محمد السكاكي
الحوار المتمدن-العدد: 8284 - 2025 / 3 / 17 - 15:09
المحور:
الحركة العمالية والنقابية
مدخل آخر لمواجهة قانون الإضراب بالمغرب(¹)
مقدمات أولية:
● كقاعدة تاريخية، في كل المجتمعات الطبقية، لا يشكل أبناء الشعب الواحد كتلة متجانسة، بل مزيجا من الطبقات والشرائح والفئات الاجتماعية، المختلفة والمتناقضة المصالح.
● إن اختلاف المصالح وتناقضها، تنتج عنه صراعات، بحسب طبيعة ودرجة وعي كل طرف بها.
● إن المواقف المتعارضة بين الأطراف، لا تتعلق بالخطأ والصواب، إنها ليست مسألة معرفية محضة، إنها زاوية نظر، تأخذ موقعا معينا يستند على مصالح طبقية محددة.
● ولذلك فكل موقف، لا يكون صحيحا أو مقبولا، إلا بالنظر للخلفيات والمصالح التي تسنده، والتي تفرض عليه المقدمات التي يجب أن ينطلق منها.
● وهكذا يكون كل طرف مجبر على الانطلاق من مقدمات تتماشى مع زاوية نظره، وهي ما يفرض عليه كذلك، بنية حجاجية خاصة تمكنه من بناء نمط حقيقته، وبالتالي معيار الخطأ والصواب.
● إن الدولة ليست جهازا متعاليا عن التناقضات الطبقية أو الصراعات المترتبة عنها، إنها طرف أساسي يعمل باستمرار على حماية المصالح القائمة، من خلال مجموعة من الأجهزة توزع الأدوار والسلط، لمقاومة التغيير وحفظ مصالح الطبقات السائدة، إنه بذلك "أداة للسيطرة الطبقية" كما يقول إنجلس.
●●●●●●●●●●●●●●●●●●●●●●●●●●●
بصدور قرار المحكمة الدستورية(²)، بتاريخ 12 مارس 2025، بشأن القانون التنظيمي للإضراب 97.15، تكون الدولة قد أكملت دائرة الحصار، بتوظيف أجهزتها المختلفة الأدوار/السلط والمتكاملة من حيث الغايات، والتسويق لبريق واجهة من الديموقراطية، تخفي سعيها لاستعباد الفئات الشعبية الكادحة والعاملة، بسن قانون يضع الإضراب في مرتبة الجنح والجنايات، ويُخرجه من دائرة مكتسات الشغيلة، وآلياتها الأساسية في الدفاع عن مصالحها. إن قانون تقييد وتجريم الإضراب، ليس مسألة قانونية محضة، بقدر ما تشكل صبغته القانونية هذه، تعبيرا عن علاقات القوى، تخفي (وتكشف في نفس الوقت) تناقضا بين المصالح الطبقية، ومدى قدرة كل طرف على فرض الإقرار بمصالحه، لأن التشريع في نهاية المطاف تعبير عن علاقات القوى في حركية لا تعرف التوقف، رغم بعض التوازنات التي تتخللها.
إن قانون الإضراب، الذي يشكل موضوع خلاف وصراع، يجد أساسه في المصالح التي تكمن وراء كل موقف (زاوية النظر) مما ينقلنا من دائرة الخطاب، إلى ساحة الصراع الفعلي في مختلف أبعاده.
إذا كانت المحكمة الدستورية، في إطار دورها ضمن أجهزة الدولة، في حفظ الوضع القائم، فإنه من الطبيعي أن تنطلق من مقدمات خاصة، تختزل العملية في عدم مخالفة "نص لآخر"، دون القدرة على تجاوز الأمر إلى أكثر من ذلك، حتى لا تحيد عن النتيجة (أو الأصح الهدف المطلوب). ولذلك اكتفت بنظرة شكلية وضيقة أدت بها إلى استنتاج عدم مخالفة قانون الإضراب للدستور (³).
كما أن قرار المحكمة السابق، تفرضه زاوية نظر محددة؛ فإن زواية أخرى للنظر إلى الموضوع ممكنة أيضا، تفرضها المصلحة الطبقية النقيض، تقوم على استحضار معطيات أخرى تجاهلتها المحكمة، وهي المراحل التي مر منها إصدار هذا القانون، والحيثيات المحيطة به. إن البرلمان بغرفتيه مؤسسة دستورية، ويأخذ طابعا دستوريا طالما التزم بهذه الصفة. أما حين يخالفها فإنه يفقدها ويسقط في الشطط في استعمال السلطة التشريعية الموكولة له، ويقع في استغلال مركزه في تمرير قوانين بطريقة صورية، عبر أعداد قليلة من البرلمانيين، ويختزل الأمر كله في إجراءات تصويت شكلية، محدودة العدد، يتحايل من خلالها على عملية التصويت المفترضة. إن هذا الوضع نتيجة لتقاعس هذه المؤسسة وتشجيعها على التهاون واللامسؤولية، دون أن تتذكر لحجم المسؤولية الملقاة عليها. إن تشريع المؤسسة البرلمانية لقوانين، بالطريقة المشار إليها، يضفي على اشتغالها طابع التهاون واللامبالاة، ويضعها في وضع من اللامسؤولية، مما يسائل طابعها الدستوري.
إذا كان مجلس النواب، يتألف من 395 عضوا، فإن عدد الحاضرين خلال جلسة التصويت على هذا القانون يوم 5 فبراير 2025، هو 104، مقابل 291 من المتغيبين، وكانت الحصيلة أن بلغ عدد المصوتين لصالح هذا القانون 84 مقابل 20 صوتا رافضا. إن القرار تم إقراره بحوالي خمس (1/5) أعضاء المجلس.
أما وضع مجلس المستشارين، يوم 3 فبراير 2025، فلم يكن أقل عبثية، فمن بين 120 عضو، شارك 47 عضو فقط في التصويت، فحضي هذا القانون ب 40 صوتا لصالحه، مقابل 7 صوتا رافضا. وتم إقرار هذا القانون بحضور حوالي ثلث أعضاء المجلس.
إن أول ما كشف عنه وأكده هذا القانون، هو خلل أساسي يطبع البرلمان وطريقة اشتغاله، بتخليه عن مسؤوليته، دون أن تنتبه المحكمة إلى ذلك، أو ترى فيه عيبا يمكن أن يطال نص القانون، الذي أقره.
إن هذه الأرقام، تبين بوضوح مسؤولية ومصداقية البرلمان، وتعطي صورة حقيقية، عن البرلمانيين، وتمثيلية البرلمان والانتخابات، والأحزاب والهيئات المشاركة في العملية الانتخابية...الخ. إن البرلمان، بهذه الصورة، لا يعدو كونه مؤسسة صورية، تشرع القوانين، "دون أن تنتبه" إلى مدى أهليتها ومصداقيتها؛ حيث تضعنا أمام المفارقات التالية:
◇ يسمح البرلمان لنفسه بإصدار قوانين مصيرية، دون أن يكون قادرا على ضمان الحد الأدنى من المصداقية، ودون أن تكون له سلطة إلزام أعضائه على حضور أشغال المؤسسة، وإلزامهم بتحمل مسؤولياتهم، وأداء واجباتهم المفترضة. إنه يشتغل دائما ب"عدد أقل" من عدد الأعضاء الإجمالي.
◇ يسمح البرلمان باحتضان "الاشباح" يستنزفون مبالغ مالية كبيرة من المال العام، في الوقت الذي يضع نفسه في موقع الدفاع عن مصالح الشعب.
◇ واصل البرلمان اشغال التصويت على القانون التنظيمي للإضراب، في غياب 291 نائبا من بين 394، واقتصار الحضور على 104 فرد. انه واصل أشغاله بحوالي ربع الأعضاء، وهي إدانة للبرلمان نفسه، بكونه عاجزا عن ضبط الاجتماعات والجلسات الخاصة به، في حين يسمح لنفسه بالتشريع وسن قوانين مصيرية تهم الشعب كله.
إن مجرد الكشف عن محاضر التوقيع والمصادقة على القوانين، سيبين حجم الاستهتار والاستخفاف، بحيث سيتبين أن عدد الأعضاء الذين يقررون ويشرعون يكون دائما أقل بكثير من عدد الأعضاء الفعليين، وينحصر في دائرة ضيقة. إذن فالوقوق عند مصداقية البرلمان، لا تتطلب أكثر من قياس المسافة التي تفصل بين وضعيته المفترضة وبين حقيقته الواقعية.
إن أكبر خرق للدستور نفسه، هي طريقة البرلمان في الاشتغال، التي أثمرت قانون الإضراب، دون ان تهتم المحكمة بالأمر. إنها اختارت النظر من زاوية ضيقة، تجعلها تقر بهذا القانون، في تكامل واضح للأدوار بين مؤسسات الدولة الطبقية.
إن الأمر يقتضي النظر إلى مدى دستورية(⁴) وضعية البرلمان في مختلف جوانبها، قبل النظر إلى دستورية القوانين التي تصدر عنه. إن هذه الوضعية، تدين البرلمان والبرلمانيين، بخصوص:
□ التنصل من المسؤولية.
□ هذر المال العام.
□ استعمال السلطة التشريعية بشكل معيب.
وعليه، فإن الجزء الأكبر من معركة الحركة النقابية يجب ان يتوجه صوب هذه المؤسسة، حيث المطالب الأساسية:
○ كشف منطق الانتهازية والتوطؤ الذي يطبع أداء الأحزاب والهيئات التي تشتغل من داخل هذه المؤسسة.
○ المطالبة بمحاسبة البرلمانيين الذين تخلوا عن مسؤولياتهم.
○ المطالبة باسترداد المال العام، من المبالغ المالية التي يتلقاها هؤلاء البرلمانيون، الذين تخلوا عن مهامهم، واعتباره نهبا للمال العام.
○ الطعن في القوانين التي تشرعها هذه المؤسسة التي تشتغل بهذه الطريقة، والتي تستند على قوة الأمر الواقع فقط.
○ الانسحاب من المؤسسة التي لا تسعى إلا لفرض الأمر الواقع، والتخلص من القيود التي تفرضها، باللجوء إلى الشغيلة وتعزيز الارتباط بها في الميدان.
إن الدولة لا يهمها من القانون التنظيمي للإضراب، إلا قدرته على وضع قيود في "صيغة قانون"، تحول بمقتضاها الإضراب إلى جنحة أوجناية، لتسهيل استعباد الشغيلة، أو معاقبتها تحت طائلة القانون.
وباستحضار المرحلة الحالية، وسعار وكلاء الرأسمال الإمبريالي المحليين، والشركات العابرة للقارات، التي تسعى إلى الاستثمار (في قطاع الخدمات غير المنتج) بالمغرب، في ارتباط بما يتطلبه تنظيم المغرب لتظاهرات دولية (المونديال) وما يقتضيه الأمر من ضمانات بشأن تكبيل الشغيلة لتسهيل استعبادها، أو ما يسمى في الخطاب الإيديولوجي للتحالف الطبقي المسيطر، توفير "مناخ الأعمال"، تشجيع "الاستثمار"، "تنافسية اليد العاملة المغربية"...الخ. باستحضار هذه المعطيات، تتبين مدى حاجة الدولة إلى قانون، يُضعف الشغيلة ويفرض علاقات عمل تقوي أشكال الاستغلال والاستعباد.
إن قانون الإضراب، بالأهمية التي يكتسيها في ضبط العلاقة في إطار الوضع القائم، بين المستغَلين والمستغِلين، وكعامل أساسي في حفظ الاستقرار من عدمه، وبالنظر لمضمونه التكبيلي فإنه قد يفرض تحت الضغط وبمختلف أشكال القمع، لكنه لا يؤسس ويراكِم إلا الاحتقان. إنه لن يقدم حلا لعملية التناقض الأساسي في علاقات العمل الحالية، والمؤسسة على علاقات انتاج طبقية تقوم على مبدأ الاستغلال، قدر ما يفاقم الوضع أكثر، ويؤجل انفجاره ليكون أقوى، ونموذج ما عرفه قطاع التعليم خلال الموسم الدراسي 2023 و2024 مجرد مثال بسيط على ذلك.
هوامش:
(¹) إن الإضراب المقصود هنا، لا يعدو كونة وسيلة لتلطيف وتحسين شروط الاستغلال. أما الإضراب حين يدخل في مسلسل عملية التغيير الجذري، فإنه لا يحتاج إلى تشريع من البرلمان او أية مؤسسة أخرى من أجهزة الدولة القائمة، إنه بذلك يقدم تشريعاته البديلة، ويلجأ إلى قوى الطبقة العاملة/الشغيلة التي ستجعله واقعا معيشا. إنه سيترجم إرادة غالبية الشعب وخصوصا فئاته الكادحة والعاملة، وقدرتها على التشريع خارج "المؤسسات" التي يقيمها خصومه الطبقيين بناء على شروط تاريخية سمحت لهم بالحكم وممارسة السيادة والاستغلال.
(²) جهاز من أجهزة الدولة، تأخذ مكانتها في تقسيم الأدوار/السلطة، ووحدة الغايات.
(³) الدستور، هو ما يؤسس "نمط الحقيقة"، بالنسبة للتحالف الطبقي المسيطر، ويحدد معيار الخطأ والصواب. يؤكد مدى التعسف والاعتباطية والاستهتار التي تطبع البرلمان. وبذلك نقف عند الاختلالات التي تعتري عملية التشريع لقانون الإضراب.
(⁴) الصفة الدستورية، هي توفر مجموعة من الشروط في فعل معين تجعله، موافقا لمضون الدستور.
إن استعمال الدستور هنا، أو الطابع الدستوري، لا يتجاوز الرغبة، في الوقوف عند الاختلالات، التي تعتري القرارات، التي تصدر عن مؤسسات الدولة، والتي تضفي عليها طابع التعسف والاعتباطية، وتوفر بذلك الأساس المادي للتشريع لكل أساليب الاستبداد والاستعباد.
#محمد_السكاكي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟