أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - نايف سلوم - في مفهوم الحضارة وتطوره















المزيد.....


في مفهوم الحضارة وتطوره


نايف سلوم
كاتب وباحث وناقد وطبيب سوري

(Nayf Saloom)


الحوار المتمدن-العدد: 8283 - 2025 / 3 / 16 - 04:48
المحور: المجتمع المدني
    


في اللغة العربية (حضر): تعني إيراد الشيء ووروده ومشاهدته، والحضر خلاف البدو وسكون الحضر الحِضارة (سكان الحضر: الحَضارة). هو إيراد بفعل فاعل وورد الشيء بنفسه كفاعل، وفي هذا الايراد والورود حضور ومشاهدة لمثال الشيء وشبهه.
حضر كإيراد، بمعنى استحضر الشيء (represent) كل إشارة أو رسم أو خط، أو تصوير أي كل تمثيل. فالتمثيل على خشبة المسرح هو إعادة استحضار للشخصيات التاريخية.
كل أثر تتركه الجماعة البشرية يكون استحضاره شيئاً من الحضارة. والحاضر تمثيل أي مضارعة. والحاضر: الحي العظيم (والحاضر حيّ في حماه)
مثل: يدل على مناظرة الشيء للشيء، وهذا مثل هذا أي نظيره، والمثل والمثال في معنى واحد. وربما قالوا المثيل الشبيه (وهذا أفضل). والمثَل: المِثْل أيضاً كشَبَه وشِبْه. والمثل المضروب من هذا لأنه يُذكر مورّى به عن مثله في المعنى. ومَثَلَ الرجل قائماً إذا انتصب والمعنى ذاك، لأنه كأنه مثال نُصب. وفي القرآن الكريم: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) [العنكبوت: 43]
شبه: يدل على تشابه الشيء وتشاكله لوناً ووصفاً، يقال شِبْه وشَبَه وشبيه.
والمضارعة: فهي التشابه بين الشيئين.
والحضيرة الجماعة ليست بالكبيرة
والمحاضرة المغالبة، وحاضرت الرجل جاثيته عند سلطان أو حاكم أي مثلنا معاً أمام سلطان
بدو: ظهور الشيء [(الظهور العلمي) قبل التجلي والتمثل والمثول)] وسمي خلاف الحضر من هذا أي لم يمثل بعد (ليس له مثال شاخص بعد) لأنهم في براز (برزة) من الأرض وليس في قرى تسترهم أبنيتها. والبادية خلاف الحاضرة.
وتقول بدا لي هذا الامر بداء أي تغير رأيي عما كان عليه.
والتحضّر مرتبط بالمدينة والدولة، أما القرية فهي الجماعة المستقرة التي ركبت رأسها ولم تقبل بالتعدد والتنوع
قرى: يدل على جمع واجتماع من ذلك القرية سمية قرية لاجتماع الناس فيها وجمع القرية قرىً. ومن الباب القرو: وهو كل شيء على طريقة واحدة، تقول: رأيت القوم على قرو واحد والقرو القصد.
ما قرأت هذه الناقة: ما حملت، ومنه القرآن لجمعه ما فيه من الاحكام والقصص وغير ذلك والقُرء وقت يكون للطهر مرة والحيض مرة، والأرجح أنها لا تكون إلا في الطهر والحمل بنسب واضح بغير سفاح. ويقال قرأت الريح: هبّت الرياح لقارئها: هبت لوقتها (قال له اقرأ). والقارئة هو الشاهد يقولون الناس قوارى الله تعالى في الأرض أي هم الشهود. أي أنهم يقرون الأشياء حتى يجمعوها علماً ثم يشهدون بها (أشهد أن لا إله إلا الله)، وحَدُّ كل شيء قاريته
وقد ذكرت القرية في القرآن كثيراً وفي أغلب الأحوال هي معاقبة لأنها ركبت رأسها على ما قاله الآباء. جاء في القرآن الكريم قوله:
(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا) [البقرة: 259]
(وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا ۖ وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) [الانعام: 123]
(وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ) [الأعراف: 4]
والقرية الوحيدة المستثناة من ذلك قرية يونس (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ) [يونس: 98]
يقول أنطون بلتيه تحت عنوان "فكرة الحضارة": "لا تزال كتابة التاريخ نحو 1750 (منتصف القرن الثامن عشر) في أوروبا محض تاريخ حوادث. صارت كتابة التاريخ تامة أكثر فأكثر، مصممة أكثر فأكثر على أن تقبض بآن واحد على تنوع ووحدة الصيرورة البشرية " أي ديالكتيك التميز والكونية العالمية. وهذه الحجة الجدلية مضادة لفكر الوضعيين في "نسبنة" (جعله نسبيا) المفهوم مفهوم الحضارة، حيث الوضعانية أو الوضعية هي التي كان لها أن تنجز عملية "نسبنة" المفهوم إلى درجة سحبت منه ليس فقط كل أثر لتقدم، بل معضلات الصيرورة التاريخية بالذات (أي جدل العام والخاص والتقدم والتراجع وتناقضاتهما)، وفي هذا الاختزال انفصل العام عن الخاص وتمزق ترابط العالم وانهدم مفهوم الهيمنة، فلم يعد ممكنا فهم العالم في ترابطه وفي هيمنة حضارة على الحضارات الأخرى في عصر من العصور.
إن كونية المجتمعات البشرية على تنوعها يعني بالضبط أن هناك قانون كوني يحكم حركة هذه المجتمعات في تطورها التاريخي وهذه الفكرة أدخلها في التاريخ الأوروبي مونتسكيو، و "مونتسكيو كما هو معلوم ، يدخل فكرة القانون في دراسة المجتمعات" يكتب في كتابه "روح القوانين" الكتاب 19 الفصل 4 "ما هو الروح العام" : "عدة أمور تحكم البشر: المناخ ، الدين، القوانين، حكم الحِكم ، أمثلة الأشياء الماضية، الاخلاق العامة ، الآداب، من هنا يتشكل روح عام ينتج عنها " وهذا الروح العام -الخاص هو ما عبر عنه فولتير بتاريخ البشر بقوله : "لا أرى سوى تواريخ ملوك ، أريد تاريخ البشر" (المحاولة عن أخلاق وروح الامم)
أما ماركس فلم يرضه هذا الوصف السوسيولوجي للمجتمعات بل تحدث عن القانون التاريخي الذي يحكمها ويحكم تطورها وهو نمط الإنتاج الاجتماعي. ومع ذلك شرح ماركس التنوع ضمن الوحدة وبين أن درجة تطور بريطانيا هي غيرها درجة تطور ألمانيا.
يكتب ماركس في الأيديولوجية الألمانية: "يمكن تمييز البشر عن الحيوانات بالوعي والدين، وكل ما يحلو لنا، وإنهم ليبدأون بتمييز أنفسهم من الحيوانات حالما يباشرون في انتاج وسائل وجودهم، وهذه خطوة تشترطها بنيتهم الجسدية. فعندما ينتج البشر وسائل وجودهم، فإنهم ينتجون بصورة غير مباشرة حياتهم المادية بالذات. إن الطريقة التي ينتج بها البشر وسائل وجودهم تتوقف قبل كل شيء على طبيعة وسائل الوجود التي يجدونها جاهزة والتي يجب عليهم تجديد انتاجها. ولا يجب اعتبار هذا النمط في الإنتاج من وجهة النظر هذه وحدها، ألا وهي أنه تجديد لإنتاج وجود الافراد الجسدي. إنه يمثل على العكس من ذلك نمطاً محدداً لفعالية هؤلاء الافراد ونمطاً محدداً للتعبير عن حياتهم ونمطاً محدداً للحياة. وكما يعبر الافراد عن حياتهم كذلك يكونون بالضبط، بحيث تتطابق ماهيتهم مع انتاجهم، سواء مع ما ينتجونه أو مع الطريقة التي ينتجون بها " (الأيديولوجية: 32-33)
بشروعه في هذا التاريخ للبشر بدلاً من تاريخ الملوك، بتركه عالم المعارك لصالح عالم الشغل والثانوي لصالح الجوهري، كان فولتير يخترع إن لم يكن كلمة حضارة، مدنية civilization، فعلى الأقل مجتمعات مدنية تاريخية-حضارات
لإنضاج المفهوم والانتقال من المفرد (الحضارة) إلى الجمع (الحضارات) لزم ما يقرب من قرنين، فقد تم اختراع الحضارة، المدنية في القرن السادس عشر، كان للغة الفرنسية الصفة civilisé "متمدّن"، "متحضّر" بمعنى poli مهذب، مصقول. وهنا نقترب من الفعل ثقف ومن مفهوم الثقافة في العربية (التثقيف، التهذيب)
يقول الحسين بن حمدان الخُصيبي في الديوان:
لا تشرب الراح إلا مع أخِ ثقةٍ مهذبٍ (مثقف) عارفٍ بالعين والميم
تزداد نوراً وتأديباً ومعرفة بسرِّ سرٍ في وحي الحواميم
والحواميم أو ذواتُ "حم"، يقصد بها سور القرآن التي تبتدأ بلفظ حم، وعددها 7 سور مكّية وهي سورة غافر، سورة فصلت، سورة الشورى، سورة الزخرف، سورة الدّخان، سورة الجاثية، سورة الأحقاف. وهي السبع الحواميم وأرقامها:40،41،42،43،44،45،46، على التتابع (4،5،6،7،8،9،10) والمجموع 49=13 =4
وسورة غافر رقمها 40 (4) وعدد سورها 85 (13=4)، وعدد كلماتها (1228) (13 =4) حيث تبدأ: (حمٓ (1) تَنزِيلُ ٱلۡكِتَٰبِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡعَلِيمِ (2))
وفي مقاييس اللغة لابن فارس: (ثقف): إقامة درء الشيء، ويقال ثقّفت القناة إذا أقمت عوجها، ورجل ثقفٌ لقفٌ، وذلك أن يصيب علم ما يسمعه على استواء. ويقال ثقفت به إذا ظفرت به.
وثقف الشخص: صار حاذقاً فطناً، وثقف الشيء أقام المعوج منه وسوّاه. وثقف الرجل صادفه وظفر به وفي القرآن (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) [البقرة: 191]
ثقف الانسان أدبه وعلمه وهذبه، وثقف الاخلاق أصلح السلوك والآداب.
في القرن السابع عشر ظهر الفعل "مدّن"، "هذّب" بمعنى policer هنا يدخل مفهوم المدينة –الدولة أو المدينة في الدولة، "هذا يعني أن الصفة متمدّن والفعل "مدّن" مزودين بهذين المرادفين ومؤسسين على نفس الأصل الاشتقاقي وإياهما: polis (المدينة-الدولة) اليونانية، وcivitas اللاتينية والتي تعني مدينة [مجتمع مدني] أي تم استدعاء واحدة من العصر القديم اليوناني وأخرى من العصر الوسيط اللاتيني. تبقى المدينة مركزه، ووراء العالم السياسي (politique) تبدأ البربرية، إلا إذا كانت تبدأ منذ أبواب المدينة، مع شعب فلاحي البلاد الممتدة، عند مشارف الغابة التي خرجت منها اشتقاقاً كلمة الوحشية. من silva اللاتينية والتي تعني غابة. المدينة خلق إنساني جديد يحرر الانسان، يخرجه من الطبيعة، ويقيم نظاماً جديداً فيه الفرد يخضع نفسه للجماعة (الدولة) والغريزة للعقل. المدينة-الدولة هي التي تشكل الانسان على سبيل الامتياز وهو la citoyen المديني المواطن بمحافظته على نظامها ومراعاته لقوانينها، قد تربى وتنفس هواءها فصار حراً، ولأنه يعيش فيها ها هو مهذّب، ممدّن. جاء في سورة التوبة: (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ) [التوبة: 120]
"هاجر النبي إلى يثرب فتغير الموقف تغيراً جذرياً، وقدم النبي المدينة مهاجرة من مكة والناس أخلاط مسلمون ومشركون ويهود ومنافقون" (أنظر: رضوان السيد: مفاهيم الجماعات في الاسلام) كانت الجماعات في قلب الامة الإسلامية التي تحولت إلى دولة بيثرب (متعددة)، مع هذا التحول في الجماعة الإسلامية من الامة إلى الدولة جرى تحول القرية يثرب إلى المدينة المنورة عاصمة الدولة الجديدة.
وكنا قد ذكرنا أن القرية هالكة في أصل اشتقاقها
قرى: يدل على جمع واجتماع من ذلك القرية سمية قرية لاجتماع الناس فيها وجمع القرية قرىً. ومن الباب القرو: وهو كل شيء على طريقة واحدة، تقول: رأيت القوم على قرو واحد والقرو القصد.
في المدينة -الدولة الناس أخلاط كما هو حال يثرب مع تحولها من قرية إلى المدينة المنورة عاصمة الدولة الإسلامية الجديدة. لدينا هنا أحادية القرية وتعددية المدينة.
المدينة الوسطوية تنحل ويتم امتصاصها في دول أوسع وأقوى، نشهد واقع انحلال المدينية-المواطنية منذ نهاية عصر النهضة إلى ضرب من الآداب، حيث قاموس فورتيير (1690) يمدّن إنسانه-رجله بالتماس لا مع قوانين المدينة بل مع محادثة السيدات. هكذا يتم افقار وتنعيم فكرة التهذيب، ومع ذلك لا تفقد أصولها، تبقى واقعاً مجتمعياً بشكل بارز، تبقى نتاج جماعة بشرية منظمة في دولة، ممتازة مادياً وثقافياً، قيمة يجدر تلقينها لجميع الذين يجهلونها سواء في المجتمع المحلي أو في المجتمعات غير الأوروبية. هنا نلاحظ هيمنة قيم الحضارة الأوروبية ومحاولة فرضها على الشعوب الأخرى كقيمة عالمية كونية تصلح لجميع البشر.
هذا التوسيع للمفهوم من اشتماله للمدينة الأوروبية في مقابل ما حولها إلى أوروبا كلها مقابل الأمم الأخرى هو الذي سيرثه فولتير، في عالم يدرك فولتير تحولاته الكبيرة، حيث يجد مفهوم التهذيب نفسه مغنى محولاً، ثم متجاوزاً لدرجة يجب أن يخلي مكانه لكلمة جديدة أكثر اتساعاً في دلالتها. لم تعد المسألة هي المدينة، بل قارة أوروبا بأسرها، باتت في مجابهة على نحو واسع مع قارات أخرى وبالعالم أجمع. بات الادراك يشمل وحدة الأرض والكرة الأرضية، والتاريخ البشري مادة فتح وبعدُ صيرورة. وقد يكون هذا الأفق تمهيد للفتوحات الاستعمارية لنابليون نهاية القرن الثامن عشر، وفكرة تهذيب وتمدين الشعوب الأخرى في آسيا وأمريكا اللاتينية وشمال أفريقيا وحتى في روسيا المتأخرة.
هكذا يصير التهذيب عند فولتير أكثر بكثير من تلك الآداب المدينية التي كان بها يعرفه فورتيير، حيث بات يشمل عدا عن الاخلاق والعادات والقوانين، الفنون والعلوم والفلسفة، لم يعد صفة فطرية للأفراد بل الحاصل الشاق والملموس (التاريخي) لجمهرة من جهود جماعية. إن التهذيب المفهوم على هذا النحو أصبح له لأول مرة تاريخ.
يعلن فولتير صاحب "المحاولة عن أخلاق وروح الامم" بفعل عصر الانوار أن أقطارنا (الاوروبية) معه تضاء أخيراً بـ "ومضة تهذيب"، ويقدم كشاهد اتهام وعلى نطاق واسع ضد رذائل روما الامبريالية، وضد آثام المسيحية الكاثوليكية وإجرام محاكم التفتيش. هذه النماذج الأولى للتنظيم الاجتماعي لا تخطئ، بل تثبت بالعكس الأولوية الخارقة التي انتزعتها أوروبا الانوار على باقي العالم، وعلى حسابه إلى حد كبير. يأخذ فولتير الامر على عاتقه بشكل دوغمائي اعتقادي غير جدلي بالعكس من روسو الذي يشير إلى التناقضات الكامنة في مفهوم التقدم الأوروبي. بينما فولتير وأنصاره يعتمدون على دوغما العقل لتطهير مفهوم التقدم من تناقضاته الصارخة.
أوروبا الانوار تطالب هكذا عند فولتير، على قاعدة أولويتها بالذات، بمهمّة محددة: نشر أنوارها، تقدمها، في أرجاء العالم. ممهدة بذلك لفكرة "إمبريالية التقدم" وهذه أول نكسة تصيب "التهذيب والأخلاق الاوروبية" حيث تنكس هذه الاخلاق باتجاه رذائل روما الامبريالية التي جاءت أصلا بحجة مناهضتها. هكذا كلمة "تهذيب" civility مدفوعة بضيقها غادرت المسرح وتركته لكلمة أخرى أكثر اتساعاً هي كلمة "حضارة، مدنية" civilization , civilization . هذه الوحدة الجامعة التي فيها يجب أن تجد البشرية كافة تاريخها واستحقاقها. أول من استخدمها في منتصف القرن الثامن عشر في فرنسا كل من تورغو وميرابو وبعد سنوات قليلة في إنكلترة كان الدكتور جونسون يقتنع بناء على أراء صديقه بوزويل بوضع كلمة civilization في قاموسه.
لكن فرحة أنصار المولود المفهومي الجديد لم تطل ففي نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر تبدل المشهد، حيث ظهر نقد شديد لمفهوم عصر الأنوار هذا على يد المدرسة التاريخية الألمانية (هردر، برك). فقد وضعا موضع سؤال وطعن المسلمات التي كان يفترضها هذا التصور. وملخص رأي هذه المدرسة التاريخية: "المدنية كما كان يعرفها قرن الانوار تظهر بمثابة مطلق عقلي صالح لكل الأزمنة وكل البلدان، نمط الوجود المناسب الذي يجب على البشرية كافة أن تنضم اليه بشكل متساو، نمط الوجود الفعلي لشعب، تنظيمه الواقعي الفعلي ما كان لهما من معنى إلا بالقدر الذي فيه يظهران ومضة ما من عقل. هذه مجردات لا شأن للمدرسة التاريخية بها، في نظرها إن كل مجتمع هو واقع عضوي يجب تعريفه وتفسيره لا بالرجوع إلى معايير مجردة بل بترتيب داخلي وقواعد نوعية " ولا يخفى على القارئ الحصيف رؤية خطر الانزلاق نحو النزعة التجريبية في هذا الفهم الذي جاءت به المدرسة التاريخية الألمانية، حيث اندفعت الوضعية الفلسفية بهذا الانزلاق نحو نزعة تجريبية نسبوية تلغي بوضعيتها وعدائها لديالكتيك كل معيار عالمي لقياس تقدم المجتمعات. نعم إن الوضعية positivism هي التي كان لها أن تنجز عملية نسبنة المفهوم، إلى درجة صفت معها ليس فقط كل أثر لتقدم، بل معضلات الصيرورة التاريخية (تناقضاتها) بالذات. بالنسبة لـ ليتره لم تعد حضارة من الحضارات سوى "مجموع السمات المميزة لمجتمع ما، في إقليم ما في لحظة من تاريخه". سماته السوسيولوجية فحسب!
ومع ذلك فقد تسببت هذه النسبوية في زعزعة دوغما المفهوم ومركزيته الاوروبية، مفهوم الحضارة أو المدنية. فبعد أن كان حتى أواخر القرن الثامن عشر ذا قيمة فلسفية مطلقة، راح يتجه مع بداية القرن التاسع عشر إلى أن يصير واقعاً تاريخياً وسوسيولوجياً عيانياً ومتنوعاً، أي بتنا نجد تمايزات شديدة ضمن كونيته وعالميته، لم يعد ثمّة حضارة، بل حضارات.
يقول أنطوان بلتيه: على قاعدة هذا التعريف وعلى تعاريف مشابهة استولت مفاهيم الحضارة وتاريخ الحضارات منذ بضع سنوات (منتصف القرن العشرين) على موقع مهيمن في كتابتنا التاريخ وحتى في تعليمنا المدرسي.
ولأول مرة لم يعد العالم متصوراً بمقاييس أوروبا وحدها ولا بأبعاد الحضارة الأوروبية وحدها كما كانت الحال لأمد طويل.



#نايف_سلوم (هاشتاغ)       Nayf_Saloom#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مثلث هنري كيسنجر
- العلمانية، الديمقراطية، المواطنة
- مشروع الممر الاقتصادي الهندي-الأميركي
- الدولة السورية الحديثة: تواريخ ومحطات-2
- سوريا الحديثة: ثلاثة عهود
- الدولة السورية الحديثة تواريخ ومحطات-1
- -الأسرة المقدسة- تحقيقات وتعليقات- ترجمة مميزة رقم 3
- -فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-1
- -فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
- الجباعي* يحْطِم ماركس
- ملاحظات انتقادية لأقوال علي القادري-2
- ملاحظات انتقادية لأقوال علي القادري -1
- المحاولات الأميركية المُتكررة لبناء -شرق أوسط جديد-
- -الأسرة المقدسة- تحقيقات وتعليقات - ترجمة مميزة رقم 3
- رسالة في -رَسْمِ العقل- وأقوال
- استهلال -الماديّة ومذهب نقد التجربة--4
- استهلال -الماديّة ومذهب نقد التجربة--3
- استهلال -الماديّة ومذهب نقد التجربة--2
- استهلال -الماديّة ومذهب نقد التجربة--1
- نقد -أطروحات من أجل إصلاح الفلسفة-


المزيد.....




- الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان في غزة: الحصار يفاقم الكارثة ا ...
- بحثا عن أبنائها.. عائلات معتقلين في عهد الأسد تتظاهر في درعا ...
- أخبار الأسرى: تحذير من اننشار فيروس خطير وارتفاع عدد الأسيرا ...
- رايتس ووتش تدعو لتحقيق عاجل بشأن -مذبحة- في بوركينافاسو
- تحقيق يكشف تعذيب عاملات المنازل في السعودية و الجزائر تطالب ...
- معوقات نجاح المرحلة الانتقالية للإدارة السورية الجديدة
- استمرار تصاعد عمليات القمع بحق الأسرى الفلسطينيين في سجون ال ...
- استمرار تصاعد عمليات القمع بحق الأسرى في سجون الاحتلال
- الشرطة الإسرائيلية تعلن اعتقال صحفية نشرت فيديو للسنوار
- عدوان الاحتلال على الضفة يتواصل.. إصابات وإجبار على النزوح و ...


المزيد.....

- أسئلة خيارات متعددة في الاستراتيجية / محمد عبد الكريم يوسف
- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - نايف سلوم - في مفهوم الحضارة وتطوره