اليابانية
/ حازم كويي
-
لينين والبلاشفة ومجالس الشغيلة (السوفييتات)
/ مارسيل ليبمان
-
قراءة ماركسية عن (أصول اليمين المتطرف في بلجيكا) مجلة نضال ا
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسائل بوب أفاكيان على وسائل التواصل الإجتماعي 2024
/ شادي الشماوي
-
نظرية ماركس حول -الصدع الأيضي-: الأسس الكلاسيكية لعلم الاجتم
...
/ بندر نوري
-
الذكاء الاصطناعي، رؤية اشتراكية
/ رزكار عقراوي
-
نظرية التبادل البيئي غير المتكافئ: ديالكتيك ماركس-أودوم..بقل
...
/ بندر نوري
-
الذكرى 106 لاغتيال روزا لوكسمبورغ روزا لوكسمبورغ: مناضلة ثور
...
/ فرانسوا فيركامن
المزيد.....
|