الطاهر كردلاس
الحوار المتمدن-العدد: 8266 - 2025 / 2 / 27 - 01:07
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
مقال سياسي
بعنوان : "لماذا خذل العرب القضية الفلسطينية"
بقلم الطاهر كردلاس
تُعدّ القضية الفلسطينية واحدة من أكثر القضايا تعقيدًا في التاريخ السياسي للعالم العربي، وقد تُطرح في بعض الأحيان أسئلة حول السبب وراء ما يراه البعض "خذلان" العرب لفلسطين. لا يمكن فهم هذه الظاهرة بمعزل عن سياقات تاريخية وجغرافية معقدة امتزجت فيها الصراعات الداخلية والانقسامات الإقليمية، فالقضية الفلسطينية هي في الأساس أكثر من مجرد نزاع على أرض أو حقوق، هي تمثل جوهر العلاقة بين الهوية، السلطة، والمصالح في منطقة مضطربة.
منذ بداية القرن العشرين، وبالتحديد منذ وعد بلفور وما تلاه من عمليات استعمارية ونزاعات بين العرب واليهود، كان العرب جميعًا، بشكل عام، متحدين في دعم القضية الفلسطينية باعتبارها قضية وطنية مشتركة، لكن مع مرور الوقت بدأت أولويات بعض الأنظمة العربية تتغير بفعل العوامل الجيوسياسية والاقتصادية. في ظلّ الحرب الباردة، أصبحت العلاقات بين القوى الكبرى في العالم، ولا سيما الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، تؤثر بشكل مباشر في التوجهات السياسية العربية، ما دفع بعض الأنظمة إلى تكييف سياساتها بما يتماشى مع هذه القوى العظمى، حتى وإن كان ذلك على حساب القضية الفلسطينية. في ظل هذا الوضع، بدا أن الدعم لفلسطين قد تضاءل تدريجيًا، وبدأت الدول العربية تنظر إلى القضية من زاوية مصالحها الخاصة، أكثر من كونها قضية موحدة تتطلب استراتيجية واحدة ومواقف جادة.
فالتحولات السياسية التي شهدتها المنطقة في العقود الأخيرة كان لها دور كبير في إعادة تشكيل المواقف تجاه فلسطين. لم تكن اتفاقات السلام بين بعض الدول العربية وإسرائيل إلا انعكاسًا لتغيرات استراتيجية كانت تحركها مصالح اقتصادية وأمنية، كان بعضها، على الأقل، يتطلب تهدئة مع إسرائيل وتطبيع العلاقات معها. ما يُؤخذ على هذه السياسات هو أنها قد فتحت المجال أمام بعض الأنظمة العربية لكي تراهن على واقع مختلف، ترى فيه مصلحة أكبر في التحالفات الإقليمية والدولية أكثر من إظهار دعم حقيقي لفلسطين.
في المقابل، لم تخلُ بعض الأنظمة من الانقسامات الداخلية التي جعلت القضية الفلسطينية في بعض الأحيان محكومًا بغلبة العواطف السياسية. فلقد ارتبط دعم القضية الفلسطينية في بعض السياقات العربية بصراعات داخلية، سواء كانت سياسية أو اقتصادية. فعندما كانت بعض الدول تشهد صراعات داخلية مع الجماعات المعارضة أو تواجه تحديات اقتصادية كبيرة، أصبح الدعم لفلسطين مسألة غير أولوية. التحديات الاجتماعية والسياسية أضحت سيدة المشهد العربي، وهو ما جعل بعض الأنظمة تضع الأولوية لإنهاء الأزمات المحلية على حساب القضايا الكبرى التي تحرك الشعوب.
علاوة على ذلك، فقد أدى الانقسام الفلسطيني بين حركتي فتح وحماس إلى تمزق داخل الصف الفلسطيني نفسه، ما أعطى انطباعًا لدى بعض الدول العربية بأن القضية الفلسطينية ليست موحدة بالقدر الكافي لاستحقاق الدعم الكامل. هذه الانقسامات أثرت على قدرة العالم العربي على تقديم دعم موحد أو استراتيجية متماسكة تجاه فلسطين. في الوقت نفسه، زاد ظهور الحروب الأهلية والصراعات الطائفية في العديد من البلدان العربية من تعقيد الموقف، وجعل بعض الدول، التي كانت سابقًا تدعم فلسطين، مشغولة بمعاركها الداخلية أكثر من أي وقت مضى.
بالطبع، لا يمكن تجاهل دور الضغوط الدولية في هذا السياق. العلاقات مع الولايات المتحدة والمجتمع الدولي عمومًا، والتي قد تكون قد فرضت على بعض الدول العربية في ظل المصالح الجيوسياسية، لعبت دورًا في إعادة تشكيل أولويات هذه الدول. في ظل التحولات العالمية والتطورات في العلاقات الإقليمية، بدأ البعض في النظر إلى فلسطين بشكل مختلف، ليس من منطلق القيم الإنسانية والأخلاقية فحسب، بل أيضًا بناءً على حسابات سياسية ومعادلات القوة التي فرضها واقع التحولات الدولية.
لكن في النهاية، تبقى القضية الفلسطينية قضية مركزية في الوجدان العربي. فقد حافظت فلسطين على مكانتها في قلب الشعوب العربية، حتى وإن كانت بعض الأنظمة قد خذلتها على المستويين السياسي والدبلوماسي. وهذا التناقض بين المواقف الرسمية والمشاعر الشعبية يبرز كيف أن القضية الفلسطينية هي أكثر من مجرد نزاع سياسي، بل هي رمزية لحق الإنسان في أرضه، ومرآة لمعركة طويلة بين الشعوب المقهورة والمصالح الكبرى. إن القضية الفلسطينية ليست مجرد اختبار للتضامن العربي، بل اختبار للأخلاقيات السياسية في منطقة شهدت وما زالت تشهد صراعات مستمرة حول الهوية، العدل، والسيادة.
توحيد الرؤية حول القضية الفلسطينية أمر يتطلب أكثر من مجرد توافق سياسي بين الدول العربية؛ إنه مسألة تتعلق بالهوية الجماعية، بالضمير الشعبي، وبإعادة بناء مفهوم التضامن العربي بما يتماشى مع تحولات العصر. إنه بحاجة إلى فهم عميق للواقع الجديد في العالم العربي، بما يشمل التحديات الداخلية التي يواجهها كل بلد، بالإضافة إلى الفهم الجيوسياسي المتغير في الساحة الدولية. السؤال هنا: هل يمكن للعرب أن يوحدوا رؤيتهم حول القضية الفلسطينية في ظل هذه الظروف المتشابكة؟
بداية، من الضروري الاعتراف بأن القضية الفلسطينية ليست مجرد مسألة مبدئية تتعلق فقط بالحقوق والعدالة، بل هي قضية سياسية معقدة تُحدّدها تحالفات إقليمية، مصالح اقتصادية، وأبعاد دبلوماسية تؤثر في كل دولة عربية بطرق مختلفة. لذلك، سيكون توحيد الرؤية ليس مجرد توافق على مبادئ، بل التوصل إلى استراتيجية مشتركة تأخذ في اعتبارها الأبعاد المختلفة لهذه القضية.
في هذا السياق، يمكن القول إن السبيل إلى توحيد الرؤية حول القضية الفلسطينية يبدأ أولًا من إعادة تعريف مفهوم التضامن العربي. لا ينبغي أن يكون التضامن مقتصرًا على الشعارات والمواقف العاطفية، بل يجب أن يُترجم إلى آليات عملية، من خلال تنسيق السياسات الإقليمية والدولية بشكل يؤدي إلى تفعيل الدعم المادي والسياسي لفلسطين. وهذا يتطلب مشاركة حقيقية من جميع الدول العربية في تحديد استراتيجية طويلة الأمد، تقوم على أسس من الشفافية والتفاهم المتبادل، بعيدًا عن الحسابات السياسية الضيقة.
إن قضية الانقسامات الفلسطينية بين حركتي فتح وحماس تمثل إحدى العقبات الرئيسية في توحيد الرؤية العربية. لذا، لابد من إيجاد وسيلة لإعادة توحيد الصف الفلسطيني أولًا، فالواقع السياسي الفلسطيني لا يمكن فصله عن الدور الذي تلعبه الدول العربية في تعزيز المواقف الموحدة. وفي هذه النقطة، يكون الدعم العربي للفلسطينيين أكثر فعالية عندما يصبح هذا الدعم قائمًا على رؤية سياسية فلسطينية واحدة ومتماسكة، وهي إحدى الشروط التي لا يمكن الاستغناء عنها لتحقيق أي تقدم في ملف القضية الفلسطينية.
بالإضافة إلى ذلك، على الدول العربية أن تتجاوز التنافسات الإقليمية والتحديات السياسية الداخلية التي غالبًا ما تحول دون اتخاذ مواقف موحدة. قد يكون الطريق طويلًا، ولكن هناك ضرورة لإيجاد آليات تحكمها وحدة الهدف بعيدًا عن التصورات الضيقة، حتى لو كانت هناك خلافات بين الدول حول قضايا أخرى. هذا يتطلب أيضًا خلق نوع من الثقة بين الحكومات العربية، بحيث تلتزم جميعها بالتنسيق وتفعيل المواقف العربية المشتركة في مواجهة الضغوط الدولية أو محاولات بعض الدول الكبرى لتحييد القضية الفلسطينية في سياقات أخرى.
من جانب آخر، يمكن القول إن توحيد الرؤية حول القضية الفلسطينية في العالم العربي قد يتطلب تحوّلًا فكريًا في المواقف الشعبية. على الرغم من أن هناك إجماعًا شعبيًا واسعًا على دعم فلسطين في معظم أنحاء العالم العربي، فإن العمل على تعزيز هذا التضامن الشعبي على مستوى الحكومات يتطلب تغييرًا في السياسات الإعلامية والتعليمية، بحيث تصبح القضية الفلسطينية جزءًا لا يتجزأ من الوعي الجمعي للعرب. في هذه اللحظة، يمكن أن يصبح الدعم لفلسطين قضية أكثر أهمية من مجرد مسألة جغرافية أو سياسية، بل هو تعبير عن هوية جماعية تسعى إلى تحقيق العدالة للإنسان الفلسطيني.
قد يكون التحدي الأكبر هنا هو مدى قدرة الدول العربية على تجاوز هوياتها القطرية الضيقة لصالح هوية عربية مشتركة تحترم التعددية السياسية في داخل كل دولة، لكن تؤمن بوحدة المصير العربي. ولعل هذا ما يجعل التحديات التي تواجه تحقيق ذلك أكثر تعقيدًا، في ظل السياقات السياسية المتباينة في المنطقة. رغم ذلك، يمكن القول إن توحيد الرؤية الفلسطينية والعربية ليس مستحيلًا، ولكنه يتطلب إرادة سياسية حقيقية وعزيمة جماعية لمواجهة التحديات المترتبة على الانقسامات الداخلية والمصالح الإقليمية.
في النهاية، يبقى أن الأمل في توحيد الرؤية العربية تجاه القضية الفلسطينية يتطلب إيمانًا مشتركًا بأن تلك القضية ليست فقط قضية فلسطين، بل هي قضية العرب جميعًا، لأنها تمثل تحديًا لهويتهم الجماعية ومصداقيتهم في موازين العدالة الدولية. قد لا يكون الطريق ميسرًا أو سريعًا، لكن مع تجديد الأمل في التضامن العربي، ووجود رؤية سياسية واضحة قائمة على العدالة والمساواة، يمكن للأمة العربية أن تلعب دورًا حيويًا في المستقبل القريب في دعم القضية الفلسطينية، على المدى الاستراتيجي
اكادير المغرب
#الطاهر_كردلاس (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟