أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - بهجت العبيدي البيبة - الصيام عبر الزمن: من عادات القدماء إلى عبادة الإسلام














المزيد.....


الصيام عبر الزمن: من عادات القدماء إلى عبادة الإسلام


بهجت العبيدي البيبة

الحوار المتمدن-العدد: 8273 - 2025 / 3 / 6 - 19:00
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


الصيام ليس مجرد عادة عابرة في التاريخ، بل هو تجربة إنسانية متجذرة في أعماق الوعي البشري، ارتبطت منذ القدم بفكرة السمو الروحي، وكأن الإنسان، حين يعمد إلى كبح غرائزه، يكون في حالة من الترقّي، متجاوزًا حدود الجسد إلى فضاءات الروح. لم يكن الصيام يومًا فعل حرمانٍ بقدر ما كان وسيلةً للوصول إلى نقاء داخلي، تحرّرٍ من قيود المادة، وإحساسٍ مختلف بالحياة. لهذا، لم يكن غريبًا أن تجده حاضرًا في مختلف الحضارات، يتخذ أشكالًا متعددة، لكنه يظل في جوهره نداءً داخليًا لاستعادة صفاءٍ مفقود.
في مصر القديمة، كان الصيام طقسًا مهيبًا، يؤدّيه الكهنة قبل الدخول إلى المعابد، استعدادًا لمخاطبة الآلهة. لم يكن الأمر مجرد انقطاعٍ عن الطعام، بل تطهيرًا كاملًا للنفس والجسد، عزلةً عن شواغل الحياة، وتركيزًا في التأمل، وكأن من أراد الاقتراب من المقدّس، كان عليه أن يتخفّف من أثقال الدنيا. ولم يكن الكهنة وحدهم من مارسوا الصيام، بل كان المصريون يصومون في مناسباتٍ مرتبطةٍ بدورات الطبيعة، فحين كانت الشمس تحتجب في الكسوف، أو يهيمن الظلام في الخسوف، كان الصيام وسيلةً لاسترضاء القوى الغامضة التي تحكم الكون، اعتقادًا منهم بأن الصوم قد يكون نوعًا من القربان الذي يعيد التوازن إلى العالم. كما صام المصريون عند حلول بعض الأعياد، لا سيما تلك التي تتعلق بالإله أوزوريس، سيد البعث والحياة بعد الموت، وكأنهم في صيامهم كانوا يتهيأون لرحلة روحية توازي رحلته في العالم الآخر.
أما اليهود، فقد ارتبط الصيام عندهم بيوم الغفران، حيث يتجرد المؤمنون من شهواتهم، طلبًا للمغفرة، وانقطاعًا عن ملذات الحياة، ليكونوا في حضرة الإله وقد تخلّصوا من أدران الذنوب. ولم يكن يوم الغفران الصيام الوحيد في الديانة اليهودية، فقد عرف اليهود أيامًا أخرى للصيام، غالبًا ما ارتبطت بالمِحَن والنكبات، فحين شعر أهل نينوى بأن العذاب يوشك أن ينزل بهم، لم يجدوا وسيلةً للنجاة سوى أن يصوموا جميعًا، رجالًا ونساءً وأطفالًا، بل حتى دوابّهم، في مشهدٍ يعكس إحساسًا عميقًا بالضعف أمام قدرة الله. ومع ظهور المسيحية، ظلّ الصيام قائمًا، لكنه اتخذ شكلًا مختلفًا، حيث أصبح تقييدًا لأنواع معينة من الطعام بدلاً من الامتناع التام، في إشارة إلى أن الهدف من الصيام ليس الامتناع في ذاته، بل تهذيب النفس وتقوية الإرادة، حتى يظل الإنسان قادرًا على ضبط رغباته، فلا يكون أسيرًا لها.
أما في جزيرة العرب، فلم يكن الصيام مجهولًا قبل الإسلام، فقد عرفته قريش، سواءً تأثرًا باليهود أم كنتيجة لموروثٍ ديني ضائع في دهاليز الزمن. فلقد كان بعض العرب يصومون نذورًا، حيث يمتنع الواحد منهم عن الطعام تحقيقًا لغرض معين، وكأن الجوع، في تصوّرهم، نوعٌ من المقايضة مع القدر، فكلما ازداد العطش، ازدادت احتمالات تحقق الأمنيات. كما صام البعض تكريمًا لأيام بعينها، تمامًا كما فعل عبد المطلب حين صام شكرًا لله بعد حفر بئر زمزم.
ثم جاء الإسلام ليعيد تشكيل مفهوم الصيام، فلم يعد وسيلةً لمساومة القدر، ولا طقسًا يؤديه الكهنة وحدهم، ولا مظهرًا من مظاهر الحزن أو التوبة عند وقوع الكوارث، بل أصبح عبادةً ذات نظامٍ محكم، تؤدّى في زمان محدد، وفق نهج واضح. لم يكن الصيام في الإسلام غاية في ذاته، بل كان طريقًا إلى التقوى، تمرينًا روحيًا يُعيد توازن الإنسان بين حاجات الجسد ومتطلبات الروح، فلا يطغى أحدهما على الآخر. لم يُفرض الصيام بلا رحمة، بل كان هناك رخصةٌ لمن لا يطيقه، وفديةٌ لمن يعاني مشقةً لا تُحتمل، حتى لا يكون في الامتناع عن الطعام قهرٌ للنفس، بل ترويضٌ لها، حتى يتعلم الإنسان كيف يتحكم في رغباته، بدلاً من أن يكون خاضعًا لها.
في الصيام، يعيش المجتمع تجربةً جماعية، يشترك فيها الجميع، فيتساوى الأمير والخادم، الغني والفقير، فلا تفرقة بين أحد، الجميع يعانون الجوع نفسه، ويتذوقون طعم العطش ذاته. كان الهدف من ذلك أن يشعر الشبعان بما يعانيه الجائع، وأن يتذكّر من يمتلك الطعام أن هناك من يحرم منه، فتنشأ في النفس حالة من التعاطف، ويترسّخ الإحساس بالمساواة، وتُكسر الحواجز التي يضعها التفاوت الاجتماعي بين البشر.
لم يفرض الصيام في الإسلام خوفًا من عقاب إلهي، كما كان في بعض الديانات السابقة، ولم يكن مجرّد وسيلة للتكفير عن الذنوب، بل كان رحلةً روحية، يتنقل فيها الإنسان بين الصبر والحرمان، ليصل في النهاية إلى الصفاء الداخلي. في كل يوم صيام، يختبر الإنسان قوته على المقاومة، وفي كل لحظة جوع، يتعلّم كيف يسيطر على رغباته، وفي كل ساعة انتظار، يدرك أن الحياة ليست مجرد طعامٍ وشراب، بل تجربة أعمق من ذلك، تتجاوز الغرائز إلى إدراك معاني الرحمة والتأمل والانضباط.
هكذا لم يأت الإسلام ليطمس الصيام، بل ليعيد تشكيله، فيحوّله من عادةٍ فردية إلى عبادةٍ مجتمعية، ومن طقسٍ غامضٍ إلى نظامٍ واضح، ومن حرمانٍ عبثي إلى انضباطٍ هادف. أصبح الصيام في الإسلام أكثر من مجرد جوعٍ وعطش، بل تجربةً تهذيبية تعيد الإنسان إلى ذاته، وتجعله أكثر إدراكًا لحقيقة أنه ليس مجرد جسدٍ يأكل ويشرب، بل روحٌ تسعى إلى السمو، وتبحث عن معنى أعمق للحياة.



#بهجت_العبيدي_البيبة (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رمضان… حين يشرق النور في القلوب
- التحديات السكانية في القرن الحادي والعشرين: قراءة مالتوسية ف ...
- الانتخابات الألمانية 2025: تحولات سياسية كبرى وتداعياتها على ...
- عندما يسخر الجهل من المعرفة
- مصر… حائط الصد الأخير في وجه مخطط التهجير
- ترامب ومكتب الإيمان: بين صعود الأصولية والصدام المحتمل
- حادث السويد الدامي: الإرهاب لا لون له ولا حدود
- التناغم الأمريكي-الإسرائيلي بين التصريحات والرموز: قراءة في ...
- الإعلام بين الإنصاف والتحريف - قراءة في تصريحات مارسيل كولر
- إيمانويل كانط: فيلسوف النور الذي رسم حدود العقل والإنسان
- الجنون في الحكم: من الحاكم بأمر الله إلى ترامب … بين الطبع و ...
- مرموش..لماذا يدعم المصريون أبطالهم عالميًا؟ قراءة نفسية واجت ...
- في غياهب الغيبوبة العقلية: من يستفيد من تغييب الوعي؟
- هل يستطيع ترامب تنفيذ تصريحاته حول المثليين .. حدود السلطة ت ...
- بين ابتلاء العقل وابتلاء الواقع: قراءة في حريقين… وعقلين
- في عالم متغير: نحو نظام عالمي جديد بين التحديات والطموحات
- العقل العربي بين قيود الماضي وأحلام المستقبل
- الحضارة الغربية بين القيم والانتقادات: رؤية متوازنة
- من هزيمة المغول إلى كسر أوهام الشرق الأوسط الجديد: مصر مقبرة ...
- المستقبل في ظل الاعتماد على الروبوتات: العالم بين الابتكار و ...


المزيد.....




- خطوات التسجيل في الاعتكاف بالمسجد الحرام شهر رمضان 1446
- علماء ينتجون -فئرانًا صوفية- في خطوة لإعادة حيوان الماموث إل ...
- متحف السيرة النبوية بالسنغال.. تجربة تفاعلية تكشف تفاصيل حيا ...
- رابط تسجيل الاعتكاف في المسجد الحرام 1446 والضوابط المفروضة ...
- مستعمرون يقتحمون الأقصى بقيادة يهودا غليك
- لماذا تعد التحديثات اليومية التي يقدمها الفاتيكان عن البابا ...
- خطوات تثبيت تردد قناة طيور الجنة الجديد “هنـــــــــــا” .. ...
- “من هنــــــــــا” .. رابط التسجيل في الاعتكاف بالمسجد الحرا ...
- ممنوع لهؤلاء .. شروط الاعتكاف في المسجد الحرام وخطوات التسجي ...
- الفاتيكان يكشف تطورات الحالة الصحية للبابا فرنسيس


المزيد.....

- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - بهجت العبيدي البيبة - الصيام عبر الزمن: من عادات القدماء إلى عبادة الإسلام