|
المختار من كتاب (علم الأديان) للدكتور خزعل الماجدي (5)
محمد بركات
الحوار المتمدن-العدد: 8271 - 2025 / 3 / 4 - 16:57
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
في التراث الإسلامي - علم الملل والنحل: أظهر المسلمون تميّزاً استثنائياً في التاريخ الوسيط، في نشوء وترسيخ ما يمكن أن يُطلق عليه (علم الأديان الوسيط الإسلامي)، أو (علم الأديان العقائدي الدوغمائي)، فقد فاقوا، في ذلك، ما أنتجه اليهود والمسيحيون. إن صفة الدوغمائية (العقائدية) صفة ملازمة لأغلب العلوم الفكرية، ومنها الدراسات الدينية الوسيطة، التي نطلق عليها، مجازاً، تسمية علم الأديان والفرق، فقد ظهر أعلام كبار في هذا المجال لا يمكن المرور عليهم بطريقة عابرة؛ بل يجب رسم مناهجهم وتوجهاتهم بدقة؛ لأنهم يشكلون، بحق، صورة علم الأديان الوسيط بمهارة عالية على الرغم من التوجه العقائدي الديني، الذي يَسِمُ التاريخ الوسيط بأكمله. ونرى أنّ سرد ظهورهم التاريخي، مع الإشارة إلى توجهاتهم والعلوم الفرعية التي ابتكروها في مجال هذا العلم الواسع، هو الطريق الأفضل لتلمّس نموّ وتطور البحث الوسيط في علم وتاريخ الأديان. «لقد شكلت حصيلة القرون الثلاثة الأولى لثقافة التقييم تركيب عناصرها الجوهرية، التي أخذت تقترب من مهمات الطرح الموضوعي، غير أنّ الموضوعية المجردة في عالم الصراع مجرد وهم. وقد أدرك ذلك مؤلفو كتب الملل والنحل، على الرغم من كل الموضوعية الحقيقية التي ميزت كتب الشخصيات الكبرى، ومنهم الأشعري (ت 324هـ ، والبغدادي (ت 429هـ)، وابن حزم (ت 456هـ)، والشهرستاني (ت 548هـ)، وغيرهم. فإذا كانت الموضوعية الصارمة تميّز (مقالات) الأشعري، فالاتهام المؤدلج، وعقلنة الجدل ،الفكري ما يميز (الفرق بين الفرق) للبغدادي، في حين تطغى عقلنة الجدل الفكري والدراسة المقارنة على (الفصل في الملل والأهواء والنحل) لابن حزم أما (ملل ونحل) الشهرستاني، فنموذج للمثال الكلاسيكي للنصف الأول للقرن السادس الهجري للعقلانية والموضوعية الصارمة (الجنابي: 1994: 99). لم ينشأ علم الملل والنحل الإسلامي دفعة واحدة؛ بل سبقته تطوّرات كثيرة، ولعلّ الأساس القدسي، الذي كان بذرته الأولى، يكمن في الحديث النبوي الشهير حول الفرق الإسلامية الثلاث والسبعين، والفرقة الناجية : افترقت) المجوس على سبعين فرقة واليهود على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة، بينما ستفترق أمة الإسلام على ثلاث وسبعين فرقة، الناجية منها ،واحدة والباقية هلكي قيل : وما الناجية ؟ قال : أهل السنة والجماعة. قيل: وما السنة والجماعة؟ قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي. وواضح أنّ هذا الحديث موضوع بعد وفاة الرسول بقرون؛ لأن مصطلح السنة والجماعة، لم يظهر إلا متأخراً، بعد تميّز الفرق والمذاهب الإسلامية، ولم يكن في عصر الرسول مثل هذا، على الرغم من أنه مربوط بأسانيد لشخصيات روته عن الرسول؛ مثل: أبي هريرة (ت 57هـ)، وعبد الله بن عمرو بن العاص ت (65هـ، وأنس بن مالك (ت 93هـ). والحقيقة أن الصراع السياسي والفكري، الذي اتضح بصورة صراع مذهبي وفرقي داخل الإسلام، قد بدأ التنظير له من خلال المقالات)، و(الأحكام)، التي تطوّرت شيئاً فشيئاً إلى (علم المذاهب الإسلامية، ثم إلى علم الملل والنحل، وبذلك نكون أمام تطوّر منطقي للصراع السياسي والفكري في صيغة علوم دينية تاريخية وإذا كان الوعي الإسلامي اللاحق قد بذل جهده في استلهام تقاليد الرحمة والاعتذار من أجل استغفار ما مضى، أو، في أفضل الأحوال، صياغة براهين الرحمة الميتافيزيقية، التي فنّدت أسس الاتهام المذهبي، دون فعالية العقاب الإلهي، فإنّه لم يستطع طيَّ واقع الاختلاف والتجزئة، على العكس، إنه سيجد، في ذلك، (سنة) الله الدائمة في الوجود. بصيغة أخرى : إنه أعطى دوافع الفرقة تأويلاً (شرعياً)، ولاستمراريتها أساساً منطقياً، وليست الأحاديث الشهيرة كالتنبؤ بافتراق الأمة الإسلامية إلى نيف وسبعين فرقة الناجية منها واحدة، واختلاف أمتي رحمة، و«لا تجتمع أمتي على ضلالة» ، إلا الصيغ الإيديولوجية المناسبة لبدايات الصراع السياسي، وملامح تكوّنه النظري الأول» (الجنابي: 1994م: 4). كان ظهور الفرق والمذاهب الدينية في الإسلام أمراً طبيعياً تحتمه الضرورات التاريخية والاجتماعية، ولا يمكن أن تجري كلّ هذه المنافحات قياساً إلى فكرة مركزية واحدة تمثلها فئة واحدة يجب القياس عليها، وقد فنّد الواقع هذا الأمر، فظهرت العشرات؛ بل المئات من الفرق، والمذاهب، والمدارس صدىً للتنوّع الإثني والاجتماعي داخل المجتمع الإسلامي، ونتيجة حتمية لصيرورة الفكر والتاريخ، فالتطور الفكري لا يمكنه أن يكون بهذا المعنى، بما في ذلك نشوء الفرق بدعةً قابلة للاتهام والرفض. إنّها تصبح النتاج الطبيعي؛ بل الحتمي، (فالشبهات التي وقعت في آخر الزمان :أي المعاصرة للشهرستاني هي بعينها تلك الشبهات التي وقعت في أوّل (الزمان). وبغض النظر عن اتهام الشهرستاني لهذه الظاهرة سلباً، فإنّ الإيجابي فيها يقوم في محاولته البرهنة على موضوعية وحتمية التطور الفكري. فالفكر لا يمكنه أن يقف عند حد» (الجنابي: 1994م: 110).
القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي : حين عصفت الخلافات السياسية بالمسلمين بعد وفاة النبي، بدأت الفرق والمذاهب الدينية بالظهور شيئاً فشيئاً، لاسيما أن وجود النبي ظلّ طيلة عهد النبوة، صمام أمان للكثير من الاجتهادات... ثم إنّ الحياة الإسلامية، بعد الفتوحات بدأت بالتنوع والاختلاف، وضمت إليها شعوباً كانت لها عقائد وعادات قديمة ألقت بظلالها على الإسلام، وهذا أمر طبيعي جداً. ومع تكوّن فرق الشيعة والمعتزلة والمرجئة، ظهر مفكرون ومؤرّخون، وعلماء عقائد وعبادات، يؤلفون (المقالات)، و(الأحكام)، ثمّ الكتب لتوضيح هذه الفرق. ولعلّ أقدم ما نعرفه هذه الكتب كتابان أُلفا في أوائل القرن الثاني هما : (الرد على القدرية) الذي صنفه المعتزلي عمرو بن عُبيد (80-144هـ ، والثاني أصناف (المرجئة، الذي كتبه أوّل المعتزلة واصل بن عطاء، المعروف بالغزال (13180هـ)، وكان الكتابان في حقيقتيهما، نوعاً من تأسيس لـ: (علم الفرق)، الذي هو علم المذاهب الإسلامية، وهو من وجهة نظرنا أوّل تأسيس حقيقي لعلم وتاريخ الأديان عند المسلمين الذي نسميه بمصطلحات ذلك العصر، (علم الملل والنحل)، وإن كان الأمر في ( علم الفرق) مقتصراً على الدين الإسلامي حتى هذا القرن. النقد المنهجي للإسلام بدأ مع المعتزلة، الذين أسسوا علم الكلام، وقد توجّه النقد الاعتزالي إلى أغلب العلوم الدينية في الإسلام مثل علوم أصول الفقه، الذي اشتمل على نقد الأخبار والأحاديث، ونقد مبدأ عدالة الصحابة، ونقد الإجماع والقياس. وطال النقد المعتزلي علوم الفقه والتفسير، والسيرة، وأسسوا لنوع من التفسير العقلي للقرآن، ونقدوا، في مجال علم الحديث رواة الحديث فيما سُمّي علم (الجرح والتعديل)، وقبل كل هذا، أسسوا لأركان علم الكلام في مسائل التوحيد والعدل، وخلق القرآن، والإعجاز والألوهية والنبوة والنص القرآني والخلافة، والإمامة، وغيرها. بدأ نشاطهم الفكري منذ بداية القرن الثاني الهجري في البصرة، أواخر العهد الأموي، وازدهر هذا النشاط في العصر العباسي، ووصل إلى ذروته في عصر المأمون، وهو الخليفة المعتزلي، والأديب والمفكر الجاحظ، ثمّ تعثّر وجودهم منذ المتوكل، واستباحثهم التيارات السلفية والفقهية. وكان المعتزلة من أكبر دعاة العقل في الفكر الإسلامي، وأظهروا جرأة لا نظير لها في نقد أصول الإسلام، وتجاوزوا المألوف في الفكر اللاهوتي في مقولاتهم حول (خلق القرآن)؛ بل إنهم نفوا صفة الإعجاز عنه، وبذلك اقتربوا من نقد المقدس الإسلامي، وإعلاء سلطة العقل. وظل الفكر الاعتزالي قائماً، على الرغم من الهجمة السلفية الشرسة عليه، حيث نراه نظراً، في القرن الخامس الهجري، في مؤلفات القاضي عبد الجبار المعتزلي، الذي كتب كتاب (المغني في أبواب التوحيد والعدل واستمر بعد القرن الخامس الهجري، مع الزمخشري في (تفسير الكشاف) و(المناهج في أصول الدين ومع ركن الدين محمود بن الملاحمي في كتاب (الفائق في أصول الدين). ما يهمنا، هنا علاقة الفكر المعتزلي بالتأسيس لعلم الأديان الوسيط (الملل والنحل)؛ أي: الجانب المتعلق بالبحث في طبيعة، وتاريخ ومقارنة الأديان، ولعلّ من بواكير هذا الجانب ما قام به علمان معتزليان في القرن الهجري الثاني، هما: واصل بن عطاء و عمرو بن عبيد.
واصل بن عطاء (الغزال) (80-131هـ/ 700-748م) : هو مؤسس المذهب الاعتزالي، بعد أن انفصل (اعتزل) عن حلقة الحسن البصري. وأهم آثاره في الأديان كتاب (أصناف المرجئة). والجدير بالذكر أنّ المعتزلة هم الذين أطلقوا على الإمام أبي حنيفة وتلاميذه اسم (المرجئة، وربما كان كتابه هذا بداية للبحث في الفرق الإسلامية، وقد اعتمد فيه على المعاينة والعقل. إذاً، العقل، عند واصل، هو المدرك للمعرفة الدينية، والمرشد إلى الحق. وإنّ الأنبياء استدلوا على صدق رسالاتهم بالعقل، وإن الله أرشدهم بأسانيد من العقل يستدلون بها، والخبر الوارد في القول من وجهة نظره الذي يكون حجة، هو كل خبر لا يمكن فيه التواطؤ، والتراسل والاتفاق على غير التواطؤ والخبر عنده :نوعان خاص وعام، وهما مختلفان كاختلاف الأمر والخبر، فلو جاز كون الخاص عاماً ، لجاز كون العام خاصاً، ولجاز أن يكون الكل بعضاً، والبعضُ كلاً، فدلالة الخاص مباينة لدلالة العام. أما الناسخ والمنسوخ، فإنه يختص في الأمر والنهي. ومعنى هذا أن الأخبار الخاصة من تكاليف الأنبياء. أما الأخبار العامة، فهي للعباد، والمرسلة بتوسط الأنبياء كامتحان وورود التكاليف من الباري إنما يريد بها إلزام الناس بما في الشرائع من أوامر ونواه وهي رحمة من الله بعباده، وحجة له عليهم فيما يؤول إليهم أمرهم في الآخرة قصير : 2012م: 167).
• عمرو بن عبيد (80-144هـ) : هو تلميذ واصل، وله كتاب الرد) على القدرية، وهم من السنّة وكانت مثل هذه البدايات، في هذا القرن المبكر، نواة لتأسيس ما عُرف فيما بعد، بـ: (علم الفرق، علم الملل والنحل)، وهو علم المذاهب والفرق الإسلامية. وهكذا، يكون علم الأديان الوسيط، بصبغته الإسلامية، قد بدأ من داخله ومن التمييز والجدل حول الفرق والمذاهب الإسلامية. وقد أظهر القرن الثاني الهجري هذا الدفق العالي من المفكرين والعلماء، والأدباء، الذين واجهوا التزمت الديني في الدولة الأموية، ومع نشوء الدولة العباسية بدأ ظهور الحرية الفكرية، في ظل التفاهمات السياسية والمذهبية، ولكن هذا لم يستمرّ بمجرّد أن تصلب عود الدولة انتهاء العصر العباسي الأول ، وإذا بالانغلاق الفكري يبدأ قوياً من جديد.
• جابر بن حيان ( 101-199هـ/ 721-815م) : وهو من صنف العلماء الوضعيين (إن صح التعبير، فهو الذي نبغ في الكيمياء، وتأثر بالحكمة المصرية، والفلسفة الإغريقية، وشكّل جزءاً من التيار الهرمسي، الذي بدأ يظهر في الثقافة الإسلامية، وشكلت آراؤه العلمية فتحاً كبيراً في وجه الأفكار الغيبية عن الطبيعة والحياة، وهو مؤسس الخيمياء العربية الإسلامية، وتلميذ جعفر الصادق، وله رسائل وكتب فاق عددها الآلاف، لكن بعضها منحول عنه. الناحية الإنسانية العامة، ونعني بها مسألة (التكوين الصناعي)، فإنّ جابراً يريد، من وراء علم (التكوين) -كما يسمّيه - أن يكوّن)؛ أي: يخلق بالصناعة أنواعاً من الكائنات تنتسب إلى الممالك الطبيعية الثلاث، ولاسيما المملكة الحيوانية. فإذا كان في وسع الكيمياء أن تستنبط مواد جديدة بتركيب الأجسام بعضها مع بعض، فلم لا تقوم أيضاً، بإنتاج النبات والحيوان؛ بل بخلق الإنسان الصناعي؟ إنّ هذا العلم ممكن ؛ لأن الكائن الحي والإنسان كائن حي- هو نتيجة لتضافر القوى الطبيعية والطبيعة في إنتاجها للكائنات إنّما تخضع لقوانين كمية عددية يكشف عن سرّها علم (الميزان)؛ أي علم القوانين الطبيعية ،الكمية التي يجري عليها الكون والفساد في الطبيعة. فما على الإنسان، وقد عرف هذا السرّ، إلا أن يقلّد ما تبرزه الطبيعة، وليس في هذا خروج على الطبيعة؛ بل هي تساعد على ذلك، لأنها (إذا وجدت للتكوّن طريقاً، غير طريقها هي، استغنت به عن طريق ثانٍ على حدّ تعبير جابر (بدوي: 1993م: 227). يُسمى جابر بن حيان في تراث الغرب الوسيط ، باسم (جبري) ، ويَعُدُّه مفكرو الغرب رائد العلوم الإسلامية، وصاحب المنهج العلمي الرفيع. وقد شكّل علم جابر بن حيان بداية حقيقية للعلم التجريبي في الإسلام، لكن هذا لا ينسجم مع التوجّه الدوغمائي للثقافة الإسلامية، وكان يعتقد أن العلم هو البديل للدين والفلسفة معاً، وأنه بالعمل يمكن أن نصل إلى صنع الحياة «فكرة تكوين إنسان بالصناعة ؛ تلك الفكرة، التي شغلت أذهان كبار العلماء في عصر النهضة ممن نزعوا نزعة سحرية، نجدها واضحةً كلّ الوضوح عند جابر، يؤمن بها، ويؤكد إمكان تحققها في حماسة ونشوة تذكرنا بحماسة بركلسوس، ورجال القرن السادس عشر في أوربة؛ وهذا يكشف لنا عن ناحية خطيرة الشأن في الفكر الإسلامي، وتحتاج إلى أن تُدرس أعمق الدرس، لاسيما أنّها تعبير عن فكرة عاشت حية في وسط ديني، وكانت مدار التفكير عند أصحاب هذا الوسط، وفيها يظهر تأثير العناصر الغنوصية في الحياة الروحية في الإسلام أجلى ظهور» (بدوي : 1993م: 227). أما أدباء القرن الهجري الثاني، فكانوا قد وقفوا في وجه الدين والغلو الديني من أمثال بشار بن برد، وحماد الراوية وأبو العتاهية، وابن المقفع، وصالح بن عبد القدوس، وأبان الحميد، الذين اتهموا بالزندقة، مع غيرهم؛ أمثال : أبو علي سعيد وأبو علي رجاء، وطالوت، ونعمان عبد الكريم بن أبي العوجاء، الذين شنّ الخليفة المهدي عام (163هـ) حملة عليهم، فسجن بعضهم، وقتل الآخر، ومزق كتبهم، وأحرقها، واستمر اضطهادهم حتى بلغ ذروته في المتوكل، والحقيقة أنّ هؤلاء (الزنادقة) لم يكونوا ملحدين ؛ بل إن بعضهم من الغنوصيين من أتباع النبي ماني، الذي رأى فيه المسلمون عدوهم الأكبر لأسباب واهية، فالحضارة الإسلامية، مثل أي حضارة أخرى لا بد من أن تسود فيها تنوّعات الفكر وأطيافه، ولا بُدَّ من أن يكون الحوار أساسه، وقد أسهم هؤلاء وغيرهم في التوعية بالدين، وطبيعته، ونقدوا العادات الدينية السائدة، ووقفوا في وجه السلطات الرسمية. أما الحجة الثانية ضد هؤلاء وغيرهم، فهي الشعوبية، أو معاداة العرب، وهي حجج مبالغ فيها ؛ لأنّ المرحلة العباسية من الحضارة الإسلامية كانت، أساساً، مرحلة الشعوب الإسلامية كلّها، وليس العرب فحسب، وكان لابد من تبوؤ أعلام تلك الشعوب الحضور الكبير لهم في الحضارة الإسلامية، وهو ماحصل فعلاً. 2-3- القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي : في مجال التأسيس لعلم الأديان الوسيط، ظهرت خمسة اتجاهات؛ الأول في تأسيس علم الفرق، وعلم المقالات والأحكام على يد النوبختي، والثاني في استمرار النقد المعتزلي للأديان، ويمثله أدباء كبار مثل الجاحظ، والتوحيدي والمعري، والثالث يمثله العالم أبو بكر الرازي، والرابع في ظهور أوّل بادرة علمانية نادرة في التعامل مع الأديان، على يد أبي عيسى الوراق، والريوندي (الملحد)، سرعان ما قُمعت وشوّهت ودثرت تماماً، والخامس كان إخوان الصفا، الذين أسسوا علم الأديان والتسامح بين الأديان والفرق وسنتناول هذه التيارات عبر أعلامها الذين ذكرناهم :
النوبختي (؟-326هـ) : هو أبو محمد الحسن بن موسى النوبختي المتكلم، والفيلسوف، وهو من أعلام الشيعة الإمامية في القرن الثالث الهجري، وبداية الرابع الهجري. أهم كتبه، في مجال الأديان، ثلاثة : الآراء والديانات فرق) ،(الشيعة)، (الملل والنحل). وبذلك، يكون المؤسس الحقيقي لعلم الملل والنحل)، وأول من أطلق عليه هذا الاسم الإسلامي المميز. ويُعَدُّ هذا العلم نواة علم الأديان الوسيط بطابعه الإسلامي، وتشير إلى ذلك قائمة مؤلّفاته، ورسائله الأربع والأربعين وقد جمع النوبختي صفتي التشيع، والاعتزال، وهو ما مكنه من تأليف كتاب عقلاني ناقد عن فرق الشيعة ظلّ المرجع الأساس عنه طيلة التاريخ الوسيط. إن النوبختي (ت نحو 326هـ) من أقدم من وضع الأسس لمحاولة الفحص الفكري للمذاهب والفرق الإسلامية، وهو أبو محمد الحسن بن موسى النوبختي. و(علم الفرق): هو أحد علوم الكلام الذي اهتم به المتكلمون والفلاسفة، وكان المسلمون سباقون لإنشائه. ويُعَدُّ (علم الفرق) بدايةً لعلم الملل والنحل)، وهو بطبيعة الحال، بداية ما نسميه اليوم (علم المذاهب الدينية)، الذي نراه جزءاً من (علم الأديان، ولكن ذلك جرى في العصور الوسطى؛ أي : أيام سيادة النزعة الدينية الإيمانية، ولذلك لا يمكن اعتباره علماً حقيقياً، نظراً لما تشوبه من الإيديولوجيا الدينية، التي تمنع حصول العلم في كلّ ،عصر، والتي لا تلجأ إلى الفحص العلمي المنهجي، والبحث العلمي الدقيق. ودليلنا على هذا التطابق شبه التام بين كتابين بالعنوان نفسه؛ (فرق الشيعة) للنوبختي، وسعيد بن عبد الله أبي خلف الأشعري القمي، الذي عاش في : عصر النوبختي، ما يؤشّر إلى تداخل التأليف والانتحال يصنّف النوبختي عشرات الفرق الإسلامية أغلبها من الشيعة في كتابه، ويزعم أنه تعرّف آراءها في (الإمامة)، والحقيقة أن أمر هذا الكتاب مشكوك فيه؛ لأن هذا العدد الكبير من الفرق الشيعية لا يتناسب مع عمر تاريخ التشيع حتى عصر النوبختي، ولذلك نشكُ في أنه ابتكر الكثير هذه الفرق، ووضع لها أعضاء ومريدين وعقائد ومبادئ. ويبدو لنا أن هذا الكتاب صار الأساس الذي، على أساسه وُضِعَت التصانيف الخاصة بالشيعة، وبعضها ما زال، حتى يومنا هذا، دون تمحيص، أو تدقيق. وهناك من يرى أنّ النوبختي شيعي، وقد نطق عن معرفة بهم، وهذا غير مؤكد؛ إذ إن للنوبختي كتاباً اسمه (الرد على فرق الشيعة يثبت أنّه لا يمت بصلة إلى التشيع.
الجاحظ (195-255هـ) : وهو الأديب المعتزلي الشهير، عمرو بن بحر أبو عثمان الجاحظ. وأشهر مساهمة له، في هذا المجال، كتابه الرد على النصارى، وهو من الكتب المهمّة، التي أسست للأديان المقارنة، فهو يتناول المسيحية بوجهة نظر إسلامية، ويناقش أهم أركانها. تكتسب هذه الرسالة أهمية عظيمة، وتنبع أهميتها من كونها من أقدم النصوص التي وصلتنا، مصوّرةً حركة الجدل الديني في البيئة الإسلامية ضدّ اليهود والنصارى. كما أن هذه الرسالة تكشف عن جانب مهم من عبقرية الجاحظ، فهو ليس أديباً ناقداً متكلماً فحسب، لكنه، إلى جانب ذلك، عالم بالأديان، مطلع على كتبها، ملم بدقائق عقائدها، وتفاصيل مبادئها. كما أنها، مع غيرها من الكتب والرسائل في الموضوع نفسه، تبين عن الجهد العظيم الذي بذله المتكلمون المتقدمون، مثل: النظام، والإسكافي، والعلّاف، والجاحظ، والقاضي عبد الجبار، وأبي عيسى الوراق والبلخي والكعبي والجويني والغزالي، ومن قبلهم: الكندي الفيلسوف ؛ في مواجهة التحديات الخارجية الخطيرة | رة المتمثلة في مواقف اليهود، والنصارى، والمذاهب الوضعية، كالمجوسية، والثنوية، والزرادشتية والبراهمية، وغيرها».
أبو عيسى الوراق (؟-247هـ) : هو هارون أبو عيسى الوراق الباحث في الأديان بطريقة تقترب من الطريقة العلمية، التي تعلمها منه الريوندي، فهو أستاذ الأخير وصديقه، ولذلك شوّهت سيرتهما الكتب الإسلامية التراثية، ووصفتهما بالملاحدة، وكانت له آراء جريئة في نبوة محمد، وتنزيل الإسلام، وآراؤه مثلت تحدياً كبيراً للمسلمين في زمنه وكانت محاججاته ذات طابع واقعي وعلمي بعيداً عن الغيب والميتافيزيقا . وله كتب: اختلاف الشيعة الردّ على الفرق الثلاث، المقالات، كتاب الإمامة، كتاب السقيفة... وغيرها). ويمكن أن يكون مؤسساً لعلم المقالات والأحكام، مع ما سبقته من كتب للمعتزلة في الرد على القدرية، و(أصناف المرجئة).
الريوندي (210-245هـ) : هو أبو الحسن أحمد بن يحيى بن إسحاق الريوندي أو (الراوندي، نسبة إلى قرية راوند، الواقعة بين أصفهان وكاشان في ،فارس، وأهم كتبه (التاج الدامق البصيرة، اللؤلؤ، قضيب الذهب، الزمرد، الفرند اجتهاد الرأي الزينة). كان من أعلام المعتزلة في بداية حياته، ثم انتقدهم في كتابه (فضيحة المعتزلة، وكان يردّ بذلك، على كتاب الجاحظ (فضيلة المعتزلة)، وبعدها تشيع لفترة وجيزة، وكتب كتاب (الإمامة)، ثم التقى أبا عيسى الوراق، فنهج منهج الرؤية العلمية في النظر إلى الدين، والتي لم تكن تتناسب مطلقاً مع تلك العصور الضاجة بالإيمان، والمتجهة نحو التعصب، والانغلاق. لم يصل من كتبه شيء إلا بعض الشذرات المبثوثة في كتب من نقده، مثل الخياط المعتزلي، في كتابه (الانتصار)، الذي ردّ فيه على الريوندي في كتاب (الزمرد). وهناك من يقول بوجود كتابين له هما (الفرند) و (الابتداء والإعادة). شوّهت الكتب الإسلامية الرسمية والمتعصبة من كلّ المذاهب والفرق، والطوائف، سيرة الريوندي، واتهموه بالإلحاد، وصار اسمه المشهور (الريوندي (الملحد) سبباً في تسفيهه الدائم. تصدى لنقض عقائد المعتزلة، وحاول إصلاح عقائد الغلاة من أهل الفرق الأخرى، ذلك كله، عنت المتعصبين، فعُوقب عقابين؛ الأول أن سرت عدوى التبرؤ منه إلى كل الفرق دون تمييز، والثاني أنه حُورب، وطورد حتى مات في منفاه. واتهم، بعد وفاته بزمن، بشتى التهم التي وجدناها توجّه في العادة إلى الأحرار المستنيرين في تاريخ الفكر الحر. فالمصادر تكاد تجمع على أنّه نقد القرآن، والأنبياء، وعرّض بالأديان كافة، وسخر من الأساليب السياسية في انتخاب إمام المسلمين (الخليفة)، وإلى ما شئت من تجريح بالدين، وعلومه. ورووا عنه مقولات وأفكاراً لا سبيل إلى تصديقها؛ بل وجدنا من تعرّض لنقده، والتشهير به، والتقرب إلى الله ،بلعنه تديناً، وتعففاً، وقصداً إلى كسب الحسنات. والأنكي أنّ من هؤلاء من كان هو نفسه متهماً بالزندقة، والإلحاد، كأبي العلاء المعري، وأبي حيان التوحيدي، وغيرهما من المتشككين في الدين الأعسم : 1975م: 8).
أبو بكر الرازي (250-311هـ/ 864-923م) : عالم، وطبيب ومفكر، انعكست آراؤه العلمية على طريقة تفكيره الديني، فجاهر بآراء شجاعة وجريئة... أعلى الرازي من شأن العقل، وقدّمه على فكرة النبوة؛ فهو يقول، في مناظرة له مع أبي حاتم الرازي: «من أين أوحيتم أنّ الله اختص قوماً بالنبوة دون قوم، وفضلهم على الناس، وجعلهم أدلّة لهم، وأحوج الناس إليهم؟ ومن أين أجزتم، في حكمة الحكيم، أن يختارهم لهم، ويُشي بعضهم على بعض ويؤكد بينهم العداوات، ويُكثر المحاربات، ويهلك بذلك الناس؟) (الرازي: 1939م: 295). وقد اتخذ الرازي من تناقض الروايات في : سير الأنبياء وآرائهم دليلاً على بطلان النبوة؛ لأنه يرى أن النبوة تقوم على الإلهام والوحي من الله، ومصدرها واحد، فيجب ألا تتناقض في تفاصيلها. أعطى الرازي أهمية كبرى للعقل لاسيما في مستهل كتاب الطب الروحاني)، حيث قال: إنّ البارئ -عزّ اسمه- - إنّما أعطانا العقل، وحبانا به لننال و نبلغ ،به، من المنافع العاجلة والآجلة، غاية ما في جوهر مثلنا نيله وبلوغه ؛ وإنه أعظم نعم الله عندنا، وأنفع الأشياء لنا، وأجداها علينا... وبالعقل أدركنا جميع ما ينفعنا، ويحسن، ويطيب به عيشنا، ونصل إلى بغيتنا ومرادنا... وبه أدركنا الأمور الغامضة البعيدة منّا الخفية المستورة عنا... وبه وصلنا إلى معرفة البارئ -عز وجل- الذي هو أعظم ما استدركنا، وأنفع ما أصبنا ... وإذا كان هذا مقداره، ومحله وخطره وجلالته، فحقيق علينا ألا نحطه عن رتبته ولا ننزله عن درجته، ولا نجعله -وهو الحاكم محكوماً عليه، ولا وهو الزمام- مزموماً، ولا -وهو المتبوع- تابعاً؛ بل نرجع في الأمور إليه، ونعتبرها به، ونعتمد فيها عليه، فتمضيها على إمضائه، ونوقفها على إيقافه» (الرازي : 1939م: 17-18). ثم يتوصل الرازي إلى نقد الأديان بصورة عامة، ويورد تفاصيل نقده عن أغلب الأديان التوحيدية، وغيرها، وهو يفسر ظاهرة استمرار الأديان بالتقليد المتوارث لرجال الدين عن بعضهم، والدفاع عن مصالحهم، ومراكزهم. فنقد الرازي، هنا، يتجه، إذاً، إلى بيان ما في الكتب العلمية من نفع لصلاح معاش الناس في دنياهم، بينما لا يوجد في الكتب الدينية شيء، فهي أكثر فائدة، إذاً ، من الكتب الدينية. وهنا نشاهد، في رد أبي حاتم على أبي بكر الرازي صاحبنا تلك الظاهرة التي نجدها في العالم الأوربي اليهودي والمسيحي، لاسيما عند فيلون اليهودي، والقديس أوغسطين في (مدينة الله)، وعند روجر بيكون ونعني بهذه الظاهرة نسبة العلوم التي اكتشفت، إلى وحي الله على لسان الأنبياء، وما العلماء والفلاسفة إلا آخذون متلقون عن هؤلاء الأنبياء الذين أوحى الله إليهم هذه العلوم» (بدوي : 1993م: 254). ويقوم الرازي بنقد الكتب المقدسة على أسس عقلية، مثل نبذ التشبيه والتجسيد في الأديان (السماوية) الثلاثة، وينقد إعجاز القرآن، ويرى أنه مليء بالتناقضات، وينقد نظمه، وبلاغته، ومعانيه. ويعوّل الرازي على العلم والفلسفة أكثر من تعويله على الدين في حلّ مشكلات الحياة والمعرفة. يتبين لنا أن الرازي يرى أنّ العلوم إنّما استخرجها الفلاسفة والعلماء بعقولهم، وهي كافية لتحصيلها، كما روينا من قبل في وصفه للعقل ؛ ولا حاجة إلى الأنبياء من أجل هذا التحصيل؛ كما أنه لم يرد عن الأنبياء شيء في هذا الباب. ثمّ يوضح طرق تحصيل العلم، فيردها إلى ثلاثة: التحصيل العقلي، وفقاً لقواعد البحث والبرهان المعروفة والنقل من السلف إلى الخلف، وهكذا إلى غير نهاية بالرواية الصحيحة، كما هي في علم التاريخ ؛ والفطرة والغريزة اللتين بهما يدرك الإنسان ما يحتاج إليه في معاشه ،وبقائه دون معلم ولا إعمال ذهن، ولا تلقين من رواة. ولقد كان الرازي موفقاً حقاً في حصر طرق العلم هذه، وإن كان لم يأتِ فيها بجديد غير ما هو معروف في مقدمات الكتب المنطقية، فيما عدا الطريق الثاني، طريق الرواية التاريخية. وعلى العكس من هذا نرى أبا حاتم الرازي يُعنى بردّ هذه العلوم والمعارف كلّها إلى الأنبياء والأئمة؛ وقد كان واجباً عليه أن يقف هذا الموقف ؛ لأنه إسماعيلي، وقد رأينا نظرية الإسماعيلية في التعليم، وكيف أنها ترد العلوم كلها إلى الأئمة المعصومين؛ فكان طبيعياً أن يناضل عن هذا الرأي بدوي : 1993م : 256-257). «الرازي، إذاً، يؤمن بإله خالق حكمي، ولكنّه لا يؤمن بالنبوة والأديان، وينزع نزعة فكرية حُرّة من كل آثار التقليد، أو العدوى ؛ ويؤكّد حقوق العقل وسلطانه، الذي لا يحدّه شيء. وينحو منحى تنويرياً شبيهاً كلّ الشبه بحركة التنوير عند السفسطائيين اليونانيين، ولاسيما حركة التنوير في العصر الحديث في القرن الثامن عشر، ويدعو إلى إيجاد نزعة إنسانية خالصة خالطتها روح وثنية حرة؛ ما يجعل من الرازي شخصية فكرية من الطراز الأول، وواحداً من أحرار العقول النادرين في التاريخ، ومن أجرأ المفكرين الذين عرفتهم الإنسانية طوال تأريخها ؛ ولا يسع المرء إلا أن يمتلئ إعجاباً بهذا الجو الطليق الذي هيّأه الإسلام للفكر في ذلك العصر؛ ما يدل على ما كان عليه العقل الإسلامي في ذلك العصر من خصب ونضوج»
أبو حيان التوحيدي (310-414هـ/ 922-1023م) : هو أديب ومفكر رفيع، وله أسلوبه الخاص، وقد امتازت مؤلفاته بالتنوع والغزارة، وأهم كتبه المطبوعة (الإمتاع والمؤانسة، البصائر والذخائر، الصداقة والصديق، أخلاق الوزيرين، المقابسات الهوامل والشوامل تقريظ الجاحظ الإشارات الإلهية). أسلوبه مرن وبعيد عن السجع والمحسنات البديعية، ولكنّه مال إلى الاستطراد والتطويل، وكثرة الاستشهاد بالنوادر ، والأخبار والتوحيدي لم يقدّم نقداً مباشراً للأديان، أو نظرية تفيد في علم الأديان الوسيط مباشرة، بل قدّم رؤية روحية فريدة في عصره تجمع بين المعرفة الاستبصارية العميقة، والرؤى التصوفية الخاصة والروح العرفانية المتطلعة إلى الخلاص والتشبث بالجمال الداخلي واللغوي، ولاسيما في كتاب الإشارات الإلهية)، الذي يمكن أن يعد أرفع ما وصل إليه العرفان الأدبي في عصره.
أبو العلاء المعري (363-449هـ) : هو شاعر متميز، ، قدّم، هو الآخر، نمطاً فريداً من الرؤى الشعرية، وله من الدواوين الشعرية (سقط الزند، لزوم ما لا يلزم أما رسائله فهي الصاهل والشاحج، الغفران، الملائكة، الفصول والغايات)، واشتهر بإعلائه منزلة العقل ونقده اللاذع للدين وللمتدينين، وقد آمن بحرية الفكر، وأصبح قوله الشهير : (لا إمام سوى العقل، مثلاً بارزاً على توجهه العقلي. ومن دلائل التنوير، في فكر المعري، أنه كان يجمع التراث العربي مع التراث اليوناني، ويخرج بنتائج جديدة «المعري شاعر، وفيلسوف عربي وإسلامي؛ ولذا، فقد عاش التراث العربي الإسلامي، واستلهم الكثير من أفكاره ونظرياته في كل مجالات الحياة، ولاسيما المجال الأخلاقي. وهذه هي (القاعدة أو الأصل في فكر المعري ،ولكنّه في الوقت نفسه، عاش في عصر حر كة انتقال التراث اليوناني إلى الحضارة الإسلامية عبر الترجمات، والشروح. وقد عرفنا، في الفصل الثاني، ما كان عليه عصر المعري من ازدهار ورقي في كل مناحي الفكر (الفلسفة، الأدب، السياسة العلم. ومن هذا المنطلق، نجد أن المعري استحضر تراثه العربي الإسلامي الأصيل، كما استحضر التراث اليوناني، وما جاء به من فكر، وفلسفة، وأخلاق. فكل هذا كان له الدور المميز في تشكيل رؤية المعري الأخلاقية ومن هنا، صبّ المعري نظريته الأخلاقية في قالب إسلامي يوناني. فقد عايناه في نظريته الأخلاقية، مقتفياً أثر القرآن والسنة في الأخلاق، وما دعا إليه الدين الإسلامي من فضائل أخلاقية، ومثل عليا إنسانية تحبّذ الخير، وتنبذ الشر، وتسعى لخير الفرد والمجتمع. كما وجدناه متأثراً بأخلاق القرآن، فيما يتعلق بتقدير مكانة الإنسان، ومدى حريته ومسؤوليته عن أفعاله كذلك، فقد سار مسار دينه الحنيف، فيما يتعلق بالأخلاق الاجتماعية، التي تقدّس الأسرة، وترعاها أخلاقياً ونفسياً، وتقييم علاقات اجتماعية سوية بين البشر خضر 1999م: 311–312).
• إخوان الصفا : نشأت هذه الجماعة في البصرة في العصر البويهي في العراق (334-447هـ / 967- 1049م)، واتفقوا على التوفيق بين الدين ،والفلسفة فكتبوا اثنتين وخمسين مقالة أسموها (تحفة إخوان الصفا)، وكانوا نموذجاً للتسامح الديني والموسوعية العلمية. وكانت رسائل إخوان الصفا رعة فلسفية وروحية مثلت أعظم تمازج بين الفلسفات اليونانية، والفارسية، والهندية، الفلسفة الإسلامية، وكانوا أقرب في تأثرهم بالمثالية، والفكر الغنوصي في عودة الروح. فغايتهم، إذاً، التقريب بين الفلسفة والدين، وهو ما شكل أعظم ملامح التحضر، في حينها، منذ القرن الثالث حتى القرن الخامس، وظلت الفلسفة الإسلامية تسعى إليه هدفاً، وكافحوا ضدّ النزعة السلفية المحافظة، التي كانت تعد الفلسفة ضلالاً. اتخذ إخوان الصفا مسلكاً خاصاً ونادراً في التعامل مع الأديان والإسلام، فقد رأوا أنّ أصل الأديان واحد، وجوهرها واحد، وهذه خطوة متقدمة في زمانهم، ورأوا أنها يمكن أن تلتقي وتتحاور، ورأوا أن الإسلام يمكن أن يكون قائداً لهذا التلاقي، وأن الإسلام يجب أن يؤدي هذا الدور. وقد كان إخوان الصفا من أديان مختلفة ومذاهب إسلامية عديدة، ولكنهم وصلوا إلى هذه النتيجة المدهشة بطريقة الحوار، وأزالوا الأشواك المدببة في الأديان، وفي الإسلام، وجعلوها تتلاقى بقيادة الإسلام الخالي من التعصب). فهل هناك دور حضاري أكبر هذا؟ لقد حوّلوا مفهوم مقارنة الأديان من مفهوم نظري إلى حالة عملية، وأعطوا المثل الأعظم في وحدة الأديان، وهو غاية البشرية في كل العصور. فإذا كانوا قد دعوا إلى التوفيق بين الفلسفة والدين، وإلى وحدة الأديان؛ بل ووحدة المعارف، فهم بذلك، أشبه بحركة عالمية تسعى إلى وفاق روحي وديني وفكري كامل. وعلى عكس كل الاتهامات الموجهة إليهم من أنهم شيعة إسماعيلية، أو غير ذلك، فإنهم يؤكدون، في رسائلهم، أن رأيهم يستغرق المذاهب كلها ، ويجمع العلوم جميعها»، كما يقولون في الرسالة الخامسة والأربعين. ولعل أطرف الأمور أنّهم أوّل من استخدم مصطلح (علم الأديان) في التاريخ، فهم يقولون العلم علمان: علم الأبدان، وعلم الأديان، على الرغم من أنهم لا يقصدون المعنى الدقيق الحالي لـ ( علم الأديان، ولكننا يجب أن نثبت هذا لهم. لم يتناول إخوان الصفا الأديان بالمقارنة في رسائلهم ؛ بل بحثوا في جوهر الدين، وهو مبحث يخص (علم الأديان) وليس (مقارنة الأديان وهم بذلك، يكونون قد اجتهدوا اجتهاداً خاصاً في ذلك، أما مقارنة الأديان، فقد بحثوا في الجوانب المشتركة للأديان، وليس في الجوانب المختلفة، وهذا ما يجعلهم استثناءً في هذا المجال؛ لأنهم أكدوا الجانب المشترك الواحد فيها، وهو ما لم تفعله كلّ جهود مقارنة الأديان في التراث الإسلامي قبلهم وبعدهم.
القرن الثامن الهجري / الرابع عشر الميلادي : في هذا القرن، تصلب الفكر الإسلامي، وجمد نهائياً، وظهر فيه مفكرون متطرفون في أصوليتهم، مثل: ابن تيمية، وابن قيم الجوزية، حيث كتبا في الأديان المقارنة، والملل والنحل، بطريقة عقائدية دوغمائية أغلقت باب أي تطور ممكن في علم الملل والنحل، الذي بطيئاً، ولو أنه تطوّر في مناخ الحرية، والعقل، والتسامح، لتحوّل إلى بذرة لعلم الأديان بحق، لكنّه انحدر بعيداً نحو الجمود والتشدّد، وابتعد عن العلم ليدخل في مجال الإعلام، والوعظ، والفقه. ولم تظهر أي بارقة أمل إلّا في الشذرات التي تعالج الأديان عند ابن خلدون، ولكنها لم تكن كافية لوقف الانهيار.
• ابن تيمية (661-726هـ) : الملقب بشيخ الإسلام، وهو حنبلي متشدّد. اشتهر في أكثر من اهتمام؛ كالفقه، والحديث، والعقيدة ،والفلسفة والمنطق والفلك والرياضيات. وفي مجال الأديان له الكتب والرسائل منها (بيان) الفرقة الناجية، الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، رسالة في علم الباطن والظاهر). وقد انتهى علم الملل والنحل، على يديه إلى الجمود الكامل، وتوقف عن الفحص المنهجي الجيد، كما عند الشهرستاني، وأصبح منافحةً ضد اليهودية والمسيحية، من ناحية الأديان الأخرى، ودفاعاً عن أهل السنة والجماعة، وتكفير كل من هم خارجهم من جميع الفرق والمذاهب ؛ بل تكفير كل رموز الحضارة الإسلامية في العلم والفلسفة. يُعَدُّ خطاب ابن تيمية في الأديان نموذجاً لانتصار الإيديولوجيا الدينية المتطرفة والمتزمتة، التي بدأت خجولة متردّدة في بدايات البحث عن الأديان والمذاهب، وهي، بذلك، تعكس انتصار السلفية، وهزيمة التحضر وستكون عنواناً لاستمرار القرون الوسطى وعقليتها بين المسلمين، حتى مجيء التاريخ الحديث، وتحرر المسلمين من المركزية الدينية، ومع ذلك، فهي تشكل، الآن، منهل المتطرفين والسلفيين أيضاً.
• ابن قيم الجوزية (691-751هـ / 1292-1349م) : أكمل ابن قيم الجوزية ما فعله ابن تيمية وأقفل الدائرة الأصولية في فحص الأديان، وانتهى معه مشروع علم الأديان، أو علم الملل والنحل الإسلامي، الذي سيندثر أمام المحاولات العلمية في الغرب، منذ القرن الخامس عشر الميلادي، المحاولات التي ستنتج، بعد أربعة قرون، علماً منهجياً اسمه (علم الأديان) سيضم تاريخ ومقارنة وعلم الأديان بمناهج علمية حديثة. ابن القيم درس على يد ابن تيمية، ولازمه نحو (16) عاماً، وتأثر به، وأخذ بمنهجه السلفي، ومؤلفاته كثيرة بعضها ما يمس الأديان؛ منها الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية، هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى)، وفي الأخير تعريض بالديانتين، وما يسميه التحريف، وموضوع التبشير بمحمد في التوراة والإنجيل وهو يرى أنّ المسيحيين آمنوا بمسيح لا وجود له، واليهود ينتظرون المسيح الدجّال ويرى أنّ المسلمين فوق كل الأمم في الأعمال والمعارف النافعة، وأن الأمم الأخرى مثقلة بالمعاصي، وأنه لا يوجد إيمان بالأنبياء طالما تغاض عن نبوة محمد. الكتاب الآخر، في هذا المجال، هو (إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان). وتأتي هذه الكتب، بالإضافة إلى الجمود العقائدي فيها، صدىً للصراع الدائر بين المسلمين والمسيحيين، قبل وأثناء وبعد الحروب الصليبية. لكن جهود الجوزية كانت ترتكز على أمور لاهوتية وعقائدية تمحورت حول النسخ، والتحريف، وإنكار ألوهية المسيح والصلب والفداء، وإثبات نبوة محمد، والبحث عن إشارات ظهوره في الكتب المقدسة لليهود والمسيحيين. أما الفروع في هذه الأمور، فتناولت تشدّد اليهود في التشريع، وتحايلهم على الشريعة وانتهاكات المسيحيين للشريعة والعبادة، ونقد تاريخ الكنيسة، والمجتمع الكنسي.
#محمد_بركات (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المختار من كتاب (علم الأديان) للسيد خزعل الماجدي (4)
-
المختار من كتاب (علم الأديان) للسيد خزعل الماجدي (3)
-
المختار من كتاب (علم الأديان) للسيد خزعل الماجدي (2)
-
المختار من كتاب (علم الأديان) للسيد خزعل الماجدي (1)
-
المختار من كتاب (القصص القرآني ومتوازياته التوراتية) للسيد ف
...
-
المختار من كتاب (القصص القرآني ومتوازياته التوراتية) للسيد ف
...
-
المختار من كتاب (مغامرة العقل الأولى) للسيد فراس السواح (6)
-
المختار من كتاب (مغامرة العقل الأولى) للسيد فراس السواح (5)
-
المختار من كتاب (مغامرة العقل الأولى) للسيد فراس السواح (4)
-
المختار من كتاب (مغامرة العقل الأولى) للسيد فراس السواح (3)
-
المختار من كتاب (مغامرة العقل الأولى) للسيد فراس السواح (2)
-
المختار من كتاب (مغامرة العقل الأولى) للسيد فراس السواح (1)
-
محادثات مع الله - الجزء الثالث (52) نيل دونالد والش
-
الفلسفة أنواعها ومشكلاتها (5)
-
الفلسفة أنواعها ومشكلاتها (4)
-
الفلسفة أنواعها ومشكلاتها (3)
-
الفلسفة أنواعها ومشكلاتها (2)
-
الفلسفة أنواعها ومشكلاتها (1)
المزيد.....
-
الزعيم الروحي للدروز: مشروعنا سوري وطني ولا نسعى للانقسام
-
“رابط رسمي” التسجيل في اعتكاف المسجد الحرام 1446/2025 في شهر
...
-
دروز في جرمانا يحتفلون بتصريحات قادة الإحتلال وهذا موقف زعيم
...
-
الإمارات: تأييد الحكم على 53 متهما من قيادات وأعضاء الإخوان
...
-
رابط التسجيل في اعتكاف المسجد الحرام 1446 والشروط المطلوبة
-
قائد الثورة الاسلامية يقدم مساعدة مالية للافراج عن السجناء
-
منحة قائد الثورة الاسلامية يقدمها ضمن مبادرة سنوية لاطلاق سر
...
-
شيخ الأزهر يحث القمة العربية على اتخاذ موقف -موحد- بشأن غزة
...
-
الحرب دمرت معظم المساجد.. السحور والإفطار في غزة بلا أذان
-
قوات الاحتلال تقتحم بلدة بروقين غرب سلفيت في الضفة الغربية
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|