|
جوزيف كونراد في البَرّ اللاتينيّ
سعدي يوسف
الحوار المتمدن-العدد: 1797 - 2007 / 1 / 16 - 13:22
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يعود اهتمامي بجوزيف كونراد ، المولود في العام 1857 بأوكرانيا القيصرية من أبوين بولنديين ، والمتوفّى بقرية بيشوبسبورن من مقاطعة " كَنتْ " بشرقيّ المملكة المتحدة ، في العام 1924 ، أقول يعود اهتمامي بالرجل إلى عقودٍ خلتْ ، قرأتُ فيها مُعظمَ ما كتبه ، وقرأتُ أيضاً الكثيرَ ممّا كُتِبَ عنه ، ومن بين هذا الكثيرِ كتاب الراحل قريباً ، كيفن يونغ ، الموسوم " بحثاً عن جوزيف كونراد " الذي يتابع فيه مسار البحّار والمؤلف ، مبتدئاً بكورنوال التي هبطَها يونغ في مقتبَل حياته ، بَحّاراً ، حتى قرية بيشوبسبورن التي قضى فيها أعوامه الأخيرةَ ، وقضى فيها أيضاً ، ليُدفَن في كانتربري ، إذ ليس في هذه القرية ، حتى اليوم ، مقبرةٌ للكاثوليك ، وإن احتفظت القريةُ هذه بقاعةٍ للاجتماعات أطلقتْ عليها اسم جوزيف كونراد . لا أقول إنني تتبّعتُ ، على البرّ واليابسة ، رحلةَ كونراد كما تتبّعها كيفن يونغ ، لكنني ذهبتُ ، في الأقل إلى البداية حيث كورنوال ، وإلى النهاية حيث بيشوبسبورن والبيت الذي كان لكونراد مسكناً ، بيت الكلاب الشرسة التي تمنع حتى الإطلالةَ إن طالت للتأمُّل ! * جوزيف كونراد ، البحّار ، يكتب عن البحر ، وبخاصة عن منطقة الأرخبيلات في سنغافورة والملايو وإندونيسيا ، حيث قيل إنه اشتغل ، فترةً ، في تهريب البنادق ، شأنه شأن رامبو في الحبشة ، أيام منيليك الثاني ! عملَ أيضاً على خطٍّ بحريّ بين مرسيليا وجزر الهند الغربية ، كما وصل إلى الكونغو البلجيكية ، مكان روايته القصيرة الخطيرة " قلب الظلام " ، التي تجلّت في فيلم كوبولا الشهير " القيامة الآن " ، في مقارَبةٍ بين نهر الكونغو ونهر الميكونغ * روايات كونراد كلّها ، ذواتُ أجواء بحرية ، طافحة بالمغامرة ، والخطر ، أجواء يضطربُ في رياحها وأمواجها مغامرون وأفّاقون قدِموا من أوربا طمعاً في المال والأرض؛ هؤلاء الأفّاقون تدهمهم الخيبة بعد الخيبة ، لكنهم يواصلون رحلة اللاعودة ، الجشعة ، غير المبالية ، حتى النهاية ، النهايةِ المأساةِ في أحيانٍ كثيرةٍ . في الرواية البحرية ، لدى كونراد ، لا تطلّ السياسةُ إلاّ لـمحاً ، حتى ليبدو الرجل غير مَعنيٍّ بالسياسة إطلاقاً ، لكنه لا يحجب الأمر السياسيّ إنْ أطلَّ ، ولم يُطِلْ . الرواية التي أنا بصددها ، " نوسترومو " ، روايةٌ برّيّـة ، أي ليست بحريةً ، شأن رواياته الأخرى . وهي لا تدور في منطقة الأرخبيلات الأثيرة ، بل في أميركا اللاتينية ، على الساحل الغربي منها ، السلفادور ، أو كوستاريكا ، أو نيكاراغوا . هو يكنّي عن الدولة باسم " كوستاغوانا " ، أمّا نوسترومو فهو مغامرٌ إيطاليّ اسمه الحقيقيّ جيوفاني باتيستا . Nostromo " نوسترومو " قد تعني في مقاربة الأصل اللاتيني : رَجُلـنا ، وهو لقبٌ حظيَ به جيوفاني باتيستا ، بسببٍ من الخدمات الـجُلّـى ، الخطرة ، التي كان يقوم بها للناس والمتنفذين في بلدة سولاكو ، المرفأ الهامّ ، وموقع منجم الفضة . الرواية صدرت في العام 1904 ، وطبِعتْ مراراً . في العام 1917 ، كتب كونراد مقدمةً للرواية ، تطرّقَ فيها إلى نوسترومو باعتباره " ابن الشعب " ، الرجل الذي يحْضر اجتماعات الفوضويين ، وينصت إلى خُطَبهم ، وهم يحلمون بثوراتٍ آتيةٍ لا ريبَ فيها . ربما كان ذلك إفصاحاً متأخراً لكونراد عن مَجاذبَ مكنونةٍ ، لكن هذا واضحٌ بجلاءٍ في بِنيةِ الرواية وعُقدتها الأساس ، إذ أن منجم الفضّة الذي يملك امتيازَه شخصٌ بريطانيٌّ ، معتمَدٌ من مموِّلٍ أميركيّ في كاليفورنيا ، هذا المنجم هو المحرِّكُ الحقيقيّ للكثير من الشخوص والأحداث ، والانقلابات ، والانقلابات المضادّة . كتاب " تاريخ خمسين عاماً من الانفلات " History of Fifty Years of Misrule الذي يشير إليه كونراد في متن الرواية ، سجلٌّ لهذا الصراع بين أهل البلاد ، الوطنيين ، والأجانب الذين يريدون الاستيلاء على ثروات البلاد ، والتحكّمَ بمصيرها ، حاضراً ومستقبلاً . قلتُ إن منجم الفضة ، كحقل البترول اليوم ، هو المتحكِّم بالأحداث . وثمّتَ امرؤٌ شــاهدُ حقٍّ . هذا الشخص هو جيورجيو فيولا ، شيخٌ من جنَوا ، رفيقٌ لغاريبالدي ، حتى النهاية المريرة . السيد فيولا ، يرقب الأحداثَ ، ويفســرها ، من موقعه الذي لا يزال تحت راية غاريبالدي وأصحابه ذوي القمصان الـحُمر . وهو يكنّ لنوسترومو حبّـاً عميقاً . بل أراد أن يزوِّجه إحدى ابنتَيه ، وفاءً لذكرى زوجته المتوفّاة ووصيّتها . نوسترومو يظل " ابن الشعب " حتى يتدخل منجم الفضة ، ليحوِّل خياراتِه إلى مجرىً آخر . إثْرَ تهديدٍ من قواتٍ انقلابية زاحفة على سولاكو ، يقرر تشارلس جولد ، مالكُ المنجم ، نقلَ سبائك الفضة ، فيتمّ الأمر بمساعدة نوسترومو . تُخَـبّـأ السبائك في جزيرة مهجورة . نوسترومو ، وحده ، يعلم بالمكان ، حيث مدفَن السبائك . يتسلل نوسترومو ، في الليل البهيم ، إلى المكان ، ليأخذ عدداً من السبائك ( أراد أن يكون غنياً على مهلٍ ) . جيورجيو فيولا ، الغاريبالديّ العجوز ، كان يحرس المكان خوفاً من خطف إحدى ابنتَيه من طرفِ عاشقٍ مُدنَفٍ . الغاريبالديّ العجوز ، وقد كلَّ بصرُه ، يطلق النارَ ... القتيل كان نوسترومو ، لا المختطِف المزعوم . يقول كونراد في نهاية المقدمة : لقد تحرّرَ ابنُ الشعب ، مع آخِرِ نفَسٍ ، من أعباء الحبّ والمال .
لندن 11.01.2007
#سعدي_يوسف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العالَمُ كما لا نعرفُهُ
-
مرةً أخرى : لِنَتَفادَ الحربَ الأهليةَ
-
في العراق : ولايةُ الذمّيّ ، لا ولايةُ الفقيه
-
تفكيك العراق العربي
-
قصيدةٌ أخرى عن - باب سُليمان
-
جحيم عبد العزيز الحكيم
-
المماليك وأيامُهم الزائلة ...
-
الجانب الآخر من الحدود
-
مرحباً !
-
الحمارُ الحَرونُ الذي بُلِيْنا به
-
شكراً للشعب الأميركيّ !
-
صدام حسين عميل منذ نعومه مخالبه
-
هديّةٌ صباحيّة
-
الشيوعي الأخير يقرأ أشعاراً في كندا
-
الشيوعيّ الأخيرُ يعدِّلُ في النشيدِ الأممي ّ
-
في البحر الكاريبيّ ، في يوم ٍما ...
-
الشيوعيّ الأخير يعود من الشاطيء
-
تأطيرُ المثقفين العراقيين في الخارج استعماريّاً
-
شهادةُ جنسيّةٍ
-
سيمفونيات ناقصة حقاً ....
المزيد.....
-
بعد استخدامه في أوكرانيا لأول مرة.. لماذا أثار صاروخ -أوريشن
...
-
مراسلتنا في لبنان: غارات إسرائيلية تستهدف مناطق عدة في ضاحية
...
-
انتشال جثة شاب سعودي من البحر في إيطاليا
-
أوربان يدعو نتنياهو لزيارة هنغاريا وسط انقسام أوروبي بشأن مذ
...
-
الرئيس المصري يبحث مع رئيس وزراء إسبانيا الوضع في الشرق الأو
...
-
-يينها موقعان عسكريان على قمة جبل الشيخ-.. -حزب الله- ينفذ 2
...
-
الرئيس الصيني يزور المغرب ويلتقي ولي العهد
-
عدوى الإشريكية القولونية تتفاقم.. سحب 75 ألف كغ من اللحم الم
...
-
فولودين: سماح الولايات المتحدة وحلفائها لأوكرانيا باستخدام أ
...
-
لافروف: رسالة استخدام أوريشنيك وصلت
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|