محمود محمد ياسين
(Mahmoud Yassin)
الحوار المتمدن-العدد: 8283 - 2025 / 3 / 16 - 22:51
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
على مدار وقت من الزمن ظللنا نقرأ، بين الحين والآخر، تعليقات تحتوى على اراء ناقدة لمؤلف "راس المال" لكارل ماركس من ناحية ان الكتاب ناقص حيث تم اعداه من قبل فريدريك انجلز بالاعتماد على كومة من الملاحظات (notes) والاقتباسات التي تركها الكاتب وراءه بعد رحيله؛ ونفس الشيء ينطبق على المجلد الرابع بعنوان ” نظريات فائض القيمة“ الذى حققه كارل كاوتسكي بعد رحيل انجلز (وقبل انقلاب كاوتسكي على الماركسية!).
وهذه التعليقات الجزافية (arbitrary)، التي لا تقول شيئا ملموسا، من وجهة نظر الاقتصاد السياسي، في عدم اكتمال (incompleteness) "راس المال"، تقوم، في نفس الوقت، بالإشادة ب "رأس المال" على انه عمل يحتوى على عبقرية لا مثيل لها، ألهم الاقتصاديين والمفكرين على مر الزمن. لكن كيف يكون ”راس المال“ المحقق من ملاحظات مبعثرة عملا عبقريا ملهما للناس!؟
وكذلك، لا ينسى أصحاب نظرية عدم اكتمال "راس المال" ناصحين الناس بان يبتعدوا عن ”الجمود“ ويجددوا الماركسية فإنها متجددة حتى في منابعها الأصيلة ولا يعتبروا "رأس المال" مؤلفا مقدسا، الخ. وهكذا، يكون اللجوء الى فزاعة خيال المآتة الخالدة والصراخ : (الجمود .... الجمود) في وجه كل من يتمسك باستقامة بالماركسية التي تُعرف اساسياتها النظرية بأنها نقدية وثورية. نقدية بمعنى النقد المادي الذى ينطلق من أن الواقع المادي كائن بشكل مستقل عن وعى الإنسان، وثورية لأن مهمتها هي الكشف عن تناقضات المجتمع التي يُمكِّن إدراك طبيعتها من تبصر اتجاه تطوره (المجتمع) استناداً على مبدأ أن الانساق الاجتماعية والنظم الاقتصادية تاريخية وهى بالتالي مرحلية وفى تغير متواصل، وهكذا، فان الماركسية تتطور على حسب المعارف المكتسبة في مجرى النشاط العملي ومن دراسة الواقع المادي استرشادا بالمفهوم المادي للتاريخ، وليس في ضوء التنظير الذاتي الاجوف والفارغ.
ان "رأس المال" يعد مؤلفا مكتملا فيما يتعلق باكتشاف وأثبات عمل القوانين الأساسية لعمل الرأسمالية: نظرية القيمة، نظرية الاستغلال، مشكلة التحول (transformation problem)، إعادة الإنتاج، انخفاض معدل الأرباح ودوران رأس المال. وقوانين حركة الرأسمالية تعمل بالاستقلال عن ارادة الانسان وليست قابلة للتغيير أو الازالة أو الاستبدال بأخرى اللهم الا اذا كان في المستطاع تبديل وإلغاء قانون الجاذبية او نظرية ميكانيكا الكم (quantum mechanics) في مجال العلوم الطبيعية. ان القوانين التي تحرك الإنتاج الرأسمالي لا تزول الا بزوال الرأسمالية.
إن كارل ماركس لم يترك وراءه ركام من التعليقات والملاحظات، بل ترك مسودات مخطوطات (draft manu-script-s) شملت جزئي ”راس المال“، الثاني والثالث، ونفس الشيء انطبق على " نظريات فائض القيمة". والشخص الذى قام بتحقيق " رأس المال" ليس شخصا آخر غير فريدرك انجلز الذى قام بإنجاز نقل مخطوطات ماركس الى حالات مطبوعة بدقة متناهية، ولا غرابة في هذا فقد كان انجلز يشارك ماركس أفكاره وفي بعض الأحيان مؤلفا مشاركا له (co-author). بالإضافة الى أن انجلز كان على اتصال متواصل مع ماركس متابعا بشكل لصيق لسير عمل ماركس في كتابة "راس المال". وبالنسبة لكتاب ” نظريات فائض القيمة“ الذى تولى اعداده كاوتسكي، فان مخطوطته قديمة كتبها ماركس في أوائل ستينات القرن التاسع عشر، وهى تتضمن تحليلا لأفكار الاقتصاديين الكلاسيكيين حول تنمية الثروة عبر تحقيق "فائض القيمة" في الاقتصادات الرأسمالية. ويشرح ماركس كيف فشل الاقتصاد الكلاسيكي في تقديم تحليل علمي لنظرية القيمة، التي ترجع لها تناقضات الرأسمالية، وبالتالي انتهت أفكاره لكى تصبح أفكارا مبتذلة ”vulgar“ عند الاقتصاديين أمثال جان بابتست ساي (Say) جون ستيوارت مل (Mill) الذين اعقبوا الاقتصاديين الكلاسيكيين الأوائل (سميث وريكاردو)، وتمثل الابتذال في عدم مقدرة هؤلاء الاقتصاديين تقديم نظرية متكاملة للرأسمالية واكتفوا بوضع نظريات تتسم بالحشو (tautologies) والوقوف عند المظاهر الخارجية للاقتصاد. يصف انجلز، الذى كان مطلعا على مسودة ” نظريات فائض القيمة“، في مقدمة مجلد ”راس المال“ الجزء الثاني، بانها ” تاريخ نقدي مفصل للب ونخاع الاقتصاد السياسي، ونظرية فائض القيمة وتتطور بالتوازي معه، في الجدل ضد أسلافه (يقصد الكلاسيكيين)، ثم التحقيق في معظم النقاط لاحقا بشكل منفصل في ارتباطها المنطقي مع ما في مخطوطات الكتابين الثاني والثالث.“ -إنجلز، مقدمة للثانية.
ولا يفوتنا التنويه على ان النسخ المتوفرة من أجزاء كتاب ”نظريات فائض القيمة“ توفر قراءة جيدة (good library read).
و ”راس المال“ يمثل أول درس في التاريخ لتطبيق المنهج الديالكتيكى المادي (قانون التناقض) في الدراسات الاقتصادية والسوسيولوجيا؛ فقد أثبت ماركس ان الاقتصاديين الكلاسيكيين بالاعتماد على المنطق الشكلي (formal logic) مالوا إلى النظر إلى عمل الاقتصاد بشكل غير تاريخي (ahistorical)، وان القوانين الاقتصادية قوانينا طبيعة. ومؤلفات ماركس الأربعة تشمل نقدا تفصيليا للمفاهيم الخاطئة للاقتصاد السياسي الكلاسيكي عن القيمة والنقود ورأس المال الخ.
ولتوضيح المنطق الديالكتيكى المستخدم في اعداد ”راس المال“ وأهمية فهمه لاستيعاب محتويات الكتاب، يرفع لينين السقف عاليا بمقولته الشهيرة ”من المستحيل أن نفهم تماما رأس المال لماركس، وخاصة فصله الأول، دون دراسة وفهم منطق هيجل بأكمله بشكل شامل. وبالتالي ، بعد نصف قرن لم يفهم أي من الماركسيين ماركس !!“ –(Lenin’s Philosophical Notebooks)
ان "راس المال" عبارة عن تحليل اقتصادي سياسي ضاف، وضعه ماركس في القرن التاسع عشر للنظام الرأسمالي الذى كان سائدا في بريطانيا آنذاك، وصل فيه، كما مر ذكره، الى اكتشاف قوانين عمل الرأسمالية
في ذلك الوقت. ومنذ ذلك التاريخ، فان الرأسمالية شهدت تحولا نوعيا صارت فيه تمثل منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى الآن أعلى مراحل تطورها بعد تحولها من نظام الحرية الاقتصادية (laissez faire) الى تمركز راس المال وظهور الرأسمالية الاحتكارية. لكن القوانين التي تعمل على تسيير نظام الإنتاج السلعي ”الرأسمالية“ لم يتغير جوهرها، وإن كانت قد اكتسبت اشكالا جديدة فيما يتعلق بفعاليتها واتساع نطاق عملها وفق ظروف التطور الجديدة المتمثلة في المقدرات التكنولوجية والصناعية الهائلة للرأسمالية الاحتكارية التي زادت من قدراتها في التوسع وبسط هيمنتها على العالم.
يمكن الإشارة في هذا الخصوص لكتابات العالم الاقتصادي سمير امين الذى قدم إضافة مقدرة بمحاولته تحديد القياس الكمي للقيمة (value) في البلدان المتخلفة وتبيان انها تعكس الاستغلال البشع لهذه البلدان من قبل الدول الامبريالية وسيطرتها على التجارة الخارجية وعلى المؤسسات المالية العالمية وبالتالي التحكم في التدفقات المالية، وغنى عن القول التفوق العسكري والتكنولوجي والصناعي لهذه الدول. فوفق سمير، فان قانون القيمة في الدول المتخلفة يعمل في بيئات راكدة، ضعيفة الإنتاجية مما يؤدى الى تقليل الأجور ووجود جيش ضخم من الاحتياطي من العاطلين عن العمل. وايراد الإشارة لسمير يتم من قبيل توضيح أن قوانين حركة الرأسمالية يتغير مدى عملها باختلاف خصائص المجتمعات المختلفة وبالتحولات التي تطرأ على طبيعة الرأسمالية نفسها؛ كما أن أعمال سمير الاقتصادية تبين أن المجال مفتوح لإعداد دراسات اقتصادية جادة وشاملة لعمل قانون القيمة في اقتصاديات البلدان المتخلفة.
------------------
وتجدرالإشارة، كنقطة عامة تتعلق بموضوع المقال، الى أن "راس المال" لم يشمل تحليلا لجانب الطلب. فاقتصاد ماركس لا يتضمن تحليلا مفصلا لطلب المستهلكين على السلع...... ولكن، يقول الاقتصادي موريشيما ” لا ينبغي أن ننسى أنه فقط من خلال تبسيط جانب اختيار المستهلك بشكل تام، كان (ماركس) قادرا على وضع قوانين ديناميكية محددة تتعلق بعمل نظامه النظري عبر الزمن....... يعتقد العديد من الاقتصاديين المعاصرين أن الحصول على نظرية يمكنها وصف الحركات الديناميكية للاقتصاد، أفضل كثيرا من الحصول على نظرية يمكنها توضيح سلوك المستهلكين (consumer behavior). هذا هو بالضبط الخيار الذي اتخذه ماركس“-
- Michio Morishima , “ Marx’s Economics- A dual theory of Value and growth” , Cambridge University Press,1973, P 41.
علاوة على ذلك، فيما يتعلق بموقف ماركس من "اقتصاديات الطلب"، يلقي الاقتباس التالي من أعماله الضوء على فكرته القائلة بأن نظرية الطلب يجب أن تتطور بشكل مستقل عن نظرية فائض القيمة :
”فائدة الشيء تجعله قيمة استعمالية. لكن هذه الفائدة ليست شيئا من الهواء. نظرا لكونها مقيدة بالخصائص الفيزيائية للسلعة ، فإنه ليس لها وجود بمعزل عن تلك السلعة. وبالتالي ، فإن السلعة ، مثل الحديد أو القمح أو الماس، بقدر ما هي شيء مادي ، فهي قيمة استعمالية، أو شيء مفيد. هذه الخاصية للسلعة مستقلة عن مقدار العمل المطلوب لخلق صفاتها المفيدة. عند معالجة قيمة الاستعمال، نفترض دائما أننا نتعامل مع كميات محددة ، مثل عشرات الساعات أو امتار من الكتان أو أطنان من الحديد. ان القيم الاستعمالية للسلع توفر المادة لدراسة خاصة تتعلق بالمعرفة التجارية للسلع.“- ماكس، (راس المال)، المجلد الأول، الفصل الأول، ص 36. وتجدر الإشارة إلى أن عبارة ” الدراسة الخاصة التي تتعلق بالمعرفة التجارية للسلع“ في هذا المقتطف تعنى بالضبط ما تتناوله نظريات سلوك المستهلك ( Theories of consumer’s behaviour).
ومرة أخرى، كما سبق ذكره، فان وضع نظرية تصف الحركة الديناميكية للاقتصاد هو أكثر فائدة من نظرية توضح تفضيلات المستهلكين التي تصلح في مجالات تجارية محددة. وأفكار الاقتصاد الكينزى تلقى توضيحا أكثر حول هذا الموضوع. فالاقتصادي الشهير جون مينارد كينز ( Keynes 1883-1946) قام بتأليف أعماله الاقتصادية بتجاهل تام لجانب العرض (supply)؛ وبالتركيز على الطلب، فان الكينزية لا تحتوي على نظرية في الاقتصاد اذ انها مجرد سياسيات اقتصادية (economic policies). والاقتصاد الكينزى دعا للتدخل الحكومي لتقوية الطلب (demand) عن طريق زيادة الاستهلاك عبر الصرف بالعجز (deficit spending)، وهي سياسات تدعو الى إنعاش الطلب وزيادة الإنفاق الحكومي وعدم المبالاة بالعجز في الميزانية. ان الكينزية لم تلعب الا دورا محدودا في التخفيف من حدة الازمة التي واجهها النظام الرأسمالي في ثلاثينيات القرن الماضي (الكساد العظيم).
#محمود_محمد_ياسين (هاشتاغ)
Mahmoud_Yassin#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟