الشهبي أحمد
كاتب ومدون الرأي وروائي
(Echahby Ahmed)
الحوار المتمدن-العدد: 8284 - 2025 / 3 / 17 - 00:56
المحور:
التحزب والتنظيم , الحوار , التفاعل و اقرار السياسات في الاحزاب والمنظمات اليسارية والديمقراطية
ماذا لو أخبرتكم أن شوارع المغرب اليوم تعجُّ بآلاف حاملي شهادات الدكتوراه، بينما مقاهي الرباط والدار البيضاء تخلو من أي نقاش فكري جريء؟ ماذا لو قلت إن "العبقرية المغربية" التي أنجبت ابن بطوطة ومحمد عابد الجابري ولائحة طويلة جدا، صارت تُختزل في أسماء تتردد في مؤتمرات رسمية، بينما يُختطف الرأي العام بضجيج إعلامي فارغ؟ المشهد يطرح مفارقة صادمة: بلدٌ ينتج نخبًا أكاديمية أكثر من أي وقت مضى، لكنه يفقد، يومًا بعد يوم، القدرة على إنتاج مثقفين يهزّون الأسئلة المحرجة.
السؤال الأكثر إثارةً للقلق: هل نحن أمام "موت سريري" للنخبة المثقفة، أم أن النظام نجح في تحويلها إلى كائنات وظيفية تُزيّن الواجهة دون أن تُغيّر الجوهر؟ الجواب ربما تجده في صمت الجامعات عن ملفات الفساد الكبرى، أو في تغطية الإعلام المغربي لأزمات المياه في القرى النائية كأنها "كوارث طبيعية" وليس إخفاقات نخبوية. النخب لم تختفِ، بل صارت جزءًا من الآلة التي تكرّس الغياب نفسه.
في المشهد الاجتماعي والسياسي المغربي المعاصر، يطفو سؤالٌ مُلِحٌّ حول غياب الأصوات النقدية والفاعلة التي كانت تُشكّل في الماضي قوة دافعة للنقاش العام. ما حدث ليس مجرد تغيير في الوجوه أو تحوّل عابر، بل هو تحوّل بنيوي يعكس إعادة تشكيل جذرية لمفهوم النخبة نفسها، حيث لم تعد الكفاءة أو الإسهام الفكري معياراً رئيسياً لصناعة النخب، بل حلّت مكانها شبكات معقدة من الولاءات والانتماءات العائلية والمصالح المتشابكة. فالدوائر التي تُشكّل نواة النخبة الحاكمة لم تعد فضاءات مفتوحة للتنافس على أساس الأفكار أو الرؤى، بل تحوّلت إلى منظومات مغلقة تُدار فيها آليات الترقية والوصول إلى المراكز القيادية عبر علاقات النفوذ والروابط الشخصية، أو من خلال التدرج في مؤسسات رسمية تُكرّس معايير الانضباط والامتثال على حساب الإبداع والاستقلالية، كما يظهر في حالات عديدة ضمن أروقة الأحزاب السياسية أو الهيئات الحكومية التي تُنتج كوادرَ تفتقر إلى الحضور النقدي رغم امتلاكها الشرعية الشكلية.
هذا التحوّل لم يُفرّغ النخبة التقليدية من مضمونها فحسب، بل حوّلها إلى كيانات هامشية. فالأسماء التي كانت رموزاً للجرأة الإعلامية، مثل أحمد بنشمسي أو الأكاديميين من طراز عبد الله العروي، لم تعد تتردد إلا في ذاكرة الماضي. يُعزى هذا الصمت إلى تحوّل البيئة السياسية والإعلامية إلى فضاءات مُسيّجة، حيث يُكافأ الصمت أكثر من الجرأة، وتُصبح "الطاعة" عملاً سياسياً بحد ذاته. لم يعد النظام في حاجة إلى نقّاد حتى لو كانوا ضمن دائرته، بل يعتمد على آلية أكثر دهاءً: صناعة نخب موازية من داخل المعمل نفسه، نخب تُدرك أن بقاءها مرتبط بمدى التزامها بالخطوط الحمراء، ما يجعل أي محاولة للخروج عن النص مجازفةً بمصيرها الوظيفي والاجتماعي.
وفي قلب هذه المعادلة، تقف المؤسسات الأكاديمية والإعلامية شاهداً على التردي المتعمّد. فالجامعات التي يفترض أن تكون حاضنات للفكر النقدي، تحوّلت إلى مصانع لإنتاج "شهادات وهمية" تمنح شرعيةً شكلية لحامليها دون أن تُنتج معرفة حقيقية. هذا التفريغ من المضمون ليس نتاج الصدفة، بل هو جزء من نظام يعتمد على المحسوبية، حيث تُمنح الامتيازات بناءً على الولاء لا الجدارة، ما يخلق جيلاً من الأكاديميين الذين يخشون الخوض في القضايا الجوهرية، أو ينشغلون بمعارك داخلية على موارد محدودة. بالمقابل، يُدار الإعلام بمنطقٍ مشابه، حيث تُحوَّل المنصات الإعلامية من منابر للحوار إلى أدوات لترويج الخطاب الرسمي، أو لخلق ضجيجٍ يلهي عن الأسئلة الحقيقية.
أما على الصعيد السياسي، فالأزمة تبدو أعمق. فالتعددية الحزبية الشكلية لم تُنتج نخباً قادرة على تمثيل تطلعات الشارع، بل كشفت عن هشاشة بنيوية. فالأحزاب، وإن تعددت أسماؤها، تفتقر إلى رؤية واضحة، وتعتمد في تحالفاتها على حسابات ضيقة تُدار من خلف الكواليس. النخب البرلمانية نفسها ليست سوى نتاج آليات تقليدية: انتماءات عائلية، أو دعم مالي، أو تفاهمات غير مكتوبة مع مراكز النفوذ. هذه الآليات تُنتج سياسيين منفصلين عن واقع المواطن، ما يُغذّي الشعور العام بغياب التمثيل الحقيقي، ويدفع نحو مزيد من العزوف عن المشاركة السياسية.
لا ينفصل هذا المشهد عن الثقافة السائدة التي تعيد إنتاج نفسها عبر آليات خفية. فالثقافة التي تُقدّس المركز وتُعلي من شأن "الاستقرار" على حساب الحريات، تصنع بيئةً طاردة لأي صوتٍ خارج السرب. النخب التي حاولت كسر هذا النمط، كما في حركة 20 فبراير، واجهت مصائر مختلفة بين التهميش أو الإقصاء، بل إن بعضها دفع ثمناً أكبر، كما في حالة الناشط أسامة الخليفي الذي تحوّل إلى مجرد ذكرى في تقارير المنظمات الحقوقية. حتى النخب الدينية والعلمية، التي يفترض أن تحمل شيئاً من الاستقلالية، باتت أسيرة أطر وظيفية تخدم النظام، فـ"العالم الديني" أو "الخبير الأكاديمي" لم يعودا سوى أدوات لتبرير السياسات الرسمية، لا مصادر لتقييمها نقدياً.
يبدو أن "اختفاء النخب" تعبيراً عن تحوّلٍ جذري في بنية النظام نفسه، الذي أعاد تعريف النخبة لتكون جزءاً من آليته، لا صوتاً مستقلاً يعكس هموم المجتمع. فمن الجامعة إلى البرلمان، ومن الإعلام إلى المؤسسة الدينية، تُنتج الآليات ذاتها نخباً هجينة، تُكرّس وجودها عبر الولاء لا الفكر، والامتثال لا الإبداع. لكن هذا الواقع لا يخلو من مفارقة: فكلما تعمّق انفصال النخب عن المجتمع، زادت شرعية السؤال عن إمكانية بروز أصوات جديدة من خارج هذه الدوائر المغلقة. هل يمكن لأزمات النظام أن تفتح مساراتٍ لولادة نخبٍ مختلفة، أم أن الثقافة السائدة قادرة على استيعاب أي محاولة للتغيير ضمن أطرها المهترئة؟ السؤال يبقى مفتوحاً، لكنه يُلقي بظله على مستقبلٍ تزداد غموضاً.
#الشهبي_أحمد (هاشتاغ)
Echahby_Ahmed#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟