|
رسائل إلى سميرة (16): سقط النظام!
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 8271 - 2025 / 3 / 4 - 18:20
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
سموري الغالية، بعد صمت لسنوات، بدأت بكتابة رسالة لك في شهر أكتوبر 2024، وضعت لها عنواناً حارسة الأمل. هذا لأن غيابك ارتبط بتآكل الأمل لديّ على المستويين الشخصي والعام، وطوال 11 عاماً. لكني توقفت بعد سطور لأنه لم يكن لدي ما أقوله لك عن الحال في غيابك. أنت الحال شخصياً، فماذا يقول لك، عنك، مَن لا يشاركك الغياب؟ أنت وحدك التي خبرت كل شيء، ووحدك من تستطيعين تقديم الشهادة الكاملة. أما أنا فقد بذلت كل جهد ممكن عبر السنوات يا سمور من أجل نسيانٍ ما لغيابك، كي لا أعيش معه كل لحظة وكل دقيقة. لكنه كان يأتيني في هجمات دون توقّع وفي أي وقت، يخطفني مثلما خُطِفت أنتِ قبل 11 عاماً.
أكتب لك بعد انقطاع سنوات لأحدثك عمّا كان يمكن أن يكون أعظم خبر ممكن لو أنك معي: سقط النظام! هرب بشار الأسد إلى روسيا! دون أن يقول كلمة واحدة لجمهوره المفترض أو لعموم السوريين. وخلال أيام سرت بين سوريين عبارة: «قائدنا إلى الأبد/ هرب يوم الأحد!». حدثت قصة عجيبة يا سمور: هيئة تحرير الشام، جبهة النصرة مثلما كانت تسمى وقت غيابك، أطلقت بالتنسيق مع مجموعات مقاتلة أخرى عملية عسكرية لاستعادة مناطق كان سيطر عليها النظام، رغم أنها من «مناطق خفض التصعيد» بحسب اتفاقية أستانة بين روسيا وتركيا وإيران. لكن المقاتلين سيطروا بسرعة على مدينة حلب، وانتقلوا إلى حماة التي وقعت في أيديهم بعد بعض مقاومة، ومنها إلى حمص ثم دمشق، التي حررت صباح الثامن من كانون الأول (ديسمبر) من عام 2024، الساعة 6:18 مثلما ترين ملصقاً على زجاج بعض السيارات، أي قبل يومٍ واحد من ذكرى غيابك. اندفاعة من الشجاعة لا تصدق، أخذت بالكاد 12 يوماً، واتّسمت بحسن التنسيق وبالانضباط وبانتهاكات محدودة. كنت أخشى بعد أن انطلقوا من حماة باتجاه حمص أن تقع مذبحة كبيرة، ويتدمر ما بقي غير مُدمّر من المدينة، لكن لا شيء من ذلك حصل. والناس الذين غادروا حمص خشية من انتقام طائفي ومذابح، ومنهم بعض أحبابنا، عادوا إليها بعد يومين أو ثلاثة. لولو ونجاة بقيتا في المدينة، ولم تتعرضا لمتاعب. أذكر أختك نجاة ولولو فقط لأن عفيف توفي قبل شهور للأسف. ليته شهد يوم التحرير! ولم أقل لك من قبل أن الدكتور منيف توفي فجأة قبله بعامين. لم يعد لدى عفيف دافع للعيش بعد فقد أخيه، وبعد أن بلغ الوضع في البلد مداه من التعفن واليأس. استطاعت وعد وجوجو الذهاب إلى حمص لوداع أبيهما، والوقوف إلى جانب أمهما وأختهما. هل قلت لك من قبل إن جوجو تعيش في ألمانيا منذ سنوات؟ لقد تزوجت من رجل فلسطيني مُحِب، فجر، ولهما ابنة اسمها تمارا، تبلغ اليوم نحو ثلاث سنوات. ولدى وعد وثائر ولد يقارب العاشرة اليوم، اسمه عاصى، وقد تمكنا أخيراً من الانتقال إلى برلين بعد سنوات من عيش غير آمن في بيروت. بعد قليل من وصولهما سقط النظام. سارت الأمور بسرعة خاطفة، دفعت بشار الأسد وأخيه ماهر وقادة مخابراته إلى الهرب كل بطريقته. شوهد من ظُنّ بداية أنه علي مملوك، رئيس مكتب الأمن القومي، قبل أن يُعرف أنه ضابط آخر أقل أهمية، وهو يصعد على متن شختورة من بلدة العريضة عبر البحر باتجاه لبنان، فكأنه لاجئ سوري يقصد أوربا من السواحل التركية، أو من سواحل بلدان شمال أفريقيا. ويبدو أن كبار قادة أجهزة القتل قد توزعوا على روسيا والإمارات ولبنان. وأظهر المسيطرون الجدد اعتدالاً لافتاً في الكلام والسلوك، فطمأنوا الجماعات الأهلية، ولم يتدخلوا في أنماط حياة الناس، وإن تكن وقعت احتكاكات هنا وهناك. وبذلوا جهدهم كي يكونوا مقبولين داخلياً وخارجياً. البلدان العربية والقوى الدولية النافذة كلها لم تكن سعيدة بالتحول الحاصل، وأقدر أنه لو أتيح لها الوقت لعملت على حراسة الركود الدموي السابق مثلما كانت تفعل منذ عام 2013. «المعجزة» التي حصلت لا تتمثل في مجرد إسقاط نظام حكم البلد 54 عاماً، وإنما في حدوث ذلك بسرعة خاطفة قبل أن يدرك أي كان ما كان يجري. وأتصور أن المسيطرين الجدد أنفسهم لم يتوقعوا إيقاع تداعي النظام، لكن تسجل لهم الشجاعة على المضي إلى السيطرة على المدن الأربعة الكبرى التي تشكل العمود الفقري للبلد، مثلما تعلمين، وخلال وقت قياسي وبخسائر محدودة جداً. كنت في فرنسا وقت جرى كل ذلك يا سمور. صدر لي كتاب في الفرنسية ونُظِّمت أمسية لطيفة جداً بشأنه في مكتبة باريسية، حضرها أحباب لنا وأصدقاء ومعارف. وكنت أعمل مع شركاء على تنظيم الدورة الثانية من حفل جائزة باسمك، لم أكلمك عنها من قبل. الفكرة هي أن تمنح جائزة باسمك لامرأة من المجال العربي أو المتوسطي، تقوم بشيء مهم في مجالات الأدب أو الفن أو النشاط الحقوقي، ولا تكون نجمة مشهورة. في الدورة الأولى، 2023، نظمنا حفل الجائزة في يوم المرأة العالمي وفازت بها ريم الغزي، مخرجة الأفلام الوثائقية السورية، تعرفين اسمها على الأقل دون شك. وهذه المرة جرى الحفل في ذكرى غيابك مع الأحباب رزان ووائل وناظم، وتقاسمت الجائزة فائزتان: نعمة حسن من غزة، وهي شاعرة وروائية؛ وغارانس لوكين من فرنسا، وهي صحفية ألّفت كتابين، واحد عن ملف سيزر الذي سمعت به في الشهور السابقة لغيابك، وآخر عن مازن الحمّادة، المناضل الشاب من دير الزور الذي اعتُقل وعُذِّب تعذيباً مفرط القسوة، ترك عليه آثاراً جسدية ونفسية عميقة، وجال في أوروبا بعد إطلاق سراحه يتكلم على مصائر المعتقلين في سجون النظام، لكنه عاد بصورة غامضة إلى سورية عام 2020، ووُجِدت جثته في برادات أحد المشافي بعد سقوط النظام. يبدو أنه قُتِل قبل أيام من السقوط. غارانس شريكة كذلك في صنع فيلم عن ملاحقة السوريين المحبَطة للعدالة في أوروبا. ولأن الحفل جرى بعد يومين من فرار بشار، ولأنه كان مفهوماً أن فراره يعني انهياراً كلياً لنظامه، فقد تحول المزاج بسرعة من تذكّرك وشركائك في الغياب، إلى حفل موسيقي مبهج جداً، بمشاركة أبو غابي، وهو مغنٍ وموسيقي فلسطيني سوري، وشاركته المغنية السورية رشا رزق والعازف حارث مهيدي. وكان من بين رفيقاتك هناك وجدان وعفاف وهند وضحى ولينا. كان هذا احتفالاً بسقوط النظام، استمر لنحو ثلاث ساعات، وتحمس مشاركون ومشاركات للغناء مع المغنين وللرقص. كان تلك أمسية جمعت سميرة وسورية، واحدة منهما تبدو في خروج من الغياب. فيما يخصني، سورية لن تخرج تماماً من الغياب دون خروجك أنت يا سمور، وهو ما تركني شبه مشلول، أشارك الصديقات والأصدقاء الفرحة، لكن غصة كبيرة في حلقي. أن تتغير سورية، أن تتحرر ويخرج الألوف من السجون الأسدية الرهيبة، بينما يستمر غيابك الصامت المديد، يعني أن قسماً من سورية لم يتحرر. ليس ما يخصنا، أنت وأنا، فقط، ولا ما يخص شركائك في الغياب فقط، وإنما عشرات الألوف، فوق 113 ألفاً من مجهولي المصير بحسب المصادر الحقوقية الأكثر موثوقية. كان من أكثر المشاهد أيقونية بعد سقوط النظام تحرير معتقلي صيدنايا. العدد بالكاد بلغ نحو 1500، وهذا خبر سيء لأنه يعني أن آلة القتل كانت شغّالة بأقصى طاقتها طوال سنوات، وأنه لم يبقَ للأهالي الذي قصدوا السجن الرهيب بحثاً عن أحبابهم غير البحث في المقابر الجماعية المتزايدة العدد. والقصة الأكثر هولاً من قصص الأمل القاسي هي قصة أم سبعينية من الرقة جاءت تبحث عن ابنها المغيب منذ 2011. لم تجده. فكان أن أخذت حبل المشنقة، المخضب بلون أحمر دموي. كأنما تأخذ شيئاً عرف أولادها، كأن التذكار الذي خصّت نفسها به هو ما يُحتمل أن يكون آخر الشهود على الأبناء الشهداء. تُرى لها صور وقد تدلى الحبل على كتفيها. كم تشبه تلك السيدة أمي! وكم على القلوب أن تتحمل! كتب لي صديق من دمشق يقول إن أول ما فعله عند عودته إلى دمشق هو أن زار قبر والده الذي رحل قبل 12 عاماً، ثم ذهب إلى ما كان مكتب مركز توثيق الانتهاكات في دوما حيث كنتِ ورزان تعملان وقت خروجي المؤسف من الغوطة الشرقية، المكان الذي خطفتما منه لاحقاً مع وائل وناظم. قال إن الباب تبدل، وأن طرْقه له لم يلقَ استجابة. هذا الباب المُخرّم بالشظايا والرصاص لا يغيب من ذاكرتي بفضل صورة لك تلجين منه إلى الخارج، وعلى كتفك شال أبيض. الصورة صارت شهيرة بعد غيابك، ومنها ما صار متاحاً في صورة ملصقات وبوسترات. أريد أن أذهب إلى هناك، أحج إلى آخر مكان معني بك. خلال أيام سأكون في دمشق يا سمور، بعد غياب يقارب 11 عاماً وتسعة أشهر عن المدينة التي ارتبطت بحياتنا المشتركة، بتحاببنا في دمشق، بتبادلنا القبل أول مرة، ثم بزواجنا. وفيها صرنا مطلوبَين للمخابرات. نعرف أنك صرت مطلوبة فقط بعد أن كنت قد غادرت المدينة في 3 نيسان 2013. لكن يبدو أنك وأنا، وثائر ووعد، والدكتور منيف، جمعنا تقرير أمني يقضي باعتقالنا قبل نهاية 2012. ولسبب ما لم تتفعل ملاحقتك إلا بعد اعتقال ثائر الذي صادف أن جرى بعد مغادرتي تهريباً إلى الغوطة الشرقية. لن يخطر ببالك كيف عرفتُ ذلك. وصلتني صورة لصفحات التقرير من صحفي سوري يعمل مراسلاً لصحيفة أميركية، استطاع في الأيام الأولى لسقوط النظام الدخول إلى أحد الأفرع الأمنية التي كانت رمزاً للخوف، الفرع 215 التابع للأمن العسكري، ووقعت عينه على هذا التقرير فصوّره وأرسل صور صفحاته لي. حدوث مثل ذلك هو بالضبط ما يعني أن النظام قد سقط. في غابة الأفرع الأمنية الأسدية، أولى صفحات التقرير المطبوع تخاطب الفرع 261، راجية موافاة الفرع 294 بصورة عن كتابهم رقم 128148، تاريخ 18 تشرين الثاني (نوفمبر) 2012، «المتعلق بالمدعو ياسين حاج صالح ورفاقه». والتوقيع لرئيس الفرع 294. أربعة من الأسماء الخمسة المذكورة في التقرير، أنت ووعد وثائر وأنا، مسبوقة بصفة المدعو أو المدعوة. استُثني الدكتور منيف من هذا التنكير وذُكر بلقبه: الدكتور. التقرير يقول إننا نتشارك الأفكار، أنت وأنا، وأننا مقيمان خارج القطر، رغم أن التدقيق الأمني على الحدود لم يجد أننا غادرنا البلد أو عُدنا إليه بحسب التقرير. لم نكن كذلك بالطبع. يقول التقرير كذلك إننا نعمل «لصالح تنسيقيات المجموعات المسلحة في القطر»، وننشط «لصالح صحف خليجية على شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي /فيسبوك/»، وأننا بعد ذلك نتلقى «الدعم المالي من الخارج مقابل التحريض والتجييش»، والعنوان الذي يبدو أننا نتلقى الدعم المالي عليه هو… رابط صفحتي على فيسبوك. ويتضمن التقرير رقم هاتفك الخليوي، وليس رقمي الذي لم يكن بحوزة كاتب التقرير الذي نعرف، وعد وثائر وجوجو وأنا، مَن هو اليوم. أما ثائر ووعد فهما «ينشطان لصالح المجموعات المسلحة بشكل رهيب». وليس مفهوماً لي لماذا كتب التقرير في أواخر 2012 عن لقاء عائلي لنا نحن الخمسة جرى في مطلع 2011، أي قبل الثورة، وقبل أي «تنسيقيات» و«مجموعات مسلحة». لكن أطرف قصة في هذا المزيج بين المبتذل والمأساوي هي قصة إقامتي في السفارة الأميركية في دمشق مع معارضين آخرين. تتذكرين القصة يا سمور. فقد وصلتني وقت كنت في الغوطة الشرقية أسئلة من صحفي لا أعرفه، ولولا التقرير لما تذكرت أن اسمه هو جواد الصايغ، يسأل بين أشياء أخرى عن إقامتي في السفارة الأميركية في دمشق، المغلقة وقتها بسبب تجميد العلاقات الأميركية السورية إثر توحش النظام في قمع الاحتجاجات السلمية. تذكرين أن صحفياً شبيحاً من الدرجة الرابعة قد أشاع هذه الرواية منذ عام 2011 بهدف تخويني ومعارضين آخرين، وتسفيه قضيتنا، وكان من بين أولئك المعارضين رزان زيتونة ورياض الترك. بالمناسبة، «ابن العم» رياض الترك توفي في اليوم الأول من عام 2024، عن أزيد من 93 عاماً. ليته شهد هذه الأيام! وقت اطلاعي على الأسئلة التي وصلتني بالإيميل انزعجت من هذا السؤال وكنت على وشك أن أتجاهل الصحفي وموقعه الصيني، آسيا تايمز، ولم أكن سمعت بهما قبل ذلك، لكن لمع في ذهني خاطر أن ألعب اللعبة وأقلبها على السائل. تتذكرين المقابلة دون شك، فقد نشرت في الأيام الأخيرة من أيار 2013، بعد وصولك أنت إلى الغوطة الشرقية بأيام. وقتها أجبت، كما تعرفين، بأني مرتاح في سفارة الدولة العظمى في دمشق، كهرباء واتصال بالانترنت لا ينقطعان، ومرافق ممتازة، وصحبة معارضين آخرين معروفين. كان نشر المقابلة مناسبة لفضيحة نادرة. المعادون للثورة السورية وجدوا في ما قلت إقراراً بأننا عملاء للأميركيين. وبعض أصدقائنا ارتبكوا حيال الأمر، فقد أجبت على السؤال بجدية كاملة، لكني استخدمت لغة مُفخّمة غير مألوفة لا يُخفى تهكمها على شخص لّماح. تقرير المخابرات نفسه يبدو مرتبكاً في التعامل مع القصة. يذكرون ما أورده الموقع من ارتباك المعارضين والموالين حيال ما قلتُ، ويوردون إجابتي الأصلية، دون تعليق. وأساس ذلك في تقديري هو أن هذه الجهة التي تتحكم في حياة وموت السوريين ليست مخولة ولا مؤهلة بالتفكير والاستدلال على صحة ما يصلهم من معلومات بإعمال العقل. هم جامعو معلومات، كيفما اتفق، لا يملكون الحد الأدنى من الكفاءة، وخصوصاً من الحرية، على تقرير صوابها من عدمه. ولم يتساءلوا بطبيعة الحال عما إذا كان الأميركيون سيعطون مفاتيح سفارتهم المغلقة لمعارضين سوريين. ليس هناك سؤال يُسأل في الواقع، ومع ذلك صار الأمر قصة تروى. * * * * *
بعد غياب 11 عاماً وثماني وأشهر و26 يوماً، وصلت دمشق عبر الحدود اللبنانية بعد ظهر التاسع والعشرين من كانون الأول (ديسمبر) 2024 برفقة صديقتين، ليلى الدخلي، وهي مؤرخة تونسية فرنسية الجنسية ومقيمة في ألمانيا، وجوستين أوغييه، وهي كاتبة فرنسية، ثم جوزف، صحفي فرنسي من ميديا بارت. لم أكن يوما قريباً منك بهذا القدر منذ افترقنا في ذلك اليوم المنكود، 10 تموز (يوليو) 2013، وذهابي إلى الرقة، ومنذ غيابك الصامت الطويل منذ مساء 9 كانون الأول (ديسمبر) 2013. بقدر ما هو وقت ابتهاج واحتفال، حرصت الصديقتان ليلى وجوستين على مشاركتي إياه، إلا أن جانباً من نفسي بقي غير مشارك. سورية لا تتحرر ونصيبي منها، أنتِ، رهينة سجن مصمت مديد. مساء اليوم نفسه قصدنا نحن الأربعة مقهى الروضة الذي تعرفينه، وكان يتواتر أن أواعد أصدقاء فيه قبل الثورة. هناك التقيت بعزة أبو ربعية وصديقات وأصدقاء في أجواء احتفالية مبهجة جداً، مع الغناء والهتافات، ودخان الأراكيل، وصور الكاميرات والهواتف المحمولة، و…الدموع. منذ البداية تلاحظين التردّي والتهالك الذي يطبع دمشق، تشاهدينه في الشوارع، في الأبنية، في سيارات الأجرة، في الفندق الذي أقمنا فيه. في كل مكان هناك مفعول الزمن الأكّال، لكن هناك جهود الصيانة والترميم والتجديد. الزمن وغياب الصيانة تحالفا ضد أقدم مدينة معمورة في العالم. في دمشق فوق ذلك فقر متسع النطاق، يتجسد في أعداد كبيرة من المتسولين، بمن فيهم أطفال ونساء، وفي البسطات المنتشرة في كل مكان وتكاد تجعل السير مستحيلاّ في بعض المناطق. دمشق وسورية كلها عانت من عقوبات دولية، لم تؤذِ النظام، وآذت أكثرية السوريين مثل جميع السوابق المماثلة. لكن المدينة والبلد عانت من نظام طغموي مفرط الأنانية والفساد ومعدوم الوطنية كلياً، لا تشبع طغمته من المال والسلطة وملكية الأشياء. دمشق اليوم مدينة هواؤها ملوث جداً، وهو ما أطال في عمر سعالٍ كنت أعاني منه قبل وصولي إليها، تلوث فاقمه عدد هائل من السيارات جاءت من إدلب وعبر الحدود التركية بحسب البعض، ويبلغ من الزحام في المدينة في النهار أن السيارة التي جاءت بنا من الحدود السورية اللبنانية أخذت نصف ساعة لتصل من ساحة الأمويين إلى فندقنا، برج الفردوس، وهي مسافة كانت تحتاج لأقل من عشر دقائق في أوقات سابقة. كان من أول ما قمت به بمساعدة صديقة شابة، شيرين الحايك، هو أن حصلت على رقم هاتف محمول سوري، واشتريت حقيبة كتف صغيرة لحمل المال. النقود السورية لم تعد تُحمَل في الجيوب لانخفاض قيمة الليرة. 100 دولار أميركي كانت تساوي 1300 ألف ليرة سورية وقت وصولنا، أي 260 ورقة من فئة 5000 ليرة، أعلى ورقة نقدية متاحة. وعند الصرافين المنتشرين في كل مكان ترين رزماً من النقود، مرزومة بحلقات من المطاط، كل واحدة منها نصف مليون ليرة. وسمعت في البلد نكتة تقول إن بشار الأسد تعهّد بألا يغادر الحكم قبل أن يصير السوريون مليونيرات، وأنه رحل بعد أن أوفى بعهده. في اليوم التالي قصدنا نحن الأربعة سجن صيدنايا الذي صار موقعاً أمنياً محروساً، ويقتضي إذناً خاصاً لزيارته. حصل جوزف على الإذن، لكن بطريقة غريبة كتب عليه، بالعربية طبعاً، أنه للتغطية الصحفية في محافظتي القنيطرة واللاذقية، بينما صيدنايا تتبع محافظة دمشق. هناك فوضى في الإدارات العامة وقلة خبرة ظاهرة. على أنه سُمِح لنا في النهاية بالدخول إلى ذلك المعقل الرهيب. رأينا أجنحة المهاجع الجماعية للمعتقلين، وكل منها يضم عشرة مهاجع، ذكرتني بسجن حلب المركزي، المسلمية، الذي قضيت في «جناح السياسية» فيه 11 عاماً وأربعة أشهر. لكن ما وجدته غريباً ولا تفسير له هو أن قسماً لا بأس به من الجدران الداخلية لتلك المهاجع معدني وليست من الإسمنت. أبواب المهاجع معدنية كذلك بالطبع، وليست شبكاً من قضبان حديدية يتوسطه الباب مثلما كانت في المسلمية حيث تكاد تكون المهاجع بثلاثة جدران بدلاً من أربعة. ولا أجد عبارة أفضل تلخص صيدنايا مما ستقوله لاحقاً أم حازم في تقريرٍ لحلا الحميدان عن تقفّي أثر المغيّبين. أم حازم فقدت زوجها وأخوين، ولم تجد لهم أثراً حين قصدت ذلك «المسلخ البشري» ووصفته بقولها: «ريحة زنخ، ورطوبة، ودم، وما في حدا». على أن الانطباع الذي يبثه ذلك المكان المسوّر والكثير المحارس، الذي يشغل بناء السجن ذاته ما لا يتجاوز 5% من مساحته، هو ذلك الانطباع الذي تبثه في الأنفس «سورية الأسد» ككل: مزيج نادر من الرثاثة والدموية، من التدهور والقسوة الوحشية. المكان بائس، لكنه متين الجدران، ومحروس بالسلاح. وتعلمين أن نزلاءه كانوا يتعرضون للتجويع ويجري إعدام بعضهم أسبوعياً. إنه مكان مصمم لخلق اليأس المطبق، للتخلي عن كل أمل، مثل جحيم دانتي. وما يتولد في النفس من مشاعر يا سمور، بينما أمشي اليوم أمام مبنى الأركان المحصن والمحروس، أو مواقع الإدارات العسكرية في دمشق، أو المقرات الأمنية المحصنة جداً، أو أمام مبنى الإذاعة والتلفزيون المحصن بدوره مثل قلعة، هو أن النظام احتاط لاحتمالات الهجوم على مرافق سلطته الأساسية هذه من مهاجمين مسلحين. في الواقع لم تقع معركة. انهار النظام دون رصاصة في دمشق. كان تافها ومهترئاً من الداخل وبلا قضية من أي نوع. هرب، ذاب، تلاشى، لم يخسر في معركة، خسر أي مبرر لوجوده فتهاوى بلا مقاومة. وهذا بعد أن أخذ يبدو بالأحرى أن القوى الإقليمية والدولية تعاود تطبيعه رغم سجل الجرائم المهولة. * * * * *
في اليوم الأول من العام، كنت على باب مركز توثيق الانتهاكات الذي خُطِفت منه مع رزان ووائل وناظم. دَعوتُ مع صديقات وأصدقاء إلى تجمع لمدة ساعتين أمام هذا المكتب الذي تحول إلى مسكن لعائلة شابة. جرى ترميم المكان وبدا معدّاً لسكن أليق. لكن باب البناء لم يتغير، خلافاً لما كُنت أُبلغت به من قبل، عدا أنه صُبغ بلون أبيض سكري بعد أن كان صدئي اللون. قرعت باب المكتب السابق، وكانت معي لولو ولينا سنجاب التي تعرفينها ولا تزال تعمل مع البي بي سي، ومصور بريطاني يعمل معها. بعد نصف دقيقة فتح الباب وأطل علينا شاب في الثلاثين أو أقل قليلاً. شرحت له الأمر، ولم يكن يعرف عن قضيتكم شيئاً، وقال إنه سكن هنا قبل سبعة أشهر. على أنه كان لطيفاً وسمح لنا، المصور ولولو وأنا، بالدخول والتجول في المكان، عدا غرفة واحدة احتجبت فيها زوجته. هذه الغرفة هي ما كانت مكتب رزان. جرى إصلاح جذري للمسكن، لكن حوفظ على بنيته نفسها. في غرفة الضيوف/ المعيشة حيث كنا نعمل ثمة أثاث جديد أنيق، ولم يعد سريرنا هناك في الغرفة الداخلية، ولا أي سرير. وفناء البيت الخلفي حيث كنا نجلس في الأماسي لا يزال هو المكان نفسه، لكنه مجددٌ بدوره. حضر التجمع عدد لا بأس به، منهم صديقتك ورفيقة سجنك بثينة وزوجها نزار. ورفعنا بوسترات تحمل صوركم أنتم الأربعة، وصور لك وحدك، لرزان وحدها، ولوائل وحده، وناظم وحده، صورة لرزان ووائل معاً، والصورة على غلاف كتابك: يوميات الحصار في دوما 2013 الذي سبق أن حدثتك عنه. وكان هناك عدد كبير من الصحفيين والإعلاميين من كل مكان، سوريين وعرب وأوروبيين… أظن أني أعطيت 20 مقابلة خلال ساعتي الاعتصام ونصف ساعة قبله ومثلها بعده. رويت قصتكم، وسميت الجهة المتهمة، «جيش الإسلام» الذي عاد قادته إلى دوما بالمناسبة، بمن فيهم بؤرة الشر ورأس الفتنة فيه، «الشرعي» سمير كعكة. لكني لست متأكداً من أن بؤرة الشر الثانية، الأمني عمر الديراني، من بين العائدين. كانوا مهجرين منذ ربيع 2018 إلى منطقة الباب في الشمال السوري. قلت في المقابلات إننا نتطلع إلى معرفة الحقيقة كاملة بشأن مصيركم، وإلى إحقاق العدالة بمحاسبة الجناة، وإن معيار التقدم على مسار العدالة في سورية هو مصيركم وقضية التغييب القسري بعامة لأنها شكل متطرف وأقصى من أشكال غياب العدالة في «بلدنا الرهيب». * * * * *
بعد تسعة أيام في دمشق، قصدت حمص برفقة نجاة ولولو اللتين قضتا أسبوعين في دمشق من باب التغيير. ولم يغب عن البال يا سمور أنها المرة الأولى التي أذهب إلى حمص دون أن تكوني معي. وصلنا المدينة في سيارة استأجرتها أختك وابنتها نحو الثالثة بعد الظهر، وارتأت نجاة أن أقيم عند فاطمة وبسام ذلك اليوم كي تجهز هي وآلاء البيت الذي غابتا عنه وقتاً، على أن أمكث عندها في اليوم التالي. كان اللقاء بفاطمة عاطفياً، وبكينا على كتف بعضنا. كم تشبهك أختك الأصغر! سهرنا حتى بعد الواحدة بعد منتصف الليل، نتكلم ونشرب العرق. كنتِ أنتِ وغيابك موضوع حديثنا الطويل. أحد اكتشافاتي الممضة أتى بالتدريج بعد سنوات من غيابك: أن قصة هذا الغياب غير معروفة كفاية، وأن هناك ميلاً في أوساط بعض الأقارب والمعارف لتحميلي المسؤولية عنه، دون أن أُسأل عن الأمر ولا أن يُقرأ شيء مما كتبت عن القضية وعنك، أو حتى كتابك أنت، وكل ذلك متاح بسهولة لمن يرغب. جرى تركيب عدة أشياء على بعضها: تضارب مواقف سياسية، على تنافرات شخصية، على المسار المتعفن للثورة بعد غيابك، وعلى ثنائية داخل البلد وخارجه، لتوجيه الأمر ضدي. قضينا تسع ساعات نتحدث، صفت قلوبنا. لكن تجلى لي، بعد إنهاك اليوم والكلام الطويل وما بين الكلمات مما لا يقال، كم هو قاسٍ أن يُستَغل غيابك ضدي. في اليوم التالي أخذني بسام في جولة في السيارة على حدود حي بابا عمرو المدمر، والشارع بين الساعتين القديمة والجديدة، وفي شارع البرازيل. كانت الحياة صاخبة ونشطة في المدينة التي تعرض مثل دمشق ترثثاً متقدماً. كان بسام قد نسّق لقاء لبعض معارفه من الشبان والفتيات يتداولون في الشؤون العامة. طلبتُ أن أحضر وتحمس بسام للأمر. وعبْر الشارع المقابل لمتجره الذي يبيع منتجات نباتية، صوابين ومراهم وكريمات، طورّها بسام شخصياً وصارت عبر السنوات مشروعاً ناجحاً، جلسنا على الرصيف تحت شمس كانون الثاني الدافئة، بعضنا على كراس وبعضنا على كتل أسمنتية، نتداول لساعة في ما جرى وما يجري وما يجب القيام به. كنا ثلاثة كهول في ستينات أعمارهم (وثلاثتنا معتقلون سياسيون سابقون)، وثلاثة فتيات عشرينيات وثلاثة شبان عشرينيين بدورهم. وكان هذا المؤتمر الصغير في الهواء الطلق، بعد شهر بالضبط من سقوط النظام، يوم 8 كانون الثاني (يناير) 2025، هو من سمات الوضع الجديد، ومما كان مستحيلاً حدوثه قبل شهر واحد. يريد الشبان أن يفعلوا شيئاً ويحتاجون إلى من يساعدهم في التوجه والتنظيم، ويعتقدون أننا يمكن أن نساعد. وبعد مؤتمر الرصيف هذا ذهبنا إلى بيت «العميدة» نجاة التي قررت أن نقضي الليلة كلنا عندها: فاطمة وبسام، وثائر الذي وصل سورية عبر بيروت قادماً من برلين، بعد أن زار والده في بيروت، ثم آلاء وأنا. الدموع كانت حاضرة، لكنها دموع ثائر هذه المرة، فهو يرى هذا البيت لأول مرة بعد غياب عفيف. مراد كان هناك أيضاً. وقد روى لنا قصة طريفة. فقد جاشت عواطفه وهو يجول في المدينة التي ولد فيها وغاب عنها لأكثر من عشر سنوات في ألمانيا، فخلع حذاءه وفاء بنذر كان نذره إن عاد إلى حمص، وجلس على رصيف، ووضع رأسه بين يديه مُطرْقاً. وبعد دقيقة جاء إليه شاب يواسيه ويعرض عليه المساعدة. ظنه شخصاً مفلساً تقطعت به السبل، أو ربما متسول بحاجة لبعض المال. مظهر مراد البوهيمي يشجع على ذلك. مراد ردّ أنه منهك فقط بعد غياب طويل عن حمص. – أين؟ – في ألمانيا! – إذن أنت من يجب أن يدفع لي، رد الشاب مازحاً. سهرنا حتى الثانية فجراً، نتكلم في السياسة، ونشرب العرق، ونروى قصصنا. الشعور العام في البلد بتأويل عابد الريس هو الفَرَج، الخلاص من همّ وتنفس الصعداء. الريس، وهو صديق شاب من حمص كنت التقيت به لمرة واحدة قبل الثورة، دعاني إلى الكلام أمام جمهور صغير من المهتمين في دير الآباء اليسوعيين في حمص، وهو ما جرى بعد ظهر التاسع من كانون الثاني لنحو ساعتين. وكان حديثاً في الفكر والسياسة والمثقفين ودورهم. آلاء، لولو، ناشطة في منظمة حديثة التكوين معنية بالسلم الأهلي في حمص، المدينة التي تعرفين بعض ما أصابها قبل غيابك، ولنحو عامين بعدك. عدد كبير من الضحايا، ودمار واسع أصاب العمران، وأصاب بخاصة النسيج البشري للمدينة، بخاصة بين السنيين والعلويين. جرى «تمشيط» الأحياء العلوية بحثاً عن السلاح وعن مطلوبين، وربما إثباتاً للحضور، وهذا بعد مظاهرة لعلويين رُفعت فيها شعارات طائفية، أعقبتها في اليوم التالي مظاهرة لسنيين رُفعت فيها شعارات طائفية هي الأخرى. التمشيط انتهى قبل يوم من وصولنا إليها، لكن الوضع في حمص لا يزال هشاً وغير آمن، وشوارع الأحياء العلوية تخلو من المارة بعد غروب الشمس. الدمار واسع في الأحياء السنّية، لكن غير المدمر منها يبقى نشطاً حتى قرب منتصف الليل. وهذا خلاف اللاذقية التي قصدتها بعد ثلاثة أيام في حمص، وبالطبع في ضيافة صديقينا هيثم وزبيدة وفي الغرفة نفسها التي كنا نحتلها، أنت وأنا، حين نزور اللاذقية. مساء اليوم نفسه، اجتمعنا في بار صغير في حي الأميركان في اللاذقية، بحضور هيثم ونبيل سليمان، تعرفينه وتعرفين بعض رواياته التي كانت في مكتبتنا، وعامر مرعي ابن الدكتور منيف وصديقته الشابة، وأصدقاء آخرين. وانضم إلينا لبعض الوقت مغنٍ من اللاذقية اسمه سامر أحمد له أغنية اسمها: الله يْريِّحنا مِنّو! وهي عبارة قال إنه كان يستخدمها طوال سنوات قبل أن تصير مفتاحاً لشعر يغنى بالمحكية السورية. الأغنية تهجو بشار الأسد وتعبّر عن الثقة بسورية وشعبها. عدنا إلى البيت عند منتصف الليل. على الطريق من حمص إلى اللاذقية مررنا بثمانية أو تسعة حواجز مسلحة أشار لنا بعضها بأن نستأنف السير، لكن اثنين منهما طلبا هويتينا، سائق السيارة وأنا، وواحد طلب فتح صندوق السيارة، وواحد سألنا إن كنا نحمل سلاحاً. وهذا كله في النصف الأول من الطريق، النصف الثاني خلا من الحواجز حتى مدخل المدينة حيث لم يستوقفنا حاجز كان عليه مسلح واحد. شرح السائق الأمر بانتشار عصابات تشليح وخطف في ريف حمص الغربي، وأنها هي المستهدفة بالحواجز. بعد أيام قتل في بلدة فاحل غرب حمص 15 عسكريا سابقاً في قوات النظام، رغم أنهم لم يقاوموا بحسب معلومات متواترة، وبعضهم متقاعدون. الأوضاع الأمنية مضطربة، ولا يبدو أن هناك أي قواعد مستقرة في التعامل مع المشكلات الناشئة. الصفة العامة للوضع في البلد هي السيولة وغياب الشكل، وتنتشر بين الناس شائعات من كل نوع. جاد ابن هيثم وزبيدة صار شاباً في الحادية والعشرين، يدرس الأدب الفرنسي في الجامعة، لكنه يتعلم الألمانية ويخطط للسفر إلى ألمانيا واكتساب مهارات مهنية في مجال الفنادق أو المطاعم أو النجارة. المشاعر هنا يمتزج فيها «الفَرَج» بضروب من القلق تتصل بمخاطر التشدد الديني والسياسي. لكن هناك جوع للاجتماع والنقاش، وبحث عن إجابات شافية لا يملكها أحد. ظهر اليوم التالي نظم عامر المرعي لقاءً لي بنحو ثلاثين من المهتمين بالشؤون العامة، وتكلمنا عن تقديراتنا لما يجري والمسارات المحتملة. قلت إننا لسنا سائرين نحو الديمقراطية بفعل تكوين الفريق المسيطر الجديد غير الديمقراطي، بل الذي كان يحرم فكرة الديمقراطية قبل سنوات قليلة فقط، لكني استبعدت احتمال إقامة دولة إسلامية، أرجح ضرباً من سياسة الأعيان الجديدة حيث يجري تمثيل الجماعات الأهلية بوجهاء منها، مثلما كان الأمر لسنوات بعد استقلال سورية. ومثل هذه السياسة تنفي من الحقل العام من تتمثل فيهم تعددية سياسية وفكرية حقيقية من أمثالنا، أو هي تحد من حضورهم فيه على الأقل. رأيت أننا يجب أن ندفع نحو قوانين تحرّم التعذيب وتجرّمه، استناداً إلى تجربتنا التاريخية التي اقترن فيها التعذيب بالدمار الاجتماعي والإنساني والطائفية وفي النهاية انهيار البلد. كان الحضور متنوعين، في الجنس والعمر والمنابت، والروح السائدة بينهم إيجابية، إن بين بعضهم أو حيال الأوضاع المستجدة في البلد. تشعرين أن ارتياح الناس للأوضاع العامة ينعكس ارتياحاً في تفاعلاتهم مع بعضهم. وقد يشرح ذلك جزئياً لماذا ليس هناك عنف منتشر في المدن رغم الفوضى واضطراب الأحوال. إنه «الفرج» الذي يوسع المساحة الاجتماعية للبلد رغم بؤس وتدهور المساحات المدينية. لكن تأخر المعالجات المثمرة قد «يضيّق أخلاق» الناس من جديد ويولّد المشكلات. * * * * *
عدت إلى دمشق بعد يومين في اللاذقية. كان أصدقائي فاروق مردم بيك وصبحي حديدي وزياد ماجد الذي تعرفينه قد سبقوني إلى المدينة بساعات. فاروق يزور مدينته لأول مرة خلال نصف قرن. وصبحي يعود إلى سورية لأول مرة بعد 38 عاماً. وقد استُقبلوا بعراضة شامية أمام فندق أمية بمبادرة من سيدة دمشقية، ولم ينتبه زياد إلا وأحدهم يحمله على كتفيه، وسط هتافات لسوريا والحرية وضد الأسديين. تعشينا معاً بدعوة من السيدة نفسها، جمعتنا بالصحفية زينة شهلا والكاتبة كوليت بهنا، ومع ناشطيْن من إدلب، والأربعة مكثوا في البلد طوال سنوات ما بعد 2011 الرهيبة. على زند زينة «الكفو» والتي لا تكل وشم رقمي: 8/12/2024! صباح اليوم التالي قصدت حي الشعلان، أحج إلى المنزل الذي تواريتُ فيه لنحو عام، كنتِ خلاله معظم الوقت معي. لم أكن متأكداً من مدخل المنزل، هذا أم ذاك أو ذلك. فأخذت صوراً لثلاث مداخل وأرسلتها لرشاد، صديقنا العزيز الذي أعارني البيت الذي تملكه شقيقته، مجازفاً بأمنه وسلامته. رشاد بالمناسبة تزوج من امرأة سورية جميلة وقديرة مثله، فنانة كذلك، ويقيمان في بلدة تروي في فرنسا. رد رشاد بعد دقائق أن أياً من المداخل الثلاثة ليس مدخلنا! وذكرني بما كان يجب ألا يغيب من ذاكرتي: أن خلف الشقة التي أقمنا فيها جامع. في اليوم التالي قصدت المكان وأخذت صورة للمدخل صادق عليها رشاد. لكني لم أتلق رداً حين قرعت الجرس على الباب الخارجي. وبدا البناء مهجوراً. قال رشاد إن شقيقته باعت الشقة، ولا يعرف إلى من آلت. في يوم المداخل الثلاث الخاطئة، بحثت عن محل الألبسة ستيفانيل الذي كان يعمل فيه صديقنا عدنان مكية قبل 12 عاماً. في الأعوام الثلاثة أو الأربعة التي سبقت الثورة كنت تشترين ثيابي من ستيفانيل، مستفيدين من أحسن عروض الرخص بفضل صديقنا عدنان، حتى صرتُ معروفاً بالأناقة وقتها بين أصحابنا. عدنان توارى بعد الثورة، وظل متوارياً مع عائلته لخمس سنوات، قبل أن يجري تهريبه إلى لبنان، ومن ثم يلجأ إلى ألمانيا، حيث ظل وعائلته لثلاث سنوات في «الهايم»، في شروط سيئة جداً إلى درجة أنه طالب بأن يعود إلى سورية احتجاجاً. لكن الأمور تحسنت بعد ذلك، وأقامت الأسرة في منزل لائق مع جيران طيبين في بلدة ليست بعيدة عن ميونيخ. لم أجد ستيفانيل. بعد أكثر من سؤال، تبين أن الاسم الحالي للمحل هو فيالي، اسم شركة الألبسة التي تستثمره حالياً. لم أجد كذلك أول مسكن تواريت فيه. تذكرين أني، مساء 30 آذار 2011، بعد أول خطاب لبشار الأسد، وكان إعلان حرب، أخذت كمبيوتري وقليل من الثياب وبدأت حياة توارٍ لم أقدِّر أنها ستنوف على عامين في دمشق. لم أودعك جدياً وقتها، وعلى كل حال كنت تعرفين أين أنا، وكنا نلتقي كل بضعة أيام. تعرفين أن حسي بالمكان معطوب بقدر ما أن حسي بالزمان بالغ الحدة. بالمقابل صديقنا فاروق، وهو في الثمانين اليوم، وجد المساكن التي عاش فيها أو كانت من مألوف سنوات يفاعه، بعد خمسين عاما من الغياب. وبصراحة يا سمور، لن أذهب لاستكشاف مكان المنزل الذي أقمنا به لثلاثة أشهر في المهاجرين لأني متأكد أني لن أجده في حي لا أكاد أعرفه. بالمناسبة هاني وسلمى، وهما من أعطيانا ذلك البيت وقتها، هنا في دمشق. رأيت هاني وحده في مقهى الروضة يوم الخميس، السادس عشر من كانون الثاني، حيث كنا، صديقنا الذي تعرفينه عبد الحي السيد وأنا، نتكلم على «سؤال العدالة والصفح في سورية اليوم». كانت القاعة المشرفة على الشارع في المقهى الكبير ممتلئة بجمهور متنوع، وهمست لعبد الحي أنها أول مرة أتكلم أمام جمهور سوري وفي سورية، لكني تذكرت بعدها فوراً أني تكلمت في الواقع لجمهور سوري في منتدى الأتاسي عام 2005، وأني تعرضت للتجريس والضرب في الشارع أمام قصر العدل القديم في شارع النصر من قبل طلاب بعثيين يوم 8 آذار 2005، وأن المنتدى ذاته أغلق بعدها بشهور قليلة. * * * * *
يوم الجمعة، السابع عشر من كانون الثاني ذهبنا، علا رمضان وجلال نوفل وأنا، إلى السويداء. وفوراً قصدنا ساحة الكرامة التي يتجمع فيها الناس محتجين منذ آب 2023، ومحتفلين منذ 8 كانون الأول 2024. هناك التقينا بصديقتك ورفيقة سجنك وجدان ناصيف، وبصديقي ورفيق سجني أكرم معروف. بعد ساعتين في الساحة وصور كثيرة، دعينا إلى منزل شخصية معروفة في السويداء، عدنان أبو عاصي، وهو من «نشطاء الساحة». أكد الرجل أن الدعوة فقط لربع ساعة من أجل فنجان قهوة، لكن تعرفين كرم أهالي السويداء. القهوة ولدت فواكه ونبيذاً طيباً، وحديثاً ودياً لأكثر من ساعة. كنا نحو عشرين شخصاً. ومن هناك إلى منزل أهل وجدان في شهبا حيث كنا مدعوين لفطائر: سبانخ وحمّص وبطاطا. وكان علينا بنصيحة من توفيق، وهو معتقل سياسي سابق من رفاقك، أن نعود إلى دمشق قبل غياب الشمس لأن هناك مسافة من الطريق ليست آمنة. على الطريق، كان توفيق الذي عدنا في سيارته إلى دمشق يتكلم على حواجز النظام: في هذا المكان كان هناك حاجز سيء، وفي هذا حاجز أسوأ. وهذا قبل أن نمر أمام «فرع فلسطين» الوحشي، المحصن من الخارج مثل قلعة. * * * * *
برفقة أبو لؤي، صديقنا عدنان، تتذكرينه، قصدت يوم الأحد، الثامن عشر من كانون الثاني، آخر منزل أقمنا فيه قبل حياة التواري، المنزل الوحيد الذي يمكن أن أسميه بيتاً بعد بيت الطفولة، الأعوام الأحد عشر الأولى، في كنف أمي. استأجرنا هذا البيت عام 2004، وبقينا فيه معاً حتى 30 آذار 2011. بقيت أنت فيه في أوقات متقطعة حين لم تكوني معي في واحد من أربع منازل تواريتُ فيه. وهذا حتى هددت مالكة البيت بأن ترمي أغراضنا في الشارع إن لم نُخْلِ البيت. لكن في هذا الوقت، الشهر الأخير من 2013، كنتِ أنتِ قد غُيِّبت، وكنتُ أنا في اسطنبول. كنت على مدخل البناء بعد نحو 14 عاماً من الغياب عنه. كان الباب الخارجي مغلقاً، وزر الجرس لا يعمل لانقطاع الكهرباء. أخذت بكاميرا الموبايل بعض الصور للبناء، ولاحظت أن عدد السيارات في الفناء المقابل للبناء أكثر، وأن المساحة المشجرة التي تفصل هذا الفناء عن الشارع كانت جميلة ونامية الأشجار. هنا فتح الباب الخارجي وعرفني سامر، جارنا، فوراً. ما كنت لأعرفه. تعانقنا، ودعانا إلى البيت. التقيت بزوجته سمر، وابنته الصغرى، زينة. صارت صبية في التاسعة عشر. مايا، الابنة الكبرى، كانت في العمل، تعمل في مركز طبي يعالج بالليزر. وبينما نتناول القهوة، انتبهت إلى الديوانات التي كنا نجلس عليها، وخيل لي أني أعرفها. بحرج سألت سامر، فقال: إنها ديواناتكم! سميرة قالت لنا أن نأخذها بعد غيابك الطوعي! قالت سمر إن لنا عندهم سجادة وبساطاً ومدفأة كهربائية، وإنهم يحتفظون بها لنا. قلت إنه إذا صار لي مسكن يوماً ما في دمشق فربما آخذ هذه الأغراض. أرسلت لجوجو في ألمانيا بعض الصور من بيت سامر وسمر، وفاضت أعيننا. يا لهذا الغياب كم يجرح القلب يا سمور! رجوت سامر أن يكلم الجار كي ألقي نظرة على منزلنا السابق، وقد استجاب الرجل، لكن كان واضحاً أنه لم يفهم لماذا يهم مستأجراً سابقاً أن يرى المسكن الذي أقام فيه قبل سنوات طويلة. سمح لي بأن أرى المدخل وغرفة الضيوف التي تغيرت كثيراً. ظاهر أن العائلة المقيمة اليوم في البيت ميسورة، وما رأيته من بيتنا السابق يا سمور أفخم مما كان في أيامنا. لكن لم تتح لي رؤية الغرفة التي كانت مكتبي. ومن خارج البناء لاحظت أن الشرفة قد أحيطت بجدار زجاجي يضيفها إلى مساحة البيت. هناك كنت تجلسين مع بعض ضيوفنا، إياد خاصة، تشربون المتة. لاحظت كذلك أن نافذة المطبخ المطلة على الشارع المقابل كان زجاجها بلون مُزرق، ليس كعهدنا به. كانت تلك النافذة تطل من بعد الشارع على مساحة خالية من الأبنية، ومن وراءها الجبل الذي كان يتغطى جزئياً بالثلج في أواخر كانون الثاني أو أوائل شباط. أراني الأبوان الفخوران فيديو لتخرج مايا من المعهد الذي درست فيه، وبمعدل 99%. وقالا إن مقر عملها ليس بعيداً. طلبتُ أن نزورها، وذهبنا، العائلة كلها وأبو لؤي وأنا، للزيارة. لكن زينة كانت قد أبلغت أختها بقدومنا، فضاعت المفاجأة. ويا للأسف مايا لم تتذكرني، ولا زينة. تتذكرانك جيداً كلاهما. ومن هناك عدنا إلى السوق الأقرب إلى بيتنا السابق، وكان على كل حال السوق الوحيد في الضاحية حتى عام 2011. المحلات أكثر ويبدو السوق حقيقياً. الضاحية صارت مسكونة أكثر. وبدت لي وقد ازدهرت خلافاً لما رأيت من أحياء قلب العاصمة. وكان هواؤها نقياً، خلافاً كذلك لهواء دمشق الملوث بشدة. كان جانب من نفسي منفصلاً عن الصحبة الطيبة لأبو لؤي وسامر وسمر وزينة، جانب غاضب ومقهور. في سيارة أبو لؤي ونحن عائدان إلى دمشق، قلت له إن هناك شخصاً واحداً في العالم يُخيل لي أني قادر على قتله: سمير كعكة، شرعي جيش الإسلام، المسؤول الأول عن خطفك، أنت ورزان ووائل وناظم. سيكون العالم مكاناً أقل قذارة بقليل بدون هذا الشخص الشرير الممتلئ بالغل. أبو لؤي لم يعلق. أعتقد أنه يشكك في قدرتي على قتل هذا الحقير. بعد الغداء، أخذت صحبتي، وهم صديقة سورية شابة وصديق فلسطيني سوري كندي وصحفية فرنسية، للبحث عن أول مكان تواريت فيه، وأخفقت في العثور عليه أول مرة. وما أن وصلنا إلى شارع الباكستان القريب من المطعم الذي تغدينا فيه، حتى فهمت لماذا لم أجد ذلك المكان. كنت أبحث في الجهة اليمنى للشارع إن كنت تتحركين في اتجاه السير، بينما المكان في الجهة اليسرى. وجدته دون صعوبة، وإن كنت استعنت بصاحب محل قريب. كان المكان قد تحول إلى مستودع أدوية مركزي تابع لنقابة صيادلة سوري، لكن الباب الخارجي كان مغلقا بإحكام. * * * * *
ثلاثة أيام في حلب التي درست فيها وسجنت فيها كانت تمريناً على الأمان، على السير مسترخياً في مدينة عشت ثلاث سنوات فيها قبل السجن ومثلها بعده. تعرفين هذا الشعور بأن المكان ضيق، بأن الجو غير ودي أو حتى خطر. أعتقد أنه شعور النساء في بلداننا في أماكن عامة يتعرضن فيها للتحرش، بالعيون على الأقل. كنا في جو متحرش طوال الوقت، يحاصرنا نظام انتهاك دائم مفرط الذكورية. هل طوينا هذا الفصل المقيت نهائياً، يا سمور؟ يصعب قول ذلك منذ الآن. أمامنا طريق متشعب كثير المنعطفات وحافل بالمفاجآت دون شك. في البيئات العلوية التي تنحدرين أنتِ منها هناك خوف وتعرّض لانتهاكات متكررة في بعض المناطق. يفترض أن ذلك يجري في إطار ملاحقة مجرمين وشبيحة، لكن تتواتر الأخبار عن تجاوزات وعمليات إذلال من صنف ما كنا نعرف عن قوى النظام الأمنية. في الباص الذي أقلنا إلى حلب، صديقان مصريان وأنا، تبادلنا الحديث مع امرأة حلبية شابة، تعمل صحفية تغطي الشؤون الاجتماعية، وبدت مرحّبة بالتغيير والأجواء الجديدة في البلد. كان في انتظارها وقت وصولنا إلى حلب سيارة أجرة، ودعتنا إلى أن نصعد معها السيارة. وهو ما فعلناه بامتنان، واكتشفنا أنها دفعت أجرة السيارة التي غادرتها قبلنا. هذا الكرم حيال غرباء غير ممكن في بلدان كثيرة. صباح اليوم التالي سرتُ وحيداً نحو الحديقة العامة التي كنت أحب التمشي فيها. كان هناك بائع قهوة مُرّة يحمل إبريقه ويبيع على الماشي قهوته في فناجين من ورق مقوى. طلبت منه فنجاناً، واكتشفت أني نسيت حقيبة النقود السورية لأدفع له ثلاثة آلاف ليرة (نحو 25 سنتا) طلبها. قلت له إني نسيت حمل مال، فقال على الفور: مُسامح! لكني تذكرت فوراً أني أحمل بعض النقود باليورو، فدفعت له ما تيسر. كرم الحلبيين آسر، ويسرهم عادة أن يبرزوه مقابل بخل الدمشقيين المفترض. ضايقني أن هناك باب معدني أضيق للحديقة العامة يبدو أنه كان يغلق في الليل، وهذا بعد أن كان باب الحديقة العريض مفتوحاً دوماً وبكرم. في غير مكان هناك أبواب أضيق، تكثّف ضيق البلد خلال سنواتنا الدامية بعد 2011، محاول تصغير سورية كي تسهل مراقبة السوريين كلهم. مساء اليوم نفسه، كنا مرسيل شحوارو وأنا، في حوارية في المركز الثقافي في العزيزية. تعرفين مرسيل بالاسم. كانت من ثائرات حلب وجامعتها، ولحياتها ونشاطها الثوري سيرة غنية ستروى في كتاب بالإنكليزية قريباً. تكلمنا على كيفية استعادة السياسة في سورية في صورة حوار، أكثر أسئلته من مرسيل لي، وأقلها مني لها، قبل أن نبدأ بالتحاور مع الجمهور الذي ملأ صالتَي المركز وظل عدد غير قليل وقوفاً. كان هذا مشجعاً ومؤثراً. ليتك كنت معي يا سمور! وبطبيعة الحال كنتِ حاضرة طوال الوقت، في تقديمي والتعريف بي، في أسئلة أصدقاء ومعارف، كما في مضمون بعض إجاباتي على أسئلة الحضور. كان هذا أول فعالية فكرية سياسية في حلب بعد «التحرير» أو «السقوط». يستخدم أناس مختلفون إحدى هاتين الكلمتين، مركزين على التحرر الذي يتضمن أن النظام كان قوة استعمارية، أو على واقعة سقوط النظام والفرار المشين لبشار. متأكد أن كنت ستفضلين الكلمة الأولى. قال لي بكر إن تهامة تصحح له كل مرة يقول فيها السقوط ليستخدم كلمة التحرير. بكر وتهامة لا يزالان في غازي عنتاب في تركيا. بينما كان الناس يتوافدون إلى المكان، ومرسيل وأنا نقف جانباً كأننا نرحب بالقادمين، سلّم عليّ رجل من جيلي، نظر في عيني وسأل: هل عرفتني؟ نظرت إليه لثوان وتأسفت أني لم أتذكره. قال أنا فلان. تعانقنا بمودة بعد 34 عاماً تقريباً من آخر لقاء بيننا. فلان كان رفيقي وزميلي في سجن حلب المركزي، وقد أفرج عنه بعد 11 عاماً. وقت خرجت أنا من السجن متأخراً عنه بخمسة أعوام عملت على لقاء من لم يتجنب لقائي من رفاق السجن، وفلان لم يكن بينهم. مفهوم. الرجل أراد تجنب أي «وجع راس» قد يأتيه من طرف النظام، وربما من طرف عائلته، إن حافظ على علاقته برفاقه «خريجي الحبوس» السابقين. لكنه في أول فرصة أتيحت بعد سقوط النظام أتى ليحضر فاعلية عامة يشارك فيها رفيقه القديم. في هذا تتكثف قصتنا كلها يا سمور. الطغيان فرق الناس عن بعضهم وزجهم في دوائر صغيرة مغلقة دون بعضها. وزوال قبضة الطغيان فتح الدوائر على بعضها. كنا، هو وأنا، في مطلع ثلاثيناتنا وقت خروجه في السجن، ونلتقي لأول مرة بعد السجن ونحن في أواسط ستينات العمر. في اليوم التالي ذهبت بصحبة نسمة وحليم، وهما زوجين وناشطين شابين، إلى حلب الشرقية. كان الدمار هائلاً، يثير في النفس مزيجاً من الأسى واليأس. كيف يمكن التخلص من كل هذا الردم؟ وإعادة بناء المساكن المدمرة كي يعود إليها أهلها الذين يعيشون في المخيمات أو من استطاع منهم في أحياء أخرى غير مدمرة؟ فقر ذلك القسم الشرقي من المدينة يكسر القلب. * * * * *
إلى دمشق عدت مع مرسيل صباح الرابع والعشرين من كانون الثاني. هي لتحضر مؤتمراً عن العدالة تشارك فيه العديد من المنظمات السورية، ونصف الحضور نساء على ما قالت لي مساءً، وبعض أعضائها قادمون من ملاجئهم في بلدان قريبة وبعيدة، وبعضهم من داخل البلد. بالمناسبة هذا محور استقطاب ضمن أوساط الناشطين العلمانيين، يحتاج إلى عناية في معالجته. القادمون من الخارج يبدون مرئيين أكثر والداخليون أقل. تشعرين بتوتر خفي وبعسر تواصل واختلاط بين الطرفين، بأن هناك أشياء لا تقال. سبق لما يشبه ذلك أن حدث في فلسطين بعد اتفاق أوسلو. وقبلها في اسبانيا بعد رحيل فرانكو، واليونان بعد انتهاء دكتاتورية الجنرالات. كم يشبه الناسُ الناسَ، يا سمور! في دمشق، كل يوم أنشطة جديدة، تنعقد في فنادق أو في مقاهٍ، الروضة بخاصة، أو في مواقع ثقافية خاصة كانت أقل نشاطا قبل السقوط/ التحرير. المدينة قد تكون من الأنشط في عالم اليوم في النقاش العام والعروض السينمائية والمحاضرات والمؤتمرات والندوات. عرض صديقنا أسامة محمد فيلمه نجوم النهار لأول مرة في دمشق، وكان المكان ممتلئاً. وعُرض في جرمانا فيلم بلدنا الرهيب، وأنت ورزان حاضرتان فيه. في الشام، عدت إلى لقاء أصدقاء وصحفيين ووسائل إعلام أجنبية، وشراء تذكارات، منها جوارب عليها صورة حافظ الأسد، بينما هو يستعرض عضلاته مرتدياً الكلسون فقط، ومنها بشار برقبته الطويلة في رسم كاريكاتيري. ولم أستطع الحصول على فنجانين للأب وابنه، وهما في اللباس الداخلي، رأيت صورة للفناجين على النت. بعد سقوط النظام، وفي فوضى الأيام الأولى، استحصل بعض الناس على صور للعائلة، وبينها صورتان للأب والإبن بالكلاسين، نُشرتا على وسائل التواصل الاجتماعي، فصار أن سُميت العائلة: عائلة أبو كلسون. * * * * *
صباح التاسع والعشرين من كانون الثاني قصدنا، وجدان ناصيف وجلال نوفل وأنا، السويداء مجدداً. كان أكرم وناشطون من المدينة قد انتزعوا مني وعداً بالعودة، وهو ما توافقنا عليه نحن الثلاثة. اتفقنا كذلك على أن نقلّب النظر في سبل تشكل أكثرية سياسية عابرة للجماعات الأهلية، وحول فكرة المؤتمر الوطني أو مؤتمر الحوار الوطني الذي جرى تداول فكرته بعد سقوط النظام، وصيغ التمثيل فيه. كان مضيفنا في السويداء هو رفيق السجن أكرم معروف الذي تخرج بعد السجن مهندساً، وبنى أسرة من زوجة وثلاثة أبناء، تبين أن اثنين منهما، ابن وبنت، يعيشان في ألمانيا. كانت وجبتنا الأولى في السويداء هي المليحية، وهي نفسها الميلحي في درعا المجاورة: منسف من قطع لحم الغنم الكبيرة بعظامها وتحتها الرز، وكلها مطبوخ باللبن الذي يُقدَّم كذلك في أطباق خاصة بجانبها، وعلى محيط طبق المنسف الكبير نفسه رُصِفت كبب مقلية محشوة باللحمة المفرومة. كانت شهية جداً بالفعل. حضر ندوتنا نحو خمسين شخصاً، سبعة بينهم نساء. على أن الحضور كانوا متقدمين في السن، خمسينيين أو أكبر، عدا فتاة واحدة، ناشطة معروفة في المدينة، كانت في السابعة والعشرين. مساء كنا مدعوين إلى سهرة مع العود والموسيقا والنبيذ المُصنّع محلياً، في بيت عدنان أبو عاصي نفسه. الرجل معروف بنشاطه المعارض، هو وزوجته وأبناءه معارضون، ومن الأنشط في ساحة الكرامة في السويداء منذ مطلع آب 2023. كان أحد الأبناء قد اعتقل وهو في السادسة عشرة لبعض الوقت. أثناء السهرة المبهجة عرفنا باجتماع أحمد الشرع مع الفصائل العسكرية التي أقرّت حل نفسها والاندراج في الجيش الجديد، وهذا بعد حل الجيش السابق وحزب البعث ومجلس الشعب، وإقرار أحمد الشرع كرئيس انتقالي، وتفويضه باختيار مجلس تشريعي مؤقت. في المحصلة، نبدو حيال دكتاتورية انتقالية، تثير المخاوف من التحول إلى دكتاتورية دائمة. في ساحة الأمويين في الليلة ذاتها هتف موالون لهم: الجولاني للأبد/ غصباً عنك يا أسد! يبدو هذا موجهاً نحو ماضٍ انقضى، لكنه يمكن أن يؤسس لمستقبل خطر، مستقبل أسدي بلا أسد. الدعوة إلى أبد سياسي تتجاوز الدكتاتورية ذاتها إلى أفق الإبادة، بالنظر إلى أن الأبد غير ممكن دون إبادة، نظام تعذيب واعتقال مديد ومجازر من الصنف الأسدي. وبعد إفطار كبير صباح اليوم التالي، عدنا إلى دمشق. كطبيب نفسي، جلال سيتكلم في الرابعة في مقهى الروضة مع طبيب نفسي آخر عن مشكلات سياسية نفسية راهنة في الإطار السوري. ووجدان، القيادية في الحركة السياسية النسوية، تتابع أوضاع الحركة والوضع السياسي السوري بالمزيج السوري المعتاد من الابتهاج والتوجس. قالت إن ما يزعجها هو استعداد كثيرين في أوساطنا للندب والعويل أمام الصعاب، وذكرت بعض الأمثلة. وافقتها على ذلك بالكامل. * * * * *
في يومي الأخير في دمشق، ذهبت مع صديقات وأصدقاء مجدداً إلى دوما، علّقنا لوحة صغيرة على مدخل البناء الذي كان آخر ما شهد عليك مع رزان ووائل وناظم أحراراً، وقد كُتِب عليها: في هذا البناء كانت تقيم رزان زيتونة وسميرة الخليل، ثم وائل حمادة وناظم الحمادي، حتى يوم اختطافهم في ليلة 9 كانون الأول 2013. دققنا على أبواب الشقق في البناية طالبين إذن السكان لتعليق اللوحة. لم تُفتح لنا كل الأبواب، لكن لم يعترض أحد ممن فتحت أبوابهم، ولقينا أطيب استجابة من زوجين خمسينيين، وخاصة من السيدة. كان مشهدنا غريباً، نحو 15 عشر من رجال ونساء يصعدون الدرج، مزودين بالكاميرات والميكروفونات والهواتف المحمولة. وعلى الرصيف أمام البناء كنا عشرات، ربما 40 شخصاً، نوثق اللحظة. قام معاوية حمود، وهو رجل في نحو الأربعين من المعضمية قرب دمشق، بتعليق اللوحة التي كان هو وشيرين الحايك قد ساعداني في التوصية عليها قبل أيام. وطلبت من شيرين تصويري وأنا أوشك أن أخرج من الباب المعدني المثقب بالشظايا، ويدي مرفوعة كأنها تسنده، محاكياً صورة لك في الوضعية نفسها. لون الباب تغير اليوم، صار أبيض سكرياً، بينما كان بنياً في أيامك، ويبدو أحمر في بعض الصور. يجب أن أعترف أن صورتك أحلى، وأن حركتك وأنت تبدين كأنك تفتحين الباب أو تهمين بالخروج منه جالبة معك من الداخل الضوء الذي يشع من ثقوب الباب، تعطي الصورة فرادة لم تنجح محاكاتي لها. في صورتي يبدو العكس، ثقوب الباب تطل على العتمة والضوء يأتي من الخارج. تعرفين؟ بلونه، يشبه الباب لون حقيبة يدك التي أتيت بها إلى الغوطة الشرقية ظهر يوم 18 أيار 2013. استلمتها في غازي عنتاب بتركيا عام 2018 بعد تهجير دوما. أوصلها لي الدكتور محمد كتوب الذي كان حساساً كفاية كي يغادر بسرعة بعد أن سلمني الأمانة الثقيلة. لأول مرة بين يدي شيء منك، فيه هويتك الشخصية ووثيقة تقول إنك تعملين في مركز توثيق الانتهاكات، وبعض الحلي، وأوراق، وصور لك ولي في جزدان صغير في الحقيبة، وبعض الحلي ومسبحة معدنية الحبات، وحبّاسات شعر، وحتى منديل ورقي مهترئ أبقيتُه في الحقيبة التي أتعامل معها كأثر مقدس. أو كحقيبة متفجرات. لا تزعلي مني يا سمور. أقصد أني أخاف من فتح الحقيبة، تُفجر في داخلي أحزاناً غائرة حاولت دفنها طوال سنوات. لا شيء يؤلم بقسوة أشد من هذا الأثر المقدس، المتفجر، الذي يتجسد فيه بعدك وغيابك. أحتفظ بالحقيبة مرفوعة في مكان عال لا تطاله الأيدي في مسكني في برلين. بينما نثبت اللوحة قرب الباب، كان هناك عدد من الصحفيين، سوريين وأجانب، يأخذون الصور. بعضهم لا يكادون يعرفون شيئاً عن القضية ولم يقوموا بعملهم البيتي كي يعرفوا، وبعضهم يعرفون لكن لا يتميزون بما يلزم من حساسية خاصة حيال القضية وأهالي المغيبين الذين كنت ممثلهم الوحيد هناك. السعي وراء مادة صحفية يحول دون الشعور بكم يمكن للكلام في مثل قضيتنا أن يكون مستنزفاً نفسياً. لم أستطع كبح انفعالي أمام أسئلة غير عارفة أو غير حساسة. كان هناك صحفي من منبر يميني فرنسي عرفت من بعض من قابلهم كم يريد أن يوجه الأذهان نحو أجندة اليمين الفرنسي والأوروبي الخاصة بالتعصب الإسلامي ومحارية الإرهاب وحقوق الأقليات. سألني هذا الصحفي القصير القامة الذي كان على علاقة طيبة مع الحكم الأسدي طوال سنوات كيف تبدو لي الأحوال. أجبته بكلمة واحدة: طيبة! * * * * *
وصلت إلى بيروت برفقة شيرين الحايك بعد رحلة صباحية مبكرة من دمشق، بغرض أن نتجنب زحام الحدود في ساعات لاحقة. على الجهة السورية من الحدود قيل لي أن عليّ «منع مغادرة». قلت إني أعرف ذلك. وتبرعتُ بمعلومة أن المنع يعود إلى أيلول 2004. تذكرين هذا المنع. كنت مسافراً إلى بيروت للمشاركة في مؤتمر ما، وقت مُنِعت من إتمام الرحلة وأعطيت ورقة تحيلني إلى فرع شؤون الضباط بدمشق. تذكرين كذلك أني لم أستطع معرفة سبب المنع، ولم أتمكن من رفعه ولا الحصول على جواز سفر. قال الموظف إنه لا يستطيع أن يبت بالأمر، وأن عليّ أن أنتظر قدوم الضابط، بعد عشر دقائق. بعد أقل من عشر دقائق أُحِلْت إلى كوة الموظف المجاور للأول، وحصلت على ختم على بطاقة خاصة كنت كتبت عليها اسمي واسما أبويّ ومكان وتاريخ ميلادي. ويبدو أن هذا الموظف الآخر خبير بمثل حالتي، وبحسب سائقنا اللبناني فإنه قد أعيد إلى العمل بعض موظفي الحدود السابقين ممن لديهم خبرة جيدة في تسيير الأمور، وأن هذا الذي ختم بطاقتي واحد منهم. لكن لا أدري إن كان المنع قد رفع نهائياً. الإدارة الجديدة تتعثر في عملها وتعلُّمها، ويُرجّح أن يستغرق الأمر وقتاً قبل أن تنتظم الأمور على سوية مطردة. قبل هذه الرحلة إلى بيروت بأيام التقيت بصحفي أوروبي قال لي إنه لم يستطيع عبور الحدود إلى سورية لسبب ما لم أفهمه، وأنه دخل في النهاية بالآلية القديمة المعروفة. تقصد الرشوة؟ سألته. قال نعم. * * * * *
اليوم، 2 شباط، عيد ميلادك. استحضره في الصباح مع القهوة في بيت سامر وليفيا في بيروت التي وصلت إليها البارحة. تذكرين سامر وليفيا، تزوجا عام 2004 في حلب، في بيت جميل قديم اسمه خان الشونة، وكنا بين الضيوف في حفلة الزواج. ليفيا أميركية تتكلم العربية بطلاقة، وسامر سوري، حلبي، ولهما اليوم ثلاثة أولاد، رملة التي تدرس التاريخ والعلاقات الدولية في جامعة براون في الولايات المتحدة، وناجي يدرس الاقتصاد والعلاقات الدولية في جامعة نورث إيسترن في أميركا كذلك، والصغير يامن في الصف التاسع، وهو طويل القامة ومتين البنية، يمارس رياضة الملاكمة. احتفلت وحدي بيوم ميلادك طوال هذه السنوات، استحضر وجودك المحب، حنانك الفائض، كرم روحك، وسهراتنا مع صديقات وأصدقاء في ليلة 2 شباط أو الليلة السابقة لها، يوم ميلادي المفترض قبلك بيوم واحد. لم تكن حقيقة أن يوم ميلادي الحقيقي غير معلوم، وأن المسجل ليس هو الصحيح، تعني لك شيئاً. أحببتِ أننا مسجلين في يومين متعاقبين، وأردتِ دوماً أن نحتفل مع أصدقائنا وفي منزلنا، مع كأس من الجن بالليمون أحضّره أنا لك، أو مع النبيذ الأحمر، والعرق لي ولأكثر أصحابنا. سنوات غيابك إلى اليوم تعادل سنوات عيشنا معاً، أكثر من 11 بقليل. كم تعاركت مع هذا الغياب الصامت الطويل خلال هذه السنوات، يا سمور! نعيش الحضور بانتباه مشتت، غائب بقدر ما، حتى إذا وقع الغياب، أسفنا على أننا لم نملأ زمن الحضور بقدر ما ينبغي. نعمل على استحضاره طوال الوقت، ويفلت من اليدين طوال الوقت. فكأن الحضور نتاج الغياب، وكأننا لا نحضر إلا في غيابنا. أصوغ هذه الخاطرة كفكرة عامة ليس فقط لأني لا أحتمل أن أعترف أنها تجربتي الشخصية وقت حضورك وفي غيابك، ولكن كذلك لأني أحاول تشكيل مرجع، بعد أن لم يكن لدي طوال هذه السنوات مرجع يساعد في التعامل مع هذه التجربة، لأني واجهتها عارياً من دليل يعين على التوجه، وربما تقوم حوله جماعة. لا شك في تضامن كثيرين ودعمهم المستمر، لكن اقتران غيابك مع منفاي ومع تحطم عنيف للبلد طوال 11 عاماً بعده، أبقاني في مواجهة غيابك وحيداً، أعزل. هذا الغياب تجربة أصلية بأقوى معنى للكلمة، تجربة بلا نسخة سابقة، بلا دليل معلوم للتعامل معه، ولست متأكداً أني عرفت كيف أصوغ ذلك في كلمات، تعرفين أنها كل ما أملك للإقامة في العالم. أشعر أني في مثل وضع الأمهات اللاتي فقدن ابناً أو أبناء، ولا يجدن الدعم الكافي ممن حولهن ولا لغة كافية للكلام عما يشعرن به. مثل تلك الأم التي توشحت حبل المشنقة المخضب بالأحمر، الذي ربما يكون آخر الشهود على حياة ابنها. التجارب الأصلية لا تطاق، وقد تقتل. الأمهات يمتن مقهورات بعد أن يعشن التجربة حتى النهاية. والآباء كذلك. لكن التجارب الأصلية تحيي، إن عرفنا كيف نجعل منها معنى وقانوناً وقاعدة لحياة جديدة. زوجك يحاول أن يصنع معنى لتجربة غيابك المصمت الطويل، معنى يقيه من عنف التجربة وقسوتها الأصلية، فيفلح ولا يفلح. يوم قدومك إلى الدنيا أفكر كناجٍ في أنواع التجارب في غرفة في بيت صديق في بيروت. وقع على الناجي أن يروي. أن لا يكف عن الكلام والاستحضار طالما الغياب مستمر. * * * * *
عدت إلى برلين عبر باريس بعد نحو أربعين يوماً في سورية ولبنان وعلى دروب السفر. اشتقت إلى روتيني اليومي خلال هذا الوقت الذي لم يكن فيه روتين من أي نوع، إلى زنزانتي كما قلت لبعض الأصدقاء. أحتاج إلى وقت لمعالجة وترتيب ما شهدت وعشت وخبرت طوال تلك الأسابيع الفريدة، الخاصة، التي لا يعيش المرء مثلها في العمر مرتين. هناك روح تنبثّ اليوم في جسد بلدنا المتهالك، روح نشطة ومضطربة. بعد يوم ونصف من عودتي إلى برلين اقتحمني السؤال: لماذا لم أبقَ هناك؟ ماذا أفعل هنا؟ لماذا تركتك وحيدة وعدت إلى البلد البعيد؟ كأنما كنت أحتاج العودة إلى برلين كي أدرك على الفور أن عليّ أن أعود إلى جوارك. أن أبقى هناك لأجمع المعلومات، لأتقصى سبل العدالة من أجلك. لماذا مسكني في برلين هو مكان «الحياة العادية» الذي لا أغادره إلا لأعود إليه؟ لماذا أختار حياة عادية حين حُرِمت أنت من الحياة والموت معاً، وحين لدي القدرة على الاختيار؟ قبلاتي يا قلبي ياسين
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سياسة الضعفاء: سورية الجديدة وإسرائيل الاستعمارية القديمة
-
ملاحظات وخواطر ثانية عن سورية في زمن جديد
-
مقابلة عن حرية سورية وسياسة النسيان
-
السياسة أولاً في سورية، الاقتصاد ثانياً، والإيديولوجيا آخر ش
...
-
في وداع السجن الأسدي والدولة السرية
-
ملاحظات وخواطر من سورية في زمن جديد
-
سورية وإسلامية ما بعد التغول
-
إله المشرق الإسرائيلي وتناسُخاته
-
ليلى سويف: دفاع استشهادي عن النفس
-
في وجوب تحرير قضية فلسطين من الممانعة والممانعة المعكوسة
-
إدوارد سعيد وهشام جعيط
-
الثورة السورية، القضية السورية، المسألة السورية: بحثاً عن تر
...
-
حزب الله: قصة ضلال عام
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
-
الأكاديمي السوري بين التعالي والذّمّيّة
-
شهادة المحتل الأمين بمن يحتلهم من السوريين
-
الصفح المستحيل: أفكار في شأن الصفح والعدالة والانتقام في الس
...
-
في فشلنا التربوي العظيم
-
من الهولوكوست والاستعمار إلى الممانعة و«الربيع العربي»: في ن
...
-
-نظام بلا سلطة-، تعليق نقدي
المزيد.....
-
فيديو يُظهر نوابًا معارضين يلقون قنابل دخان وغازًا مسيلًا دا
...
-
وصول دفعة جديدة من أطفال غزة المرضى إلى الأردن لتلقي العلاج
...
-
الجيش الإسرائيلي يقول إنه اغتال قياديا كبيرا بقوة -الرضوان-
...
-
زيلينسكي يتجنب الاعتذار المباشر لترامب لكنه يأسف لما حدث بين
...
-
من هم القادة الغائبون عن القمة العربية الطارئة لدعم غزة؟
-
-خاصة في إيران-.. فانس يؤكد أن الولايات المتحدة لن تتسامح مع
...
-
روان بن حسين.. إحالة الفاشنيستا الكويتية للمحاكمة في دبي
-
حضور الشرع في القمة العربية وغياب تبون وبن سلمان وسعيد
-
توقيف قاصر بقضية اليوتيوبر المغربي هشام جيراندو
-
أمام القمة العربية.. السيسي يقترح خطة لإعادة إعمار غزة
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|