|
المسافة بيننا شهيد ، يامن نوباني
مهند طلال الاخرس
الحوار المتمدن-العدد: 8281 - 2025 / 3 / 14 - 20:52
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
المسافة بيننا شهيد كتاب ليامن نوباني يقع على متن 160 صفحة من القطع المتوسط صدر بطبعته الاولى سنة 2017 وهو بدون دار نشر ويطلب من المؤلف مباشرة.
الكتاب عبارة عن تسعة نصوص سردية بديعة وماتعة تثير الشجن وتمسح الالم وتنثر الامل بما تحويه من لقطات مشهدية تتمثل بها الحالة اليومية الفلسطينية.
في هذا الكتاب وعبر نصوصه التسعة [طفولة وحب وجنود، منعطفات اللوز، المسافة بيننا شهيد، دلال ومطر وسجن، بيننا اغنية، الغياب و 51 يوما من الحرب، الهبة الشعبية، زمن النقيفة، الطريق الى البيت] يتجول النوباني في ربوع الوطن باحثا عن الشوق لتفاصيله التي انجبتنا ورسمت ملامحنا، فنراه [النوباني] في كل تلك النصوص يكتب واحيانا يرسم وفي احيان اخرى نراه كمصوراتي بارع ينجح بالتقاط اجمل وافضل الصور المشهدية التي تعتلي خشبة المسرح بجدارة؛ فنجده تارة يتحدث عن القرية والريف واجوائه ونباتاته العطرية. ثم يتحدث عن المخيم [جنين] وعن قباطية البلد والثورة ولا ينسى ان يعرج على بلدته [اللبن الشرقية] فيدلنا على الطريق اليها واصفا كل تفاصيلها التي لا يتقنها إلا عاشق ولا يحدثك بها إلاّ متيم بحب فلسطين.
وتارة نجده يتحدث عن الشهداء وحكاياتهم ص ١٢١ وص ١٤٢ كحكاية مهند الحلبي ونصبه التذكاري ، وعن ما يتبقى فينا بعد رحيلهم. وتارة اخرى نجده يتحدث عن الحب والفقد على ارض الوطن، وتارة يتحدث عن ازمة قلنديا والكونتينر والعيزرية، كما نجده ينجح بالتقاط اجمل العبارات والشعارات المكتوبة على الجدران وكذلك الصور المعلقة، كما يتحدث عن العلم ص ١٣٨ وقصة رائد الخزق وتحدي الاحتلال برفع العلم، ويحدثنا عن جمال العلم والاجماع عليه قبل ان تغزونا رايات الفصائل الملونة والتي احسن التوظيف والمجاز بالاشارة اليها في قصة الفتى المجنون الذي يحمل خلف ظهره اعلام الفصائل مجتمعة في فعل لا يقدر عليه احد ممن فيه ذرة عقل؟! ص ١٣٢.
ويتحدث عن هدم البيوت ص ١١٩ وص ١٢٠ وعن غزة ودمائها وحروبها وويلاتها ١١٨ ص فنجده يقول:" صار بإمكان غزة ان تُبدل كُل اسماء شوارع المدن العربية لاسماء شهداء. وربما تفيضُ قليلا، تفيض بأسماء شهدائها لشوارع اخرى لم تُشق بعد !".
كما يتحدث عن الهبة الشعبية سنة ٢٠١٥ ص ١٢٥ والتي بدأت باستشهاد ضياء تم تتالت العمليات الى حين استشهاد مهند ومن ثم معتز فيقول صاحبنا ص ١٢٧ :" حين خرجت جنازته فاضت شوارع بيت لحم ومخيم الدهيشة، كان الشهيد اكبر من الشارع... مضت الهبة تختار شهداءها بدقة، شبابنا الاجمل، وكان منهم بهاء".
كما لا يفوت صاحبنا ان يحدثنا عن اثر الغناء الوطني قديما في تشكيل وعيه الوطني -وهو يشبهنا في ذلك الى حد كبير، ولاغرابة في ذلك خاصة بعد ان ثبت من تاريخ الأدب وحوادثه أن الافكار مُعدية، وان المعاني مشتركة بين العقلاء والمجانين على حد السواء وكذلك العشاق ايضا- ، لكن يبقى الشيء الاجمل انه بهذا الاستذكار والتوظيف الانيق للاغاني يمثل التجسيد الحي لصرخة شاعرنا الكبير توفيق زياد حين قال:
"وأمشي ألف عام خلف أغنيةٍ وأقطع ألف وادٍ شائك المسلك
وأركب كل بحرٍ هائج حتى ألمّ العطرَ عند شواطئ الليلك
أنا بشريّة في حجم إنسانٍ فهل أرتاحُ والدّم الزكي يُسفك !!
أغنّي للحياة فللحياة وهبت كل قصائدي وقصائدي هي كلّ ما أملك .."
في كتابه البديع يستذكر النوباني العديد من الاغاني ويدون كلماتها واصحابها ومناسبتها ايضا؛ لكن الاهم بانه يخبرنا عن وقعها وتأثيرها علينا، وتأسيسها لوعي مازال حاضرا فينا الى الان، يهزنا اليه الحنين كلما ضعفنا او تراخينا او هزمنا...
وتأكيدا على قيمة الاغاني الوطنية في مسيرتنا الثورية واثرها الباقٍ في وجداننا؛ يعرج صاحبنا على ذكر بعض اهم تلك الاغاني لما ارتبطت به من احداث ومواقف اثرت به وبكل ابناء جيله جليا؛ فنجده يستذكر مثلا في ص ١٣٨ اغنية وليد عبد السلام حيث يقول النوباني:" هذه الحجارة التي سدت الشارع، ورماد الاطارات، زينة لمن يفهمها. اعاد الاولاد الذين نزلوا الى الشوارع زمن الانتفاضة الاولى، زمن اغنية وليد عبد السلام: شدلي النقيفة عاد خلي ايدك عالحجر تنبدل هالحال بحال عيشة تنفع للبشر..
وفي نفس السياق وفي ص ١٥١ يستذكر صاحبنا اغنية اخرى فيقول:" في البيت استعيد ذاكرتي وذكرياتي، اقول لعزلتي: هنا العالم . من سماعة خشبية قديمة اوصلها ابن الجيران في حاسوبي المنهك، تنطلق اوبريت طيور الوطن التي كتبها محمد توفيق القباني سنة ١٩٩٦: احنا اللي سمونا صور احنا اللي سمونا صور...غلطو احنا اللي نعطي وبس وما نشكي... احنا اللي نعرف وبس ما نحكي.. احنا على طول المدى صابرين.. واحنا فخرنا ..نجدل ضفاير هالوطن... وانترجم القول الفعل.. نفتح مدارس في الصور... هي هي هي هي هي
حنا طيورك يا الوطن.. وخيوطنا مربوطة بترابك.. احنا كتيبة جند، احنا سفارة، احنا اقتصاد، واحنا سياسة، واحنا فخر، واحنا كمان مجرى نهر، واحنا صدر للي ورانا واحنا جسر، واحنا كمان بنشد فينا كل ظهر... هي هي هي هي هي واحنا الشموع اللي ضوت بس ما انطفت.. بس ما انطفت..
ويحسن صاحبنا التوظيف في اطار السياق والهدف المنشود من الاغنية الوطنية ومن مرادها ومفاعيلها في ذلك الوقت فنجده يقول في ص ١٠١ و ص ١٠٢ مخاطبا حبيبته:" هل تعلمين ان الاحتلال كان يُهاجم كل منصاتالغناء الوطني في الثمانينات والتسعينات! ....اما الان فالاحتلال مثلنا يجلس على الشاشات ويشاهد مثلنا منصات المناسبات الوطنية والانطلاقات الفصائلية وكل السمراوات [البنادق] التي تخرج وتزغرد فيهن دون ان يُحرك الاحتلال ساكنا! امس كانت تقلقه الاغنية، اليوم لا يقلقه السلاح، كل الطلقات التي تنطلق في الهواء عبثا، عواء وليست زخات." " لا اعرف كيف كنت انتقل في الحديث معك، من اغنيات تلهب الثورة وتجعلها قوية، الى اانيات تلهب الحب، وتجعله مدويا. من [وقفوا صفوف صفوف] الاغنية الوحيدة التي تبكيني، الى [زغردي يا ام الجدايل] ... الى [رمانة] حيث يذهب بي سميح شقير الى شوارع بيروت والكلاشنكوف، لكن واحدة منهن لم تستطع ان تقتحمني كما فعلت اغنية [ وقفوا صفوف صفوف] التي كتبها ابراهيم المزين في استشهاد موسى حنفي سنة ١٩٨٧ وغناها عبدالمنعم عدوان على المسرح ، ويغني: وقفوا صفوف صفوف وسحجو على الكفوف إجت إمو، ياعزيزة يا مغندرة، با دمعة يا سكرة عريسنا مبدر ع وين، عريسنا بغفي العين إمو ردي يا إمو ليش الورد ملثم ع ثمه والحديد على كتفو ما همو ما همو مع الندى طالع، طالع لحالو، يا بنات قزولوا خواله ت يلفو يلمو جماله...
مع النوباني في هذه النصوص ذات الاثر الباقي تمنحك كلماته فرصة التجوال في شوارع وحكايا البلاد؛ ففي ص ١٠٣ تجد نفسك تسير مع يامن بشارع ركب وترقب الناس والتفاصيل وتتحق من الاوصاف، ثم يمنحك النوباني فرصة السير والبحلقة في شوارع القدس وتنشق رائحة الوله المنبعثة من زقاقها وجدرانها ص ١٠٣ فيقول:" للقدس رهبة لا يجدها المرء في اي مكان اخر، رهبة المقدسات، الشوارع، الغرباء، الباعة، الاطفال، رهبة لكل شيء وكأنك تود لو انها بمقاس كفيك، لتحملها كلها مرة واحدة وتضمها لصدرك".
صفحات الكتاب ال ١٦٠ جائت غزيرة المعنى كثيفة المغزى، فما من موضوع يشتهيه القاريء او الكاتب المفعم بحب فلسطين الا ويجد صاحبنا قد تناوله بقلمه الرشيق وحسه المرهف وكلماته الوارفة ...
فالجمال في هذا الكتاب كان ذي وجهين ؛ الاول: يتعلق بقيمة المواضيع المتناولة وفرادتها واهميتها والتي نجحت بنقل القاريء الى اجواء فلسطين بكل تفاصيلها وبعجرها وبجرها، المهم انها الصورة الاصدق والاجمل... التي تبقي فلسطين تعيش فينا حيث رحلنا وارتحلنا... والثاني : يتعلق برقي اللغة المستخدمة وجزالتها وقوتها ، والاجمل ان هذه اللغة تاخذ الجزالة من اللغة الشعرية المستخدمة وتضعها بقالب نثري احسن واجاد في قفل النص بما ويتلائم مع ايراد الحكمة المبتغى ايصالها في نهاية النص. فالنوباني في كتابه هذا احسن واجاد في تطويع كل الاساليب والادوات اللغوية في سبيل التخفيف علينا من ثقل النص وما يحتويه من وجع والم وندوب تترك اثارها سريعا علينا بمجرد الانتهاء من مطالعة اخر صفحات الكتاب ص١٥٤ والتي يقول فيها:" لم افرغ ذاكرتي يوما من انسان او مكان او زمان، كل الذين اخذتهم الحياة مني الى امكنة اخرى، كتبتهم، مع عناوينهم الحالية، حتى اؤلئك الذين ماتوا، احدثهم الى اين وصلت الامور، اتعامل معهم اكثر من الاحياء، لا اعترف بغياب احد الى الابد".
امثال النوباني حين يكتبون تعلق بنا رائحة نصوصهم، وتلتصق باعماقنا صدى كلماتهم، وهذا ليس بغريب على يامن وامثاله؛ فهم يشكلون تجسيد حي لما قاله درويش :" من يكتب حكايته يرث ارض الكلام، ويملك المعنى تماما".
#مهند_طلال_الاخرس
#مهند_طلال_الاخرس (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
طيور الصبار وذكريات السنين ، جميل شموط
-
ايران وحماس من مرج الزهور إلى طوفان الأقصى،فاطمة الصمادي
-
جيل التاج ، مصطفى القرنة
-
الشهيد ناجي العلي ، فؤاد معمر
-
سعدية ، اسيا خولة عبد الهادي
-
العرس الابيض ، هيثم جابر
-
مذكرات حمدي مطر؛ حمدي مطر
-
أسد يهودا : صراع داخل الموساد، فكتور أوستروفسكي
-
نُص أشكنازي ؛ عارف الحسيني
-
سماء القدس السابعة؛ اسامة العيسة
-
هنا الوردة ؛ امجد ناصر
-
سياج الغزالة ؛ ناصر رباح
-
سافوي 28
-
سافوي 27
-
سلسلة اليوميات الفلسطينية
-
الى فتح في عيد ميلادها 60
-
الاعمال المقدسية الكاملة؛ عارف العارف
-
في شباك العصافير؛ وليد الهودلي ]2[
-
الفلسطينيون من حرب إلى حرب ؛ ايريك رولو
-
امرأة الموساد، قصة موردخاي فعنونو ، بيتر هونام
المزيد.....
-
بيان مجموعة السبع لم يؤكد على الالتزام بحل الدولتين للصراع ا
...
-
-تخبط وفوضى-.. رغد صدام حسين تنتقد مقتل صحفي عراقي شاب في مش
...
-
الخارجية التركية: إعطاء الأكراد السوريين حقوقهم يحظى بأهمية
...
-
كيف تتغير عاداتنا الاستهلاكية في شهر رمضان؟
-
إعادة تسليح أوروبا - من أين تأتي الأموال؟
-
ما موقف دروز سوريا من الشرع وإسرائيل؟
-
مصر.. قرار من النيابة العامة حيال مشاجرة في الشارع أغضبت الم
...
-
زيلينسكي يتابع شخصيا قضية مقتل القومي الأوكراني المتطرف ديمي
...
-
لحظة مرعبة في شارع أمريكي.. متحول جنسيا يشهر مسدسه إلى واعظ
...
-
لوكاشينكو: زيلينسكي كان -بمثابة ابني- لكنه تصرف في النهاية ك
...
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|