أضواء على القضية الكردية ومعاناة الأكراد في ظل أنظمة الاستبداد والعنصرية وحقوق الطغاة. وتحت أنظار "مجتمع دولي" يتشدّق بحقوق الإنسان، متعايشاً مع أسلحة الدمار الشامل... ويتحرك بشكل أساسي وفقاً لمصالح رأسمالييه، متناسياً كل ما يتنفس على سطح هذا الكوكب: "الأرض".
قد يبدو غريباَ أن يبادر أحدهم ويكتب عن القضية الكردية في عالمنا العربي هذه الأيام. غير أن ما يدعو للعجب في الواقع هو غياب هذه القضية السياسية والثقافية، وقبل كل شيء الإنسانية، عن صفحات الأقلام المنتفضة على "الظلم والاستبداد والعنصرية والإبادة" وما شابه. وقد وفّق أحد الكتاب الاكراد عندما قال: "يلفّ الاكراد غموض وضبابية (...) حتى ليعتقد البعض انهم فصيلة من النباتات. هذه الحقيقة تكشف النقاب عن مستوى التواصل القائم بين أبناء المنطقة وشعوبها".
وتالياَ فمن الظلم لوم الشعوب العربية، وهي المتعاطفة والمتضامنة مع قضية الشعب الفلسطيني (الحق الساطع بلا شك)، حصراَ على هذا الواقع.
فالإعلام والثقافة "المتداولة" كلاهما يتجاهلان واحدة من ابرز قضايا التحرر في عصرنا وحتى في التاريخ: القضية الكردية. إذ كرّست أنظمة الحكم الديكتاتورية في بلادنا ثقافة العنصرية القومية (أعني القومية كهدف نهائي)، وهذا لا نستغربه كونها أنظمة معنية فقط باستمرارها في قصورها العااااااالية والـ.... سيئة الذكر(!) وحيث الرقابة الذاتية وغير الذاتية (وهو ما يصح في كلتا الحالتين) تبلغ مستويات ما بعد ستالينية.
إذاَ...
من هم الأكراد؟
سرعان ما سيكتشف أي شخص أراد الاستقصاء عن كردستان التاريخية والأكراد بأنه حقل شائك.
فالكتابات والمراجع تتميز غالبيتها بكونها إما شوفينية عربية استعلائية أو رد فعليّة كردية شوفينية.
ولا عجب أن كانت اكثر المراجع الموثوقة والعلمية لكتاب وباحثين سوفيات، وأوروبيين.
غالب الظن، وما تتفق عليه معظم الآراء الموثوق بها، هو الآتي: الاكراد من اقدم شعوب منطقة غرب آسيا (وهم اقدم من العرب والأتراك في هذه البقعة بالتأكيد)، ويعود أسلافهم "الإثنيون" في المنطقة إلى حوالي 3500 سنة قبل الميلاد، إلى جانب هجرات هندو-أوروبية (الميتانيون والميديون بشكل أساسي) تتراوح بين ألفى سنة وبضعة مئات من السنين ق.م.
وسادت تلك الفترات كما هو معلوم الكثير من الغزوات... وصولاَ إلى اقتسام الدولة الصفوية (الفرس) والدولة العثمانية (الأتراك) لمعظم كردستان التاريخية بعد معركة جالديران عام 1514(اتفاقية قصر شيرين عام 1639). وكانت كردستان حينئذ خليطاً من الإمارات شبه المستقلة والتابعة للسلطة المركزية في اسطنبول وأصفهان، وتربطها علاقات التبعية الإقطاعية بهما. وظل الواقع الكردي ضمن هذا المنحى حتى أوائل القرن العشرين.
بالإضافة إلى النضالات المشتركة لشعوب المنطقة في وجه الاستعمار في الماضي. وتشهد لذلك الدولة الأيوبية (نسبة إلى صلاح الدين الأيوبي، وهو كردي)، لذلك، فلولاها لما تم التخلّص من الاحتلال الصليبي في القرن الثالث عشر ب.م.
إلا انه، وفي كل تلك المراحل التاريخية ساعدت الاكراد طبيعة بلادهم الجبلية في الاحتماء والحفاظ على وجودهم في كردستان، أي عدم إبادتهم أو طردهم من بلادهم، وكانوا على الدوام من المقاتلين والمدافعين الشرسين عن أرضهم (أو بالأحرى عن أراضيهم).
ساهمت عدة أسباب في عدم قيام دولة كردية عبر تلك الفترات. أهمها:
- طبيعة كردستان الجبلية الوعرة وغير المؤاتية للزراعة المكثفة المتطلبة لمنشئات الري. مما ترك أثره الملموس على مجرى تطور المجتمع الكردي اقتصادياً وسياسياً بعدم تشجيع بناء دولة جامعة.
- لم يكن عبور القوافل عبر كردستان سهلاَ، يضاف إلى ذلك عدم امتلاك كردستان لمنافذ بحرية.
- ثم إن التطاحن والصراع المستمر بين إمبراطوريات المنطقة ظل يمتد إلى أراضي كردستان فتصيبها الويلات والدمار والمجاعة التي أودت بحياة الآلاف من الناس.
غير أن مصير الاكراد الحالي قد تقرّر بعيد الحرب العالمية الأولى، عندما شرع الاستعمار باقتسام الإمبراطورية العثمانية المتداعية في معاهدة سيفر للسلام عام 1920 والتي لم تنفذ عملياً. فقد تمت هذه المعاهدة بعد:
- انتصار ثورة أكتوبر 1917 وفضح الاتحاد السوفييتي بنود معاهدة سايكس- بيكو السرية وتنديده بالاتفاقيات التي كانت قد وقعتها روسيا القيصرية. وهكذا نشأ في كردستان الشمالية فراغ في الرقعة التي كانت مخصصة لروسيا حسب اتفاقية سايكس- بيكو وفضلاً عن ذلك فإن بريطانيا أصبح لها مصلحة في كل هذا الفراغ لتكون سداً منيعاً بوجه امتداد الحركات التحررية المتأثرة بالشيوعية.
- توجّه مندوبو الحركات القومية العربية والأرمنية والكردية إلى مؤتمر الصلح في باريس عام 1919 مطالبين بتشكيل دولهم القومية...
وبعد أن وعدوهم بحكم ذاتي وإمكانية الاستقلال، فإن ذلك الجزء من كردستان الذي كان ضمن الإمبراطورية العثمانية تم تقسيمه مجددا من قبل الدول الاستعمارية في معاهدة لوزان الموقعة في 24 تموز 1923. جزء منه ضُمّ إلى الانتدابين البريطاني والفرنسي اللذين كونا فيما بعد سورية والعراق. والجزء الأكبر من كردستان بقي ضمن الحدود الدولية لجمهورية تركيا التي أسست على أنقاض الدولة العثمانية.
وبذلك باتت "كردستان" موزّعة بين الدول الأربعة: تركيا (الجنوب والجنوب الشرقي)، العراق (الشمال)، إيران (الشمال الغربي)، وسوريا (الشمال الشرقي). وهي تضم اغلب حقول النفط والكثير من المناطق الغنية في كل من هذه الدول.
وفيما يختص باللغة المشتركة للأكراد، فهي تنتمي إلى العائلة الهندو-أوروبية الكبيرة وتعتبر من اللغات الآريّة. وتضم لهجات عدّة مثل: الكرامنجية (يتكلم بها حوالي 60%)، والسورانية (30%)، وهي سائدة في كردستان العراق بشكل خاص، واللورية البختيارية (10%) في كردستان إيران على وجه الحصر.
ويعتنق اكثر من ثلاثة أرباع الشعب الكردي الإسلام السنّي، والبقية تتوزع بين العلويين و"أهل الحق" والزرادشتيين والايزيديين... إلى جانب أقلية صغيرة جداَ من المسيحيين.
على أية حال، أياَ كان دين الاكراد أو طائفتهم، فهم يحتفلون منذ آلاف السنين بعيد نوروز في شهر آذار باعتباره عيد رأس سنتهم وقدوم الربيع.
أوضاع الاكراد
من سوء حظ الأكراد، شأننا جميعاَ في هذه البقعة من العالم، وجودهم في بلدان استلمت السلطة فيها قوى رجعية - انقلبت عليها قوى (بالأحرى قوّات) رجعية بدورها، مع بعض التفاوت هنا وهناك - بعد انتهاء الاستعمار المباشر. ولم تعط هذه الأنظمة الشمولية (المستلمة للسلطات والكنوز) أي تجارب في التطور والحداثة تستدعي الإعجاب.
هذا ويتوزع المهاجرون الاكراد في أوروبا (خاصة ألمانيا) وجمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق ولبنان، بشكل أساسي.
تركيا
تضم القسم الأكبر من كردستان (حوالي 194000 كم2)، كما أكثر من نصف الأكراد المقدّرين بحوالي الثلاثين مليوناَ بالرغم من عدم وجود إحصاءات دقيقة.
وهي تعدّ صاحبة "السجل المطلق في اضطهاد الاكراد".
فبالإضافة للسياسة الخادعة التي اعتمدها أتاتورك (الذي سرعان ما كشف عن النزعة الشوفينية التركية، بعد أن أعطى الوعود الورديّة للأكراد بما انهم كانوا يشكلون قوة مهمة في جيشه)، قامت الحكومات التركية المتعاقبة باضطهاد الاكراد وقمع ثقافتهم ولغتهم، وقد اتّخذت الدولة التركية شنّ الحرب في كردستان كقاعدة دائمة وقامت بقمع كل الانتفاضات الكردية مما أدى إلى تدمير آلاف القرى في القسم الكردستاني من تركيا، بالإضافة لقتل عشرات الآلاف واعتقال مئات الألوف حتى أيامنا هذه؛ دون أن ننسى ما أدى هذا إليه من سد الطرق أمام التطور الثقافي والاجتماعي الاقتصادي الكردستاني. (مع عدم إغفال الدور المجتمعي الكردي الذي لا يزال يعتمد على النظام القبلي والإقطاع والفرق الدينية ونظام المشيخات، إلى جانب دور الاقتتال الداخلي والأنظمة المقتسمة لكردستان في كبح جماح التطور).
وقد ساهم غياب بورجوازية كردية تأخذ على عاتقها التحرير(خدمة لمصالحها)، بظهور تنظيم "ماركسي" عمّالي (PKK) يطرح شعارات التخلص من الاحتلال التركي
والاستقلال، والذي لم تزده شراسة القمع التركي إلا صلابة وشعبية.
"آبو" والسجن (الإصلاحية؟؟)
لقد فرض عبد الله أوجلان في السنوات الماضية نفسه زعيماَ كردياَ ذا شعبية عريضة، في كل أرجاء كردستان التاريخية. فقد انضم عشرات الآلاف إلى قواته المسلحة، وكان للأكراد السوريين إناثاً وذكوراً دورٌ كبيرٌ في هذا المجال، منذ انطلاقة "الكفاح المسلّح" عام 1984 لحزب العمّال الكردستاني PKK الذي تأسس عام 1976. وجاء كباعث للأمل في نفوس أولئك الاكراد المضطهدين والتوّاقين لوطن محرّر، لا يتناتشه العرب والأتراك والفرس، ولا يشكل ورقة من الأوراق السياسية عند الدول الكبرى. فـ"التوق إلي الحرية يعني كردستان، وهذا التوق هو نواة كل خلية في الجسد الكردي" كما قال أحد الكتاب الاكراد في معرض حديثه عن أوضاعهم في سوريا. وقد اصبح "حزب العمال الكردستاني" من اكبر الأحزاب الكردية، على غرار "الاتحاد الوطني الكردستاني" بزعامة جلال الطالباني و"الحزب الديمقراطي الكردستاني" بزعامة مسعود البارزاني في كردستان العراق وإيران. وكان الحكم التركي قد أجهض ظهور برجوازية تقوّض الحركة الوطنية الكردية ففتح المجال لأكراد اليسار الماركسي التركي في أن يملأوا الفراغ بعد القمع العسكري العلني لليسار في المدن.
إلا انه وبعد اعتقاله وتسليمه إلى السلطات التركية، حصل تراجع جذري في خطاب هذا الزعيم... وقد صدم هذا التغيير الأغلبية من مؤيديه وأثار سخطاَ واسعاَ في أوساط الاكراد. فبعد أن سقط لهم آلاف من شهداء التحرير -المرجو - أعلن "آبو" في محاكمته تخلّيه عن مبدأ الكفاح المسلّح والاستقلال عن تركيا، لصالح النضال الديمقراطي السلمي.
ومن الجدير ذكره أنّه، سابقاَ، وتحت شعار التحرر الوطني، كان أوجلان وحزبه قد أغلقا المجال أمام القوى السياسية الكردية الأخرى بفضل قوة الحزب العسكرية ونفوذه الكبير في أوروبا بين الجالية الكردية، بالإضافة إلى قيام الزعيم آبو(الذي كانت قد بدأت تظهر علامات الاستبداد عليه) بتحالفات أهمها مع النظام في سوريا والذي استعمل ذلك في الضغط السياسي على تركيا وأيضا في تحجيم القوى السياسية الكردية السورية.
وبذلك فمحاولة تشبّه أوجلان بحركة التحرر الفيتنامية (الظافرة) لم تنجح.
ولكن إذا وضعنا جانباَ رغبته بأن ينفذ بجلده، وإشادته بالأتاتوركية (كذا!)، فقد حمل خطابه خلال محاكمته بعضاَ من النقاط التي يمكن البناء عليها. وهو لا يزال بطلاَ جماهيرياَ (لعدم توفر البديل؟ ممكن... إلا أن تضحيات حركته لا يمكن إغفالها). فاقتراحه النموذج السويسري الفيدرالي كحل للمسألة الكردية في تركيا يبدو اقتراحا واقعيا وجديراَ بالاهتمام، بالإضافة إلى أن العناوين التي طرحها مؤخراَ تفسح بالمجال أمام القوى الكردية للتحرك والنضال بعيداَ عن بطش حزبه.
مؤخراَ، وبعد وقف الكفاح المسلح، وحلّ حزب أوجلان عملياَ، لم ينجح الحزب الكردي (ديهاب) في نيل الـ10% التي تخوله دخول البرلمان التركي، بالرغم من نيله نسبة لا بأس بها من الأصوات. وقد نجح بدخول البرلمان بعض زعماء القبائل الكردية الرجعيين والموالين للنظام. وتبقى الإشارة إلى انه وفي السنوات الأخيرة (وإدراكا منها بخطورة الاستمرار بالسياسة السابقة) اعترفت تركيا بالأكراد وببعض حقوقهم الثقافية، إلا انه دون الحديث عن كيان سياسي. وتظهر حساسية الحكومة التركية بالنسبة للقضية الكردية مؤخراَ عندما سارعت لإعلان تمسكها وولعها بـ"وحدة الأراضي العراقية"، وهذا أيضا يخفي طمعها بالموصل وكركوك الغنيتين بالنفط.
العراق
الكرد الذين يعيشون ضمن حدود العراق، أو كردستان الجنوبية (72000 كم2، حوالي خمسة ملايين نسمة)، قاوموا القمع أيضا منذ الحرب العالمية الأولى، فقد أشعلوا عدة انتفاضات قادها أولا الشيخ محمود برزنجي 1919-1923 ثم الشيخ احمد بارزاني وشقيقه مصطفى بارزاني العام 1933 وبعده. هذه الانتفاضات انتهت بالفشل. ولكن في العراق لم تكن الهوية الكردية منفية. علاوة على ذلك وبسبب انتفاضاتهم فإن الكرد هناك مُنحوا حقوقا ثقافية معينة، حيث أُعطوا مدارس وجامعات وبثاً إذاعياً، الخ.
وبذلك فقد تطوّرت الثقافة الكردية في هذا الجزء من كردستان بشكل متقدم نسبياَ.
إلا انه وبالرغم من هذا التميّز النسبي في معاملة الكرد في كردستان العراق، فإن هذا لا يمحو الظلم ومحاولات الإلحاق التام بالمركز في بغداد، وما صاحب هذا من قمع لاحتجاجات الاكراد. وكان قد تشكّل "الحزب الديمقراطي الكردستاني" في آب 1946، بقيادة مصطفى بارازاني العسكرية. وقامت أهم انتفاضة كردية في هذا الجزء من كردستان بقيادته عام 1961. وبعد هدنات واتفاقات قصيرة العمر،،أهمها في 11 آذار 1970، اخمد صدّام حسين، الذي كان قد اصبح عملياً رئيساَ للعراق، هذه الانتفاضة عام 1975، بعد تقديمه تنازلات إقليمية لإيران، من اجل وقف دعمها للأكراد ضد حكمه، في اتفاقية الجزائر. وكشف تقرير بايك عام 1976 تعاون الرئيس الأميركي نيكسون ووزيره كيسنجر مع نظام الشاه الإيراني في دعم الثورة الكردية، لا من اجل انتصار الاكراد، بل لزعزعة النظام في العراق.
وقد عاد صدّام وقام بحرب ضد إيران لاستعادة تلك المناطق عام 1981. فيما نالت مناطق كردستان العراق الجزء الأكبر من الدّمار جرّاء هذه الحرب. وبعد انتهائها عام 1988، تفرّغ نظام صدّام للفتك بالأكراد، فقامت طائراته في يوم 16 آذار من العام نفسه بقصف مدن حلبجة وخورمال وقرى وقصبات كردية بالسلاح الكيميائي، مما أدى إلى قتل اكثر من 5000 كردي وتشريد مئات الآلاف؛ وتلك لم تكن المرة الأولى أو الأخيرة. وكان قد قام بمجازر الأنفال في فترة امتدت لشهور عدة في السنة ذاتها.
بعد غزوه الكويت، قامت انتفاضة كردية، رد عليها النظام بشكل دموي، إلا انه في هذه المرة كانت قد تغيّرت موازين القوى، واستطاع الاكراد أن ينشئوا نوعاَ من الحكم الذاتي، ضمنه برلمانهم المنتخب وحكومتهم الذاتية. وفي لفتة نادرة للأمم المتحدة نحو الاكراد، أصدرت قراراَ بخصوص اللاجئين الاكراد ومناطق الحماية في كردستان العراق. إلا انه وبالرغم من التحسن النسبي لأوضاع أكراد العراق، والازدهار الثقافي والسياسي في كردستان العراق، فهذا لا يعني أن النظام العراقي قد أوقف السياسات التهجيرية والإجرامية بحق عرب وأكراد وأقليات العراق الأخرى كالآشوريين والكلدان والتركمان.
وفي معرض الحديث عن الوضع في العراق لا بد من ذكر المواقف الشجاعة والواضحة لليسار العراقي وللحزب الشيوعي العراقي تجاه القضية الكردية.
هذا وإحدى الظواهر الجديدة في كردستان العراق هي الأصولية التي، وككل الأصوليات، لا تنذر بالخير ولا بالتحرر...
إيران
124900) كم2 (
لقد قامت في إيران، موطن حوالي السبعة ملايين من الكرد، إحدى ابرز التجارب التحررية الكردية.
ففي عام 1941 تقاسم الاتحاد السوفيتي وبريطانيا النفوذ على إيران لمنع دخولها الحرب إلى جانب ألمانيا. وقد تمتع الاكراد في نطاق سيطرة السوفيت في الشمال الغربي باستقلال نسبي. وخرج السوفيات من إيران في كانون الأول عام 1945 بناء على اتفاق مع طهران، وبضغط من الغرب الإمبريالي. فسارع الاكراد إلى إعلان استقلالهم في كانون الثاني عام 1946 في جمهورية كردستان الديمقراطية والتي عرفت باسم عاصمتها مهاباد، وضمت الحكومة مصطفى البارزاني من العراق.
ولم تكمل "جمهورية مهاباد" سنتها الأولى حتى كان النظام قد قضى عليها وأعدم العديد من قادتها، فيما التجأ الزعيم مصطفى البارزاني إلى الاتحاد السوفياتي حتى 1958.
ورغم نضالات أكراد إيران الجبارة ضد نظام الشاه، والوعود التي تلقوها من قادة الثورة ضده بالحصول على نوع من الحكم الذاتي، فقد تعامل معهم الخميني بالحديد والنار بعدما اصدر فتوى ضد "الشعب الكردي الكافر" (وما اسهل الأحكام الدينية والأصولية!). واستمرت معاناة الاكراد...
في الفترة الأخيرة تحسّن الوضع نسبياَ، بحصولهم على بعض الحقوق الثقافية، وهي خطوة تعتبر ذكية من جانب الإصلاحيين في إيران.
سوريا
18300) كم2
محافظة الحسكة وجوارها)
على خلاف العراق الذي يتضمن دستوره في مادته الثالثة "الإقرار بحقوق العرب والأكراد، الذين هم شركاء بالأمة العراقية"َ، فالدستور السوري لا يأتي على ذكرهم إطلاقا على الرغم من أن اكثر من مليوني كردي يعيشون فيها.
وأوضاعهم قد زادت سوءاَ منذ أواسط القرن العشرين، أي أيام الوحدة المصرية السورية.
فقد تأسس الحزب الديمقراطي الكردستاني (البارتي) عام 1957، ولكن ما لبث أن قمع مع باقي الأحزاب بعد صدور قانون منع الأحزاب السياسية والذي تبعته اعتقالات في صفوف أحزاب عديدة في عام 1959، أيام الوحدة. ومذ ذاك توالت القوانين والإجراءات الظالمة والعنصرية بحق الاكراد، ومجمل الشعب السوري بطبيعة الحال، متزامنة مع محاولات، قد نجحت بمعظمها، في السيطرة على الحركة السياسية الكردية وقمع الحركة الثقافية الكردية بشكل شبه تام. ويجدر أن نذكر أن من آخر واهم المرات التي اعترف فيها بالأقلية الكردية في سوريا كانت بالمؤتمر الاستثنائي لحزب البعث عام 1968، أي قبيل الانقلاب اليميني عام 1970 بقيادة وزير الدفاع وقتها حافظ الأسد.
سأذكر بعضاَ من مظاهر هذه السياسات التي تمت منذ فترة الانقلابات العسكرية في سوريا أيام الستينات، إلى انقلاب عام 1970 اليميني:
في واحد من اكثر أساليب العنصرية إدهاشاّ، تم في الخامس من تشرين الأول عام 1962 إجراء إحصاء استثنائي في محافظة الحسكة (أيام حكومة الانفصال)، حصراَ، بموجب المرسوم التشريعي رقم /93 تاريخ 23/8/1962. وعلى إثره جرّد حوالي الـ120 ألف من أكراد سوريا من الجنسية السورية (إلى جانب من لم ترد أسماؤهم في الإحصاء مطلقاَ(.
والآن هناك أكثر من 250 ألف كردي يعيشون في سوريا دون جنسية سورية، رغم انهم كانوا وقبل إحصاء 5101962 مواطنين سوريين يتمتعون بكامل حقوق وواجبات المواطنة، وكثير منهم أو من آبائهم قد خدم في الجيش العربي السوري وخاض حروبه ودافع عنه.
لقد حرم التجريد من الجنسية هؤلاء المواطنين من جميع حقوقهم، بما فيها حق التعليم لهم ولأولادهم وغيرها من الحقوق (حق السفر والتنقل، حق الملكية, العمل، النقابات، أجراء المعاملات الإدارية، خضوع عقود زواجهم لموافقة الأجهزة الأمنية...الخ)، كما حرموا من أداء واجبهم في خدمة العلم والذود عن استقلال الوطن السوري وحمايته.
كل هذا ويستمر التضييق على الشباب الكردي وتشجيعهم على الهجرة بشتى الوسائل.
ويمنع استخدام اللغة الكردية، أو تسمية الأطفال الأكراد أسماء كردية. حتى الغناء بالكردي ممنوع! ويستمر تعريب أسماء القرى والمناطق الكردية جميعها، وعلى سبيل المثال: مدينة "تربه سبي" أصبحت القحطانية، و"ديريك" استبدلت بالمالكية، ومؤخراً صار "جبل الأكراد" جبل حلب!
وتم استكمال مشروع الحزام الاستيطاني العربي (بطول 350 كم وعرض 25 كم على الحدود التركية(.
مع غيرها من المشروعات والممارسات والقوانين العنصرية الهادفة إلى طمس الهوية الكردية، علماَ انّه كان للأكراد الكثير من المآثر ضد الاستعمار كونهم متجذرين في منطقتهم أباَ عن جد. وما استشهاد يوسف العظمة إلا إشارة واحدة لتلك النضالات.
سياسياً، يبقى الإجماع لدى القوى الكردية في سوريا على اتباع أساليب النضال بحدود العمل الديمقراطي السلمي (يؤمل أن يكون ذلك الموقف المسؤول نابعاَ من مسؤوليتها وليس استسلامها). إلا انه يبقى أن ترتقي إلى مستوى تحديات المرحلة.
وبذلك تكون سوريا البلد الوحيد (بين البلدان التي تضم قسماَ من كردستان) الذي لا يقرّ بالحقوق الثقافية والقومية للأكراد بتاتاَ. بالإضافة إلى أن انعدام الديمقراطية في سوريا ومصادرة الحركة السياسية، عبر تعليب الانتخابات ومصادرة الحياة السياسية السورية عبر أحزاب السلطة "المتبوتقة" غالبيتها في "الجبهة الوطنية التقدمية" بقيادة حزب البعث، والممارسات الجائرة كافة، تطال الشعب السوري بكل عناصره؛ وآخرها اعتقال المناضلين مروان عثمان وحسن صالح لقيادتهما المظاهرة الأولى خارج نطاق النظام في سوريا منذ أربعين عاماَ، بمناسبة يوم حقوق الإنسان العالمي للمطالبة بالحقوق العادلة للشعب الكردي في سوريا. وقد تم اعتقالهما بعد استدعائهما من قبل وزير الداخلية.
وتجدر الإشارة إلى انه وفي أواخر السبعينات، كان لـ"حزب العمل الشيوعي" السوري مواقف تجاوزت الأحزاب الكردية نفسها بخصوص المسألة الكردية، بالرغم من بقائها دون خطوات عملية. إلا انه ولولا حملة القمع الكاسحة التي شنتها الديكتاتورية البعثية على ح.ع.ش.، لربما كان ترك أثرا نعتدّ به في هذا المجال، خصوصاَ وأن أية من الحركات القومية العربية لم تعط هذه القضية حتى الحد الأدنى المطلوب.
بعد استعراض أوضاع الأكراد في وطنهم المجزّأ، حريّ بنا أن نشير إلى المفارقة والتي "جمّعت" الحكومات والأجهزة المخابراتية والأمنية التركية والسورية والإيرانية وهي إعلان الحكم الذاتي في كردستان العراق عام 1991، وهم لم يكونوا بريئين تماماَ من حال الاقتتال الداخلي الكردي في تلك المنطقة.
وبين تآمر الدول المقتسمة لكردستان والدول الإمبريالية على حساب الكرد، نتساءل إن كانوا سيبقون "منبوذي التاريخ" كما سمّاهم أحد المختصين بشؤون الاكراد.
القضية الكردية والحرب المرتقبة على العراق:
لا تفصح تجارب التاريخ، لا البعيد ولا القريب، عن اهتمام أي من القوى العظمى بحل المسألة الكردية لصالح الشعب الكردي. فعندما كانت الإدارة الأميركية تدعم الحركة الكردية في العراق، كانت تضع الـPKK على لائحة الإرهاب الذائعة الصيت. وقبلها كان لكل من الولايات المتحدة وبريطانيا دورٌ أساسيٌ في قمع معظم الانتفاضات الكردية في القرن العشرين وحتى قبل تحالف بريطانيا مع اتاتورك.
وهكذا فالاتكال على الولايات المتحدة والقوى الرأسمالية التي تحاك سياساتها بالدرجة الأولى بمساعدة محاسبين، وليس خبراء قانون!..لا يعدو كونه تطبيقاَ مكلفاَ وساذجاَ لمبدأ: "عنزة ولو طارت". وهذا لا يعني بدوره القطيعة الكاملة مع الولايات المتحدة كدولة، وعدم الاستفادة من بعض اوجه هذه العلاقة، كما حصل بخصوص الحماية الدولية في كردستان العراق.
واللافت هنا استنكار بعض المزايدين لهذا التصرف "المتواطئ"، في حين لم تصدر عن اغلبهم أية التفاتة تجاه المعاناة الكردية تحت الغارات الصدّامية التي رمتهم بالغازات السامة وهجرت منهم مئات الألوف إلى الحدود التركية وغيرها... ولكن الولايات المتحدة كانت أيضا في عداد جوقة الصمت المريب وقتئذ، وهي التي كانت تسلّح النظام العراقي وتدعمه بشتى الوسائل.
هذا ما يعلّق عليه نعوم تشومسكي بقوله: "من المفيد السؤال عن كم مرة تصاحب الشجب الملتهب والعبارات الفصيحة عبارة: وبمساعدتنا".
الحقوق القومية للأكراد بين الشوفينية وحق تقرير المصير:
فيما يصر العديد من المفكرين (بعمق و... بشدّة) والمسؤولين العرب على إيجاد حل لفظي للقضيّة الكردية بقولهم "الأكراد عرب..."، أي كالقول: "اليونانيون ألمان..."!!!، وفي المقلب الثاني من المشهد الظلامي يبهرنا الملاهات الإسلاميون بالقول الرائج في بلادنا: "كلنا اخوة، كلنا مسلمون"، ويستعمل هذا القول كأحد سلالم الانتهازية والسيطرة الأيديولوجية على الشعوب في المنطقة، والمتدينة عموماَ...
فيما بتم ذلك كله، وتستمر كردستان تعاني بصمت، تطرح قضية الحقوق القومية للشعب الكردي نفسها مطلباَ بحاجة لمقاربة تقدّمية تستفيد من أفكار وإرث المفكرين الماركسيين، بالإضافة لتجارب الشعوب، الشاخصة أمامنا بعد أن صارت "تاريخية".
وخلافاَ للسائد، فأهم الماركسيين الثوريين لم يتجاهلوا واقعية الحقوق القومية، وحتى مساهمتها بالتقدم نحو التحرر من الاستعمار، وصولاَ إلى توحيد نضالات الطبقة العاملة بدل تشتيتها وإلهائها بمواضيع قد تأخذ بها إلى أنفاق الشوفينية والرجعية. وهنا يبرز التمييز الواضح الذي دافع عنه لينين بين "قومية الأمة الظالمة" (ذات الوجه الرجعي البورجوازي والاستعماري)، وبين "قومية الأمة المظلومة" ذات الوجه التحرري التقدمي. وهذا كان موضوعاَ ساخناَ للخلاف بينه وبين ستالين، الذي لم يكتف بتجاهل الفوارق تلك، بل كانت له مواقف أقسى تجاه القوميات المقموعة، وقد ظهر هذا لاحقاَ في تعامله مع هذه القضايا بعد الثورة المضادة (الستالينية).
روزا لوكسمبورغ كانت من الذين يعطون للاقتصاد المشترك الأولوية في تشكل "الأمة"، متجاهلة الأسباب السياسية (أواخر القرن التاسع عشر). إلا أنها عادت وطوّرت بنظرتها تلك خاصة خلال فترة سجنها عام 1914، حيث عادت وسلّمت بأهمية مطلب التحرر القومي، في ظروف معينة. ويعود حتى هذا لاعتبارات ردّتها إلى وحدة الطبقة العاملة في مواجهة الرأسمالية المستبدة. غير أن هذا ما شدّد لينين على عكسه، وهو أن الطبقة العاملة في الدولة المضطهِِدة من واجبها التضامن مع سعي القومية المضطهَدة لتحصيل حقوقها القومية، مما يشكّل في رأيه محطّة في المسيرة الأممية، التي تعبّر عن طموح كل شيوعي.
أما ليون تروتسكي فقد أخذ موقعاً وسطيّاً بين لينين وروزا. إلا انه عاد في 1917 وأعلن تأييده الكامل لنظرة لينين إلى حق تقرير المصير للشعوب.
هذا ولا يقدم أي ممن ذكرتهم تعريفاَ محدّد المعالم للقومية (ما عدا التعريف الستاليني) وأسباب تشكّلها، فهي تظل فكرة غير ملموسة مجتمعيّاً أو في مؤسسات الدولة. وتعتمد على اللغة ومكان المنشأ المشتركين. بالإضافة إلى العامل الأهم ألا وهو الوعي القومي المشترك، أي إرادة تقرير المصير لدى الشعب المعني. وما ذُكر من عناصر هو متواجد بوضوح لدى الشعب الكردي. وكل هذا يطرح حق تقرير المصير للشعب الكردي كحق مبدأي، مع العلم أن الحلول الفيدرالية في المنطقة تبدو جديرة بالتفكير، بدل التخبط بكل ما عدا هذا من مماطلة وظلم.
علماً أن الاكراد لا يعلنون عن "رغبات انفصالية" بقدر ما هي مطالبتهم بحكم مركزي وحقوق ثقافية.
وحتى عندما يقول البعض أن كردستان لم توجد ككيان سياسي عبر التاريخ. فعندها يكون السؤال البديهي: "صحيح... إنما إن لم تسمح الظروف عبر التاريخ لهذا الشعب بان تكون له "دولة" أيعني ذلك حرمانهم من هذا الحق إلى الأبد؟ وهل يعلم أي منكم بكيان سياسي تاريخي واضح المعالم على ارض فلسطين؟ أهذا يفرض عليهم ألا يقاوموا المشروع العنصري والاستعماري الصهيوني؟".. هذه السببية اللامنطقية مرفوضة برأينا.
يبقى أن نشير إلى أن كتابات لينين وروزا وتروتسكي وغيرهم، ليست هي "من" سينصف الاكراد وشعوب العالم... إنما فقط ما تبقّى في هذا العالم من إنسانية... ومناضلين...
***************************************************
** كتب الموضوع قبل اسقاط النظام الفاشي في العراق