أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - حمدي سيد محمد محمود - العلمانية الدينية: ازدواجية المفهوم بين الحداثة والتلاعب السياسي















المزيد.....


العلمانية الدينية: ازدواجية المفهوم بين الحداثة والتلاعب السياسي


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8283 - 2025 / 3 / 16 - 12:08
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


يُطرح مفهوم "العلمانية الدينية" كمحاولة لتقديم صيغة وسطية تجمع بين الدين والعلمانية، بحيث لا يُستبعد الدين من المجال العام، ولا يتم فرضه كمرجعية مطلقة على الدولة والمجتمع. إلا أن هذا المفهوم يثير جدلًا واسعًا نظرًا لطبيعته المركبة التي تجمع بين توجهين متناقضين في جوهرهما. فبينما تقوم العلمانية على مبدأ الفصل بين الدين والدولة، فإن الطرح الديني يسعى إلى حضور الدين في مختلف نواحي الحياة، بما فيها السياسة والتشريع.

من هنا، يمكن النظر إلى "العلمانية الدينية" بوصفها مفهومًا إشكاليًا يحمل في طياته تناقضًا جوهريًا يجعل تطبيقه في المجتمعات العربية محفوفًا بالتحديات. فهل يمكن تحقيق توازن حقيقي بين القيم العلمانية والدينية دون أن يتم استغلال هذا المفهوم كأداة سياسية؟ وهل هو مشروع حقيقي للإصلاح، أم مجرد خطاب انتقالي يُستخدم وفق المصالح السياسية القائمة؟

أولًا: نقد التناقضات الجوهرية في المفهوم

1. التوفيق القسري بين الدين والعلمانية

إن جوهر العلمانية، كما تطورت في التجربة الغربية، يقوم على فصل الدين عن السياسة، وتحييد السلطة الدينية عن الشأن العام. لكن الطرح الذي تقدمه "العلمانية الدينية" يحاول التوفيق بين هذا الفصل وبين الإبقاء على حضور الدين في المجال العام، وهو ما يؤدي إلى تضارب في المرجعيات الفكرية والقانونية.

فإذا كانت الدولة تلتزم بمبدأ المواطنة المتساوية بغض النظر عن الخلفيات الدينية، فكيف يمكنها في الوقت ذاته أن تستند إلى الشريعة أو القيم الدينية في تشريعاتها وسياساتها؟ هذا التناقض يظهر بوضوح في العديد من الدول العربية التي تبنت قوانين علمانية في بعض المجالات، مثل الاقتصاد والتجارة، لكنها أبقت على قوانين دينية في قضايا الأحوال الشخصية أو الحريات الفردية، مما أدى إلى ازدواجية قانونية وتناقضات في التشريعات.

2. الغموض الأيديولوجي والتوظيف السياسي

يُستخدم مفهوم العلمانية الدينية في كثير من الأحيان كخطاب سياسي مرن، يُوظَّف بحسب الحاجة. فبعض الأنظمة العربية التي ترفع شعار الحداثة والعلمانية، تعتمد على المؤسسات الدينية الرسمية لدعم شرعيتها وتبرير سياساتها. وهذا التناقض يجعل من "العلمانية الدينية" نموذجًا هجينًا غير مستقر، حيث يتم استخدام الدين متى ما كان يخدم السلطة، ويتم تبني القيم العلمانية متى ما كانت ضرورية لمواكبة التطورات الدولية والاقتصادية.

هذا الغموض الأيديولوجي لا يؤدي فقط إلى ضعف في بناء الدولة الحديثة، بل يُسهم أيضًا في خلق فجوات اجتماعية بين من يتبنون نموذجًا علمانيًا خالصًا، وبين من يرون أن هذا النموذج مجرد "علمنة مقنَّعة" تهدف إلى تفريغ الدين من محتواه الحقيقي. وبالتالي، فإن هذا الاضطراب الفكري يُنتج صراعات أيديولوجية داخل المجتمعات العربية، بدلًا من أن يكون حلًّا للإشكاليات القائمة.

ثانيًا: التداعيات السلبية على المجتمعات العربية

1. ازدواجية التشريع وتناقض المرجعيات القانونية

أحد أبرز الإشكالات الناتجة عن تطبيق نموذج "العلمانية الدينية" هو التناقض القانوني الذي تواجهه العديد من الدول العربية. فمن جهة، تحاول بعض الدول تبني مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، لكنها في الوقت ذاته تُبقي على قوانين مستمدة من الشريعة في بعض الجوانب، مثل قوانين الأحوال الشخصية وحرية التعبير.

وهذا يؤدي إلى حالات من التناقض القانوني، حيث يجد المواطن نفسه أمام نظام قانوني غير متجانس: فمن ناحية، هناك حقوق وحريات مضمونة نظريًا وفقًا للمعايير الدولية، ومن ناحية أخرى، هناك تقييدات دينية مفروضة تُحد من ممارسة هذه الحقوق. وهذه الازدواجية تجعل تحقيق العدالة والمساواة أمرًا معقدًا، حيث يتم تطبيق القوانين وفقًا للاجتهادات السياسية وليس وفقًا لمعايير واضحة وثابتة.

2. استغلال الدين لتعزيز السلطة بدلًا من تحرير المجتمع

إن أكبر إشكالية تواجه مفهوم "العلمانية الدينية" في العالم العربي هي أن السلطة السياسية غالبًا ما تستخدمه كوسيلة لتعزيز قبضتها على المجتمع، بدلًا من أن يكون وسيلة لتحرير الأفراد وضمان حقوقهم. فالعديد من الأنظمة التي تدّعي أنها تتبنى نموذجًا علمانيًا معتدلًا، تعمل في الواقع على التحكم بالمؤسسات الدينية، وتفرض تأويلات معينة للدين تخدم مصالحها السياسية.

وهذا يُنتج دينًا "مؤسساتيًا" خاضعًا للدولة، يتم استخدامه لشرعنة القوانين والسياسات، مما يفقده دوره كقوة اجتماعية مستقلة. وفي المقابل، يتم قمع الأصوات الدينية المستقلة التي لا تتماشى مع التوجهات الرسمية، مما يؤدي إلى احتكار التأويل الديني ومنع أي نقاش حقيقي حول علاقة الدين بالدولة.

3. تعزيز الاستقطاب الأيديولوجي داخل المجتمع

بدلًا من أن يكون مفهوم "العلمانية الدينية" جسرًا للحوار بين التيارات المختلفة، فإنه غالبًا ما يؤدي إلى مزيد من الاستقطاب. فبعض الفئات ترى فيه نموذجًا للتحرر التدريجي من الهيمنة الدينية، بينما ترى فيه فئات أخرى محاولة لتمييع الدين وإفراغه من جوهره.

وهذا الاستقطاب ينعكس في الصراعات السياسية والفكرية، حيث تنقسم المجتمعات بين تيارات تنادي بتطبيق علمانية صارمة تفصل الدين تمامًا عن الدولة، وبين تيارات ترى في أي محاولة للعلمنة خطرًا على الهوية الإسلامية. ونتيجة لهذا الاستقطاب، تصبح المجتمعات عاجزة عن إنتاج نموذج مستقر يمكنه استيعاب الجميع دون أن يؤدي إلى صراعات داخلية تهدد استقرارها.

ثالثًا: نحو نموذج أكثر وضوحًا وشفافية

إذا كان الهدف من "العلمانية الدينية" هو إيجاد صيغة وسطية تضمن حقوق الأفراد وتحترم المرجعيات الدينية، فمن الضروري أن يتم تطوير هذا المفهوم ليكون أكثر وضوحًا وشفافية. وهذا يتطلب:

1. وضع إطار قانوني واضح يحدد العلاقة بين الدين والدولة، بحيث لا يتم استغلال الدين لأغراض سياسية، وفي الوقت ذاته لا يتم تهميشه بطريقة تؤدي إلى صدام مع المجتمعات ذات الطابع الديني.

2. تحرير المؤسسات الدينية من التوظيف السياسي، بحيث تكون هذه المؤسسات مستقلة وقادرة على تقديم خطاب ديني يعكس التنوع الحقيقي داخل المجتمعات، بدلًا من أن تكون مجرد أدوات في يد السلطة.

3. تعزيز ثقافة المواطنة القائمة على الحقوق والواجبات بعيدًا عن التصنيفات الدينية، بحيث يتم بناء دولة تحترم الأفراد كمواطنين، وليس كأتباع لديانات أو طوائف معينة.

بين الإصلاح الحقيقي والتلاعب السياسي

إن مفهوم "العلمانية الدينية" يظل مفهومًا إشكاليًا يحمل تناقضات جوهرية تجعل تطبيقه في العالم العربي محفوفًا بالمخاطر. فبينما يمكن لهذا المفهوم أن يكون مدخلًا للإصلاح التدريجي، فإنه غالبًا ما يتم استغلاله لأغراض سياسية تخدم السلطة بدلًا من أن تخدم المجتمع. ومن هنا، فإن أي مشروع للإصلاح يجب أن يكون قائمًا على مبادئ واضحة وشفافة، بعيدًا عن التلاعب بالمصطلحات والخطابات التي لا تؤدي إلا إلى مزيد من التناقضات والصراعات الداخلية.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الجواهر الفردة: فلسفة الذرة في علم الكلام بين العقيدة والعقل
- فلسفة العقل: المفهوم، القضايا، والتأثير في الفكر الفلسفي الم ...
- تحليل الخطاب: تفكيك السلطة والمعرفة في اللغة وصناعة المعاني
- متاهات المعنى: جدلية العدمية والوجودية والعبثية في الفكر الف ...
- العلمانية العسكرية وتداعياتها على الواقع السياسي العربي
- التحرر من سجن العقل: فن إيقاف التفكير الزائد واستعادة صفاء ا ...
- جدلية الدين والسياسة عند المعتزلة: رؤية عقلانية لمفهوم الحكم
- ثورة المصانع المظلمة: كيف تبني الصين اقتصادا بلا عمال
- جملة التوحيد في الفكر الاعتزالي: المفهوم والأسس الفلسفية
- الماهية والوجود في الفلسفة الأوروبية الحديثة والمعاصرة: صراع ...
- الجيش والسياسية في العالم العربي: تاريخ الانقلابات العسكرية ...
- الذكاء الاصطناعي وإعادة تشكيل الهوية: نحو تصنيفات ما بعد بشر ...
- العلمانية السياسية: قراءة نقدية في المفهوم والممارسة
- آرثر شوبنهاور: الفيلسوف التشاؤمي وتأثيره الفلسفي العميق
- خطة مورغنثاو: محاولة خنق ألمانيا اقتصاديًا بعد سقوط النازية
- الفلك في ميزان الوحي والعلم: كشف أسرار الكون بين القرآن والا ...
- الاستبداد وصناعة العقول: كيف يُعيد الطغيان تشكيل الوعي الجمع ...
- صناعة الحقيقة: كيف يشكل الدين والسياسة والإعلام وعينا بالعال ...
- العلمانية الفلسفية: جدلية العقل والدين في تشكيل المجتمعات ال ...
- التفكير النقدي الإسلامي: بين ثوابت الدين وتحولات العصر


المزيد.....




- بعد تهديدات ترامب.. قائد الحرس الثوري: لا علاقة لنا بقرارات ...
- القوات الروسية تواصل تقدمها على كافة المحاور
- مقتل 51 شخصا في حريق شبّ بملهى ليلي في بلدة كوتشاني في جمهور ...
- احتمال وقف إطلاق النار في أوكرانيا: ماذا يريد كل طرف؟
- الولايات المتحدة.. ترحيل 300 مهاجر فينزويلي إلى السلفادور
- الدفاع الروسية تعلن حصيلة جديدة لسير العمليات في كورسك
- إسرائيل تواصل إغلاق معبر كرم أبو سالم لليوم الـ15 وتصعّد انت ...
- -حزب الله- يدين العدوان الأمريكي البريطاني على اليمن
- مجلة أمريكية: روسيا تفخر بمنظومة S-500 الصاروخية
- دراسة: الصحة النفسية للطلاب تؤثر على أدائهم الأكاديمي


المزيد.....

- المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية / ياسين الحاج صالح
- قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي / رائد قاسم
- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - حمدي سيد محمد محمود - العلمانية الدينية: ازدواجية المفهوم بين الحداثة والتلاعب السياسي