عبدالله عطوي الطوالبة
كاتب وباحث
الحوار المتمدن-العدد: 8281 - 2025 / 3 / 14 - 12:05
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
خمسة عشر قرنًا تفصل بين مقتل الخليفة الراشدي الثالث عثمان بن عفان، وما جرى في الساحل السوري قبل أيام. المشترك بين الحدثين وكل حدث مشابه، سفك الدم على أرضية الصراع على السلطة وتوظيف الدين في خدمة السياسة.
خلال هذه القرون، شهدت الإنسانية تحولات هائلة، وطرأت في مسارها التطوري مستجدات تستعصي على الحصر. لكن ما بقي ثابتًا مُذَاك وحتى يوم الناس هذا في واقعنا العربي المنكوب بالإستبداد، هو ما يُعرف بإشكالية السلطة السياسية. أخفق العقل العربي في تخطي هذه الإشكالية، رغم عدم توقف سيل الدم المسفوح على مذبحها. وقد كانت آخر دفعاته، في حساب ما يزال مفتوحًا للأسف الأسيف، ما سال منه في الساحل السوري.
الإشكالية لغة، تعني وجود أزمة في شأن من شؤون مجتمعات بعينها تستدعي البحث عن حلول. وعندما يتعلق الأمر بالواقع السياسي، فالقول بوجود إشكالية يصرف الذهن إلى شرعية النظام الحاكم أو النُّظم الحاكمة في مجتمعات ما. لتحديد الإشكالية أكثر، وبما أنها ما تزال قائمة في واقعنا العربي بالمعنى المومأ إليه قبل قليل، فإنها تتعلق باحتكار السلطة السياسية وتوظيف الدين لتحقيق هذا الهدف الباطل. ويستصحب احتكار السلطة بالضرورة طابع قهري تسلطي ملازم للسلطات العربية الحاكمة، لسبب رئيس مفاده أنها لا تستمد شرعيتها من المحكومين ويستحيل قبولها بالتداول السلمي للسلطة، بحكم طبيعتها الاستبدادية. وليس يفوتنا التذكير في السياق بأن الإنسان العربي لم يشارك في اختيار حاكمه، منذ قيام الدولة العربية الإسلامية قبل حوالي 1500 عام، ولم يعرف العرب سوى أسلوبين لانتقال السلطة حتى يوم الناس هذا، هما الإنقلاب أو التوريث.
أما آخر أدلتنا على إخفاق العقل العربي في التعامل مع الإشكالية موضوع حديثنا، فنجده في مسلسل "معاوية"، وعلى وجه التحديد في الحلقتين الحادية عشرة والثانية عشرة. الحدث الأبرز في هاتين الحلقتين، مقتل الخليفة الراشدي الثالث عثمان عفان. لم يجد كاتب السيناريو والمخرج جزئية تستحق التركيز عليها أهم من "قميص عثمان" الملطخ بدمه. وهذا يفضح القصد الكامن خلف إعداد المسلسل، والهدف من بثه. بعد مقتل عثمان، نُقل "قميصه" إلى معاوية في الشام، على عهدة مصادرنا التاريخية. حسب المسلسل، وكما يشير الرواة أيضًا، سارع معاوية إلى دعوة كبار بني أمية لاجتماع واسع في قصره بالشام، ثم أخرج "القميص" من الصندوق المحفوظ فيه، وشرع يُلهب العواطف ويوغر الصدور بكلمات اختارها بعناية بشأن مقتل "سيد بني أمية" و "سيد العرب أجمعين"، الخليفة المغدور ظُلمًا وضرورة القِصاص من القتلة. كان معاوية حريصًا على تعزيز كل ما قال بآيات قرآنية، وما أشبه اليوم بالأمس، لإضفاء شرعية دينية على أفاعيل السياسة وأباطيلها وسفالاتها، وخاصة عندنا، في الماضي كما في الحاضر على حدٍّ سواء. انتهى الاجتماع بتسمية معاوية "ولي دم عثمان"، وبذلك بدأت رحى الفتنة الكبرى، كما تُعرف في أدبياتنا، بالدوران.
لكن مراجعنا التاريخية تحتفظ بتفاصيل تتعلق بمقتل عثمان، لم يأتِ المسلسل على ذِكرها. ونحن على ثقة أن العقل العربي يهرب من مواجهتها وكل ما يماثلها في تاريخنا السياسي، وربما يجبن وهذا هو الأرجح، ولا يطيق التذكير بها. لماذا؟!
سنبسط باختصار بعضًا من هذه الجزئيات، ثم نحاول الإجتهاد في الإجابة على سؤال الهروب من التعامل مع الأحداث المفصلية الحساسة في ماضينا وفي حاضرنا أيضًا.
حاصر الثائرون بالخليفة الراشدي الثالث منزله في المدينة، وجلُّهم من البصرة والكوفة ومصر. أما مأخذهم الرئيس عليه، فكان خروجه برأيهم على قواعد العدل في الرعية، ومنهم من اتهمه بالخروج على صحيح جوهر الاسلام. اقترحوا عليه بداية أن يعتزل، ولعدم وجود قاعدة في الإسلام بهذا الخصوص، ردَّ عليهم بقولته الشهيرة:"لن أخلع قميصًا ألبسنيه الله". والحقيقة أن الله عز وجل لم يُعَيِّن عثمان خليفة، بل اختاره لهذا الموقع وأول من بايعه عبدالرحمن بن عوف، رئيس مجلس الستة من أهل الحل والعقد، الذي شكَّله عمر بعد شعوره بدنو أجله إثر طعنه، ليختاروا واحدًا منهم خليفة.
بعد رفض عثمان اعتزال الخلافة، خيَّره الثائرون بين ثلاث، أولها، الإقادة، أي أن يُعاقب على أخطائه شأنه شأن أي مسلم يخطئ، ويستمر بعد ذلك خليفة. الخيار الثاني، أن يتبرأ من الإمارة ويعتزل الخلافة بإرادته، وإلا فالثالث، وهو حشد الأجناد وأهل المدينة لكي يتبرأوا من طاعته، بمعنى إذا لم يعتزل بإرادته يُرغم على الإعتزال بإرادة الرعية. رفض عثمان الخيارات الثلاثة، وظل متشبثًا برفض خلع قميص "ألبسه إياه الله". وكانت النتيجة قتله، ومن بين أكثر المحرضين ضده والمشاركين في قتله محمد بن أبي بكر. ويلفت النظر التعامل مع الخليفة الراشدي الثالث، بعد قتله. يقول الطبري في كتابه تاريخ الأمم والملوك، الجزء الثالث، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات- بيروت، صفحة (439):"لبث عثمان بعدما قُتل ليلتين لا يستطيعون دفنه، ثم حمله أربعة هم، حكيم بن حزام وجبير بن مطعم ونيار بن مكرم وأبو جهم بن حذيفة، فلما وُضع ليُصلى عليه جاء نفر من الأنصار يمنعونهم من الصلاة عليه فيهم أسلم بن أوس بن بجرة الساعدي وأبو حية المازني ومنعوهم أن يُدفن بالبقيع. فقال أبو جهم ادفنوه فقد صلى الله عليه وملائكته فقالوا لا والله لا يُدفن في مقابر المسلمين أبدًا فدفنوه في حش كوكب(مقابر يهود)، فلما ملكت بنو أمية أدخلو ذلك الحش في البقيع". وفي رواية ثانية "أقبل عمير بن ضابئ وعُثمان موضوعٌ على باب فنزا عليه فكسر ضلعًا من أضلاعه". وفي رواية ثالثة "أنهم دفنوه في حش كوكب وقد رماه المسلمون بالحجارة فاضطر حاملوه للإحتماء بجدار دفنوه بجواره فوقع دفنه في حش كوكب".
نعتقد أن القارئ لم يعد بحاجة إلى مساعدته في الإجابة على سؤال: لماذا ترفض النُّظُم الحاكمة، تؤيدها المؤسسة الدينية ذات النفوذ في واقعنا العربي، التعاملَ مع ماضينا كما ترويه مراجعنا التاريخية على الأقل؟!
فالحاكم العربي فوق القانون، ومحصن من المساءلة، وإنساننا مُبعد عن الإختيار الحر لحاكمه. فهل يقبل الحاكم تعريف الأجيال بأنموذج لمساءلة الحاكم، حدث في مرحلة الميتاتاريخ النبوي؟!
الإجابة لا النافية بالتأكيد، ومن دون تردد. وعليه، لا غرابة أن يتجاهل معدو مسلسل "معاوية" ما ذكرنا من تفاصيل تتعلق بمساءلة الخليفة الراشدي الثالث والدعوة لمحاسبته وعزله. ولا غرابة أن تخلو المناهج التدريسية الخاصة بمادة التاريخ، في مدارسنا وجامعاتنا، من أنموذجات المساءلة والانتفاض ضد الظلم في ماضينا خاصة، كي لا يبنى عليها في الحاضر وتُتَّخذ قدوة تجد طريقها في التطبيق العملي على أرض الواقع.
لسنا الوحيدين بين الأمم الذين شهد تاريخهم أحداثًا مماثلة وربما أكثر قسوة، ولكن شتان بين من امتلك الإرادة الواعية فقرأ تاريخه بمعايير العلم وشروط العصر، ومن يفتقر إلى هذا النوع من الإرادة فيلجأ إلى تقديس ماضيه ويتأبى على وضعه تحت مجهر المراجعة النقدية العقلانية الشاملة. اللغز يكمن في حقيقة أن هذه القراءة سوف يترتب عليها وعي تاريخي مُفارق لدى الأجيال، لا بد سيفضي إلى ما يشبه الكوابيس المرعبة للنظم الإستبدادية والمؤسسة الدينية المُشرعِنة لسياساتها والمُمَكيجة لإخفاقاتها بختم المقدس.
في الختام، يفرض نفسه السؤال المحوري في السياق: متى نتجاوز نحن العرب إشكالية السلطة السياسية، ورافدها الرئيس، أي توظيف المُقَدَّس في خدمة المُدَنَّس؟!
#عبدالله_عطوي_الطوالبة (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟