أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - السياحة والرحلات - أوزجان يشار - البلد: روح مدينة جدة القديمة















المزيد.....


البلد: روح مدينة جدة القديمة


أوزجان يشار

الحوار المتمدن-العدد: 8272 - 2025 / 3 / 5 - 17:35
المحور: السياحة والرحلات
    


لطالما شغفتني قصص علاء الدين وحكايات ألف ليلة وليلة، كنت أتخيل نفسي أعيش في تلك الأزمنة الساحرة، أتجول بين الأسواق العامرة، وأسمع أصوات الباعة، وأشم روائح البخور والتوابل، وأتلمس جدران البيوت التي تحمل في أحجارها أسرار قرون مضت. ومع مرور الزمن، وجدت نفسي أمام المكان الأقرب إلى تلك الأحلام، حيث يبدو الزمن وكأنه قد توقّف؛ حي البلد في جدة القديمة.
عند بوابة الزمن
في المساء، حين بدأت الشمس تغوص ببطء في مياه البحر الأحمر، دخلت إلى البلد عبر أحد أزقته الضيقة المرصوفة بالحجارة، تلك التي وطأتها أقدام التجار والمسافرين منذ مئات السنين. ما إن بدأ الليل يبسط جناحيه، حتى دبت الحياة في المكان، وأضيئت المصابيح المعلقة على الجدران، مغمورة بوهج دافئ يضفي على المشهد سحرًا خاصًا. التجار ينادون بحماس، يلوحون بالبضائع التي تراكمت على طاولاتهم الخشبية، والباعة الجائلون يعرضون بضاعتهم في الأزقة، فيما تختلط أصواتهم بصدى خطوات الزوار المتجولين بين الأزقة الضيقة، وكأن المشهد استعاد حيويته التي كانت قبل قرون.
ذكّرني هذا الصخب بمدن أخرى زرتها، مثل القاهرة ومراكش، حيث الأسواق القديمة تشبه الكائنات الحية، تنبض بالحركة وتمتلئ بروائح الماضي. ولكن البلد يختلف، فله طابع خاص، روح مختلفة تشعر بها في كل زاوية، وكأن الجدران القديمة تهمس لك بقصصها.
هندسة خالدة
عدت في اليوم التالي عند الصباح، حين كانت الأزقة هادئة إلا من خطواتي على الأرض المرصوفة بالحجر القديم. هنا، لا تُقدَّر المباني بعمرها فقط، بل بقدرتها على الصمود، كأنها مخلوقات من الحجر والخشب، تقاوم الزمن رغم تشققات جدرانها. نظرت إلى البيوت العالية التي تعانق السماء، بنيت من قوالب الطين والحجر، مدعمة بعوارض خشبية أفقية تكررت على ارتفاعات متساوية، مما جعلني أفكر في عبقرية صانعيها. كانت العوارض الخشبية بمثابة قيد يمنع الجدران من الانهيار، يخفف الضغط ويوزّع الوزن، فيجعل المباني أكثر تماسكًا.
لكن أكثر ما أسرني في تلك العمارة هو الروشان، الشرفات الخشبية المغطاة بشبكات ناعمة من الخشب المنحوت. كانت تلك النوافذ الخشبية تسمح بدخول الهواء والضوء إلى البيوت، وتحمي ساكنيها من حرارة الشمس ونظرات الغرباء. من خلفها، ربما وقفت نساء يراقبن السوق في زمن قديم، أو جلس أطفال يتأملون العالم الخارجي دون أن يراهم أحد.
الصورة التي لم تكتمل
رحت أرفع الكاميرا ببطء، باحثًا عن زاوية تلتقط جمال المشهد. لكنني ترددت. شعرت أنني مراقب. هل سيعتبرونني متطفلًا؟ هل سأزعج أحدهم دون قصد؟ بعض الأماكن لا تحب الكاميرات، وبعض العيون لا ترتاح لوجودها. كان البلد حيًا تقليديًا يحتفظ بأصالته، وأهله لم يعتادوا على الغرباء وهم يحملون الكاميرات بين أزقته الضيقة. كلما رفعت الكاميرا، كنت ألحظ نظرات متفرقة تراقبني، بعضها فضولي، وبعضها متوجس.
وفي لحظة صمت بين ضجيج السوق، سمعت صوتًا أجشًا يناديني من زاوية أحد البيوت القديمة. التفت بسرعة، ورأيت رجلاً عجوزًا برداء أبيض وثوب فضفاض يشير إليّ بيده. للحظة، تجمدت في مكاني، وارتفعت دقات قلبي. هل ارتكبت خطأً؟ هل اعترض على التقاطي للصور؟ فكّرت للحظة أن أتظاهر بأنني لم أسمع النداء وأبتعد ببطء. لكن الرجل لم يتحرك من مكانه، فقط واصل التحديق نحوي بإصرار.
وقبل أن أتخذ قرارًا، تحدث الرجل مرة أخرى، وهذه المرة بصوت أقل حدة، مشيرًا إلى الداخل:
“تعال، اشرب شاي… تعال.”
دعوة إلى الشاي
ترددت للحظة، ثم قررت الاقتراب. لم يكن في صوته غضب، بل شيء أقرب إلى دعوة حقيقية. دخلت إلى بيته المتواضع، حيث كان الضوء الخافت يتسلل عبر نوافذ الروشان، ملقيًا بظلال متراقصة على الجدران الحجرية. دعاني الرجل للجلوس على وسائد موضوعة بعناية على الأرض، ثم أحضر لي كوبًا صغيرًا من الشاي، وطبقًا به تمر طازج. مددت يدي إلى الكوب، وحين تذوقت الشاي، كان دافئًا، ممزوجًا بنكهة النعناع، يبعث على راحة لم أشعر بها منذ بداية يومي.
راح الرجل يتحدث، يسرد لي قصصًا عن شبابه، وعن أيام كان فيها البلد مختلفًا عما هو عليه الآن. لم أكن أفهم كل كلماته، لكنه كان يتحدث بعاطفة وحنين جعلتني أدرك أن هذا المكان ليس مجرد مجموعة من الأزقة والأسواق القديمة، بل هو سجل حي لحياة كاملة عاشها أناس من أزمان مختلفة.
حين خرجت من منزله بعد ساعة، كنت قد تركت خلفي ليس فقط رهبة التصوير، بل فكرة أن الكاميرا قادرة على التقاط كل شيء. بعض المشاهد لا يمكن حفظها في صورة؛ بعضها يعيش فقط في الذكرى، وفي الدفء الذي تتركه دعوة شاي غير متوقعة وسط حيٍّ يحتفظ بروحه في حجره وأزقته وأهله.
أصداء الماضي في السوق
واصلت السير، لكن هذه المرة بخطوات أبطأ، وكأنني لم أعد زائرًا بل جزءًا، ولو بسيطًا، من قصة البلد. تجولت بين الأسواق، حيث يعرض التجار بضائعهم، من الذهب اللامع في سوق الندى، إلى الأقمشة الملونة في سوق الجامعة، ومن التوابل العطرية في سوق العلوي، إلى الأدوات التقليدية في سوق قابل. كل سوق يحكي فصلًا مختلفًا من تاريخ المدينة، لكن جميعها تشترك في شيء واحد: صوت الحياة النابض والمستمر الذي لا يتوقف.
العودة إلى الحاضر
عند مغادرتي، مررت بساحة الملك عبد العزيز التاريخية، حيث وقف الأهالي يومًا ما يرحبون بالملك المؤسس عبد العزيز آل سعود حين دخل جدة عام 1924. المكان يحمل ذاكرة الحدث، والجدران تحتفظ بأصداء تلك اللحظة. عبرت الساحة، واتجهت نحو بوابة البلد، حيث كنت قد دخلت في اليوم السابق.
لكن هذه المرة، عند عبوري البوابة، لم يكن الشعور نفسه. جدة الحديثة انتظرتني خلف الأسوار، بناطحات سحابها ومراكزها التجارية المزدحمة وأضوائها الساطعة. كان الانتقال بين العصور سريعًا، صادمًا، كأنني انتزعت فجأة من حلم جميل وعدت إلى عالم مختلف.
حين نظرت خلفي للمرة الأخيرة، رأيت البلد تحت ضوء المساء، أزقته تتلاشى في الظل، وأضواؤه تضيء بهدوء، كما لو أنه يستعد لحكاية جديدة، ليلة أخرى من ألف ليلة وليلة، يرويها بصمت لمن يعرف كيف يستمع.
البلد لم يكن مجرد حكاية أو مكان… بل تجربة وتاريخ وقطعة من الزمن ما زالت تنبض بالحياة.



#أوزجان_يشار (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- معضلة القنفذ: فلسفة المسافة الآمنة في العلاقات الإنسانية
- الحمار المظلوم وحكمة “موت يا حمار”
- مجتمع النبل والإنسانية: دروس مستوحاة من الذئاب
- الصراع العالمي القادم على الليثيوم: وقود معركة الطاقة المستق ...
- إتقان منهج يونغ: رحلة إلى أعماق النفس البشرية
- سبينوزا وفلسفة السعادة: طريق العقل إلى الحرية
- الإحباط من الواقع قد يقتل فرص النجاح
- قواعد التعامل الاجتماعي
- مصاصي الطاقة والعلاقات السامة
- خطاء المديرين في الإدارة
- طواحين الهواء (متلازمة دون كيشوت)
- أنواع العقد النفسية: تحليل لأشهرها وأسبابها وآثارها وطرق الت ...
- من مذكرات الكاتب التركي عزيز نيسين..- الفأر الصغير في زيت ال ...
- مخلوقات تهدد المرافق الصناعية
- -العفريت والمحيط- من مذكرات الكاتب التركي -عزيز نيسين-
- يا جملي الصغير
- الديك و الشادوف
- رؤية جاك ديريدا
- نوايا تقمص الشخصيات
- الحمى و الخوخ الأخضر


المزيد.....




- محمد دياب يكشف سرا عن مسلسل -أشغال شقَة-
- ترامب يوجه -تحذيرا أخيرا- لـ-حماس- بشأن الرهائن
- قيادي حوثي: إدخال المواد إلى غزة لدينا أهم من مواد قرار التص ...
- زاخاروفا تعلق على تصريحات ماكرون
- أول رد من أبو تريكة على مهاجمته بعد إعلان تلفزيوني: -لن تعلم ...
- -لن يفتقده أحد-.. مدفيديف يرد على كلام ماكرون بشأن -التهديد ...
- زامير يجري تعديلات بقادة الجيش الإسرائيلي ويعلن 2025 عام حرب ...
- ماكرون يتحدث عن دفاع فرنسي نووي عن أوروبا واستغناء عن أميركا ...
- روسيا تصدر جوازات سفر بالمناطق التي سيطرت عليها في أوكرانيا ...
- رومانيا تطرد الملحق العسكري الروسي ونائبه


المزيد.....

- قلعة الكهف / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - السياحة والرحلات - أوزجان يشار - البلد: روح مدينة جدة القديمة