|
سواجي الكلوب وتعري الذاكرة
ياسين النصير
الحوار المتمدن-العدد: 1798 - 2007 / 1 / 17 - 12:39
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
1 ابتداء يمكن القول أن الفصل الاستهلالي للرواية من افضل الفصول التي تعتمد بينة الاستهلال في النص الحديث، الإيجاز والتلميح والتكيف واحتواء النص كله بكلمات قليلة دالة هو ما يميزه، فقد وظفت القاصة في الفصل الاستهلالي كل الثيمة بتشعباتها وبتفاصيلها، واعطت لنا نبذا اولية عن ما يحدث لتكون مفردات الاستهلال النوى التي ستتفصل لاحقا في النص. وهذه البنية التي أتت ربما اعتباطية هي تأكيد على اننا بصدد رواية، وليست تجربة شخصية، او معرفة مجتزئة عن حياة شخوص عرفتهم الروائية في باريس فكتبت عنهم. إننا إزاء ظاهرة ان يؤلف اشخاص غير متجانسين سابقا عندما يكونون في مدينة غربية مهاجرين إليها نصا متجانسا، ثم نعثر على بنية تجانس بينهم دون ان يكون ذلك من تراكيب الأسرة أو الانتماء الواحد أو التقارب كليا في الاهواء والرغبات. فالعودة بجنازة " سارة" هو اياب للراوي بعد قضاء عمر في باريس، وتلخص العبارة التالية كل الثيمة الاساسية للرواية" اي احمق، جلف القلب، ذاك الذي قرر أنّ الرجال لا يبكون؟ امضيت سنوات زهرة عمري وأنا انتظر هذا الإياب وأرسم له،على صفحة الغيب،مئات الرؤى السعيدة، دون أن تكون بينها الصورة القاتمة التي أراها الآن.إذ كيف كان لي أن أحزر أنني سأعود مقمَّطاً، لا بالغبطة كما اشتهيت، بل بأسى أسود يُثقل على القلب فيكتم أنفاسه؟ دخلت إلى الوطن، ذات ضحى نيسانيّ ساخن، في سيارة أجرة تنقل ثلاثة ركاب،جالسا إلى جوار سائقها، وفي المقعد الخلفي تكوَّمت كاشانية خاتون على نفسها، مثل صندوق عرس عتيق بهتت نقوشه،ثلاثة أحياء في الداخل، وفوق رؤوسهم يقبع، على سقف السيارة،تابوت ملفوف ببطانية بالية من معامل فتاح باشا، بمربعات بُنَّية وزرقاء" ص 7 لتصبح الرواية كلها سردا بين فاصلتين: باريس / بغداد. وعندما نتابع اثر الفصل الاستهلالي في الرواية نجد أن كل فصل فيها يستمد روحه منه. وإذا ما أخذنا لعنوان الرواية وهو المدخل الآخر للدلالة عليها أقول: إن سواجي الكلوب العامية والشعبية وليس" سواقي القلوب" كما ورد عنوانا لرواية القاصة إنعام كجه جي ، منشورات المؤسسة العربية ط1 2005 187 ص. افضل إيقاعا وأشد آصرة بين مفرداتها، ويتناسب تماما مع النغمة العميقة التي عبر الراوي بها عن علاقته بعشيقته سراب " ألا تعرف انَّ القلوب سواقٍ ...تتناءى ثم تتلاقى وتصبُّ في مجرى واحد؟ ص52 واعني بذلك أن النغمة الشعبية التي تمنحها هذه الجملة التي اتخذتها الرواية عنوانا لها تتلاءم وسياق الرواية واجواء باريس والحياة الغرامية والاجتماعية التي اقامت الرواية بنيانها عليه. فالبساطة سمة من سمات الحداثة، ولعل العنوان باللهجة الشعبية، يدخلك بتفاصيل حياة تتشكل عبر الذاكرة والممارسة وهما عنصران بنائيان يعتمدان على زخم الحياة لا ثباتها. نحن نعرف أن الشعبية ليست لهجة فقط، بل هي سياقات ومدلولات للرواية وهي تبني بيتها على لغة ساخرة وعلنية، مباشرة وحلمية، واقعية وخيالية، يتمزج فيها طعم باريس بحرارة بغداد واجواء الشالنزيزيه باجواء الكرادة. وبالرغم من وجود قاموس المنجد واشعار المتنبي في متناول يد الراوي، وهو ما يعكس عمقا لغويا شديد الحساسية في اختيار المفردة، إلا أني اجد أن البينة الشعبية هيمنت على جمل الراوية كلها، وهذا ما كشفت عنه احاسيس الكاتبة في حبها العميق للاغاني الشعبية العراقية لناظم الغزالي وحضيري ابو عزيز وتلك الجمل المصاغة بحساسية العامة في بناء مركب يتناغم وحياة سراب التي عشقها الراوي ثم لتموت قبل أن تكتمل العلاقة بالزواج وحياة كاشانية خاتون التي تروى أمام الكاميرا فإذا بها سيل لم ينقطع، ورغبات زمزم في العزلة والهرب، وتطلعات الراوي وهو يرى بغداد تبتعد كلما اقترب من شخصيات يعرفها و هموم ساري- سارة- وهو يتحول إلى انثى وسط نشوة تستفز مشاعر الراوي، و مواقف طراد الصافي وهو يعيش تناقضات الصداقة مع الشيوعيين والانتماء لوظيفته كقنصل للعراق . من هنا فالراوية تدخلنا إلى البيت العراقي الواسع و الممزق بلغة روائية مكثفة ومباشرة، غنية ومتماسكة، دقيقة ومقتصدة، لتجمع بين خارج يعج بجواسيس السفارة وموت المهاجرين، وداخل يصنع الحروب مع أهله والجيران، وحب عميق يعيش بين الفاصلتين. والرواية إذ تستعيد حكايتها عندما يبدأ الراوي بمرافقة جنازة " سارة" بعد أن قتلها موظفوا السفارة العراقية والقوا بجثتها في اطراف غابة بولونيا عائدا بها إلى العراق، وتنتهي والجنازة تعسكر في مخفر جمهورية طريبيل الحدودية- نقطة الحدود بين العراق والاردن- بانتظار أن يسمح ضابط الجوازات بمرور مرافق الجنازة - بعد أن غادرها- إلى بغداد. فإنها تدخلنا في تفاصيل حياة شخوص يجمعهم الشارع والبيت والمقهى. لذا لا سرد بعد وصول الجنازة للعراق، ولا سرد كثير عن اسباب موت سارة في فرنسا إلا من اقتضاب شديد، وهو أن سارة رفضت أن تكون جاسوسة للسفارة العراقية بالرغم من أن ثمن علاجها على السفارة العراقية. فالمكان الغربي بالرغم من عموميته والذي تحكم بسير الحدث بوجود كل الشخصيات فيه،خلق سردا متعدد المنابرافصح عن ضبابية مبهمة كامنة فيه، تلك هي أن الأمكنة العامة لا تفصح عن لغة خاصة بها، لذا كان صوت الراوي هو الأكثر حضورا فيه فجسدت الكاتبة لنا الطريقة الحسية التي تعبر عن معاناة شيوعي مهاجر ترك وطنه بعد ملاحقات السلطة له، ثم عاش ضمن جموع المهاجرين مترجما وعاملا ثم مقتصرا حياته المكثفة بعلاقة مع زمزم البعثي القديم الذي تعرف عليه صدفة في باريس، ومع كاشانية خاتون، الذاكرة العراقية الحية، ومع بقايا ذكرى حب مع نجوى وابنها ساري – سارة- ثم قصة الحب الشعرية التي انتهت بالموت بين الراوي وسراب، ثم تنقلنا الكاتبة بين هذا وذاك إلى حين العودة بسارة ميتة إلى الوطن ومكفنة بغبار السنين. هذه الطريقة الفنية المشبعة بمناخ الصحافة واقتصاد الكلمات وتتبع خطوات الحدث وتقلباته السريعة، تختصر الكاتبة فيها عشرات السنين بصفحات قليلة عن حيوات كانت تتحاور في الليل والنهار وتملأ مساحتها الداخلية بالكثير من التأملات والحلول،وكأننا في مناخ قصيدة سردية سريعة الإيقاع قليلة التشعبات. ففي اقتصارها وتكثيفها وجدت الكاتبة أنها بإمكانها أن تخلق رواية من حيوات شخوص وجدوا مصادفة في منطقة واحدة من العالم لتعيدنا إلى تصورات مضمرة في الأمكنة الإشكالية كبغداد وباريس، تلك الأمكنة التي تمارس فيها حياتك باعتيادية لكنها في لحظات يمكن أن تقلب عليك الطاولة لتعيد عن طريق الواقع أو الحلم، التفاصيل الصغيرة التي شكلت ما يسمى بالماضي، فلا باريس تعوضك عن وطنك، ولا وطنك بقادر على أن يكون حماية في ظل الانظمة الفاشية. لعل حنين كاشانية خاتون للعراق الذي نشأت فيه أكثر صدقا من انتمائها القبلي والأسري لارمينيا بلدها الذي هاجرت منه، ثم عادت إليه بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، لتعود هاربة منه إلى باريس ثانية بعد اربعة ايام وهي تلعن انشيد " يرفان" التي حفظته. ثم نجدها تصحب الراوي وجنازة سارة عائدة إلى العراق ثانية بعد أن يأست من حياة الغربة. الراوي: هل تعرفين الى اي عراق سنعود؟ - أعرف... أعرف ... عراق أسود يأكل ناسه الحصى ويشربون ماء النزيز. وسنجوع معهم، ياإبني، ونشرب ما يشربون... حالنا حال أهلينا ص 182. هكذا هو العراق قبل هجرة الشخصيات منه، وطن يحتمل الهجرة والعودة إليه معا، وطن اشكالي متناقض حوّله الفاشست إلى مكان مبهم. أما المنافي فهي " جُزر أو مناطق نائية، وبدائية، تتقشف فيها الحياة حتى تخلو من أي لذاذة" ص 14. ففرنسا في اثناء وجودهم فيها هي المقهى والشقة والشارع والشراب هي الهوية العامة للمتسكعين في حديقة اللوكسمبورغ" التي لم يكن لهم مكان غيرها".باريس امكنة رمادية يغلفها الخوف والفاقة والشراب والعسس والجنون وتبديل الجنس. فكل الامكنة التي تدخل بيت القص تدخلها خلال نافذة المعايشة والاستعادة فقط دون الغور في تفاصيلها. والسرد كله يقع في المابين حيث يعود الراوي بنا إلى حيوات الشخوص المتداخلة بين الوطن والمنفى. حياة يومية متقاطعة في الداخل مع تواريخ وحيوات شخوص منتمين إلى أحزاب عراقية متناقضة ومتصارعة في الخارج، مع نساء مهاجرات منذ زمن واخريات يدخلن بيت الرواية وهن محملات بغرابة سرية محكومات بقدرية العجز أو الموت ومطعمة بقصص حب فيها من القدرية المضمرة شيء ومن العلانية أشياء أخرى. في مثل هذا المناخ الملتبس والغريب والواضح ترسم لنا إنعام كجه جي صورة واقعية وخيالية عن مجموعة من المهاجرين العراقيين وجدوا انفسهم في مواجهة مع أنفسهم، عراة من كل ما كان يكسوا جلدهم العراقي السميك. استطيع القول أن رواية سواجي الكلوب رواية من أدب المنفى، حيث مقومات قيام النص على مفردات متأرجحة بين الداخل والخارج تجعل فن السرد يغتني بمستويات سرد متباينة ما كانت لتدخل سياق القص العراقي لولا هذه التجربة المتأرجحة بين شاطئي العراق الهنا .... والهناك. النقطة الأولى في هذه الرواية قبل ان ندخل في تفاصيلها، هي أنها مؤلفة من عدد قليل من الشخصيات النسائية والرجالية لا تتجاوز اصابع اليدين: الراوي الذي كان منتمبا للحزب الشيوعي العائد الآن للعراق بجنازة ابن –ابنة - صديقته القديمة نجوى، وزمزم الذي كان منتميا لحزب البعث وانفصل عنه يمارس الان مهنة تصوير فلم عن حياة كاشانية خاتون الذي لم يستمر بتتبع خيوطة حياتها الغنية بالمفارقات، وكاشانية خاتون المسيحية الأرمنية التي تربت في بيت مسلم موصلي ودرست وتزوجت في العراق بعد ان قتل الاتراك اهلها في مجزرة الارمن الشهيرة، ونجوى عشيقة الراوي التي بقيت في العراق متزوجة الآن من بغل يمتهن بيع علف الحيوانات، وساري ابن نجوى الجندي المزدوج الجنس جاء باريس بمعونة من صدام حسين ليتحول من ساري إلى " سارة"، ثم ليصبح جاسوسا للسفارة العراقية على البعثيين المنفصلين عن الحزب وعلى الشيوعيين،وطراد الصافي القنصل العراقي في باريس الذي لجأ إلى دول المغرب بعد هزيمة العراق في الكويت لينظم إلى المعارضة العراقية، وسراب الفتاة العراقية التي احبها الراوي حبا مشفوعا بنصائح من الباهي محمد وجبرا ابراهيم جبرا لكنها مثل ريميديوس الجميلة في مائة عام من العزلة تختفي بالموت عن عالم ملئ بالادران في مستشفى " فيل جويف "بباريس فيتحول شرشف سريرها الأبيض إلى ثوب عرس ليتزوجها الراوي إثر نصيحة من كاشانية خاتون في ليلة وفاتها تلك. ليس بين هذه الشخصيات من هو فرنسي أو أي اجنبي آخر ليدخل بيت الرواية بوضوح، بل كل الشخصيات عراقية جاء وجودها في فرنسا نتيجة الهجرة إليها أو العمل أو العلاج،فالخليط يكشف لنا عن هشاشة البناء الاجتماعي الذي اعتمدته الرواية في تكوين البيت العراقي المغترب، فهولاء هم نثار المتجمع في المدينة النائية البعيدة العاجزة عن أن تكون ستارا يحمي الشخصيات من السقوط. ناهيك أن الجميع يلعب لعبة الاسماء البديلة: ساري هو سارة، وسراب هي روزا، وكاشانية خاتون هي الكونتيسة فلانة،والراوي لم يفصح عن اسمه. فالمدينة الغربية لا تصنعها الحيوات الثابتة المتأرحجة ولا الأسماء القديمة لابد لكي تكون مجددا عليك بلعبة الاسماء. تحتاج المدينة الغربية إلى قوى فاعلة اقتصادية أو فكرية كي تكون نموذجا جالبا للهجرة، كي لا يكون للمهاجرين مهما عملوا القدرة على التأثير فيها، لذا نجدهم دائما يعيشون على فتاتها ويتلقون نتائج ذلك موتا أو اهمالا . وهذا يعني أن الروائي العراقي ما يزال يعتمد طريقة واقعية للدخول إلى عالم الآخر، وهو أن يتعامل مع شخوص مهاجرين ومن ثم عليه أن يقيس مدى قدرتهم على التعايش مع الواقع الغربي خلال ما يصوره عنهم وعن علاقاتهم. وفي الطريق لرسم هذه الخريطة التي ينتظرها الأدب العراقي نعثر على الأساليب الفنية التي غالبا ما تكون التذكر والاسترجاع هي الطريقة الاكثر شيوعا وهي طريقة لم تعد كافية اليوم لاستيعاب تأثير المدينة الغربية على المهاجرين.. ففي كل فصول الرواية الـ 38 فصلا القصيرة يتنقل الراوي بين العراق وباريس في أمكنة ضيقة ومجالات مستدعاة من الذاكرة وفي محيط شبه مغلق: بيت ومقهى وشقق عمودية صغيرة وحديقة لتنتهي الرواية محشوة في تابوت محمل على سيارة نقل عائدة إلى العراق، وكأن هذه البنية المكانية المغلقة تجسدها بنية زمنية مدورة مغلقة التجربة هي الأخرى: بداية في بغداد ونهاية في العودة إليها. فالذي يرحل الآن إلى العراق محمولا بتابوت مغلق وسيارة في جو حارة هو خلاصة لكل الحيوات العراقية في المهاجر: كاشانية خاتون الارمنية العائدة للعراق، بعد خيبتين الإولى بوطنها والثانية بباريس، وسارة المتحولة الجنس والشابة التي سعدت بتحولها من ذكر إلى انثى، تعود جنازة لم يعرف قاتلها، والراوي الذي كان شيوعيا وما يزال جواز سفرة ممنوعا من الدخول للعراق يدقق الضابط فيه وكأنه يستعيد تاريح المطاردة المسجل خفية في الأضابير. كل هؤلاء المنتظرين على الحدود هم خلاصة لتكوين اجتماعي يشكل نسيجا غير متجانس لأسرة العراق المنفية.
2 نغمتان متداخلتان في هذه الرواية. الاولى: ان كاتبتها امرأة، وامرأة متميزة بثقافتها، مارست الصحافة فعرفت فن الاختزال، ومارست الفن فعرفت بناء الصور،ة وكتبت عن مواضيع كثيرة خاصة التجارب، ففهمت التنوع. لذا تقدم روايتها بسرد مكثف، دقيق العبارة، لتضفي على لغتها طابع الأنوثة المحببة في اختيار الجملة أو في سياقاتها، عندما اختيار المفردات الدالة على تحولات ساري إلى انثى وفي تقصير الفصول لتشبع حكايتها بتفاصيل يومية لافواصل زمنية كبيرة بينها، وفي جعل الرواية كلها موشاة بطرز معمارية في فن الصياغة وفي الملابس وفي تسجيل الحياة الماضية بفلم وفي الاوصاف الانثوية الكثيرة التي تضفي على الغرف والاشياء والملابس والمضاجعة والأفرشة والجلسات طابع انثوي شعري مطعمأ بتحولات جندي إلى انثى فازداد عدد الماجدات واحدة، بينما خسر الجيش جنديا. في حين ان امه نجوى – صديقة الراوي- التي كانت تجد فيه ابنها الوحيد على رأس ثلاث بنات تأمل في سفره إلى باريس على توصية من صدام حسين، خلاصه من الموت في الجبهات ،وأملا بأن ينفرج همّ البنات بالزواج بعد أن كان ساري سببا في منع العرسان من التقرب إليهن. هي الحياة تنمو كالنبات إذا سقيت بماء الهجرة والعزلة والأنوثة. والرواية لا تبخل علينا في ان تسقي كل مسامات الرحلة إلى المجهول بما هو عراقي مدفون، في اغنية، أو نكتة، أو امثولة، أو الخروج من حزب او اتحاد للطلبة، او التنظيم، بعد أن تحولت إلى كتل من الأوامر التي ما عاد صوتها يشبع المتطلعين إلى التمرد والهجرة والحرية والثورة. النغمة الثانية: أن كل ما في الرواية يبدأ مغلقا ثم ينفتح ليجد نفسه بعد قليل صندوقا ليدخل فيه ثم يخرج منه. فخزين الماضي يمارس ضغطا على انفتاح الحاضر ليسحبه من تلك المخزونات الخشبية والحديدية التي تحتفظ بها النسوة العجائز في بيوتهن كذاكرة جمعية، لينتشر في شوارع ومقاهي وشقق باريس كالعطر لكنه سرعان ما يعود ثانية للصناديق القديمة ليضيف إليها تجربة جديدة، هذه المراوحة الدائرية هي الحركة الموضعية لشخوص جمدوا عن التفكير خارج نطاق عيشهم وتحولوا بحكم ثقل الغربة وهلامية المكان إلى مجرد رواة لما مضى. وقد وفقت الكاتبة في أن تكون حكواتية من طراز خاص. حيث أن الرواية متجهة في كل فصل تنتهي منه لإغلاق كل النوافذ التي تفتحها مدن باريس. ولم تصلح اي تقنية في لملمة هذا النثار الحياتي المتشعب غير أن يسجل هذا النثار بفلم أو بكاسيت اغاني. الفلم هو عن حياة كاشانية خاتون الأرمنية التي قتلت اسرتها في حروب إبادة الارمن على يد الأتراك وعاشت مع اسرة مسلمة في الموصل، بينما تذهب كل يوم أحد للصلاة في كنيسة، فتفلح في زواج ما، لتصبح بعد موت زوجها كونتيسة لاكونتيس ثرية ينحني لها الأرمن المسيحيون. شريط الحياة الغني بالمغامرة والحب والطبخ ووصف الحياة الموصلية الشعبية يسجله الآن زمزم البعثي المفصول من الحزب بفلم عن حياتها هو ما يمثل وجوده القلق في باريس، ويستعين به الراوي الشيوعي البعيد عن حزبه لشرح تجربته التي لم تنته بعد.فنجد الشخصيتين : زمزم والراوي وجهان لعملة واحدة بالرغم من أن الراوي الشيوعي هو الذي يدير دفة السرد وتحديد دخول وخروج الشخصيات للنص مما يعني ان هذا الشيوعي هو الشخصية المهيمنة التي تقود العمل وتفصله وتجعل منه بنية فكرية لا تخص من هم في داخل العراق بل وفي خارجه ايضا وما تسييره للسياق العام ثم ختمه له بعودته مع الجنازة إلا واحدة من اساليب هذه الهيمنة الفكرية والعملية.. ففي كل خرق شعري للسياق الهادئ الذي تسير به هاتان الشخصيتان تقفز كاشانية خاتون وبعد قنينة شراب إلى ذاكرتها احداثا ورؤى جديدة فتسرد علينا خفايا لم يتسع شريط زمزم لتسجيلها ولا حياة الراوي فهمها، مما جعل الراوي ينساق لمتابعة شريط حياة كاشانية خارج التقنية السينمائية بعد أن وجد فيها أماً ترمم كل نواقص أبنائها. لينظّم هذا الجزء الأرمني شريط الحياة العراقية كلها المعلن منها وهو ما يمثله الشريط السينمائي، أو المخفي منه والمتمثل بكاسيت اغاني جاهز للنواح مستدعيا البكاء والعزلة والغربة كلما كان هناك شوق لما مضى. وبذلك يعيد علينا الراوي تركيب شريط حياتنا المنفلتة كلها، سواء ما كان منها في مدن مستعدة لأن تشحن جثث ابنائها بالتتابع كباريس.أو في أماكن اصبحت الآن في الماضي كبغداد.
3 مجتمع الرواية يتقاسم الرواية نمطان من المجتمع الاول: المهاجرون وهم: كل الشخصيات نساء ورجالا. وابرزهم الراوي وزمزم وكاشانية خاتون وسارة وسراب. الثانية: الطارئون وهم: الذين دخلوا النص تحشية او استذكارا وابرزهم طراد الصافي القنصل العسكري في السفارة العراقية بباريس وضابط مخفر طريبيل وبعض الحاشية من النساء. ما يميز النمط الأول من المجتمع، هو أنه مرتبط زمنيا بقضية ما ثم انفصل عنها: زمزم البعثي القديم والذي ترك حزبه يعيش الان على امل ان يكون مصورا أو سينمائيا همه ان يسجل تاريخ كاشانية خاتون. الراوي شيوعي سابق لم يتخل كليا رغم ابتعاده عن التنظيم لا اسم له، هو العليم بكل ما يحدث في الرواية بل ويقود توجهاتها. كاشانية خاتون او مدام لاكونتيس وهو اسم زوجها المتوفي عالم الاثار العراقية والمتعلم العربية لتصبح الكونتيسة التي تختزن ليس الثروة التي ورثتها من زوجها فقط، بل جزءا مهما من تاريخ العراق المتداخل بتاريخها الشخصي. سارة التي كانت قبل مجيئها إلى فرنسا لازالة الذكورة منها، تحولت بفعل تأثير ارتباطها بصدام حسين إلى جاسوسة للسفارة العراقية. بينما هي ملتصقة بالراوي الشيوعي بوصفها ابنة صديقته يوم كان في العراق. طراد الصافي هو الشخصية الغامضة والواضحة معا كقنصل وصديق قديم للراوي مايزال يتذكر الصداقات مع الراوي حينما حذره لان ينبّه زمزم من فلتات لسانه على البعثيين. فقد كلفت السفارة سارة بالتجسس عليه عندما زرعت تلفونا في شقته ثم انتزعته ورمته في حال استيقاظ ضميرها عندما عرفت ان حجم الصداقة بين الراوي الشيوعي وزمزم الذي ترك حزب البعث هي واحدة من اجمل العلاقات الإنسانية، فاضطرت السفارة إلى قتلها ورميها في غابة بولونيا. ثم يحملها الراوي الشيوعي بتابوت يوصلها إلى مخفر طربيل لتنتهي الرواية بجلسة تحقيقية مع الراوي بينما الجنازة وكاشية خاتون تنتظران في صحراء طربيل الحارة الدخول الى العراق. ثمة نساء اخريات يدخلن هنا وهناك كحبيبات طارئات او عشيقات جل ما يدور حولهم هو ارتباطهن بهذا او ذاك. هذا التركيب الاجتماعي لا يشكل بنية اسرية متكاملة أو منسجمة وهوما يؤشر إلى تاريخ ما، بل ان الروائية اختارت نمطا من العلاقات الفردية التي تجتمع وتفترق في حالات متباعدة، فلم نجد اية علاقة بين اثنين خارج اطار ما يجمعهما على مائدة او مقهى او قضية. وبالرغم من طول مدة بقاء المهاجرين في فرنسا لم تتأسس بنية اسرية شرقية واحدة بينها، بل يتضح عبر السياق أن الرواية تعتمد بنية العلاقات الأوربية ولعل هذا اهم ما يجعل هذه الرواية من ادب المنفى. ما تفصح عنه هذه التركيبة المتجاورة وغير المتداخلة كليا، هو أن الرواية تبني نفسها فنيا وفق مقطعات قصيرة، اي فصول سريعة ومكثفة وهي تركيبة جعلت الكاتبة والراوي معا يلهثان وراء كل صغيرة وكبيرة في الحدث للسيطرة الكاملة على التفاصيل. كما أن هذه التركيبة الفنية اعطت للكاتبة امكانية ان تحلق بلغتها وتضمنها مقاطع شعرية وان تتحول جمل كثيرة منها إلى قصائد ومقطعات جميلة وبلغة شعرية منتقاة. كما أن هذه البنية لم تغمط حق اية شخصية من ان تكتمل في الرواية وبخاصة الشخصيات الرئيسة حيث ان طريقة الكاتبة كانت تضع ثلاث معلومات لاحتواء الشخصية: تاريخها الذي يشكل ماضيها الشخصي والعام، وحياتها في المنفى وهو ما يشكل حاضرها، ثم العلاقات المتأرجحة بين الأثنين وهوما يشكل عصب السرد المتداخل الأزمنة. ولهذه المكونات الفنية الثلاثة قدرة على لملمة المشاهد القصيرة وجعلها نافذة لدى القارئ بحيث يقف على كل التفاصيل. ويعطينا مجتمع الراوية أن الكاتبة تميل إلى تغليب الطابع الأنثوي على بنيتها وتراكيبها، فالعنصر النسائي هو الأغلب سردا وحضورا بالرغم من أن المحرك هم الرجال. وقد وجدنا أن كل النساء بلا ماض سياسي،بينما أثخن الرجال بارتباطهم السياسي. وهذا يعني أن التركيبة تميل لجعل البنية الانثوية اكثر انفتاحا. إلا أن ما يميز مجتمع الرواية من جهة أخرى هو أن كل الشخصيات ابتدأت بموقف ثم انتهت بموقف آخر، وهذا التعري، تعري الذاكرة، هو ما يشكل بنية التحول لا بنية الثبات، الرواي كان شيوعيا ثم اصبح مستقلا ،يروي بضمير المتكلم ما يجري وهذا يعني انه الأكثر هيمنة على الاحداث خاصة ان الخلفية السياسية له تستطيع تفسير مواقف الشخصيات كلها. زمزم البعثي القديم والمتخلي عن حزبه يتحول إلى رجل عاشق ومتمرد وفقير ومطارد من قبل السفارة بالرغم من انه سافر مرات عدة للعراق بعد موت والده. ساري الذي اصبح "سارة" تحول من مستقل إلى جاسوس ثم دفع ثمن حياته جثة ملقاة في حديقة وتابوتا محمولا للعراق.طراد الصافي من قنصل في السفارة العراقية إلى معارض ملتحق بالمعارضة العراقية في الخارج بعد غزو النظام للكويت. كاشانية خاتون التي تضمر المسيحية تحت عباءة الاسلام كانت ترى في خروج ارمينيا من الاتحاد السوفيتي بعدانهياره املاً لها، لكنها فؤجئت انها كانت على خطأ فعادت للعراق لتمارس لعبة الاختفاء ثانية كي تواصل شريط حياتها الملئ بالمفاجئات والرغبات المدفونة. هذه التحولية من و..إلى واحدة من ثيمات روائية جديدة على نمط من الشخصيات رأت الكاتبة فيها أن تعبر عن النماذج والانماط للشخصيات التي يمكن أن تكون الأكثر حضورا في أدب المنفى لاحقا، خاصة عندما يستقر وضع العراق فيجد الكثير من الكتاب المنفيين أنفسهم امام مثل هذه النماذج المتعرية من ذاكرتها ومن حياتها معا.. تغيب تفاصيل المكان الغربي والشرقي في الرواية كجزء مهم من بنية مجتمع الراوية الغربي فالمجتمع ليس تجمع افراد فقط بينهم قرابة ما، بل هو تكوين راسخ في تركيبة المشاعر والعواطف والمواقف، وما ظهر منه في الرواية مجرد تعميمات: شقة، سلم، طابق اعلى، مقهى، حديقة البيت، الموصل، الكنيسة، السجاد الكاشاني، وغيرها . ويستحضر عوضا عنه أجزاء مهمة منه خاصة المائدة وقناني الشراب، وهذه نقطة مهمة لمن يعتني بالمكان كثيمة وبنية لها لغتها ومكونها الدلالي. حيث أن الشخصيات التي لا تربطها وشائج أسرية أو قرابة وغير منحدرة من بيئة واحدة، لا يمكنها أن تجعل من امكنتها شخصية اساسية في السرد. فالكاتبة كانت أمينة جدا كي لا تجعل اي مكان من امكنة الشخصيات مهيمنا على السرد حتى لو أن ذلك المكان فرز لغة خاصة به، فقد ارادت الكاتبة ان تتحدث عن حياة اشخاص مقذوفين في امكنة غريبة ومنتزعين من أمكنة مفترقة فقط ، لذا ترد بغداد والكرادة واليرموك والسماوة اسماء مجردة من تفاصيلها كما ترد باريس وامكنتها العامة غير مفصلة ايضا. هل نعد هذا خللا أم ان الكاتبة كانت لا ترى حياة الشخوص إلا عبر يوميتها ومفرداتها العامة وهي تتحول من مرتبة الجيرة إلى القرابة أحيانا؟ " تحدثنا مثل روحين شقيقتين لا تقف بينهما واهيات الفوارق في السن أو الدين أو المنبت،ورحنا نعدل تلك الأحرف المقلوبة أو المبتلعة التي لم نلق لها بالاً في أحاديثنا الماضية، ونضع النقاط عليها حيث يجب،وكأننا كنا نتكاشف بعد أن حثَّنا وازع مجهول على أن نرفع الجيرة المجرَّدة بيننا إلى مرتبة القرابة والحميمية" ص 127. اعتقد ثمة ما ينقص الرواية عندما اهملت تأثير الأمكنة الغربية على بنية وتكوين الحدث، بل وعلى سياقات النص نفسه، خاصة وان الحياة الاقتصادية في باريس لم تظهر على حقيقتها عندما لا يجد المهاجر فرصا للعمل المستقر فيها وهو ما يبني شخصيات قلقة يمكن أن تنزلق لمهاو غير محسوبة النتائج. وما حادث مقتل سارة وإلقائها في غابة بفرنسا إلا جزء من بينة المكان المغرَّب لدى الشخصيات المهاجرة وصورة لحدث يستوجب التوقف عنده طويلا. فنحن لا نعرف أن ممارسة القتل يمكن أن تكون بفعل قوة غموض الامكنة وحدها دون أن يبرز العامل الاقتصادي وراء ذلك، فالأمكنة الغامضة بالرغم من شعبيتها وعموميتها تسهل على انتشار الجريمة، وهذا ما جعل شرطة باريس لا تدقق كثير في الجريمة واسبابها. فالجاني يستغل هذا الغموض في المكان الغربي ليمارس فعل القتل دون أن يلغي من المكان خصوصياته الأخرى مثل المتعة الجنسية. إذن علينا أن نجد المعادلة التي توفرها الأمكنة الغربية المبهمة والمشعة والكثيفة الحضور من أنها تحتوي على النقائض كبينة قارة فيها أيضا. القول نفسه نجده في الكنيسة بمدينة الموصل تلك الثيمة المكانية التي اعتمدتها الكاتبة عندما كانت ملاذا واختفاء لكاشانية خاتون، فهي امرأة مسيحية تعيش قلقة وعالة في بيت مسلم، لكن ذهابها المستمر للكنيسة يعيد لها جزء من الطمأنينة المفقودة تلك، وعندما استدلت على زواج بمسيحي حولتها تلك المفارقة إلى امرأة مستقرة وثرية لاحقا.هذه المفارقة المكانية فرضت لغتها على الشخصيات، لإن مدنا كوموسبوليتية مثل الموصل والبصرة تجد فيها تجاورا للثقافات والديانات والاعراق وهو ما يجعل امكنة من هذا النوع قادرة على منح السرد مستويات قول جديدة، ولكن الرواية لم تكشف لنا عن لغات الأمكنة . 4
إلا أن الجانب الآخر من الرواية هو ذلك النزوع الفكري العفوي الذي كشفته حياة باريس وطبيعتها وبالرغم من اقتضاب الجمل الخاصة بهذه الموضوعة. فالكاتبة على لسان الراوي تلخص حركة الشخصيات باسماء الامكنة الكبيرة: بولفار بلانكي،ساحة ايطاليا،الحي الصيني، شارع كورفيزار،المترو جادة فوش. بولفار سان جاك ...الخ. دلتنا الروائية على اشياء مهمة يراها المغترب كجزء من بينة عامة تكشف عن رغبة دفية لدى الشخصيات في التغيير أوالتعري من ماض ما. لا شك أن الرواية تتحدث عن رؤية لعين شرقية لمجتمع غربي، لكنها وهي تعمل ذلك تتحول العين للداخل فتعري الكائن الشرقي بيديه، وقد تكون هذه الرؤية هي الأكثر ضمورا في النص بأعتبار ان الرواية لا تريد أن تخرج عن سياقها التجنيسي إلى أنواع أخرى،كالنقد أو الثقافة السياسة أو الريبورتاج، ولكني اجد أن مثل هذه النقطة واحدة من مفردات الحداثة في أي نص يدخل المكان فيه عاملا مؤثرا بالرغم من غياب تفاصيله، لتصبح الرواية أو اي نص آخر جزء من بنية الحداثة عندما تضمن المدينة بكل تراكيبها حتى لو لم تعلنها صراحة في سياقاتها. وهنا لابد لنا من أن نعيد تركيب الصورة الكلية للرواية انطلاقا من أنها تتحدث عن باريس دون أن تدخل باريس كثيرا في اغناء الرواية. والحديث الذي يصل إلينا بطريقة الرأي أو العرض قادرعلى رسم صورة أخرى عن تفكير المهاجرين وعن تصورهم لأنفسهم وسط عالم غريب وغير منسجم. بالطبع لا تريد الكاتبة أن ترسم لنا صورة مستقبلية لمدينة باريس،ولا صورة ممتلئة بالطماح لأشخاص مهمشين فيها، فهذا ليس من شأنها، ولكنها ضمنا تعطينا تصورا عن الكيفية التي يفكر بعض المهاجرين بالمدينة الغربية عندما يتعلق الأمر بحياتهم. في بداية هذه النقطة علينا ان نفهم أن الشخصيات التي بنت الكاتبة عليهم روايتها ليسو معنيين بتقدم باريس أو تأخرها، كما أنهم لا يمثلون بأرائهم حركة اجتماعية اوسياسية لفئة متجانسة أو ذات هدف ثقافي أو أخلاقي جاءوا ليطبقوها على باريس أو لينقلوا تجربة باريس لمدنهم. لذا لا تؤخذ ملاحظاتهم عن المدينة الغربية إلا في إطار الصدام العفوي مع مكوناتها والتي تنعكس سلبا على حياتهم. فباريس خلال السنوات الخمسين الماضية كانت مكانا لحركات الشباب الثقافية والسياسية والحداثية، وكانت قبل ذلك محطة لكل الطليعيين في العمارة والفن التشكيلي والنقد والمسرح والدرس الاكاديمي، وهو ما جعلها تتحرك نحو الحداثة وتقودها على مستوى الشارع الفرنسي وعلى مستوى العالم كله. ومن هنا فشخوص الرواية ليسوا معنيين باي مستوى نقدي أو فكري لباريس، لكنهم لن يخرجوا عن كونهم أدوات جس نبض الحداثة وهي في سياقاتها المتحركة والثابتة، لان قبولها أن يعيشوا فيها هو جزء من حداثتها. واولى هذه السياقات أنها تؤالف بين مهاجرين مختلفي الاعراق والانتماءات فتعطينا صورة لما يمكن أن تكون علية المدينة الحديثة، عندما تخلط بين الاعراق والجنسيات، وهو ما يفكر به المهاجر كنقيض لمدنه الشرقية المتزمتة والساكنة. لتشكل هذه الصورة، الخلفية الجديدة التي سيحملها المهاجر اثناء عودته، كواحدة من الثيمات المؤجلة في ادب المنفى، في حين أن رفاعة الطهطاوي والمبعوثين في أولئل القرن العشرين قد فكروا بمثل هذه المزاوجة بين حضارة متقدمة واخرى متأخرة كجزء من مشروع نهضوي تحديثي. هل نطلب من الرواية مشروعا مثل هذا؟ اعتقد أن الكاتبة لم تفكر في ذلك لكنها لم تتخلص من تأثير الأمكنة الغربية على وعي وسلوك الشخصيات. و الصورة التي كونها الراوي عن باريس هي صورة الخريف دائما: الموت والحب الفاشل وتقادم العمر وكثيرة الجواسيس والهروب بفعل العطالة، صورة قريبة جدا من تفكير الكثير من المهاجرين، الذين وجدوا أنفسهم أمام تكوين برجوازي قاسي الملامح مؤسس على بنية اقتصادية صارمة بالرغم من جمال العمران ونظافة الشوارع، ومثل هذه الصورة الرومانسية القاسية تجعل الفرد الشرقي يتعرى تماما من كل قيوده املا في اللحاق بها لكنه في حقيقة أمره يوهم نفسه أنه سيلحق بركبها مما يعني ان تنقلب الصورة عليه لتتحول إلى تراجيديا يكون هو ضحيتها ، هذه الصورة هي الأكثر حضورا في أدب المنفى العراقي. في لقطات شعرية تقرن الروائية بين خريف باريس وبين خريف الشخصيات، وكأن هذه المقارنة تؤكد صياغة مناخ عام يغطي كل الرواية، فالراوي يصف خريف باريس الذي هو خريفه أيضا، بلغة توصلنا بانقطاع الأمل في إصلاح الحال بالرغم من أن خريف باريس جميل كما يقول الراوي " حل بكل غواياته اللونية (....) هكذا هي الفصول هنا، تهجم بدون مقدمات، ثعلباً ماكرا يلعب لعبته مرة بعد مرة فتنطلي علينا الحيلة في كل مرة، ونسكر من فرط الإنبهار بالمشهد المفتوح على سعته لكل ذي عينين، على أن جمال المدينة، وهو يتقلب ويغير مزاجه، كان فوق طاقة المكلومين والمستوحشين على التحمل.كأنَّ تأمل كل تلك الأطياف الكستنائية والذهبية والحمراء ينطوي على شيء من تعذيب الذات وهي في حدادها المقصور الألوان" ص 93 . أن تأمل مفردات المقطع هذا تعطينا صورة عارية تماما لأنفسنا، ووسط هذه الأجواء بدأ الراوي يستطيب وحدته حتى ضمن مناخ اللون الأسود،إذن ما شكل الصورة الخفية للمدينة الشرقية التي تنز خفية من بين سطور المدينة الغربية؟. الرواية لا تتحدث عن هذا ولا عن ذاك،ولكن في دواخل الشخوص تنمو تلك الهواجس المخيفة، اي العيش في خريف المدن الغربية حتى لو كان قاسيا، افضل من ربيع المدن الشرقية حتى لو كانت حديثة. الصورة تقف بالضد من النزعة الثورية التي كانت عليها بداية النهضة عندما استشعر الطهطاوي وغيره حاجة المدينة الشرقية إلى الحداثة في حين أن الأسى في الرواية اقوى من الأمل. ويتسع مبدأ العري الجسدي والفكري لدى الشخصيات بتحولاتها الدراماتيكية سنجد صورة العري في المدينة الغربية منعكسة على الجسد قبل الفكر، سارة تجد في إجراء عملية ازالة الذكورة اكثر اندماجا في وهج وملذات المدينة وها هي ترتدي اثواب النساء وتضع المساحيق والشعر المستعار وتتغزل بعضوها الأنثوي فتصفه بأوصاف جميلة، بل وتغري الراوي في حالات معينة بجسدها. وها هي سراب تلك الأنشودة الجسدية التي كشف الراوي عن مفاتن نفسها وجسدها وهي عارية معه في الفراش تتلحف الآن بشرشف المستشفى الأبيض الذي سيتحول إلى اكليل عرس تستر به عريها الأبدي وهي في رحلتها للقبر، وها هي كاشانية خاتون تتعرى تماما من ماضيها كله عندما تبوح به امام الكاميرا لا لتسجله بل لتتخلص منه على أنه اشبة بكابوس يضغط على حياتها، لتجد الفرصة في البوح به فتكشف عن اسمها الحقيقي وعن تاريخها في ارمينيا وفي الموصل وعن علاقاتها وعن صلاتها وبالتالي عن ثروتها، وحتى هذه الثروة التي هبطت عليها بعد وفاة زوجها الذي طلقها تخلصت منها بالعودة إلى عشها ومآواها العراقي القديم، انه الحنين إلى العالم الذي فقدته، ونجد طراد الصافي يتعرى هو الآخر من وجوده وسلطته ونياشينه ويلقي بها في المدينة الغربية ويهرب ملتحقا بالمعارضة العراقية تخلصا من ملحقات السلطة التي اثقلت جسده وذاكرته، ويتعرى الراوي من كل ما علق به ويعود بخفي حنين إلى عشه القديم مكملا دورته في الزمان وفي المكان وهو محمل بجنازة سارة ومتطلعا لأفق مسدود يؤشر إليه ضابط الجوازات بغرفة مغلقة عليه أن يتوجه لها لتلقي الأسئلة. هذا التعري بعضه تحول نحو الالتحاق بثقافة المدينة الحديثة وبعضه تخلف عنها، وفي كلتا الحالين ثمة تحول ما الامر الذي يشيع ضمنا نغمة دينية خفية بدأت تنمو وسط هذا التعري الفكري والجسدي - حتى لو لم تكن هناك تعاويذ وأدعية وقرآن- لتعوضهم عن اليأس الذي يصيب الإنسان المتوحد في المدينة الغربية بعد أن شعر الجميع أن الملاذ هو هذا المجهول الذي يتحكم بالمهاجرين. فالصدمة التي يولدها تخلي الأشخاص عن مواقعهم وملابسهم القديمة تفرض إيمانا من نوع آخر حتى لو لم يكن معلنا. حيث أن التقدم يفرض تحولا تقدميا، لكن وما نشهده هو ارتكاس عن ما وفرته المدينة الغربية لهم، مما يعني أننا إزاء ظاهرة مخيفة في ان العودة للوطن هي عودة للإكتساء بالملابس القديمة بالرغم مما يحمله الشخص من تنوير وافكار جديدة. ما هي حصيلة هذه التجربة التي عاشها المغتربون في المدينة الغربية؟ قد لا تدلنا الرواية على ابعادها كلها،ولكنها تشير إلى ثلاث افكار رئيسة يمكن ان تشكل لدينا اوليات فهم علاقة هؤلاء الناس بالمدينة. الاولى: ليس من اساس اقتصادي وراء حركة الهجرة أو العودة منها،بل أن المهاجرين كانوا خليطا من الافكار، وهذا يعني أن التفكير بصياغة رؤية عن طبيعة الانظمة البرجوازية والرأسمالية في المدينة الغربية غير واردة في النص ولا في تفكير الشخصيات.ولكن ذلك لا يعني أن الأمكنة الغربية التي نمت تحت ظل الرأسمالية وتطلعاتها تلغي منحاها الاقتصادي في إسباغ هويتها وايديولوجيتها على مكونات المدينة. ويعني هذا تمهيدا ثانيا: وهي انهم ليسوا اصحاب مشاريع نهضوية أو تحديثية، جاءوا بها من المدينة الغربية ليطبقوها في العراق بعد عودتهم لان منحى الرواية استرجاعي لماضيهم ومعايشة يومية لحاضرهم . وهذا يقودنا ثالثا: إلى ان الرواية بالرغم من أنها لا تقترب كثيرا لمثل هذا التصور في أولا وثانياً، ترسم لنا مخططا على أنها بنت بيتها في مثل هذه الأمكنة الإشكالية التي تحتمل وجود النقيضين معاً وهو ما يجعل فعل السرد يستوعب ضمن سياقاته الفنية، وبجمالية عالية هذه النقائض.
#ياسين_النصير (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل بدأ العد العكسي لضرب إيران؟
-
أعمال المهجر المسرحية
-
المعارضة البرلمانية العراقية المتخاذلة
-
...حكومة نظام الاموات
-
الدولة بين اليسار العراقي وموظفي التقديس
-
Euro 60 تقاعد اهم محرج مسرحي عراقي
-
بحاجة إلى غورباتشوف من جنسنا
-
امريكا /ايران/ العراق و...الضرية قادمة
-
تحية للمالكي في خطواته الايجابية
-
ارخبيل الحدائق تجربة شعرية جديدة
-
مسرحية نساء لوركا خطاب مرتبك
-
تحالف الإسلام السياسي والشيطان
-
مناقشة هادئة لوثائق المؤتمر الثامن للحزب الشيوعي العراقي
-
تراجيديا رجل الدين العراقي
-
الاسلام السياسي وصورة الحداثة في العراق
-
الاسلام السياسي وعنف المواكب
-
الإسلام السياسي وعنف المقال
-
فشل أحزاب الإسلام السياسي في العراق؟
-
المقال الثاني : العنف وتخطيط المدن
-
العنف وتحطيط المدن
المزيد.....
-
فندق بالفلبين يحقق رقمًا قياسيًا كأكبر مبنى بالعالم على شكل
...
-
رأي.. بشار جرار يكتب عن هدنة -عيد الشكر-: قيام لبنان وسلام إ
...
-
ساعر: سننهي الحرب في غزة عندما تحقق أهدافها
-
بعد ساعات من هدنة هشة بين لبنان وإسرائيل.. بيروت تستعد لانتخ
...
-
سبع طرق لكشف محتوى تم إنشاؤه بواسطة الذكاء الاصطناعي
-
فنلندا تعتزم افتتاح مصنع للصناعة العسكرية من أجل دعم أوكراني
...
-
هولندا تزود أوكرانيا بـ 3 منظومات دفاع جوي -باتريوت-
-
اشتباكات بين مصريين والشرطة الإيطالية بعد مقتل مواطن مصري
-
-نيوزويك-: البيت الأبيض يؤكد عدم وجود خطط لتسليم كييف أسلحة
...
-
الحل الأكثر فعالية لعلاج -كوفيد طويل الأمد-
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|