لحسن ايت الفقيه
(Ait -elfakih Lahcen)
الحوار المتمدن-العدد: 8270 - 2025 / 3 / 3 - 12:37
المحور:
الطبيعة, التلوث , وحماية البيئة ونشاط حركات الخضر
تعد تجربة العمل الجمعوي في وسط يفتقر إلى قيم التطوع مجازفة وضياعا للوقت. ومرد ذلك إلى طول أمد الانتقال من النمط التقليدي العرفي إلى النمط المؤسساتي الحديث. وإنه في الأوساط التي لا تزال تستنشق هواء القبلية، ولا تتعايش والتجربة الجمعوية، أزمة الالتقائية والمقاربة التشاركية. سيأتي الفرج إن مضى أمد بعيد تنشط فيه مؤثرات التغيير، إن فعل التناقض الخارجي، أو التناقض الداخلي، في نادر الأحوال. ولا يزال التطوع في النظام التقليدي ثاويا في متن العرف، (الأعراف)، الذي انهار بعضه، إن لم نقل كله بفعل اصطدامه بالمؤسسة الحديثة.
وحسبنا أن سلطات الحماية الفرنسية اهتدت إلى حماية العرف، بل عملت به في المحاكم العرفية التي نظمها ظهير 16 من شهر مايو (أيار) من العام 1930، واستمر التماسك القبلي بالواحات، ودام تنظيم شأن المزرعة والمرعى والمحطب، وباتت القبيلة ملتزمة بدورها، بما هي مؤسسة تقليدية، إلى عشية استقلال المغرب. وعقب سنة 1956 دأبت السلطة المحلية، التي انقطعت لتنظيم الشأن المحلي، تضرب العرف عن قصد، أو عن غير قصد، مما نتج عنه تراجع القبيلة أمام سلطة القائد، فكان ذلك واحدا من عوامل انهيار العرف، وانهيار ما يبطنه من قيم التطوع، ويلزمها كمثل الأعمال التي تندرج في صالح الجماعة. ومن مظاهر ذلك أنك لن تصادف، وقته، من يرغب في تحمل مسؤولية شيخ المزرعة لتدبير شأن الشريط الزراعي الذي يستلزم بالضرورة تنسيق الأعمال الجماعية بتكليف من ينقطع طوعا لتدبيرها.
وإذا حددنا مجالا ضيقا للتتبع والرصد، وجب التسجيل أنه ابتداء من منتصف السبعينيات من القرن الماضي بدأ حوض زيز يعرف الجفاف الموسمي الذي يغطي فترة فصل الصيف، في بعض النقط العمرانية. وفي بداية الثمانينيات من القرن الماض بدأ الجفاف ينتقل إلى قلب السنة الزراعية، ويتسع نطاقه. وفي صيف سنة 2024، تصادف الجفاف بمنابع الأنهار بجبال الأطلس الكبير الشرقي.
ومع تعثر سقي المزروعات غمرا بمياه السدود التقليدية «أكوك» بالأمازيغية، لنضوب الماء بواد زيز بجنوب شرق المغرب، اهتدى المزارعون إلى حفر الآبار ببساط الشريط الزراعي لضخ الماء بمضخات تشتغل بمحركات الوقود السائل (البترول). وبعد مضي بعض الوقت، ومع توالي سنوات الجفاف، واستفحال القحولة، فوق أن تلك المضخات الحديثة تنهك الفرشة المائية، نضب الماء وغار في آبار المنازل بالمجالات المعمرة بالدور، وأضحى جلب الماء يكلف الأسر كثيرا في تنقلها بواسطة الدواب إلى آبار حيها بعضها ملوث ماؤها بالطين. لقد طرح إشكال الماء الشروب ونشطت الهجرة من القرى إلى المراكز الحضرية نحو الريش، وكرامة، والرشيدية، وأوفوس، وأرفود والريصاني.
وفي منتصف التسعينيات من القرن الماضي أرست المصالح الحكومية برنامج «باجير» لتزويد الوسط القروي في المغرب بالماء الشروب (P.A.G.E.R) لغاية ولوج 80 في المئة من السكان إلى الماء في أفق سنة 2010 بعد أن دنت النسبة إلى 14 في المئة سنة 1994. وكان حوض زيز ضمن المناطق المستفيدة من المشروع، واستبشر الظمآن خيرا. حمل المشروع معه المقاربة التشاركية، أي: إشراك السكان في تدبير المشروع ضمانا لنجاحة، خصوصا، وقد تبين في مناطق أخرى من العالم أن المشاريع التي لا ينخرط فيها السكان المستفيدون، مآلها الفشل. هنالك، بدأ التحسيس للمشروع في حلقات تكوينية استفادت منها المناطق التي كتب لها السبق في احتضان المشروع. دار التكوين كله حول المقاربة التشاركية، والتطوع، وتشجيع الانخراط في العمل الجمعوي المدبر لهذه المشاريع. وبالفعل أشرفت السلطة المحلية على تفريخ ثلة من الجمعيات ذات تمثيل عشائري. ولقد حصل شنآن بين السلطة المحلية وإحدى الجمعيات بالتجمع القروي تماكورت، جماعة امزيزل، إقليم ميدلت سنة 1996 نتج عنه تدخل السلطة لحرمانها من تسيير مشروع الماء الشروب، وتفريخ جمعية أخرى مطيعة مستجيبة للأوامر، ورفع الشنآن إلى المحكمة الإدارية. وتظل السلطة المحلية بإجرائها قد أصابت الهدف على مستوى الشكل مادامت قد لاءمت المقاربة التشاركية والتنظيم القبلي الذي يواجه الانهيار بحوض زيز. وللمكتب الوطني للماء الصالح للشرب دور الريادة في تدبير المشروع الذي تختزل غاياته ثلاثة محاور:
ـ إعادة الهيكلة الشاملة لقطاع الماء.
ـ تحديد المكتب الوطني للماء الصالح للشرب بما هو مخاطب رئيسي للتزود بالماء الصالح للشرب (AEP)
ـ رفع نسبة الولوج للماء الصالح للشرب بنسبة 90 في المئة في حدود سنة 2007.
امتد انتشار مشاريع الماء الشروب (AEP)على نطاق واسع، لولا أن حظ بعضها صفقات مشبوهة، نحو مشروع التجمع القروي زاوية سيدي بوكيل على الضفة اليسرى لواد زيز، بإقليم ميدلت.
وفي مطلع الألفية الثالثة بدأت النصوص التنظيمية تقحم الجماعات المحلية بالوسط القروي وتجعلها طرفا مسؤولا، نرصد منها ما يلي:
ـ المادة 39 من الميثاق الجماعي (قانون 78,00) التي تخول للمجلس الجماعي «إحداث وتدبير المرافق العمومية الجماعية في القطاعات» نحو «التزود بالماء الصالح للشرب وتوزيعه».
ـ المادة 50 من القانون المذكور التي تخول للجماعة اختصاص «الحفاظ على جودة الماء خاصة الماء الشروب».
ـ المادة 80 من القانون 14 ـ 113 التي تمنح للجماعة صلاحية تدبير الماء الصالح للشرب.
وشكلت الاتفاقية الثلاثية بين المكتب الوطني للماء الصالح للشرب، والجماعة، والجمعية، وجها التقائيا يدعم المقاربة التشاركية في أوساط قبلية انهارت فيه قيم التطوع. وتبقى الجماعة المحلية المسؤول المباشر عن المشروع، لأن المجلس الجماعي يمثل السكان. لكن هذا الوعي غائب، للأسف، لدى جل المجالس الجماعية لأن طبيعتها عشائرية، ولا صلة تربطها بالديموقراطية المحلية، ولا بالحداثة. ونذكر، هنا، أن الجمعية تنظم السكان ولا تمثلهم، ومهمتها تكمن في تدبير الماء الشروب، وتنحصر في استخلاص واجب الاستهلاك، وصرف أجرة المستخدم الذي ينقطع لضخ الماء، وضبط العدادات، وتوزيع الإعلانات، وصرف مستهلك الكهرباء، إن كان الضخ لا يشتغل بالطاقة الشمسية. وإجمالا فالالتقائية منهارة لطغيان أفكار قبلية تروج معتقدا بائدا مفاده أن الماء في ملك قبيلة القصر (الدوار)! ولا دخل للجماعة الترابية، ولا المكتب الوطني للماء الصالح للشرب، في ذلك الشأن. وأما الجمعية المسيرة فإفراز للتمثيل العشائري.
ولئن توفقت بعض مشاريع الماء الشروب في تغطية أكثر من تجمع قروي واحد، نحو المشروع الذي يغذي القري «أيت بني يحيى»، و«أيت موسى وعلي»، و«تيغجدت»، و«تيغرماتين» الجنوبية، على الضفة اليمنى لواد زيز، ونحو المشروع المغذي للتجمع القروي «ولال»، و«تيغرماتين» الشمالية، و«أيت سعيد» على الضفة اليسرى لواد زيز، فإن التجمع القروي الذي يشمل امزيزل، وكفاي الجنوبية، وزاوية سيدي بوكيل الجنوبية ولد تحت الضغط لأن سكان «كفاي» الشمالية يعتقدون أن مورد الماء بموضع «بوعاصم» ملك لهم، رغم حفر البئر في أرض أوقاف الزاوية الوكيلية التي حصلت عليها هبة من لدن قبيلة جراوة (إكراون)، قبل تهجيرها إلى غرب مدينة مكناس سنة 1669. صحيح أن عامل إقليم ميدلت أقنع سكان «كفاي»، وقتها، أن الماء ملك للدولة، ومن حق جميع المواطنين المغاربة الولوج إلى الماء. لكن الصراع الإثني حول موارد الماء لم يخمد، رغم التوتر الحاصل على مورد موضع «بوعاصم» المذكور قبل خمس سنوات.
طفا التوتر من جديد على السطح بعد أن تصدع مشروع الماء الشروب بزاوية سيدي بوكيل. وللتذكير فقد جرى أن تلوث الماء بفعل الفيضانات الأخيرة، ابتداء من ليلة يوم الثلاثاء 17 من شهر شتنبر (أيلول) من العام 2024.
حصل في البدء فحص المضخة، لاحتمال امتلائها بالطين، وذلك باستئجار عمال لإخراجها، ونقلها إلى بلدة الريش، لعرضها على تقني مصلح للمضخات، وثبت أنها سليمة. ومعنى ذلك أن منسوب الماء ارتفع في بئر حُفرت في الأوحال بأرض أوقاف الزاوية الوكيلية، وبات الطين يتسرب إلى قعر البئر. فكر أعضاء الجمعية في تغيير البئر الملوثة إلى بئر أخرى، وبناء فوهتها، وإرساء الأنابيب من جديد ابتداء من يوم 22 من شهر شتنبر (أيلول)، وانتهت تهيئة البئر الأخرى يوم 07 من شهر أكتوبر (تشرين الأول) الموالي. وفي يوم 28 من شهر نونبر (تشرين الثاني) تلوث الماء بالطين، من جديد، لأن البئرين كلتيهما محفورة في التربة الطينية. ولا وجود لبئر من نوعها في المشاريع الأخرى بحوض زيز، فالصفقة مشبوهة كما سلفت إليه الإشارة. وفي يوم 19 من شهر دجنبر (كانون الأول) من العام 2024 وجهت جمعية سيدي بوكيل للتنمية والماء الصالح للشرب شكاية إلى السيد عامل إقليم ميدلت، وشكاية أخرى مماثلة للسيد رئيس المجلس الجهوي لجهة درعة تافيلالت. كلتا الشكايتين قائمة مرافعتها على العناصر التالية:
ـ أن الجمعية تختص بالماء الشروب، ووجب التركيز، هنا، على بيت القصيد، أي: مشروع تزويد العالم القروي بالماء الصالح للشرب، المسمى اختصارا (AEP).
ـ اقتصار المورد المائي على ثقبين اثنين، كلاهما يقع بدرع ترابي بالشريط الزراعي، مما يجعل المورد عرضة للانجرافات، في حال الفيضان، والندرة والنضوب التام، في حال الجفاف.
ـ وقوع المورد المائي في حقل غير مسيجة، مما يجعله مهددا بالاعتداء بالتلوث. ومعلوم أن المورد المائي هو الذي يغذي سكان زاوية سيدي بوكيل ومواشيهم، على الضفة اليسرى لواد زيز.
ـ الخزان غير مرتفع بشكل يضمن وفرة الماء لدى سكان هامش المجال المعمر، حيث يحصل الخصاص في بعض المنازل، كلما انخفض منسوب الماء في الخزان.
ـ هشاشة التجهيزات الهيدرولوجية في شبكة توزيع الماء الشروب، حيث يفتقر المشروع للطاقة الشمسية، وتسييج البئر، وحفرها، إن اقتضى الأمر ذلك، في مكان صلب آمن، إسوة بالمشاريع المماثلة بإقليم ميدلت. وفوق ذلك، فالمشروع غير مكتمل منذ انطلاقه سنة 2001، مما جعل السكان يتحملون مصاريف شق القنوات، وشراء التجهيزات، وكل ذلك في غياب الأطراف المشاركة في المشروع.
بدأ تحرك السلطة المحلية، ومن حسن حظ المنطقة، أن عين بملحقة «أيت يزدك» بإقليم ميدلت شاب ميداني، يلمس القضايا هو نفسه في مواضعها بالميدان. لذلك كانت المعاينة الأولى يوم الأربعاء 22 من شهر يناير (كانون الأول) من العام 2025، وشكلت مناسبة لإفراز ثلاث مقترحات حلا للإشكال:
ـ مقترح اقتباس الماء من التجمع القروي المجاور «كفاي»، وهو مقترح مؤقت.
ـ مقترح الترافع على المشروع المستقل.
ـ مقترح الانخراط في مقترح الجماعة والاستفادة من بئر موضع «بوعاصم».
وكان المقترح الأول، اقتباس الماء مؤقتا من شبكة التجمع العمراني «كفاي» على الضفة اليسرى لواد زيز، مستعجلا آنيا، ومعقولا. حصل استدعاء كل أعضاء مكتب جمعية كفاي إلى مقر جمعيتهم الكائن بشمال شرق تجمعهم السكني، لغاية التشاور معهم حول المقترح الأول، فحضروا كلهم يوم الأربعاء 19 من شهر فبراير (شباط) من العام 2025 إلا واحدا، وحضر عن جمعية سيدي بوكيل للتنمية والماء الصالح للشرب، ثلاثة أعضاء. وحضر السيد القائد ورئيس جماعة امزيزل ومستشاران جماعيان وتقني بإدارة الجماعة. وبعد أخذ ورد كان رفض المقترح من لدن أعضاء مكتب جمعية «كفاي». وإن ما سلف ترويجه في ذلك الاجتماع يتنافى وثقافة الدولة الحديثة. إذ لا يعقل بعد مضي 14 سنة على صدور دستور سنة 2011، في المغرب، والذي ثلثه مواد من حقوق الإنسان، أن تطغى الأفكار القبلية الإثنية وتطفو على السطح لتشوش على العمل الجمعوي الجاد. فالماء ملك للدولة، ومن حق جميع المواطنين الولوج إلى الماء الشروب على قدم المساواة. لقد تجاهل القبليون أن الاجتماع منظم تحت إشراف الجماعة الترابية، وهي التي تملك قانونيا مشاريع الماء. ويمكن للجماعة أن توقف آداء الجمعيات لتخلفه عن الحداثة. ومهمة الجمعيات تنظيمية، كما سلفت إليه الإشارة، ولا حق لها في التقرير. فكيف توفق القبليون في إزاحة الجماعة الترابية جانبا؟ أو ليس للجماعة تجربة في السياسة المحلية نحو إنشاء سياسة محلية في تدبير موارد الطبيعة؟. ويعنينا أن جهل الاختصاص نتج عنه أزمة الالتقائية وأزمة المقاربة التشاركية، وكل الجمعيات أريد لها أن تعمل على شاكلتها. وهل ستتدخل السلطة الإقليمية بميدلت في ضمان حق سكان زاوية سيدي بوكيل في الماء الصالح للشرب؟
#لحسن_ايت_الفقيه (هاشتاغ)
Ait_-elfakih_Lahcen#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟