يبدو أن مسألة الأحوال الشخصية التي يتداولها المجتمع البحريني سواء وسط الناس العاديين أو النخب المتنوعة ليست إلا مظهرا من مظاهر التنوع الثقافي والسياسي والفكري في بينة المجتمع وسنجد على الدوام قضايا تعبر عن ذلك التنوع الألوان في وجهات النظر المطروحة.
ولا يمكننا تناول مسألة الأحوال الشخصية خارج تلك البيئة المجتمعية المحددة مثلما لا يمكن اعتبارها إلا واحدة من القضايا الخلافية أولا فيما بين التيار الديني ذاته وكيفية النظر إليها اجتهادا وتفسيرا وبين التيار الديني ككل والنظرة التنويرية للمجتمع عندما تصل به درجة التطور الاجتماعي مرحلة ما من مراحل التطوير بحيث تصبح كل قضايا المجتمع ودون استثناء تحت المجهر والحوار المفتوح والنقاش المعمق بهدف الوصول لمعالجة كل ظاهرة متأزمة وتدفع بالمجتمع ومؤسساته إلى طريق مسدود مما يجعل الأسئلة المجتمعية ملحة ومتكررة ولا يمكن لأي طرف القفز عليها بسهولة تحت مسميات الخطوط الحمراء دون إقناع العقل المجتمعي العام حول ما يقلقه من قضايا ومشاكل بلغة المسلمات والبديهيات إزاء القضايا المحورية التي باتت رياحها ومتغيراتها تهز شجرة الجمود التاريخي والتزمت العقلي إذ نحن لا يمكننا أن ندفن الحقائق في العصر الواحد والعشرين في وقت يناقش العالم مسألة حقوق الإنسان كمبادئ وإعلان عالمي وحقوق المرأة والمجتمع جزء لا يمكن تجاوزه برغبتنا تحت مفردة صغيرة اسمها التقاليد . وعلينا تحت هذا البند والمنطق المجتمعي والتاريخي الساكن أن نمرر المشاريع ونضرب المسامير فوق أقدام البشر وأيديهم كما فعل اليهود مع المسيح فصلبوه دون رحمة ونسوا تماما أن الحركة والفكر كمقولتين في التاريخ الإنساني لا يمكن أن تداس بالأقدام حتى وان كانت تلك الأرجل أقدام الفيلة فكم من الطغاة وضعوا سيوفهم ومقاصلهم أمام الفكر الجديد عندما كان ذلك الفكر يسود في المجتمع؟! ويفتش له عن فضاء وأرضية وزوايا. ما يحدث في بلادنا الدستورية والديمقراطية أنها تدخل في عهد الملك مرحلة تتيح لعقل البحريني وللجيل الجديد تعلم حوار المعرفة ومعرفة الحوار كنهج يحق للمواطن أن يتعايش معه ويكرسه باعتبار أن المجتمع الحر يعرف حدوده وتنوعه ومساحاته ومرجعيته ليس الدينية وحسب بل ومرجعيته السياسية والفكرية والدستورية ولا ينبغي أن تضرب الحدود والأسوار والأسلحة بلغة التهديد والعنف والوصايا المخلدة وكأنما رجال الدين البشر هم الوسيط الوحيد الذي لا يمكن للمجتمع حق محاورته ولا يسمح للمؤسسات المدنية وممثليها بمناقشة أية قضية إلا بترخيص منهم وكأنما المجتمع ومؤسساته الأخرى باتت غير مؤهلة لمعالجة القضايا المنتفخة والسرطانية. إن مناقشة الظاهرة أية ظاهرة من حيث المبدأ لا يجوز في المجتمعات الديمقراطية والحرة وضعها تحت القيد وفق الأمزجة بحجج أنها تقع تلك الظواهر في خانة الممنوع والمحرم والكارثي وعلى العقل الاجتماعي النهضوي والتنويري والحداثي أن يعطل منهجه في طريقة التفكير ويتحول العقل الجمعي إلى أداة من أدوات التبعية ويتحول الفكر الإنساني إلى منطقة الحصار المضروب والإنسان داخلها أشبه بالإنسان السجين. ما يحدث حول مسألة الأحوال الشخصية في البحرين ليست المعركة الأولى والأخيرة إذ قضية الأحوال الشخصية تجسد في حقيقتها صراعاً بين سلطتين في المجتمع يتمظهر كل مرة في قضية من القضايا فتارة في الملابس والنفقة وتارة في النقاب وتارة أخرى في فصل النساء عن الرجال في الأمكنة العامة ومرات عديدة في نواهي لا يمكنها أن تحدث انقلابا ومتغيرات جوهريا في بنية الدولة والمجتمع والتي حددها بكل وضوح الدستور والميثاق ولا يجوز المبالغة في استعراض القوة حول من له حق امتلاك المرجعية الدستورية والسياسية والحقوقية خاصة ونحن نعيش عصرا مختلفا ويتضمن في وشائجه حقوقاً متعددة لا يمكن أن تشخص بمنطق الجمود في وقت يمنع فيه المجتمع والعقل المحافظ حتى من حق الاقتراب إلى درجة التقنين وكأنما تم انتزاع حق مطلق من أيديهم وباتوا لا يتمتعون بالاحترام والصلاحيات اكثار والتي لا حد ولا حدود لها في مجتمعنا. إزاء ذلك لا اعرف هل ارثي لظروف المسلمين في الغرب أو اعتبرها خصلة حميدة فهناك ليس بإمكان أحد التلاعب بسهولة بحقوق المرأة ولا يمكن التعامل مع قضاياها بطريقة واحدة ونهائية. وما نحتاجه اليوم هو الفهم العميق لطبيعة الصراع بين السلطتين الروحية والمدنية ومع المتغيرات الديمقراطية وترسخ مبادئ حقوق الإنسان كقيمة جديدة في المجتمع المعاصر وتعميقها بعد جيل أو جيلين وربما قرن فان لكل سلطة مساحتها وحقوقها ودورها الاجتماعي والروحي والسياسي والتشريعي ولا يمكن مع التطورات أن تختفي تلك الصدامات المجتمعية والخلافية غير أن المهم هو أن يصبح المجتمع الحي المتجدد بكل طوائفه وطبقاته وفئاته ومنظماته ونظمه السياسية يدرك أن الثوابت دائما مصانة للجميع والحقوق المشتركة والمتنوعة قائمة وتظل مبنية على التجانس الاجتماعي والتناغم والوحدة من خلال ذلك التنوع وهي تبقى كاللوحة المتناقضة بالألوان ولا يمكننا تجريدها من تشكيلها بتجزئة اللوحة بتبسيط متناه كما لا يمكننا أن نجعل كل لون فيها منفردا ثم نحاول البحث عن مكونات اللوحة الحقيقية للحياة كحقيقة بين نهج متحرك ونهج ثابت في طريقة معالجة الظواهر المتجددة والمتغيرة. العقل المتحرك كالحياة المتحركة ولا يمكن بعقل جامد وساكن معالجة منطق الحياة المتحرك إذ في النهاية لا يصطدمان وحسب بل ويدخل الطرف الأكثر جمودا في حلقة التأزم والتي لا يمكنها إيقاف عقرب الساعة إلا مؤقتا ولو أتيح للفكر المتشدد أن يعيد العالم للوراء لما تأخر كما فعل الاخوة في طالبان وكما يفعل الاخوة الآخرون الذين كلما حدثت مشكلة داخل المجتمع رددوا اسطوانة الحرابة وغيرها من أن العالم بات متحللا ومنحلا متناسين أن المشاكل لا تعالج بالجلد ولا بالقسوة ولا بقراءة النصوص والتفسيرات خارج العصر طالما هناك مساحة وإمكانية للتغيير والتسامح ولماذا لا تتوافق المرونة مع الثوابت. كما أن المجتمع البحريني لم يخرج عاصيا بعد ويرفع راية حقوق كبيرة يشيب لها الولادن كما نراها في المجتمعات الأخرى حتى نصاب بالهلع. ترى هل بالإمكان بناء إنسان ومجتمع مثالي في مكل المجتمعات بما فيها الأنظمة التي حكمت بالحديد والنار والسيف؟ أم أنها لم تكن إلا مجتمعات مرضية وتعيش بازدواجية وبروح النفاق الاجتماعي حيث السلوك الأكثر فسادا هو في المجتمعات المنغلقة وليس المفتوحة فالأول فقط يخجل من تقديم ارقامة بينما المجتمع المفتوح يقولها في العلن. هل الأحوال الشخصية بعيدة عن منطق تلك الممارسات إذا ما دفعت ظروف النفقة المجحفة المرأة لبيع نفسها بهدف إطعام أطفالها ونفسها. لهذا الأحوال الشخصية تم معالجتها بروح وفلسفة الأحوال الشخصية والمجتمعية حتى اعتقد البعض أن زلزالا حدث في المدينة وان البساط سحب من تحت الأقدام الذهبية، فلا أحد اليوم يرغب في فقدان امتيازات وصلاحيات مخلدة!!
عندما يعجز الأب عن إقناع ابنه بمنطقه يصاب بالانفعال الشديد فيلجأ بسرعة إلى الصراخ ورفع صوته مهددا بطرد ابنه من البيت فتلك حدود صلاحيته وربما تكون لديه حدود أوسع كالثروة فيمارس على الابن العاق حدود منعه من الميراث، بوسائل عديدة وملتوية. غير أن الابن العاق حسب وجهة نظر الأب لا يرى في ممنوعات القائمة والحظر ما يجبره على الانصياع لفقدان تلك الممنوعات والتحريم من منطق وقوة الإقناع، فالابن يعيش عصره ويفكر بطريقة مختلفة، وينظر للحياة من زاوية رؤيا متعددة تختلف عن تلك الزاوية الضيقة.
لحظتها تضخيم يخرج ليس من وراء الحنجرة والعرائض والتحريض وحسب، بل وللعادة المستحبة فمكبرات الصوت - ذلك الاختراع الجاهلي المعصرن - صار الجميع يستخدمه، بعد أن فرضت معايير الحياة وسطوتها الرضوخ لكل وسائل الحداثة المحرمة، ابتداء من المدارس وأجهزة المذياع والتلفاز وانتهاء بعروض صالات السينما في مجمعاتنا الحديثة فهي ليست إلا مصدرا من مصادر الفساد، ولو تركت تلك الأحوال إلى رجال يرون أن صلاحيتهم أوسع مما ينبغي لوجدنا أنفسنا في حالة ظلام دامس شكلاً وروحاً وعقلا. ولو ترك الوضع الاجتماعي والسياسي لدي أصحاب مكبرات الصوت، لوجدنا أنفسنا صبحاً ومساءً نستمع إلى قصائد وسرديات القدح في أولئك العلمانيين الكفرة، الصليبيين الجدد - ولربما طالبوا - بالصلب والحرابة والتنكيل، لا نحتاج استعراض حكايات رددها دعاة تضخيم الأصوات من مكبراتهم، فهي كثيرة ولا تحصي، وإنما محاولة اغتيال نجيب محفوظ واغتيال مهدي عامل وحسين مروة وفرج فودة، كلها تعبير عن عناوين معاصرة وصارخة، ففي مجتمع الحوار والديمقراطية لا تعجب الأحاديون والمتوحدون أن يسمعوا إلا لغتهم وحدها، ولهم وحدهم حق تضخيم أصواتهم على المعارضين، دون أن يقرءوا جيدا أن التهديد والوعيد، والتكفير والتخوين، لغة صالحة في مجتمع فاسد بروحه وعقله ويقبل نهج الابتزاز، فالوعي الإنساني المتقدم يرفض تلك الطريقة ووحدهم الأميون ونصف الأميين يرون في رجالاتهم حق بناء الكون والصعود إلى السماء، فهم يمتلكون حقوقاً مطلقة لا تمس. هكذا ساد منطق التهديد في زمن الاستبداد منذ قرون، وانتهت في أوروبا النهضة مع سقوط الإقطاع والكنيسة، التي حينذاك حكمت على استنتاج جيردانو برونو بعد اكتشاف كرة أرضية جديدة، اكتشاف عالم جديد خارج القارة القديمة، بان الأرض كروية مما أدى إلى حرقه على الخازوق عام 1600 بتهمة الهرطقة. ترى لو كان رجال الكنيسة من ذلك الزمان يعيشون اليوم بيننا ويشاهدون بأم أعينهم كل يوم ضخامة الإنجازات العلمية في عالم الفضاء والمعرفة وغيرها من العلوم، أليس لحظتها سيشعرون بالعار والخجل لأنهم اعدموا برونو لمجرد انه استنتج بعد الاكتشافات الجديد، بان هناك عالم غير عالمه الذي يعرفه. ما ذنب حدود معرفة وعقل الإنسان عندما يحاول الاستنتاج ويطرح أسئلة؟! هل بالإمكان على العلم والمعرفة تقييد حدود التفكير وسجن العقل في دائرة الظلمة، ومن ثم عدم السماح له بالخروج إلى النور، حيث الفضاء هناك مساحة مختلفة. في ذلك الوقت كان الباباوات يمتلكون سلطة أكبر من سلط تضخيم أصواتهم وإفزاع العالم وكان بإمكانهم ليس استخدام مكبرات الصوت، وإنما بإرسال جيوش كاملة نحو بلدان عدة وبتدمير شعوب كاملة من اجل مصالحهم الخاصة. لسنا في زمن محاكم التفتيش، ولسنا في العصور الوسطى لكي ترتعش فرائصنا خوفا، وإنما نحن في البحرين الجديدة التي تتيح لنا حقا في الحوار داخل قبة البرلمان وفي مؤسسات عديدة خارجه، فحق التعبير والتفكير حق واضح وثابت نص وأكد عليه الدستور والميثاق، وعلينا جميعا أن نتمسك بخيارات المجتمع الدستوري والديمقراطي الذي فتح الملك بوابته وأسس له وسانده الشعب، مؤمنا الجميع بان تطورنا التدريجي وتقدمنا نحو القرن الواحد والعشرين أركانه الأساسية هي ذلك التوافق الاجتماعي في كل مستوياته ومجالاته، وهذا لن يتحقق بين ليلة وضحاها، فالمسيرة الديمقراطية في المملكة ليست إلا طريقا آخر من طرق الانفتاح والتنوير والحداثة، فلا يمكننا أن نمارس ديمقراطية مبتورة يعطل فيها العقل وتسجن فيها الحريات، ليس من مؤسسات الدولة وحسب، وإنما الكارثة هو أن يكون ذلك من قبل مؤسسات المجتمع المدني، التي من المفترض منها استيعاب إشكاليات المجتمع وحقوقه والنظرة إلى المتغيرات برؤية واقعية ومنصفة. والأحوال الشخصية ليست إلا معركة مجتمعية واحدة من معارك عدة يدخلها المجتمع، وهي سلسلة من المعارك المتناثرة بين منهجين ورؤيتين وسلطتين، روحية ومدنية، وهي في نهاية المطاف وبالمجمل حرب طويلة بين الإرادة الإنسانية والمجتمع طوال قرون عدة، وقد حسمت نهائيا في المجتمعات المتمدنة التي شكلت فيها الدولة الحديثة نقلة نوعية، وانتقل فيها العلم والمجتمع إلى مرحلة مختلفة، وتحولت الطبقات الإقطاعية والأرستقراطية - والتي ما زالت باقية عقليتها وتقاليدها بعد - إلى ذاكرة تاريخية في الأرشيف، وفصلت السلطات وحددت الصلاحيات، بحيث استعاد المجتمع حقوقه وامتيازاته بعد معارك طويلة أفرزتها الثورات، وكانت الثورة الفرنسية وإعلان مبادئ حقوق الإنسان والديمقراطية أهم مرتكزاتها. لا أحد ينوي إلغاء الآخر ولا تحجيم حقوقه، وإنما من حق المجتمع مناقشة واقعه وقضاياه وظواهره المعقدة والسلبية دون خوف أو رعب من سلطة تعتمد تحمير عيونها وتضخيم صوتها كما يفعل باباوات الأمس ويفعلها بعضهم اليوم في بلدان شتى. لقد ناقش المحامون والمشرعون ورجال الدين موضوع الأحوال الشخصية من وجهات نظر متباينة ولكن يبقي الجانب الاجتماعي والسياسي والدستوري والإنساني والمؤسساتي الذي له الحق في تعميق الحوار في الظاهرة التي ليست أحادية الزاوية ولا تنتمي إلى عصرنا. وكما يقول يان كوت: العقل والنظام الإقطاعي لا معقول ولا يمكن وصفه إلا بمصطلحات اللامعقول .