محمود كلّم
(Mahmoud Kallam)
الحوار المتمدن-العدد: 8277 - 2025 / 3 / 10 - 14:59
المحور:
القضية الفلسطينية
أنا ندى، ابنةُ عشيرةِ عربِ السّمنيّةِ، ابنةُ هذا الترابِ الذي التصقَ بقدميَّ منذُ أولِ خطوةٍ، وبيديَّ منذُ أولِ حفنةِ ترابٍ لعبتُ بها.
أنا ابنةُ كرومِ العنبِ التي حفظت اسمي، وابنةُ زهرِ الليمونِ الذي غمرني بعطرِهِ كلَّ صباحٍ، وابنةُ الزعترِ الذي كانَ ينبتُ بينَ أصابعِ يديَّ كلّما لمستُ الأرضَ.
أنا ندى، ابنةُ الزيتِ والزيتونِ، ابنةُ وادي القرن ووادي كركرة، ابنةُ الحقولِ والينابيعِ والسماءِ المفتوحةِ فوق الجليلِ.
اليوم أكتُبُ لكم وصيّتِي الأخيرة، وأنا أعلمُ أنَّ الجسد قد يغيبُ، لكنَّ الروح المجبولة بحبِّ الأرضِ لا ترحلُ.
لا تنسوا أسماءَ الأماكنِ.
احفظوا أسماءَ الحقولِ، وأسماءَ الينابيعِ، وأسماءَ الأشجارِ الكبيرةِ، وأسماءَ الطرقاتِ القديمةِ، وأسماءَ الأغاني التي كانتِ الجدّاتُ يُغنّينها في مواسمِ الحصادِ.
لأنَّ الأرض التي تُنسى تفاصيلُها الصغيرةُ تُصبحُ عُرضةً للضياعِ.
علِّموا أطفالكُم أنَّ الزعتر ليس مجرّد نبتةٍ، بل هو يُشبِهُنا: جذورٌ عميقةٌ، ورائحةٌ لا تُمحى حتّى لو احترقَ.
علِّموهُم أنَّ زهرَ الليمونِ ليس مجرّدَ عطرٍ عابرٍ، بل هو هواءُ الأجدادِ الذينَ زرعوا هذه الأشجارَ قبل أن يرحلوا.
لا تقولوا عن الزيتونِ إنّهُ مجرّدُ شجرةٍ، بل قولوا: هذهِ شجرةٌ حملت دموع الأمهاتِ وعرق الآباءِ، وصبرت حين صبروا، وبقيت حين نزفوا.
علِّموا أطفالكم أنَّ غصن الزيتونِ ليس فقط رمز سلامٍ، بل هو شهادةُ ولادةٍ لنا على هذهِ الأرضِ، شهادةُ أنّنا كُنّا هنا، وما زلنا.
الماءُ في وِديانِنا ليس مجرّد ماءٍ، بل هو الكلامُ الذي قالتهُ الأرضُ في السّرِّ، وحملتهُ المياهُ إلى البحر، حتّى تحكيه للريحِ، وحتّى تُعيدَ الريحُ حكايتهُ إلينا كلّما اشتقنا.
الماءُ في وادي القرن يعرفُ خطايَ كما يعرفُ خطواتِ أمي وجدّتي، والماءُ في وادي كركرة يحفظُ صوتي حين كنتُ أُغنّي وأنا أجمعُ الورد والدِفْلَى على ضفافهِ.
كُونوا مثل الدِفْلَى ، تنبُتُ على الحافّةِ بين الماءِ والحجرِ، لا تخافوا الفيضان ولا تخافوا الجفاف.
كونوا مثل الصّخرِ، ثابتين حتّى لو ضربتهم العواصفُ ألف مرّةٍ.
كونوا مثل الزعترِ، تنكسِرُ الأغصانُ، لكنَّ الرائحة تبقى حتّى لو اختفى كلُّ شيءٍ.
وأخيراً، أقولُ لكم:
أنا ندى بنتُ الجليل، بنتُ عشيرة عرب السّمنيّة،
أنا ابنةُ الأرضِ، ولا أخافُ الموت، لأنَّني أعلمُ أنَّ الأرض ستأخذُني في حضنِها، ستُعيدُني إلى الزعترِ والزيتونِ، إلى الماءِ والزّهرِ، إلى النّدى الذي يُبلِّلُ العُشبَ كلَّ صباحٍ.
أنا ندى بنتُ الجليلِ. احملوا وصيّتي وازرعوها مثل شجرةٍ صغيرةٍ، واسقوها بحبِّكم لهذه الأرض، حتّى تكبُرَ في قلوبِكم وتظلَّكم يوماً إذا اشتدَّ الحرُّ واشتدَّ الغيابُ.
سلامي للأرض.
وسلامي لكم.
وسلامي للماءِ والزّهر والزعتر.
وسلامي للسّماءِ فوق الجليل.
وسلامي لفلسطين...
التي لا تموتُ.
ندى
#محمود_كلّم (هاشتاغ)
Mahmoud_Kallam#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟