مجدي الجزولي
الحوار المتمدن-العدد: 1796 - 2007 / 1 / 15 - 11:37
المحور:
الادارة و الاقتصاد
ما كانت الأنظمة الحاكمة للسودان عبر تاريخنا ما بعد الاستعمار رغم ما أوتيت من جبروت الدولة ومؤسساتها وريعها بقادرة أن تستقل بنفسها عن تأثير وفاعلية قاعدة المجتمع وتياراته وقواه الحية، وذلك في المقام الأول لاعتماد بقاءها الاقتصادي على الإنتاج الاجتماعي في قطاعات الاقتصاد الوطني عامة وخاصة، نقدية ومعيشية. بخلاف هذا الشرط أتاح البترول، كسلعة ريعية تباع في السوق العالمي، لجهاز الدولة وفئات الحكم القابضة عليه، تحرراً شبه كامل من نفوذ القوى المدنية ومحاسبتها، فكأنما انحل قيد الدولة الذي يربطها والمجتمع.
ثمن البترول
يمكن الجزم دون تردد أن الثمن المباشر للبترول السوداني كان هلاك مجتمعات بأسرها مواطنها مناطق الانتاج، حيث عمدت الدولة بعون الشركات المنتجة، وباستغلال البنى التحتية التي توفرت بفضل صناعة البترول من طرق وكباري ومهابط طائرات، إلى تفريغ هذه المناطق من السكان، وذلك إما قتلاً أو تهجيراً بوسيلة الارهاب وبقوة السلاح. وقد خضعت جملة انتهاكات حقوق الانسان المرتبطة بصناعة البترول السودانية إلى رقابة موثقة من قبل عدة منظمات حقوقية معتبرة، منها آمنستي إنترناشيونال، وهيومان رايتس ووتش.
قام (التحالف الأوروبي من أجل البترول في السودان) بدراستين تفصيليتين في مناطق الانتاج، وذلك بالاستناد إلى هذه التقارير، وكذلك بالرجوع إلى حصيلة تقارير أخرى منها تقرير لجنة (هاركر) الكندية، ومحصلة عدد من البحوث والمسوحات الميدانية. صدرت الأولى عام 2001م تحت عنوان (تقرير عن تحقيق حول النزوح والصراع والتنقيب البترولي في غرب أعالي النيل، السودان)؛ والثانية عام 2006م تحت عنوان (التنقيب البترولي في شمال أعالي النيل، السودان). تركز دراسة غرب أعالي النيل على مناطق امتياز كونسورتيوم (GNPOC) المكون حينها من الشركة الصينية الوطنية للبترول (CNPC)، وبتروناس الماليزية، وتاليسمان الكندية، وسودابت. السمة الرئيسية لسياسة الحكومة تجاه القاطنين في مناطق الامتياز كانت التهجير قسراً، حيث وثقت الدراسة لزيادة في هجمات الطائرات المروحية المقاتلة على سكنى المدنيين، والقصد (تنظيف) مناطق الانتاج من الوجود البشري وتأمينها من أي هجوم محتمل. هذا مع العلم أن المنطقة كانت مسرحاً للنزاع بين فصيلي الجيش الشعبي خلال التسعينات، حيث مكن انحياز رياك مشار إلى السلطة في الخرطوم والتعاون العسكري الوثيق بين فصيل مشار وبين القوات الحكومية من فرض سيطرة الدولة المركزية على الكثير من المناطق الريفية، وبالتالي اكمال بناء خط أنابيب البترول. لكن عادت الهجمات الحكومية على المدنيين بصورة أشرس في العام 2000م، تاريخ انهيار اتفاقية الخرطوم للسلام، واتخذت طابعاً منهجياً: تقوم الطائرات المروحية المقاتلة بالقصف، ويعقب ذلك هجوم بري من قبل القوات الحكومية تعاونها المليشيات المتحالفة معها. رد الفعل كان استعار أكثر دموية للقتال بين الجيش الشعبي والجيش الحكومي تحمل عواقبه المدنيين حيث اعتادت القوات من الجانبين حرق ونهب القرى في المنطقة بقصد تصفية عدو لم يعد له وجه، وذلك جراء قتال مليشيات محلية إلى جانب الحكومة. في هذه الدورة الجهنمية لعبت الشركات المنتجة دوراً رئيسياً، وكانت طرفاً شريكاً في الصراع، وذلك بطرح منشآتها لاستعمال القوات الحكومية المقاتلة وحلفائها من المليشيات. في لحظة اشتعالها الأقصى كانت الحرب تجمع الأطراف التالية: الجيش الحكومي؛ مليشيات البقارة في المنطقة الواقعة شمال بحر العرب (كول بي) وبحر الغزال (نام)؛ مليشيا باولينو ماتيب المساندة للحكومة من مواقعها في ميوم؛ قوات بيتر بار جيك التي لم تربطها علاقة رسمية مع الخرطوم، لكن كانت تتلقى العون العسكري؛ قوات بيتر قاديت المساندة للجيش الشعبي؛ الجيش الشعبي المرتكز في محلية روينق، ووحدات متحركة بقيادة بيور آجانق قامت بالهجوم على هجليج في 5 أغسطس 2001م.
في شمال أعالي النيل كانت مناطق امتياز كونسورتيوم بترودار هي الأرض المستهدفة وقد وثقت دراسة التحالف الأوروبي لأنماط التهجير والتخريب المنهجي في مناطق حوض ملوط والمابان. تخلص الدراسة إلى أن التهجير طال على الأقل 15 ألف نسمة من السكان، وأدى ضمن ما أدى إلى مقتل المئات. بالاضافة إلى المخاطر المرتبطة باحتمال تلويث مياه النيل، وغيرها من الاعتبارات البيئية، وبطبيعة الحال الأضرار التي لحقت بالاقتصاد المحلي للسكان، تشي تغييرات ديموغرافية محدثة بصراع قادم طرفاه العائدين إلى مناطقهم من السكان الأصليين ومجموعات الرعاة والمزارعين الفلاتة التي استوطنت شمال بالويك. في شمال أعالي النيل كانت القرى الواقعة شمال شرق خور عدار هي الهدف الأول لسياسة (التفريغ)، حيث كانت المنطقة جبهة مواجهة بين الجيش الشعبي والجيش الحكومي، وبالتالي تعرضت القرى هذه لهجمات مقننة من جانب القوات الحكومية والمليشيات المساندة لها باتباع ذات المنهج المجرب في غيرها: هجمات جوية بالطائرات المروحية المقاتلة يعقبها اجتياح بري. معظم الفارين من جحيم هذه القرى البترولية اتجهوا إلى محيط المراكز الحضرية وشبه الحضرية في الرنك، وملوط، ومابان، وبالويك، وكذلك إلى مناطق الحركة الشعبية على طول النيل الأبيض جنوب خور عدار. بعض العائدين إلى مناطقهم الأصلية وجدوا أن قراهم لم تعد موجودة، أو أن الشركات قامت بالاستيلاء على الأراضي الصالحة للبناء، مثال ذلك قرية (كوتولوك) التي كانت بالمقاييس المحلية مركزاً سكنياً كبيراً وأصبحت الآن موقعاً لقاعدة البترول الرئيسة حوالي 15 كيلومتر من بالويك على الطريق إلى ملوط. أما السكن الجديد الذي توفر لأهل البلد (المنبوذين) فمثاله قرية (بني) أو (بالويك الجديدة) الواقعة على بعد خمسة كيلومترات من (بالويك) الأصلية: في العام 2005م تم تخصيص هذه المنطقة لسكن 4 إلى 5 ألف من نازحي الحرب، وهي تقع في منخفض رملي معرض دوماً للفيضان، وتنقصها مياه الشرب. المنطقة كلها غاية في الفقر، يعيش 90% أو أكثر من السكان على أقل من دولار في اليوم. المسوحات الغذائية التي أجريت في المنطقة توصلت إلى أن نسبة سوء التغذية العامة بين السكان 20,5% (مايو 2002م)؛ و28,1% (أبريل 2005م).
من جهة المخاطر البيئية فالتهديد الأعظم أن يتسرب البترول، أو الأسوأ تنفجر أنابيبه، ما سيؤدي إلى تلوث جميع حوض ملوط وبالتالي النهر أعظمه. كذلك يتهدد التلوث سدود (مشار) التي تعتبر من بين أهم المواقع المائية على الكوكب. هذا بجانب مسائل معالجة المياه الملوثة مهولة الكميات التي يُقذف بها مختلطة بالبترول في البيئة المحيطة، وأيضاً اختيار المواد الكيميائية المستخدمة، وفسح المحيط الشجري والحيواني للقطع والصيد الجائر. هنا تجب الاشارة إلى أن بترودار فوضت جامعة الخرطوم للقيام بمسح وتقييم بيئي في المنطقة، لكن التقرير النهائي لم يطرح للرأي العام. البنيات التحتية لصناعة البترول كان لها كذلك أثر بالغ الضرر على البيئة الطبيعية ودورة الاقتصاد والمعيشة، حيث تتسبب الطرق الجديدة وخطوط الأنابيب في حجز المياه وتغيير مجراها، ما يقود إلى الفيضان في بعض المناطق، والجفاف في أخرى، حتى أن المياه غمرت أجزاء من الرنك في العام 2005م، كما أضر الفيضان غير الطبيعي للمياه بالأراضي الزراعية الواقعة بين القيقر والرنك.
قسمة الثروة، لصالح من؟
إن محنة أهل مناطق البترول، على مركزيتها في شأن العلاقة بين الشمال والجنوب، بل بالأصح، بين الدولة السودانية ومواطنها، لم تكن من ضمن ما اهتمت به بروتوكولات نيفاشا، والتي تجاوزت هذه المظالم وما يتصل بها بجمل انشائية توصي باتباع الرشد وانتهاج الحق، لكنها لا تضع أي أساس يعتد به لتحقيق العدالة أولاً، وثانياً لتصويب علاقة المستبد التي تربط ما بين السلطة الرأسمالية، شمالية أو جنوبية سيان، وبين مواطن أعزل قدره أن الأرض التي كانت له سكن ومرعى تدس في باطنها خيرات تتخطفها الأمم وتقاد اليها الجيوش. البروتوكول الخاص بقسمة الثروة يحدد نسبة 2% على الأقل من العائد تخصص للاقليم أو الولاية التي يتم فيها استخراج البترول، أما المتبقي فيتم اقتسامه بين الشمال والجنوب مناصفة، مع تقدير سعر سنوي لصادر البترول يتفق عليه بين الطرفين بالاحتكام إلى الظروف الاقتصادية، بينما يُحتفظ بالريع الاضافي الناجم عن زيادة هذا السعرفي صندوق مخصص لهذا الغرض، وذلك دون تحديد كيفية تحديد هذا السعر، أو أوجه صرف المبالغ المدخرة. كذلك تنشأ مفوضية خاصة للبترول، أعضاؤها رئيس الجمهورية، ورئيس حكومة جنوب السودان، أربعة من الحكومة المركزية، وأربعة من حكومة جنوب السودان، وثلاثة أعضاء من مناطق الانتاج. مهمة الفوضية الأساسية فحص عقودات البترول الموجودة والتفاوض بشأن أي عقود جديدة. للثلاثة من مناطق الانتاج مجتمعين حق نقض قرارات المفوضية، لكن نقضهم عرضة للاجهاض من قبل مجلس الولايات، وذلك بغالبية ثلثي الأصوات، وإذا تعذر القرار تطرح المسألة على حكم ملزم يختاره المجلس. لكن لا يحدد البروتوكول طريقة لتعيين الأشخاص الممثلين لمناطق الانتاج، كما لا يعرف بوضوح المقصود بمناطق أو ولايات الانتاج.
الأراضي السودانية الشركاتية
في الوقت الحالي تبدو أقاليم البترول السودانية كما يلي (الهيئة السودانية للبترول)، مقسمة بين عدد من الشركات المنتظمة في تحالفات مالية وادارية:
المربعات/ الكونسورتيوم الشركات والنسب تاريخ الامتياز
1 و 2 و 4
(GNPOC) (CNPC) الصينية 40%
بتروناس الماليزية 30%
(ONGC) الهندية 25%
سودابت 5% 1996م
3 و7
(Petrodar) (CNPC) الصينية 41%
بتروناس الماليزية 40%
سينوبيك 6%
الثاني الاماراتية 5%
1996م
5 A
(WNPOC) بتروناس الماليزية 68,875%
(ONGC) الهندية 24,125%
سودابيت 7% 1996م
5 B
(WNPOC) بتروناس الماليزية 41%
لندين السويدية 24,5%
(ONGC) الهندية 23,5%
سودابيت 11% -
6
(CNPCIS) (CNPC) الصينية 95%
سودابيت 5% 1995م، عدل 2002م
8
(WNPOC) بتروناس الماليزية 77%
سودابيت 15%
هاي تك السودانية 8% 2003م
9
(Sudapak) ظافر الباكستانية 85%
سودابيت 15% 2003م
C
(APCO) كليفدن السويسرية 37%
هاي تك السودانية 28%
سودابيت 17%
ولاية الخرطوم 10%
هجليج السودانية 8% 2003م
هناك حاجة لمزيد من التفصيل حول مربع (C) الذي منح للكومسورتيوم المنشأ عام 2003م باسم (APCO). فالمربع يمتد من جنوب دارفور إلى شمال وغرب بحر الغزال. أما الكونسورتيوم فجل الشركاء فيه على علاقة وثيقة بشخصيات متنفذة في الدولة السودانية. رئيس (APCO) هو صلاح وهبي، أحد رجالات البترول السودانيين، الذي عمل سابقاً مع شيفرون في السودان، وكذلك كمهندس في الولايات المتحدة الأميركية، كما عمل لدى الحكومة السودانية مسؤولاً عن عمليات الاستكشاف في هجليج، وكنائب لرئيس كونسورتيوم بترودار. وهو أيضاً رئيس (هاي تك بتروليوم)، وهي شركة متفرعة عن (مجموعة هاي تك) التي أنشأتها الحكومة السودانية في العام 1992م وجرت خصخصتها بعد ذلك بعام واحد. (هاي تك) هذه ذات أذرع في مجالات عديدة، تشمل العمليات المصرفية وقطاع الاتصالات. كما هو ملاحظ من الجدول تشارك ولاية الخرطوم بنسبة 10% في الكونسورتيوم، ويجلس والي الخرطوم عبد الحليم اسماعيل المتعافي في مجلس الإدارة، والعلة خبرته السابقة في الاقليم كوالي، مع التبرير أن الولاية عازمة على جني الأرباح من استثمارها عن طريق بيع حصتها في مرحلة لاحقة. الشريك الأجنبي هو كليفدن السويسرية، التي قام مالكها الأميركي من أصل تركي فريدهلم ارونات بالتخلي عن جنسيته الأميركية واتخاذ جنسية بريطانية، مدة قصيرة قبل عقد الصفقة في الخرطوم في أكتوبر 2003م، ما قاد إلى طرح المسألة في البرلمان البريطاني (نيو زيورخر تسايتونغ، 13/08/05م). والقصد أن يتفادي القوانين الأميركية التي تمنع على مواطنيها التعامل التجاري مع الحكومة السودانية. في ذات السياق طرحت وزارة الطاقة مربعي (12 A) و(12 B) الممتدان عبر معظم شمال وغرب دارفور للعطاء، كما تأكد أن شركة هندية خاصة (Reliance Energy) قد نالت امتياز مربع 12A (التحالف من أجل العدالة الدولية، فبراير 2006م: ص 38 – 41).
خلاصة
إن طاقة البترول للتفجر في وجه شعبنا لا شك فيها، والدليل الدرب الدموي الذي انتهجته الصناعة البترولية لترسيخ أقدامها محطمة مجتمعات ومناطق بأسرها، ومخلفة دماراً متعدد الأوجه، بشري، وبيئي، وديموغرافي. من جهة أخرى جلي أن البترول قد فتح فصلاً مستحدثاً في اقتصاد بلادنا السياسي، فيه من الصراع العسكري أكثر من الصراع السلمي، كما أصبح منبعاً لاثراء طبقة عليا حاكمة يصعب تمييز أقطابها السياسيين من أقطابها الاقتصاديين وتحقق الصفة الكومبرادورية بامتياز فهي لا تنتج فعلاً، ولا تضخ رؤوس أموالها في قطاعات الانتاج، وإنما تغتني عبر المضاربة بالموارد الوطنية في السوق العالمية جاذبة إلى الأرض السودانية لاعبين جدد كل حين، تشترك معهم في المصالح وفي المناهج، هم وطنها الحقيقي وليس السودان. القضية مطروحة على هذه الشاكلة تلزم القوى الوطنية السودانية بالنظر كرة وكرتين وثلاث إلى مسألة البترول، أولاً بتقصي العوالم السفلى لهذا القطاع، وتبيان الحادث فيه من استغلال جشع لموارد هي ملك لشعبنا، ومن ثم استكشاف درب وطني يجعل من البترول مصدراً لرفاه أهل السودان وليس نكبة عليهم، ومن ذلك ادراج مظالم الأقاليم البترولية وأهاليها ضمن ما يتطلب شفاء العدالة الانتقالية إذا قدر لنا أن نرى لها وجها.
المصادر
(1) European Coalition on Oil in Sudan: Report of an Investigation into Oil Development, Conflict and Displacement in Western Upper Nile, Sudan, October 2001.
(2) European Coalition on Oil in Sudan: Oil Development in Northern Upper Nile Sudan, May 2006.
(3) Website of the Sudanese Petroleum Corporation.
(4) Neue Zuercher Zeitung: Ein Genfer Firma auf Erdoelsuche in Darfur, 13/08/2005.
(5) Coalition for International Justice: Soil and Oil: Dirty Business in Sudan, Washington, February 2006.
#مجدي_الجزولي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟