محمد علي محيي الدين
كاتب وباحث
الحوار المتمدن-العدد: 8265 - 2025 / 2 / 26 - 12:07
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
تمثل المرويات الشعبية جزءًا جوهريًا من التراث الثقافي لأي شعب، إذ تعكس تجارب الأفراد والجماعات وتوثق ذاكرة المجتمعات بطريقة غير رسمية لكنها شديدة التأثير. لطالما كانت هذه المرويات أداة حيوية لفهم التاريخ غير المدون، والتواصل بين الأجيال، والحفاظ على هوية الشعوب.
والمرويات الشعبية هي قصص، أساطير، حكايات، وأغانٍ تُنقل شفهيًا من جيل إلى آخر، وتُعبر عن قيم وتقاليد ومعتقدات المجتمعات. غالبًا ما تُروى هذه المرويات بأسلوب بسيط وعفوي، لكنها تحمل في طياتها معاني عميقة ودروسًا مستفادة.
تنقسم المرويات الشعبية إلى عدة أنواع، منها:
الأساطير: وهي قصص خيالية تدور حول الآلهة أو المخلوقات الخارقة.
الخرافات: حكايات تدور حول الحيوانات أو الكائنات الأسطورية وتُستخدم لتقديم دروس أخلاقية.
الحكايات الشعبية: قصص اجتماعية تصور الواقع اليومي بأسلوب رمزي أو فكاهي.
الأغاني والأهازيج: وهي أشكال تعبير موسيقي تُستخدم للاحتفال بالمناسبات أو للتعبير عن الأحاسيس الجماعية.
وتُعتبر هذه المرويات وسيطًا إبداعيًا يدمج بين الخيال والواقع، حيث يمكن أن تحتوي على عناصر تاريخية حقيقية مشوبة بالتحوير والإضافة، ولها دور بالغ الأهمية في إعادة تشكيل وفهم التاريخ المنسي للشعوب، إذ تساهم في كشف زوايا مظلمة لم تصلها الكتابات الرسمية.
وغالبًا ما تهتم السجلات التاريخية الرسمية بالأحداث الكبرى والشخصيات البارزة، بينما تقدم المرويات الشعبية صورة حية عن الحياة اليومية للناس العاديين. إنها تسجل تجاربهم، معتقداتهم، وصراعاتهم، مما يضيف بُعدًا إنسانيًا للتاريخ.
وتعكس المرويات الشعبية قيم المجتمع وأخلاقياته ومعتقداته. من خلال الحفاظ على هذه المرويات، تستطيع الشعوب تعزيز هويتها الثقافية ومواجهة محاولات طمسها أو إضعافها.
وهي سد للفجوات في السجلات المكتوبة فكثير من الشعوب، خاصة في العالم القديم، لم تملك تقنيات الكتابة أو لم تُدوِّن تاريخها بشكل منهجي. في مثل هذه الحالات، تصبح المرويات الشعبية مصدرًا بديلًا لفهم الماضي، وتقدم المرويات الشعبية روايات تُبرز تجارب الفئات المهمشة، مثل النساء، العمال، والأقليات، الذين غالبًا ما يتم تجاهلهم في السرديات التاريخية الرسمية، ويستفيد الباحثون في مجالات الأنثروبولوجيا، علم الاجتماع، والتاريخ من المرويات الشعبية لفهم بنية المجتمعات القديمة، علاقاتها، وتحولاتها عبر الزمن.
وعلى الرغم من أهمية المرويات الشعبية، إلا أن استخدامها في كتابة التاريخ ينطوي على تحديات. أولها، عدم الدقة في التفاصيل، حيث يتم نقل المرويات شفهيًا مما يجعلها عرضة للتغيير مع مرور الوقت. ثانيها، التحيز الثقافي، حيث تعكس هذه المرويات رؤية المجتمع الذي أنتجها، مما قد يؤدي إلى تجاهل أو تشويه حقائق تاريخية معينة. وأخيرًا، صعوبة التحقق من مدى صحتها بالمقارنة مع المصادر المكتوبة.
والمرويات الشعبية ثروة ثقافية هائلة تحمل في طياتها معاني ودروسًا تعكس هوية الشعوب وتجاربها عبر الزمن. من خلال دراستها وتحليلها، يمكننا إعادة اكتشاف التاريخ المنسي وفهم أعمق للإنسانية. إنها ليست مجرد قصص تُروى للترفيه، بل هي أدوات لفهم الماضي ورسم معالم المستقبل، مما يجعلها جزءًا لا يتجزأ من ذاكرة الشعوب.
ولقد طالعت بإمعان وتمعن الكتاب القيم الذي أصدره الصديق الحبيب ذياب مهدى غلام في مروياته الشعبية وما تستحضره الشاهدة ولم يقله الرواة، فوجدت فيه معينا لا ينضب من المرويات التي تختزنها الذاكرة لأحداث وموضوعات لم يسبق لها أن طرحت من قبل الكتاب والمدونين لما فيها من خصوصيات وانتباهاة ليس لكل أحد تناولها.
وما أقوله عن هذه المرويات قد يكون شهادة مجروحة بحكم علاقة القربى وما يربطني به من أواصر المودة والتقدير، فالمؤلف ذاكرة حية لأحداث عاصرها أو مرويات سمع بها لما تمتع به من ذاكرة وقادة تختزن أدق الأمور، وما يمتلك من أسلوب كتابي اتصف بالسلاسة والمرونة.
وما وجدته فيها يمكن اجماله بنقاط عديدة سأمر عليها سراعاً منها:
*استعماله المفردة الشعبية التي تحمل ايحاء خاص لا يمكن للمفردة الفصحى التعبير عنه بما تحمل المفردة من دلالات ايحائية عميقة تعطي للمضمون دفقا خاصا يأخذ بمجامع القلوب، وهذا التزاوج بين الفصحى واللغة المحكية يمكن أن يقودنا لإيجاد لغة مشتركة تجمع بين الشعبي والفصيح، بما للمفردة الشعبية من نكهة مائزة تفتقر لها المفردة الفصيحة، سيما اذا علمنا أن كثيرا من المفردات الفصيحة لها جذورها الراسخة في الفصحى، منها ما أنسلخ عنها بما طرأ عليه من قلب أو ابدال ومنها ما هو فصيح غير متداول بين الكتاب، والذي يراجع معاجم اللغة وقواميسها سيجد آلاف المفردات الفصيحة التي خالها البعض شعبية لعدم تداولها من قبل المعاصرين، وقد وضعت معجما لا زال قيد الاعداد يبين هذه المفردات التي يخالها البعض شعبية وهي من لباب اللغة الفصحى المتداولة في القرون الخالية.
*كما أن هذه المدونة بفرزاتها المختلفة تحدثت عن الغاطس والمسكوت عنه في موروثنا الشعبي، فهذه الفرزات في حقيقتها تمثل الواقع الاجتماعي للشعب العراقي بما تحمل في طياتها من قصص واقعية لم تأخذ طريقها للشيوع في السرديات الكتابية ظنا من المدونين بأن في ايرادها محاذير في المتعارف عليه بالأوساط الشعبية، وإن ابرازها في هذه السرديات المتواصلة ترصين لواقع شعبي نتحاشى الخوض فيه ، وبذلك استطاع الفتى الغلامي ولوج هذه المسالك الوعرة بقدرة البحار الماهر الذي يخوض مجاهل البحار بحثا عن الصدفات المضيئة الغاطسة في أعماق هذا البحر الواسع.
- ولا أجانب الواقع اذا قلت أن كثيرا من واقعنا الاجتماعي طواه النسيان وركنته الذاكرة في زواياها بعيدا عن التدوين، في الوقت الذي لا تتورع عن اذاعته في مجالس السمر وفي واقعها اليومي.
ولو راجعنا تاريخنا الأدبي لوجدنا أن من سبقنا لتدوين التراث العربي لم يتورع عن ايراد الحقائق الموروثة ، فركز على كثير من الجوانب الاجتماعية التي تحاشاها المعاصرون، ولو راجعنا مؤلفات الأصفهاني والجاحظ وأبي حيان التوحيدي وغيرهم ممن أرخوا للعصور الخالية لوجدنا في كتبهم الكثير من المسكوت عنه في الأدبيات المعاصرة.
فالحب العذري بتجلياته المختلفة كان له وجوده في الواقع الاجتماعي العراقي، ولو خضنا في ذاكرة الوسط الاجتماعي العراقي لوجدنا كثير من القصص التي لا تختلف في واقعها عن الحب العذري لقيس وليلى وجميل وبثينه وغيرهم ممن دونت قصصهم في كتب التراث، وربما كان لهذه المدونة تحرك في هذا الجانب فأورد المؤلف حكايات كثيرة تسير في هذا الاتجاه، وهذه الواقعية التي اعتمدها المؤلف أبرزت جوانب ما كان لها أن تظهر لولا جرأة المؤلف في ولوج هذه المسارب التي تحاشاها الآخرين.
وقد أغفل المؤلف كثيرا من الحكايات والوقائع التي تصب في هذا المنحى لأسباب ربما تكون وجيهة في نظره، وهي في واقعها تشكل ملمحا مهما في الواقع الشعبي، في الوقت الذي تجاوز فيه الخطوط الحمر في مدونات أخرى، ولعل الاسباب التي رآها غير كافية لتدوين تلك الحوادث التي عاشها وخبرها عن كثب وهي تشكل ظاهرة اجتماعية حرية بالتسجيل لما فيها من لمحات تمثل واقعا اجتماعيا لا يمكن أغفاله ولعلنا سنشهد في الجزء التالي بعضا مما تحاشاه المؤلف.
وكان بوسع المؤلف الفاضل الافاضة في بعض المواضيع واستجلاء آثارها لدى الشعوب الأخرى كقصة (بنت المعيدي) التي لم تكن حصرا على العراق وحده رغم انها قصة عراقية وقعت ولا زالت مثار الحديث في الأوساط الشعبية، فهذه القصة ذاعت وشاعت في الأوساط العالمية وأصبحت من موروثات العديد من شعوب العالم في الشرق والغرب، فلكل شعب من هذه الشعوب فتاته التي تبين ملامحها التكوين الجمالي لتلك الشعوب، وكل شعب أبرزها بالشكل الذي يناسب طبيعته الخلقية، وهو خير العارفين في هذا الجانب ولديه معلومات ثرة كان يمكنه بيانها لتكون مدونته وثيقة مهمة في هذا الجانب السردي.
تضمن الكتاب (45) فرزة أو مدونة اختلفت في شخوصها وأحداثها، وجلها حديث عن قضايا واقعية لم تدون ولكنها شاعت في الوسط الشعبي وأخذت مكانها في الذاكرة وتناقلتها الالسن من جيل لجيل، وفي تدوينها شيء من الحفاظ على الارث المجتمعي لشعوب وادي الرافدين، وهي مزيج من حكايات الحب والغرام، والبطولة والايثار، وتفصح بشكل جلي عن طبيعة المجتمع العراقي وما يزخر به من مآثر وتضحيات حرية بالتسجيل ، جديرة بالتدوين ، لما فيها من صور عن الواقع الحقيقي لما عليه الناس في تلك الازمان، فهو يستحضر الحدث بما يحمل في طياته من ملامح واضحة جلية فيها دروس وعبر، وأفكار وصور..
#محمد_علي_محيي_الدين (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟