محمد علي محيي الدين
كاتب وباحث
الحوار المتمدن-العدد: 8282 - 2025 / 3 / 15 - 23:51
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
مدينة الحلة، إحدى المدن العراقية التاريخية العريقة، وتعتبر مركزًا حضاريًا وثقافيًا هامًا منذ العصور الإسلامية، وهذه المدينة التي ارتبطت بعدد من الشخصيات والأحداث التاريخية المهمة، وكان لها دور كبير في تطور الثقافة العراقية بشكل عام، وخاصة في مجال الأدب القصصي.
وتتمتع مدينة الحلة بتاريخ طويل وثري، فقد كانت في العصور الإسلامية مركزًا علميًا وثقافيًا هائلًا. هذه المدينة كانت تضم العديد من العلماء والشعراء والمفكرين الذين تركوا بصماتهم في الأدب العربي والعالمي. ومن أبرز المعالم التي تُعَرّف المدينة هي المعالم الدينية والعلمية، قد كانت مركزاً للحوزة العلمية لأربعة قرون ونيف، وأصبحت مركزاً للدراسات الاسلامية، وكانت ملتقى العلماء من مختلف أنحاء العالم الإسلامي للدراسة والتدريس.
كما أنها كانت في فترة من الفترات مركزًا للعديد من الحرف والصناعات اليدوية، ما ساعد على خلق بيئة خصبة للثقافة والفنون. تجسدت هذه البيئة الثقافية في العديد من الأعمال الأدبية التي انتشرت في المدينة.
وتعد الحلة من المدن التي كان لها دور كبير في تطور الأدب القصصي العراقي. يعود الفضل في ذلك إلى التنوع الثقافي الذي شهدته المدينة طوال تاريخها. هذا التنوع ساعد على تشكيل نمط أدبي خاص تميز بالعمق الاجتماعي والإنساني، وهو ما انعكس في النتاج القصصي العراقي بشكل عام.
لقد تأثر العديد من الكتاب في الحلة بالأحداث السياسية والاجتماعية التي شهدتها المدينة، ما دفعهم إلى استخدام القصة كأداة للتعبير عن معاناة الإنسان العراقي. ومن خلال القصص القصيرة والروايات الطويلة، استطاع الأدباء في الحلة توظيف الأدب كوسيلة للتوثيق الاجتماعي والسياسي، والتعبير عن القضايا الإنسانية.
وقد أصدرت دار بابل للثقافات والفنون والاعلام، عدد من الكتب والمطبوعات التي تعنى بكافة فروع المعرفة في الشعر والمسرح والقصة والرواية والدراسات الأدبية والتراثية منها (ديوان القصة، أنطولوجيا القصة البابلية) للدكتور سعد الحداد، الكاتب والمحقق والأديب الذي أغنى المكتبة العربية بعشرات الكتب، التي توزعت بين الحداثة والتراث والتحقيق والبيلوغرافيا والدراسات الأدبية، وهذا الرجل نذر نفسه لنشر تراث الحلة، واحياء موروثها، من خلال دراساته الجادة، وأبحاثه المفيدة، التي منها هذا الكتاب الذي تناول فيه القصة البابلية وكتابها والمبدعين فيها، موثقاً وراصداً لمسارات متعددة في التجربة القصصية لكتاب بابل، وكم كان جميلاً لو قيد المؤلف نفسه بالترتيب الزمني لكتاب القصة مبتدأ بأنور شاؤول، منتهياً بآخر من كتب القصة ، لنتلمس الأثر الزمني والرؤية الفنية لبدايات القصة البابلية ونهاياتها، ولعل العجالة دفعت المؤلف للابتعاد عن ابداء الرأي في القصة وكاتبها، مكتفياً بإيراد نماذج منها، مع تعريف موجز بكل منهم.
ومن أبرز من تطرق لهم برائد القصة البابلية الأديب الشاعر أنور شاؤول، الذي يُعدّ من أبرز كتّاب القصة القصيرة في الحلة التي ولد فيها عام 1904 واهتم بالقضايا الاجتماعية والإنسانية في أعماله الأدبية، واشتهر بكتاباته التي تعكس معاناة الشعب العراقي، خاصة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ونشر نتاجه القصصي عام 1924. ويعد "ثاني أثنين مهدا لكتابة القصة وعدا رائدين الاول محمود احمد السيد"، وقد استخدم في قصصه الرمزية والأسلوب الواقعي، ما جعله واحدًا من الرواد في الأدب القصصي العراقي.
تلاه في هذه المسيرة القاص شاكر خصباك الذي برز بنتاجه ابان الحرب العالمية الثانية، وهو من أكثر الأدباء الذين استطاعوا أن يخلدوا الحياة اليومية في الحلة عبر أدب قصصي قريب من الواقع. كما كان من المتابعين الجيدين للتحولات السياسية والاجتماعية في العراق، وقد شكلت هذه التحولات مادة خصبة لأعماله الأدبية.
ومن رواد القصة البابلية القاص محمد رشيد الجنابي الضابط الكبير في الجيش العراقي، الذي فوجئت بكونه قاصاً، له نتاجه المنشور في صحيفة الهاتف النجفية التي يصدرها الرائد القصصي جعفر الخليلي سمة 1937.
ومن الأسماء البارزة في كتابة القصة، الأديب حامد الهيتي الذي كتب العديد من القصص والروايات التي تتناول قضايا الحياة الاجتماعية والسياسية في العراق، واشتهر بأسلوبه السردي المتميز الذي يمزج بين الواقعية والرمزية، ويستعرض الأحداث السياسية التي أثرت على المجتمع العراقي .
والقاص عائد خصباك الذي ولد عام 1945 في الحلة ونشر عشرات القصص في الصحف والمجلات العراقية وأصدر عدد من المجاميع القصصية والروايات، ويعد في مقدمة كتاب القصة في العراق، وزخرت قصصه بالأماكن والشخصيات الهامشية التي مثلت جانباً مهما من المجتمع العراقي لما توفرت فيها من خصال لافتة، اتسمت بالعفوية والطيبة والبساطة، وشكلت نماذج حرية بالتسجيل، لما فيها من خصال تعكس طبيعة المجتمع وحياته البسيطة.
أما القاص والناقد عباس عبد جاسم فهو يشكل نموذجاً في القص العراقي، فهو من العارفين بأصول القص والرواية بوصفه ناقداً يعرف مواطن القبح والجمال، ويركن الى المرتكزات الحقيقية التي على القاص الاعتماد عليها في تشكيل مسارات روايته، فهو خبير في مسالك الفن، عارفاً ببواطنه، دارساً لأصوله، ملماً بما يوصله الى الذروة الفنية.
أما القاص فائق الخليلي الذي ولد عام 1947 فقد أصدر كم كبير من القصص والروايات التي تناولت مختلف المواضيع الاجتماعية والسياسية، واتسمت قصصه بالواقعية وسلاسة الأسلوب، والغوص في أعماق النفس ، ومحاولة استجلاء الجوانب المختلفة في شخوص قصصه، بما خاض من تجارب في حياته المليئة بمختلف الأحداث التي تستحق التسجيل.
ومن الأسماء النسائية البارزة في الأدب القصصي في الحلة. الاعلامية والكاتبة منى سعيد الطاهر، التي تميزت كتاباتها بتناول قضايا المرأة والحرية الشخصية، بالإضافة إلى الاهتمام بالقضايا الاجتماعية الكبرى. كتبت العديد من القصص التي تناولت الصراعات النفسية للإنسان العراقي، وكانت لها بصمة واضحة في الأدب النسائي العراقي.
والكتاب تناول أكثر من ستين قاصاً وروائياً تباينت أعمارهم ، واختلفت مستوياتهم، وتنوعت اهتماماتهم، ولكنهم أسهموا في الفن القصصي مضافاً لاهتماماتهم في الفنون الأدبية الأخرى، وأشار لتسعة نساء أسهمن في كتابة القصة، وهذا العدد قياساً لأعداد النساء في المحافظات الأخرى أعطى صورة جلية لطبيعة المجتمع الحلي، وأثره في المسيرة الأدبية في العراق، وتميزه عن المجتمعات الأخرى في الانفتاح على الآخر، ولا غروا في ذلك فالحلة تعد من البيئات الغنية بالألوان الثقافية التي ألهمت العديد من الكتاب ليصوغو أعمالًا أدبية تتنوع بين القصص القصيرة والروايات. وعادة ما يجد الأدباء في الحلة بيئة خصبة لتناول قضايا مثل الصراع الطبقي، والحروب، والظلم الاجتماعي، والسياسة.
كما أن الطبيعة الجغرافية للمدينة، بما فيها من تلال وأودية ونهر الفرات، كانت مصدر إلهام لعديد من الكتاب في تصوير مشاهدهم الأدبية، فالمناظر الطبيعية والتاريخية في الحلة شكلت مكانًا خصبًا للأدب القصصي الذي غالبًا ما يعكس هذه الصورة الطبيعية في خلفياته.
وبذلك يمكننا القول إن مدينة الحلة كان لها دور مهم في تشكيل النتاج القصصي في العراق، فهي ليست مجرد مدينة عابرة في التاريخ، بل كانت مصدر إلهام لأجيال من الأدباء والكتاب. هؤلاء الكتاب لم يكونوا فقط أصحاب قامات أدبية، بل كانوا بمثابة مرآة تعكس الواقع الاجتماعي والسياسي في العراق من خلال أعمالهم الأدبية. ومن خلال سرد القصص، تمكن هؤلاء الكتاب من نقل هموم وآمال الشعب العراقي، وتوثيق الأحداث التاريخية بأسلوب أدبي رفيع.
وسوف تستمر الحلة في إلهام الأدباء العراقيين الجدد، ليظل اسمها مرتبطًا بإنتاج الأدب القصصي المميز، الذي يعكس الحياة اليومية، معاناتها، وأملها في عراق أفضل.
#محمد_علي_محيي_الدين (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟