أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جلبير الأشقر - «أمريكا أولاً» والانقلاب الكبير في العلاقات الدولية















المزيد.....


«أمريكا أولاً» والانقلاب الكبير في العلاقات الدولية


جلبير الأشقر
(Gilbert Achcar)


الحوار المتمدن-العدد: 8272 - 2025 / 3 / 5 - 10:30
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    




إن منطق «أمريكا أولاً» الذي تبنّاه التيار النيوفاشي الأمريكي المعروف باسم «ماغا» ـ وهي التسمية الأوائلية الإنكليزية لشعار حملة دونالد ترامب المعروف: «اجعل أمريكا عظيمة من جديد» ـ قد يبدو عقلانياً لمن لا دراية له في التاريخ الاقتصادي للعلاقات الدولية. فحسب ترامب وأتباعه، أنفقت أمريكا أموالاً طائلة في حماية حلفائها، على الأخص الدول الغنية بينهم، أي دول الغرب الجيوسياسي (أوروبا واليابان بوجه خاص) والدول النفطية العربية الخليجية. وقد حان وقت تسديد الديون: فعلى كافة هذه الدول أن تسدد الفاتورة بتصعيد استثماراتها في الولايات المتحدة ومشترياتها منها، لاسيما مشترياتها من السلاح (وهو ما يقصده ترامب بضغطه المستمر على الأوروبيين كي يزيدوا نفقاتهم العسكرية). ويندرج هذا كله بصورة طبيعية في المنطق الاتجاري (المركنتيلي) المنسجم مع التعصّب القومي المميّز للأيديولوجيا النيوفاشية (أنظر «عصر الفاشية الجديدة وبما يتميّز» القدس العربي، 04/02/2025).
هكذا، يبدو وكأن الإنفاق العسكري الأمريكي الذي فاق حقاً ليس إنفاق حلفاء أمريكا وحسب، بل كاد يعادل في وقت ما إنفاق كافة دول العالم الأخرى مجتمعة، إنما هو تضحية كبرى لصالح الغير. وحسب المنطق ذاته، يبدو العجز الكبير في الميزان التجاري الأمريكي وكأنه ناجم عن استغلال الآخرين لطيب خاطر الولايات المتحدة، بحيث يودّ ترامب تقليصه بفرض الرسوم الجمركية على كافة الدول التي تصدّر إلى أمريكا أكثر مما تستورد منها. وهو بذلك يريد أيضاً زيادة مدخول الدولة الفدرالية تعويضاً عن إنقاصه له بفعل تقليص الضرائب على الأغنياء وعلى الرأسمال الأمريكي.
أما الحقيقة التاريخية فمغايرة تماماً لهذا التصوير المبسطّ للأمور. أولاً، كانت النفقات العسكرية الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية، ولا تزال، عاملاً رئيسياً في الدينامية الخاصة بالاقتصاد الرأسمالي الأمريكي، الذي استند مذّاك إلى «اقتصاد حربي دائم» (ثمة شرح مستفيض لهذا الموضوع في كتابي «الحرب الباردة الجديدة: الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين، من كوسوفو إلى أوكرانيا» درا الساقي، 2024). وقد لعبت النفقات العسكرية، ولا تزال، دوراً كبيراً في ضبط مسار الاقتصاد الأمريكي وفي تمويل البحث والتطوير التكنولوجيين (كان هذا الدور الأخير بارزاً في الثورة المعلوماتية، وهو الحقل الذي أعاد أمريكا إلى الصدارة التكنولوجية بعد الأفول النسبي لصناعاتها التقليدية).
ثانياً، اندرجت الحماية العسكرية التي وفّرتها الولايات المتحدة لحليفاتها في أوروبا واليابان وللدول العربية الخليجية في علاقات من الطراز الاقطاعي، حيث قدّمت هذه الدول للسيد الاقطاعي الأمريكي امتيازات اقتصادية جمّة، فضلاً عن مشاركتها في المنظومة العسكرية التي حصر إدارتها بين يديه. فالحقيقة مناقضة كلياً لتصوير ترامب وأعوانه لعلاقات الولايات المتحدة بحليفاتها وكأنها قائمة على استغلال هؤلاء لها. فإن الواقع هو العكس تماماً، إذ فرضت على حليفاتها، لاسيما على الدول الغنية بينها، نمطاً من العلاقات الاقتصادية استغلتها من خلاله، وعلى الأخص من خلال فرضها لدولارها كعملة دولية، بحيث موّلت الدول الحليفة بصورة مباشرة وغير مباشرة العجز في الميزان التجاري الأمريكي وفي ميزانية الدولة الفدرالية. وقد عادت باستمرار دولارات العجز التجاري الأمريكي، ومعها موارد شتى البلدان بالدولار، تنضخّ في الاقتصاد الأمريكي، بعضها في تمويل الخزينة الأمريكية مباشرة.


هكذا عاشت الولايات المتحدة، ولا تزال، فوق امكانيتها الخاصة بكثير، الأمر الذي ينجلي في حجم عجزها التجاري الذي ناهز ألف مليار دولار في العام المنصرم وحجم مديونيتها الهائل الذي يزيد عن 36 ألف مليار دولار، بما يساوي 125 في المئة من ناتجها المحلّي الإجمالي. فالولايات المتحدة هي النموذج الأعلى للمستدين الكبير والقوي الذي يعيش على نفقة الدائن الثري في علاقة سيادة للأول على الثاني، بدل أن يكون العكس.
وحتى إزاء أوكرانيا، فإن ما قدّمته الولايات المتحدة لذلك البلد حتى الآن، ويبلغ 125 مليار دولار (بعيداً عن أرقام ترامب الخيالية، حيث يدّعي أن بلاده أنفقت 500 مليار دولار في هذا الصدد) يعادل ما قدّمه الاتحاد الأوروبي وحده (والحال أن الناتج المحلّي الإجمالي الأوروبي أقل من الأمريكي بحوالي 30 في المئة) فضلاً عمّا قدّمته بريطانيا وكندا وسواهما من حليفات أمريكا التقليدية. والحقيقة أن ما أنفقته الولايات المتحدة في تمويل مجهود الأوكرانيين الحربي خدم سياستها الرامية إلى إضعاف روسيا بوصفها منافِسة إمبراطورية لها. ذلك أن واشنطن هي المسؤولة الأولى عن صنع الظروف التي يسّرت التحوّل النيوفاشي في روسيا وأدّت إلى غزو جارتها، إذ تعمّدت تسعير العداء لروسيا وللصين بعد الحرب الباردة من أجل توطيد تبعية أوروبا واليابان لها.
لكن عندما يقرّ ترامب وفريقه بمسؤولية الإدارات الأمريكية السابقة فيما آل إلى غزو روسيا لأوكرانيا، لا يفعلون ذلك حباً للسلام كما يزعمون نفاقاً (وموقفهم من فلسطين خير دليل على نفاقهم) بل في سياق انتقالهم من اعتبار روسيا دولة إمبريالية منافِسة، وهو النهج الذي اتبعته واشنطن بصورة متصاعدة الحدّة منذ تسعينيات القرن الماضي بالرغم من انهيار الاتحاد السوفييتي وعودة روسيا إلى حظيرة النظام الرأسمالي العالمي، انتقالهم من ذلك إلى اعتبار حكم بوتين شريكاً لهم في النيوفاشية، يتطلعون إلى التعاون معه في تعزيز تيار أقصى اليمين في القارة الأوروبية والعالم، فضلاً عن الاستفادة من السوق الكبيرة والموارد الطبيعية العظيمة التي لدى روسيا. وحيث يرون في الحكومات الليبرالية الأوروبية خصماً أيديولوجياً ومنافِساً اقتصادياً في الوقت نفسه، يرون في روسيا دولة حليفة أيديولوجياً ليس بوسعها منافستهم اقتصادياً.
أما الصين فهي في نظر ترامب وفريقه الخصم السياسي والمنافس الاقتصادي والتكنولوجي الأعظمين، وقد جارى هذا النهج الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن بحيث أرسى تواصلاً بين ولايتي ترامب الأولى والثانية في موضوع العداء للصين. وإذ يتمنّى فريق ترامب فصل موسكو عن بيجين، مثلما انفصلت الصين عن الاتحاد السوفييتي في سبعينيات القرن الماضي وتحالفت مع الولايات المتحدة، لن يغامر بوتين بولوج هذا الدرب ما دام ليس متأكداً من ثبات الفريق النيوفاشي الأمريكي في إدارة بلاده.
والسؤال الكبير الآن هو إذا ما كان المحور الليبرالي الأوروبي مستعداً حقاً للسير على درب التحرر من الوصاية الأمريكية، الأمر الذي يتطلّب وقف مجاراته لواشنطن في مخاصمة الصين وتوطيده لعلاقات تعاون معها. كما يقتضي هذا الأمر استعداد الدول الأوروبية للعمل بالقانون الدولي والمساهمة في تعزيز دور الأمم المتحدة وسائر المؤسسات الدولية، وهما أمران لا تنفك بيجين تنادي بهما.
وبالطبع فإن مصلحة أوروبا الاقتصادية لجلية في هذا الصدد، لاسيما مصلحة أكبر اقتصاد أوروبي، ألا وهو الاقتصاد الألماني الذي تربطه بالصين علاقات كثيفة. وتضاف إلى الصورة المفارقة التي تتمثل في أن الصين باتت تلتقي مع الأوروبيين في الدفاع عن حرية التجارة العالمية في وجه النهج الاتجاري الذي اعتمده ترامب وفريقه، كما تلتقي معهم في الدفاع عن السياسات البيئوية في وجه نقضها المصحوب بإنكار التغير المناخي الذي يميّز شتى النيوفاشيين. فإن المواقف الحادة التي أعرب عنها رئيس الوزراء الألماني القادم، فريدرش ميرتس، في نقده لواشنطن ودعوته إلى استقلال أوروبا عن أمريكا، لو تجلّت في سعي فعلي لسلوك هذا الدرب، قد تنعكس في موقف الاتحاد الأوروبي من الصين، لاسيما أن الموقف الفرنسي مائل في الاتجاه ذاته.
كل هذه الأمور تؤكد احتضار النظام الليبرالي الأطلسي ودخول العالم في مرحلة عاصفة من خلط للأوراق، لا زلنا في بدايتها. وسوف يكون لانتخابات الكونغرس الأمريكي في العام القادم، دور كبير في دفع هذه السيرورة إلى الأمام أو كبحها، حسب ما تؤدي إليه من تمتين للهيمنة النيوفاشية على المؤسسات الأمريكية أو إضعافها. هذا وقد بدأ التيار النيوفاشي الأمريكي يقلّد أمثاله في دول شتى من العالم في قضم تدريجي للديمقراطية الانتخابية ووضع اليد على مؤسسات الدولة الأمريكية سعياً وراء إدامة تحكمه بها.



#جلبير_الأشقر (هاشتاغ)       Gilbert_Achcar#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- «لو كنتُ أعلم» موسى أبو مرزوق
- سلامٌ بين الفاشيين الجدد وحربٌ على الشعوب المقهورة
- حماس: «نحن الطوفان… نحن اليوم التالي»
- عصر الفاشية الجديدة وبما يتميّز
- في خطورة مواقف ترامب بشأن غزّة وفلسطين
- أسطورتان متعلقتان بوقف إطلاق النار في غزّة
- بعد خمسة أيام غيّرت وجهه… ما مصير لبنان؟
- سلطة رام الله واستكمال الحصار
- طوفان الأقصى والغرب والمحرقة
- خواطر متشائمة على عتبة عام جديد
- كيف يُعاد بناء الدولة السورية؟
- سوريا إلى أين؟
- ماذا يجري في سوريا؟
- وقف النار في لبنان لن يكون «نصراً إلهيّاً»
- «فريق الأحلام» الصهيوني في إدارة الولايات المتحدة
- ترامب والشرق الأوسط: ماذا ينتظرنا؟
- الهجمة الإسرائيلية اللاحقة على إيران
- معضلة «حزب الله»
- مصير المنطقة بين الصهيوني الأمريكي وزميله الإسرائيلي
- لماذا ترفض طهران وقف النار في لبنان؟


المزيد.....




- الاتحاد الأوروبي يقر نظام رقابة آليا على حدوده الخارجية بديل ...
- إسرائيل تريد إبقاء القواعد الروسية في سوريا
- روبيو: النزاع في أوكرانيا هو حرب بالوكالة بين الولايات المتح ...
- تجميد المساعدات العسكرية الأمريكية لأوكرانيا يُفاقِم الصراعا ...
- السيناتور غراهام: زيلينسكي كان جيدا في الحرب لكنه يحتاج إلى ...
- روبيو يحذر -حماس-: خذوا تهديدات ترامب على محمل الجد
- كوريا الجنوبية.. إصابة مدنيين وتدمير عدة مبان إثر إلقاء طائر ...
- السودان.. تحركات في 3 مسارات لوقف الحرب المتصاعدة
- 700 دبلوماسي أميركي يحتجون على تفكيك وكالة التنمية
- خطاب ترامب أمام الكونغرس جذب 36.6 مليون مشاهد


المزيد.....

- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- الخروج للنهار (كتاب الموتى) / شريف الصيفي
- قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا ... / صلاح محمد عبد العاطي
- لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي / غسان مكارم
- إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي- ... / محمد حسن خليل
- المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024 / غازي الصوراني
- المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021 / غازي الصوراني
- المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020 / غازي الصوراني
- المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و ... / غازي الصوراني
- دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد ... / غازي الصوراني


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جلبير الأشقر - «أمريكا أولاً» والانقلاب الكبير في العلاقات الدولية