|
الأُمة الآن في مُفترَق طُرق، و لَيْس لها إلاَّ خِيار الصَّحْو : تصحو أو تموت…
أحمد إدريس
الحوار المتمدن-العدد: 8263 - 2025 / 2 / 24 - 20:05
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
كلمة تمهيدية : رجاءً لا تكُن من الذين عُيونهم تقرأ و عقلهم غائب بل اعطِ هذا الأخير فُرصة لِيَشتغل حقاً… هذا المقال بُذل فيه جهد كبير، إنجازه استغرق قُرابة شهرَيْن. المقال مُستلهَم ممَّا حدث بشكل خاطف و مُباغت بدَولة عربية مِحوَرِية في الفترة الأخيرة. أتمنى أن يُعجبك. و إن نال إعجابك، فإني آمُل أن يَصِل بواسطتك إلى آخَرين، و أشكرك على ذلك. أرجو أن تجد صرخة القلب هذه آذاناً صاغية. آمُل أن يُقرأ هذا النص الذي أنهكني إعدادُه حتى النهاية، أن يَتِم ذلك بإهتمام حقيقي ليُدرَك مُرادي و يُفهم على الوجه الصحيح طرحي فأنا لا أُريد سوى الخَير لأُمتي، أرجو أن يُقرأ بقدْرٍ عالٍ من الإنفتاح الذِّهني حتى النهاية. أتمنى للقِلة النادرة المُبارَكة التي تصبر على القراءة الفعلية لمقال طويل نوعاً ما، إستفادةً حقيقيةً من هذه القراءة أي نظرية و تطبيقية عملية حياتية في ذات الوقت. و للجميع دَوامَ العافية و تمامَ التوفيق و حُسن العاقبة. مُلاحظة في غاية الأهمية : لستُ بصدد تمجيد أي كان من خِلال هذا المقال، أنا مُعافى تماماً من تقديس المخلوقين بفضل الله… و الآن أتركك مع المقال مُتمنِّياً لك قراءة مُمتعة.
« إذا ارتدى الزور و المكر لِباس التقوى، ستَقعُ أكبر فاجعة في التاريخ. » (علي شريعتي) « لا أعرف مظلوماً تواطأ الناس على هضمه و زهِدوا في إنصافه كالحقيقة. » (محمد الغزالي، "جدد حياتك"، 1962) « الأزمة هي أزمةُ الوعي، و الثورة الحقيقية هي ثَورة الوعي. » (كريشنامورتي)
أبدأ بهذه التَّوبيخات و التقريعات القرآنية : « أفلا تعقلون ؟ »، « أفلا تُبصرون ؟ »، « أفلا تتفكرون ؟ ». أُمة القرآن المزعومة، للأسف لا تعقل و لا تُبصر و لا تتفكر، ماذا أصاب هذه الأُمة ؟ للأسف نحن قَوم قاصرو الوعي و في الغالب عاجزون عن رؤية الأشياء على حقيقتها، و تحكم تصرفاتنا اللاَّعقلانيةُ و العواطف و الإنفعالات المُنفلِتة، الأمر الذي جعل التاريخ يُكرِّر نفسه عندنا بصورة كُوميدية و دراماتيكية في آن واحد… إنها فِعلاً أُمة مُحيِّرة. هي أُمة مُحيِّرة، لأنها بِمَحض إرادتها و اختيارها، هي أُمة تنتحر. أنا لا أُبالغ عندما أصِفُها بأنها أُمة تنتحر. حقاً أنا لا أبالغ. أُمتُنا الضالَّة الضائعة يبدو كأنها تحمل في أحشائها بل جيناتها بُذورَ فنائها، أُمتُنا الكافرة بكُل ما يبني حضارة لَدَيها قُدرة استثنائية على التدمير الذاتي. هي الآن تتقاذفُها الأمواج و تميل إلى كُل جانب مع الرياح لأنها مُغيَّبة تماماً. قابلِيتُها الجديدة للإستعمار و الإستحمار باتتْ أُسطورية. أُمم المعمورة كلُّها تضحك علينا أو تأسف للحال الذي تعيشه أُمتنا : مَن يُسمَّون بالمشايخ في هذه الأمة، رغم كل ذلك، لا يكُفون عن إيهامها بأنها خَير أمة ! نحن اليوم بعيدون عن التَّواصي بالحق الذي عاقبةُ تركِه و هجره هي الخُسران المُبين كما يُؤكِّد القرآن. لا بُد إذَنْ أن يصير التواصي بالحق عنوان أُمة لا تزال ترى نفسها بِجِد خير أُمة على مستوى المعمورة بأكملها و إلى الأبد… إننا بِحاجة مُلِحَّة إلى وقفة طويلة و صادقة مع النفس، تُتيح لنا أنْ نستيقظ و نُفكر بِجِدية لِنَجد الحل الصحيح. بحاجة إلى مراجعة حقيقية و جادة و على قدْرٍ كبير مِن الشفافية و المصارحة… فنَقلُ أُمتنا من وضعها الراهن إلى حالتها المَرجُوَّة يستحيل أن يَتِم من غير عملية نقد، نقوم به وَفْق قَواعِده و أُصوله السليمة الصحيحة، هذه العملية تمنحنا رُؤية واضحة واعية لحقيقة الأحوال و الأوضاع في كل الميادين. إذ مِن المُؤكَّد أنه لا إصلاحَ حقيقياً و عميقاً بِدُون فِكر و رُؤية… فَلِكَي تنصلحَ عندنا الأمورُ و الأوضاع، يَجِب أنْ تنصلحَ أَولاً العقولُ و الأفكار. و التفكير السليم ضَروري لإتخاذ قرارات سليمة و حكيمة. نحن إذَن في حاجة مُلِحَّة إلى إصلاح فِكري بل ثورة فِكرية و ذلك في المجال الديني بالمقام الأول… نعم هذه الأمة في حاجة ماسَّة إلى ثورةٍ، الوحيدة التي ستأتيها بِربيعِ إقلاعٍ حضاري جديد، الوحيدة التي سَتُمكِّنها من مُواجهة تحدِّيات العصر الراهن باقتدار و تحقيق حضورها الفاعل و الواعي و المُؤثِّر إيجابياً في العالَم، الوحيدة التي بِدونها فإن قطار الزمن سَيُخلِّفها وراءه، ثورةٍ في الأفكار التي بداخل العقول. ثورة تُصالحنا مع كل الوجود : مع الخَلق، مع أنفسنا، مع العصر، مع الحياة، مع الدنيا، مع غيرنا، مع الخالق… هذا لن يُفضي طبعاً و بالتأكيد إلى نهاية المشكلات و النزاعات و التحديات بشتى أنواعها في حياة الأمة سواء أكانت أسبابُها داخلية أو خارجية، لكنه سيُفضي إلى تحوُّل نَوعي بل جِذري في التعامُل معها و يكونُ ذلك بأسلوبٍ إنساني حضاري رفيعٍ و راقٍ مدعوم بِرُوحانية عالية و أصيلة.
« التصوُّر الصحيح للدين قبل مُمارسته و تطبيقه هو الخطوة الأولى على طريق النهوض بالمجتمع الإنساني. » (عطية صقر)
من دون رَيْب يمكن إصلاحُ وضعِ الأمة فكرياً و دينياً، و بالتالي تربوياً و اجتماعياً، سياسياً و اقتصادياً، و من ثَم رفعُ شأنها حضارياً، لأني لا أعتبرُه قدَراً محتوماً كما قد يعتقد بعضنا حالياً… لا يجوز على الإطلاق و ما يَصِح أبداً، أن نستسلم لليأس و الإحباط و القنوط ؛ لا ينبغي أن نغرق في بحار التشاؤم، و لننظُرْ إلى المُستقبل بعُيون مِلؤُها الأمل. أجَلْ أنا مُؤمن و على يقين تام بأنَّ فجر صَحوَة حقيقية و شاملة لهذه الأُمة قادم، لكِنَّ الواقِع الذي ليس بإمكان أحد إنكارُه هو أن وضعها الراهن في مُجملِه سَيِّئ : حقاً هو وضع سيئ و مُؤسف لِلْغاية، تَحمُّلُه صعب و فَهمُه أصعب، حتى أصبح في كل الدنيا مَثار شفقة. أنا لستُ أنفي مُطلقاً وجود خيِّرين فُضلاء مُتزنين عُقلاء طيِّبين و بنسبة غير هيِّنة في أُمتنا. و لكنْ من المُهم للغاية أن نفهم أنه بدون رفع مُستوى الفكر و الثقافة و الوعي بين مُختلِف شرائح الأمة مع إصلاح عميق و شامل في مجال الفكر الديني فإن غدنا قطعاً و يقيناً لن يكون أفضل من اليوم… هزيمة العقل عندنا أنتجت مُسوخاً بشرية تتحرك دون وعي و على غير بصيرة. صِغار عُقول و طائشون في صُفوف الأُمة، طغوا في البلاد و أكثروا فيها الفساد و غدوا لا يستحقون حتى إسم إنسان ـ تُحرِّكهم شهوة التسلُّط على الخلائق لا الرغبة الصادقة في خدمة الإنسان ـ، بِسَببِ وَهم امتلاك الحقيقة النهائية المُطلَقة : الوهم المنحوس الذي جعلنا لا نتقدَّم خطوة واحدة في الإتِّجاه الصحيح منذ أمدٍ بعيد، و الذي غرسه في أذهاننا شيوخُ دين يَحْسَبون أنهم على شيء و هُم في ضلالٍ بعيد… تراهم يُعربِدون بِلا هوادة و لا يكاد يُفارق ألسِنتَهم لفظُ الجلالة - و لسنا ندري أي إله يعبُد مَن آدمِيَّتُه هي مَوضِعُ تساؤل و رِيبة. الفكر الديني المُزيَّف الشائع عندنا خَلَق جيلاً مُشوَّهاً مُهلِكاً لِنفسه و للمُجتمعات التي يحيا فيها، يكاد لا يُميِّز بين الخير و الشر بل لقد أثبت مِراراً و تَكراراً أنه لا يُفرِّق بين الصديق و العدو. لِذا سهُل على أصحاب الأطماع و المصالح المُتربِّصين بدُوَلنا أن يجعلوا منه سلاحَ دمار مُسلَّط على هذه الأخيرة !
يوم واحد لا أكثر بعد أن أطلق زعيم الكِيان المُحتَل عبارته "الأسد يلعب بالنار" تنطلق جحافل الجماعات المُسلَّحة و كأنها تعمل تحت أمره. و قد حصلتْ هذه الجماعات التي كانت بالأمس القريب تُصنَّفُ كتنظيمات إرهابية، على دعمٍ و مُناصرةٍ في الإعلام الغربي بشكل لافِت جداً و مُثير للتأمُّل و التساؤل. أكبر مُجرم في العالَم و أخطر إنسان على وجه الأرض، هو مَن أعطى هذه المجموعات المُسلَّحة إشارة الإنطلاق : لا شك عندي في أن تلك العبارة كانت بمثابة كلمة السر لِبَدء الهجوم الذي كانوا يُسلَّحون و يُعَدُّون له منذ زمن. كثيرون و أنا منهم، لم يستبعدوا الآتي : نتنياهو هو زعيمهم الحقيقي، و لَو لم يكونوا واعين بذلك. ألم يقُل و يُعلن، مُنتشِياً مُتفاخراً : « نحن مَن أسقطنا الأسد » ؟ مُباشرة بعد فَعلَتِه هذه وسط صيحات التكبير، دمَّر مُعظم و أهم المُقدَّرات الدفاعية لسوريا. هكذا و بَين عشِية و ضُحاها و في غفلة من الزمن و التاريخ، و فيما كان الجميع في أُمتنا مُنشغلاً بفلسطين التي لا تعني تلك الجماعات المُسلحة، تغيَّر المشهد الجِيُوسِيَاسِي في منطقة حَيَوِيَّة و إستراتيجية كُلِّياً… هذا ما أسموه "ثورة شعب". مَن كان يتخيَّل و لو لِلَحظة أن حُلم الصهاينة الأعظم، المُتمثِّل بمشروع "إسرائيل الكُبرى"، سيَستميت متديِّنون في أمتنا لِكَي يتحقق على الأرض ؟ أعمى القلب أو مُعطَّل العقل هو مَن لا يرى أن كبرى الحركات الإسلامَوية، هي اليوم الحليف الأهم و الأكبر في العالَم العربي لأعتى القوى الإمبريالية. مُؤشِّر على ذلك مُثير للإهتمام و الريبة في نفس الوقت : قبل أكثر من عشرة أعوام بقليل انتفض شعبٌ عربي بِكافة أطيافه مُطالباً بالرحيل حاكمَه، العضو في أكبر حركة إسلامَوية، و لكن هذا الحدث الجَلَل لم يُحتفل به من القوى الإمبريالية المُشار إليها و إعلامِها كثورة… حتى يومنا هذا أفراد تلك الحركة و هُم الذين يُكَفِّرون جُلَّ الخَلق، فقط لأن هؤلاء وَرِثوا أو اكتسبوا مُعتقداتٍ مُعيَّنة و ليس لأن سِيرتهم قبيحة، ما زالوا يَكْفُرون بهذا الحدث الجَلَل رغم أنهم شاهدوه بِأُم العَين : يا خائنين لِصَوْت ضميركم، متى تنتهون عن هذا الخَبَل ؟ حاولَ تنظيمُكم مرَّات إسقاط الدولة التي تحرَّرتْ من حُكمكم بثورة حقيقية و سِلمية، أعني مصر بالطبع، و لكنْ بفضل يَقَظة شعبها و حِرصِه على استِقرار بلده بَاءتْ بِالفشل هذه المُحاولات : هذا الشعب العظيم دمَّر خُططكُم الجهنَّمية ضِد بلده نِهائياً و لِلْأبد !
« الإنسان يَرتكِبُ الأفعال الشريرة بمُتعة أكبر عندما يرتكِبُها بإيمان ديني. » (بليز باسكال)
شهدنا العَجب : إسلاميون مارقون و ديمقراطيون و إنتهازيون و عِلمانيون و أعراب و صُهيونيون و إرهابيون مُغيَّبون و وُصوليون و أتراك و ليبراليون و إعلاميون و دِكتاتوريون و صليبيون إستعماريون في خندق واحد، يَطرَبون و يُصفِّقون و يُهلِّلون لشيء واحد، يُكافحون و يَطمحون و يعملون لهدف واحد، و لكنْ للأسف لَيس لأجل اجتِثاث المجاعة و مُحاربة الأمراض الفتَّاكة و استئِصال الفقر من على وجه الأرض و نُصرة كل المظلومين في العالَم مع أنَّ هذا الذي كان ينبغي أنْ يجمعهم على قلب رجل واحد… لو كان لديهم ضمير، لو كان عندهم دين. لو حقاً كان لهم قلب ينبُض بالإنسانية. لو فِعلاً كانوا شَغوفين بِحُقوق الإنسان. يُمكن بالفعل أن نجزم و نقول إن الكُفر مِلة واحدة و هي مِلة الأشرار الأوغاد و كل أعداء الإنسانية. الذي جمعهم على قلب رجل واحد هو مُهمة قذرة : إسقاط و تدمير دولة، مع تسمِيَّة ذلك الهجوم الغادر المُباغت تحريراً، لمُواطني هذه الدولة. هذه الدولة التي دُمرت مُقدَّراتُها العسكرية في غَمرة ذلك التحرير المزعوم، و فُكِّك جيشُها بمُباركة ضِمنِية من كل المُشاركين في إسقاط حاكمها السابق… و كما كان مُتوقَّعاً استُبدِل هذا الجيش بجيش آخَر مُؤلَّف من الفصائل المُسلَّحة. أما الماكينة الإعلامية الضخمة الهائلة التي اشتغلتْ على مدار الساعة لتغييب و تعطيل و تخريب الوعي الجَمعي العربي، فقد قدَّمتْ عملية السطو هذه على أنها إنجاز مُبارك يحمل الخير و المستقبل الزاهر لِسُكان البلد المُستهدف و لكافة العرب… لستُ واثقاً من أن "الشعب المُحرَّر" هو الآن بأيْدٍ أمينة. أشياء فظيعة تحدُث يومياً بالبلد "المُحرَّر" و لا عويل بشأنها في إعلام مَن "حرَّرُوه". الغرب الرسمي الذي لطالما ادَّعى و أظهر رفضاً و مُعارضةً شديدة للإسلاميين السياسيين، دعَم و مكَّن إسلاميين مُتشدِّدين مُتطرِّفين من الإستيلاء على دولة عربية في مُنتهى الأهمية. و الجميع لاحظ و شاهد عملية التجميل التي حظِيَ بها هؤلاء من وسائل الإعلام العالَمية و بالأخص ذاك الذي تم تنصيبُه رئيساً لهذه الدولة : أريد معرفة رأيكم بهذه المُفارقة، بدون مُواربة و من غير مُداورة و بلا مُراوغة - إن كُنتم حقاً و فعلاً تؤمنون بِوُجود و رقابة الله -، يا مشايخ و مُفكِّري الإسلاميين. بعض مَن كُنا نحترمهم واصفين إياهم بعُلماء الإسلام، تبَيَّن لكُل بصير أنهم في واقع الأمر عُملاء الإستعمار…
أَوراق اللُّعبة الخبيثة التي غرِق في مُستنقعها العديد من رجال الدين تكشَّفت لِكُل مُبصر، و هذا الإنحطاط الأخلاقي و الإنساني المُريع المُفجع عاقبتُه ستكون وخيمة عليهم حتماً : سيلعنُهم التاريخ و اللاَّعنون، لأنهم غَرُّونا و غدروا بنا عن عمد و بإصرار و هم يُقامرون بمستقبل أمتنا، بإنخراطهم المُعلَن في مشروع خطير بات واضح المصدر و الغاية و المعالِم، سيندَمون يوم لا ينفع الندم. المُغيَّبون بالكامل عن الواقع، و كذلك العابدون لِهَواهم السياسي، تعليقُهم على كلامي سيكون : هذه نظرية "مُؤامرة" سخيفة جداً. لهؤلاء أقول بدون مُواربة : لا يستنكر أو يستفظع مُصطلَح المؤامرة، إلاَّ الضالعون و المُنتفعون من المؤامرة… يُضاف إليهم بعض مُخدَّري الوعي، و ما أكثرهم في بلاد العرب اليوم ! يُعْزى ذلك بالدرجة الأولى إلى انحسار القراءة الرصينة الجادة المُمحِّصة المُتأنِّية و المُنفتحة المَوضوعية المُقارِنة بين ظَهرَانَيْ هؤلاء بشكل رهيب و مُذهل في الفترات الأخيرة، مِما جعل قنوات تلفزيونية تُصبح المرجع الذي يصوغ الرؤيةَ الجماعية و العاملَ الأبرز في صناعة الرأي و التوَجُّه الفكري و السياسي للأغلبية الساحقة من أبناء الأمة العربية. فللأسف يبدو أن غالبية أفراد هذه الأمة بما فيهم المُثقفين لا يُدركون من الأمور إلاَّ قشورها. لستُ مَهووساً بتلك النظرية و لكني أيضاً لست بالذي يُغمض ناظِرَتَيه أمام الحقائق. لا عجب إذَن إنْ رأينا في كل مناطق العالَم فَيالقَ عُملاءِ و أذنابِ و وُكلاء القوى المُتسلطة على رقاب العباد بالكذب و المكر و الغش و الإرهاب المُفبرَك، من سِياسيين و اقتصاديين و أصحاب مصالح و إعلاميين و جامعيين، يُحذِّرون بإستمرارٍ و بشدَّةٍ و بإلحاحٍ المُواطنين المخدوعين من التفسير المُؤامرتي للأحداث الهائلة و الغريبة التي أَوصلتنا إلى حالة تُنذر حقاً بِشَر مُستطير… فبِسُرعة البرق و بشكلٍ مُفاجِئ و في تَوْقيتٍ مُريب يتمُّ إسقاطُ نظام دولة مُهمة، و لكنْ يُطلب من الناس أن يُصدِّقوا بأنه لَيْس هُنالك على الإطلاق أي مؤامرة : هذا نوعاً ما صحيح لأن اللعِبَ بات على المكشوف و حتى مُصطلَح "مؤامرة" ما عاد يصلُح لتَوْصيف الأمور الجِسام التي تحدث أمام أعيُن العالَم. التوصُّل إلى هذا الإستنتاج لا يتطلب عناءً في البحث و لا مشقة أو براعة في تحليل و قراءة الأحداث…
« قليلون هم الأشخاص الذين لهم جُرأة الدفاع عن الحقيقة. قليلون هم الذين يختارون السَّيرَ عَكْسَ التَّيارات السائدة كَيْ لا يخونوا صَوتَ ضميرهم. » (كميل زيدان)
« الحق أحق أنْ يُتَّبع و العدل أَولى أنْ يُلتزم، بِغَض النظر عن عواطف الحُب و مشاعر البُغض، و هذا ما تفتقر إليه مجتمعاتُنا. فهي تفتقر إلى الرجال الذين يُقيمون العدل و لَو على أنفسهم، و يعترفون بالخطأ إذا أخطأوا، لا يمنعهم مِن إعلان ذلك كِبرٌ و لا هوى و لا خجل، و هذه هي الشجاعة الأدبيَّة و هي الأمانة حقاً. » (يوسف القرضاوي) المصدر : https://x.com/alqaradawy/status/1765391903514890729
« الحقيقة مهما كانت مُؤلمةً أفضل كثيراً من الوهم. و الجراح تبرأ بعد حين، أما الإستمرار في تجاهُل الحقيقة فلا عائدَ له في النهاية إلاَّ الضياع. » (عبد الوهاب مطاوع)
القناة الإعلامية التي شاركت بحماسة مُدهشة في صناعة هذا المشهد، و التي قد سببتْ من قبل تدميرَ أو إضعاف بعض أوطاننا تحت سِتار ربيع الديمقراطية المُنعدمة بالدولة المالكة لها، العرب الذين قاطعوها بكثافة لِمُدة سَرعان ما سلَّموها عقولَهم من جديد. أتحدث عن قناة الجزيرة. الأحداث الجسيمة التي أُطلِقتْ عليها تسمية "الربيع العربي" لعبتْ فيها هذه القناة دَوراً بارزاً بل حاسماً. أنا شخصياً استَبشرت في بِدايات "الربيع العربي" مِثل الكثيرين من أبناء هذه الأُمة. لكنْ اتَّضحتْ لي حقيقتُه المسمومة عندما وصل قطارُه إلى ليبيا : الحرب الكَونية التي شُنَّت على هذا البلد و أفضت إلى تصفِية قائده بِوَحشِية، بِدَعوى "ربيع" الحرية، كان عرَّابَها علانِيَةً و على مَرأى من الجميع أحدُ أقطاب الصهيونية العالَمية… تذكير بأحد مشاهد يَومَئِذ، و هو مشهد سُرْيالي بِحق : صهيوغربيون يقصفون البلد و، تجاوُباً معهم، إسلاميون يُهلِّلون و يُكبِّرون الله ! تجييش و تحريض إعلامي مسعور ضِد شخص الزعيم المغدور به كان المُمهِّد لِما تعرَّض له بلده من عُدوان ظالم غاشم، إذ بِفعل قنوات إخبارية مُجرمة و في مُقدِّمتها قناة الجزيرة، تمَّت تعبِئةُ الرأي العام بعد السيطرة عليه و بارك الضميرُ العالَمي المُنوَّم هجمة شرسة و جبانة ضد بلد لم يعتدِ على أحد : بالكذب تمَّ السَّطو على هذا البلد في وَضَح النهار… و زُج به في نفق مُظلم طويل خسر فيه الكثير بعد أن كان ينعم و يتمتع لا أقول بِوَضع خال من المشاكل، فما أكثر هذه الأخيرة بِأغلب دُوَل العالَم بدءاً بالدول التي نفَّذت العُدوان العسكري، و لكنْ بالأمن و الإستقرار و السلم الإجتماعي و بإقتصاد مُزدهر و أيضاً بِمُستوى معيشي لائق و مُحترَم. الزعيم المغدور به إنسان يُخطئ و يُصيب و لكنَّ الحقيقة التي لا تقبل الشك هي أنه بنى بلداً واعداً، أما قَتلَتُه و شُركاؤُهم في الجريمة و جميعُ مَن فرِحوا بها فما الشيءُ الإيجابي الذي قدَّموه لهذا العالَم ؟ طبعاً تجريمي الذي لا هَوادة فيه لتلك القناة - "الجزيرة" التي عبَثتْ بالوعي العربي العام بِصورة مُفزعة - ليس تجريماً لكافة الذين يعملون بهذه القناة. أنا أتحدث عن هذه القناة كمنظومة و أعتبرها خنجراً مسموماً في قلب الأمة…
لو كُنا شعوباً عاقلة واعية مسؤولة لخرجتْ في العواصم العربية جماهير غفيرة تُطالب بإستِنطاق و مُحاكمة مسؤولي هذه القناة و إغلاقها للأبد… هذه القناة التي بدل الإعتذار عن دورها الفِتنَوي في الأمة، نراها مُصِرة و ماضِية في غَيِّها دون أدنى إحساس بالذنب. الله العليم البصير ما يخفى عليه مكر و فَبْركات الإعلام الشِّرير، و لا غدر خُوَّان قُدِّموا كثُوار مَيامين من طرف الإعلام المُتآمِر. المسلمون في شعيرة الصلاة يقولون أثناء السجود : "سُبحان ربي الأعلى" ؛ بعد استفاقتهم المُتأخرة قد يقولون أثناء السجود : "اللهم إلعَن قناة الجزيرة". أيُّها العرب شِبه مُؤكَّد أن أغلبكم قد تابع مجريات "الثورات الربيعية" بشكل كبير أو رُبما حصري بواسطة قناة الجزيرة. بأُم أعينكم ما رأيتم شيئاً… أقف حائراً و مذهولاً أمام مُفارقة : هذه القناة المملوكة لدِكتاتور و التي لعبت أدواراً تخريبية مُوَثَّقة بالكامل ضد بُلدان العرب، إقتنع الجمهور الذي زيَّفتْ وعيَه بأنها شَغوفة بنشر الديمقراطية و مغرومة بتحرير العرب. على فِكرة : حتى في أهم و أبرز دُوَل الغرب - مفكِّرون كِبار من أبنائه يُقِرون تماماً بهذا - الديمقراطية القائمة مُجرد وهم… الدولة التي تَبُث منها هذه القناة يُقضى فيها بالسجن مدى الحياة على شاعر بسبب قصيدة انتقد فيها الحاكم، الدولة نفسُها تستضيف قاعدة عسكرية أمريكية ضخمة منها انطلقتْ طائرات لتقصفَ بعض بلدان العرب. الجمهور المُستغفَل لم يَعِ بَعدُ ما هو أوضح من الشمس و أقصد كَوْن تلك القناة الإعلامية و تلك القاعدة العسكرية تعملان سَوِياً لنفس الهدف و في إطار أجندة واحدة. لقد أُنشِئتا في نفس السنة بدولة قطر. الدولة التي استحقتْ - أتحدث عن نظامها لا عن شعبها - بالفعل لقب قَطرائيل. "الجزيرة"، يا عرب : سُمح لها بِتغطية تبدو في الظاهر داعمة لقضية العرب الأولى و الأُم و هي فلسطين، سُمح لها بذلك لِتَتمكنَ أولاً من احتِلال عُقول العرب ثم تَغدِرَ بهم في الوقت المُناسب…
« إنني لم أُعكِّر صَفْو حياتهم أبداً، إنني فقط أُخبرهم بالحقيقة، فيرَونها جحيماً. » (هاري ترومان)
أتمنى الهناء و الإستقرار و كُل الخير لسوريا و لكنني لست متفائلاً بخُصوص القادم. يَصعُب عليَّ التفاؤل لأنني لاحظت أن أئِمَّة الشر في عالَمنا كانوا أوَّل المُهنِّئين لِشعب هذا البلد. أليس واضحاً و جلِياً أنهم في حقيقة الأمر، أعني مَن كانوا في طليعة المُهنئين، أليس واضحاً أنهم مُخرِجو و مُنتِجو الفيلم ؟ بعد عدوان دولي غير مسبوق استمر لسنوات طويلة و عقوبات اقتصادية وحشية، و كل ذلك أنهك بلده إلى درجة لا توصف، ها هم يقتلون معنوياً الحاكم الذي أسقطوه و ذلك عبْر شَيْطنة فِجَّة تَرمي إلى الآتي : تبرير كل ما ارتكبوه من شُرور لا تخطر على بال إنسان و تمرير كل ما سيفعلونه على إثر نجاح المُخطَّط و المُؤامرة. الأمور باتت واضحة جليَّة و مُؤشِّرات "إسرائيل الكبرى" قد أصبحت واقعاً مُتجذِّراً على الأرض… و الله لو أن الحاكم المُتآمَر عليه خضع لِشُروط خصومه الكبار و ما رفض عُروضَهم المُغرية لكان له في هذه اللحظة شأن آخَر. يقيناً الرجل ليس ملاكاً و هذا ليس طعناً فيه في الحقيقة، إذ يكاد يستحيل أن يتصرَّف كملاك مَن يعمل بالسياسة : بكُل بساطة لأن عالَم السياسة قاسٍ للغاية و ليس حديقة حيوانات أليفة، و الذين تآمروا على الرئيس السوري السابق، هُم في بعض المواقف أكثر شراسة و وحشية من الحيوانات الضارية. نعم لِنظامه دون شك مساوئ، هناك مُواطنون وقع عليهم خلال حُكمه ظُلم و هذا يحدث في كل الدوَل - الإعلام المُضلِّل المُجرم يُحاول إيهامنا بأن أغلب الشعب عانى الأمرَّيْن -، له أيضاً دون رَيب محاسن. لكنْ ما سِر هذا التحامُل المحموم عليه من طرف قوى الإستكبار العالَمي و أذنابها في الأمة ؟ السر يكمُن في ابتهاجٍ و فرحةٍ لا توصَف لزُعماء "إسرائيل" بما حدث و تصريحِ كبيرهم وسط صيحات التكبير : « إن سقوط الأسد، هو يوم تاريخي. » ما كانوا بِحاجة إلى تشويه سُمعته و شَيطنته، بهذا الأسلوب البائس، لَو كان كما زعموا مبغوضاً من مُعظم شعبه… لو كان كذلك لتمكَّنوا من الإطاحة به في بدايات "الربيع العربي" و ذلك بمُظاهرات سِلمية عارمة بكُل أنحاء البلد. شخص يتآمر عليه هذا الكم الكبير من الأشرار و المجرمين ضد الإنسانية، لن يُقنعني إعلامهم المُتحيِّز و المُغرِض بأنه كائن شيطاني عديم الإنسانية. فقد كان هذا أحد أهداف تلك الشيطنة الإستثنائية. شَيطنتُه التي نسيت أن تنسِب له ما يُسمي "التغيُّر المناخي" تخدُم هدفاً خبيثاً شريراً خسيساً آخَر و هو : إظهار المخلوق الأكثر من مشبوه الذي سلَّموا له البلد، في صورة مُخلِّص أرسلته العناية الإلهية، و بالتالي فإن سيِّئاته مغفورة بسبب حسناته العظيمة، التي في مُقدمتها طبعاً إنقاذ و تحرير شعب… أشعلوا حرباً أهليَّة دامية طاحنة مُدمِّرة خططوا لها على مَهْل زمناً قبل الربيع العربي المسموم ؛ بذلوا جهوداً جبارة و أنفقوا بسخاء كبير جداً بل لا محدود و ذلك لدعم و تمويل "جهاد" جماعات مُتطرِّفة زوَّدوها بكمِّيات هائلة من الأسلحة و شَواهِدُ كل هذا مَوجودة ؛ لكنَّ المُتآمرين لم يكتفوا بهذه الجريمة الفظيعة فراحوا يُعلنون للعالَم بواسطة إعلامهم المسموم : « الأسد هو أصل المُشكلة، الأسد هو سبب المُصيبة. » قبل ربيع خيانة الأوطان و تسليمها لِلْمُحتَل بإسم الثورة، هذا البلد مع مشاكله و نقائصه كان بِحالة جيِّدة عُموماً. هُنا أجرُؤ على التقدُّم إليك بالإعتذار عن جميع المرَّات التي لعنتُك فيها يا مَن يُسَمونك إبليس، لأني أكاد أقتنع بأنه يُوجد بَين البشر و خاصة في بعض الأوساط كائناتٌ هي أَسوأ منك بكثير !
ربيع الشؤم هذا أثبت لنا بِما لا يدع مجالاً لأدنى شك أن بعض رجال الدين هم بلا دين في واقع الأمر و أنهم من أبعد الخَلق عن الإلتزام بأقدس تعليمات الله. فلقد فعلوا أشياء و قاموا بمُمارسات لا مُبرِّر لها، منطقياً و أخلاقياً، و غير سَوية بمِقياس الشرع و الإنسانية و العقل : الإسلام صار بُعبُعاً بسبب هؤلاء الذين حوَّلوه إلى ماكينة لإنتاج مُجرمين و مُبارِكين للجريمة لا يتحرَّجون أبداً مِن إعلانها عملاً صالحاً مُتميِّزاً بإسم الإسلام… يا إسلاميين مُتعامين عن حقيقة ما يقوم به أردوغان، و يا شيوخ الزور و الفِتنة المُستمرين بلا كلل في التلاعب بعقول البُسطاء و استغلال عواطفهم الدينية لخدمة أغراض دنيوية و أجندات سياسية، يا خائنين لِصَوْت ضميركم و أنتم تغدرون بالأوطان : يا كُل هؤلاء بأي وجه ستُقابلون الله ؟ تُكفِّرون و تَتوعَّدون بجهنم مُعظم عباد الله - و ترفُضون و تستبشِعون حتى الدعاء لِمَن مات منهم بالرحمة - بَينما أنتم تَتصرفون كما لَو أنه لا وجود لله. سؤال مُستفز، و لكنه بريء : هل حقاً تُؤمنون بوجود الله ؟ إذ يبدو أن الدين الجديد الذي أتانا به "الربيع الصهيوإسلامَوي" تتلخص أحكامه و تعاليمه في الآتي : « و العصر، إن الإنسان لَفي خُسر، إلاَّ الذين كفروا، و عملوا الطالحات، و تَواصَوْا بالكذب، و تَواصوا بالغدر. » التواصي بنشر الأكاذيب و الشائعات، بِفَبركة الفيديوهات المُضلِّلة، التواصي بالخيانة و الغدر بالأوطان : أَهذه أفعالُ مؤمنين بالله ؟ هل معارضتي لحاكم بلدي، إضافةً إلى رغبتي في الإصلاح و التغيير، تُبرِّر الخيانة و الغدر بِبلدي ؟ لقد نجحتم في خِداعِ بعض الناس، هل تستطيعون خِداعَ رب الناس ؟ الله موجود يا قوم، و هذا ما نَسيتُموه… الكفر في اللُّغة يعني حَجْب و إخفاء و كتمَ ما نعلم يقيناً بِقرارة أنفُسنا أنه حق، إعترِفوا أن هذا ينطبق عليكم تماماً، يا أبرع المخلوقات البشرية في اللف و الدَّوران لتبرير إصراركم على الكفر. أمر لطالما حيَّرني، و سيظل يُحيِّرني : كيف يُمكن أن يجتمع التصديق بوجود الله و نُفورٌ شديد من الحق في قلب إنسان ؟ أُكرِّر سؤالي المُستفز، و الذي أُؤكِّد أنه بريء : هل حقاً تُؤمنون بوجود الله ؟ و الله إنه أمر غريب، و في منتهى الغرابة : قوم مُمارساتُهم تُثْبت و تُؤكِّد أنهم من أكفر البشر و مع ذلك يُنادون جُل هؤلاء بالكفار… هُم العاجزون عن الإقرار بأشياء تحدثُ على أرض الواقع و بمُعطَيات مَلموسة مشهودة، يَعتبرون كفرةً أو مشركين "مُستحِقين لِعذاب لا ينتهي"، أُناساً و أقواماً يُنكرون أو يَجهلون أو لا شأن لهُم بما هو بالنسبة لنا حقائقُ غَيبِية مَوروثة. ما الأشنع، إذَنْ، و الأفظع : إنكار غَيبِيَّات أم إنكار مَرئِيَّات ؟ مَن الأَوْلى بِوَصف و تسمِيَّة كافر : الجاهل بغَيبِيَّات أم الجاحد لِمَرئِيَّات ؟ مِن حق كل فرد عاقل أن يطرح هذا السؤال و يَجِدَ له إجابة مُقْنِعة للعقل و مُطَمئِنة للفؤاد. إنتهوا عن غيِّكم يا قوم !
« حسبي إيماني بما أكتُب، و بضرورة أنْ أكتُب ما أكتب، و بخطر أنْ لا أكتُب ما أكتب. » (فرج فودة)
اللهم امنحنا البصيرة لنرى الأشياء على حقيقتها فلا نَضيع أو نضِل في خِضم الأحداث المُتسارعة و الفَوضى التي تُحيط بنا من كل جانب. اللهم اهدِ هذه الأُمة المُحيِّرة سُبلَ السلامِ و الرشاد و الوعي الصحيح و الفهمِ السليم للأمور، اللهم اهدِ هذه الأُمة المُحيِّرة سُبلَ الإستقامةِ السلوكية و الفكرية و كلِّ ما يمنعُها من الإنتحار… أحد أعظم الدروس و العِبر المُستفادة من "الربيع العربي" الزائف الذي فاقت سَلبياتُه إيجابياتِه بكثير : التغيير المنشود و هو بالطبع الذي يأتي بالأفضل و الأحسن، لا يكفي فيه استبدال حاكم بآخَر إذ يتطلب أَولاً و قبل كل شيء إيقاظَ وعي الأمة و إصلاحَ فكرها و ترشيدَ سلوكها و تصويبَ حركتها، و لا يكون بالعِمالة للأجنبي و جَلبِ الإحتلال لأرض الوطن. الدوَل التي اجتاحها الإعصارُ المُسمى بالربيع العربي، هي اليوم تَغُص بسَماسِرة و مُحترفي صناعة الفوضى و الخراب ؛ لأن أمنها القَومي قد تم اختراقُه بصورة مَهولة، و باتت مرتعاً لجماعات الشر و الجريمة المُنظمة و لكل مُخابرات العالَم. مُحال أن يجد و يجني الخير، مَن يستعين بناهبي الخَيرات… تباً لربيع قام على شراء الذِّمم و الضمائر الرخيصة يمنةً و يسرةً و على زرعِ و تغذية الأحقاد الطائفية و القبَلِية و المذهبية ؛ سُحقاً و تَباً و بُعداً لربيع خيانة الأوطان التي أصبحت بالمُناسبة وِجهة نظر سياسية أو حتى عملاً صالحاً تحت غطاء الرغبة المشروعة في التحرُّر من نِير الإستبداد ؛ تباً لربيع قُلبت فيه الحقائق رأساً على عقب و شهِد مُمارسةً للكذب بشكل و على نطاق غير مسبوق و هكذا صار علينا نِقمة : تباً لربيع ما أثمر زهوراً بل الأشواك لأنه قام على الرِّدة الكاملة عن كل التعاليم الإلهية و القِيَم الإنسانية ! الخيانة و التفاخر بها و ارتكابُ جميع المُنكرات و المُوبقات و التواصي بالكذب و الغدر : تلك هي أهم مبادئ و مُقوِّمات الخريف الدموي الذي سُمي زوراً و بُهتاناً بالربيع العربي. الربيع العربي الوهمي جعلني أجزم بكل ثِقة أن الكفر، تتعدد مظاهرُه و أشكاله و مذاهبه، و تتضارب مصالح و أهداف شِيَعِه، لكنه في الجوهر و الأساس و في النهاية مِلة واحدة : إنها مِلة فاقدي الضمير و غيرهم من أعداء الإنسان، هؤلاء فقط لا غير مَن أستطيع أن أنعتهم بأعداء الله. دون أي اعتبار لإنتمائهم أو عدم انتمائهم الشكلي لِدين ما… لا مفر من تحديد المسؤوليات حَول ما جرى بأمانة و موضوعية مع وصف دقيق لِمسار الأحداث التي أوْصلتْ إلى هذه الحالة الكارثية. و حتماً لن نتدارك ما يُخبِّئُه قادمُ الأيام للأمة ما لم نَستفِق مِن سكرتنا التي طالت كثيراً و نَستَوْعِب الدرس جيداً : الإصلاح الحقيقي لا يَتِم بهذه الطريقة، بتخريب بُيوتنا بأيدينا قبل أيدي أعدائنا التقليديين، يا مَن تدَّعون أنكم ثُرتم بُغيَة الإصلاح. واجب أكيد مُحتَّم أن يعتذر للأُمة، الذين بِدَعوى "الربيع العربي"، تآمروا مع الأعداء ضِد هذه الأُمة… ربيع الأمة الحقيقي تَصنُعه ثورة الوعي. ثورة الوعي أكثر من ضرورية لخلاص الأرواح و الأجساد و الأوطان معاً. و خُسران معركة تحرير الوعي و تنويرِ الأذهان في بلداننا معناه انهزام أُمتنا في معركة الحضارة. سننتصر في معركة الحضارة و نُحبِط جميع المؤامرات التي تُحاك ضدنا داخلياً أو خارجياً، يوم يكون أبناء الأمة و بالخُصوص نُخبُها على قدْرٍ عالٍ من الوعي و الإحساس بالمسؤولية. إحساسي العميق أن الأمة مُقبلة على تغيُّرات مصيرية… أمر بالغ الأهمية : فكرُنا الديني المُتداوَل إنْ لم يتجدَّد، فإنَّ أحلامنا بمُستقبل أفضل ستتبدَّد. هل بقي شك حول حاجتنا الماسة إلى تجديد فكرنا الديني، هل بقي شك بخُصوص طابَعِه الضروري و الإستعجالي ؟ الأمل لم يمُت. لكِنْ لا أمل في مستقبل أفضل لأُمتنا الضائعة ما دُمنا مُواظبين و مُصممين على رفض التواصي الأخوي الهادئ بالحق… النهوض بالحق عسير بلا شك لكِنَّ التواصي بالحق ضرورة. المستقبل الذي نُريد و نرجو بُلوغَه لن تصنعه الأوهام بل الحقيقة. أقصد الحقيقة التي بإمكاننا كَبشر الوصولُ إليها و الإتفاقُ حولها، إذا تَوفَّرت لدى جميع الأطراف النِّيةُ الخالصة و الإرادةُ الصادقة. المستقبل ينتظرنا. و التاريخ يُنادينا : فلقد طال كثيراً غِيابُنا شِبهُ التام عن الفعل التاريخي الإيجابي، و أُمتنا هذه بَقِيتْ دهراً طويلاً على هامش التاريخ و الحضارة.
« إن الشعوب التي لا تُبصر بِعُيونها سَوف تحتاج إلى هذه العيون لِتبكي طويلاً. » (محمد علي الغتيت) « إن الوضعَ خطير، لكِنَّه لا يدعونا إلى اليأس من إصلاح ما نحنُ فيه. » (مالك بن نبي، "شروط النهضة"، 1949) « في غَمْرة الموت تستمر الحياة، في غَمْرة الكذب تستمر الحقيقة، في غَمْرة الظلام يستمر النور. » (غاندي)
تمَّ بيوم 23 فبراير 2025، و الحمد لله رب العالَمين.
أحمد إدريس الجزائري (مقيم بفرنسا)
#أحمد_إدريس (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من نتائج تكفير فُقهاء الدين الإسلامي للغالبية العُظمى من بني
...
-
الذين يُفبركون أخباراً كاذبة لأغراض تخريبية مُجرمون ضد الإنس
...
-
هذا أفضل ما يُمكنني فعله لفلسطين
-
النبي لم يكُن سلفياً
-
هل هذا الفكر «الديني» يساعد الأمة ؟
-
عن اغتيال إسماعيل هنية رحمه الله : أين الخلاص ؟
-
هيهات لأدعية أنانية أن تُستجاب !
-
تقديس و تقليد «السلف الطالح» مرفوض قطعاً !
-
داعش… و ما أدراك ما داعش !
-
لست المهدي المنتظر
-
« لِمَ هذا الخذلان ؟ نحن لسنا كفاراً، نحن مسلمون ! »
-
تحيَّة لإنسان عظيم
-
تعليق بريء على دعاء…
-
سنة جديدة طيِّبة للجميع
-
شتان بين -الكونفوشِيُوسِيين- و -المُحمَّدِيين- مع الأسف !
-
«يحرم و لا يجوز الترحُّم على غير مسلم» : كيف يصدر هذا عمَّن
...
-
عنصرية حتى في الدعاء !
-
أخشى أن يكون أكثرُنا للحق كارهاً !
-
لا بد من إعادة الأمور إلى نصابها مهما كلف ذلك…
-
آن الأوان !
المزيد.....
-
سانا: الرئيس السوري أحمد الشرع يجتمع مع وجهاء وأعيان الطائفة
...
-
أحمد العبادي يسائل السيد وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية بشأن
...
-
المشاط: شهادة السيد نصرالله مثلت اعلى تجسيد للوحدة الاسلامية
...
-
المقدسيون يودّعون قارئ المسجد الأقصى الشيخ داود عطالله صيام
...
-
الفاتيكان: حالة البابا فرنسيس لا تزال حرجة لكنه في وعيه
-
الفاتيكان يصدر بيانا مطمئنا بشأن البابا فرانسيس
-
الفاتيكان: البابا ما يزال في وضع صحي حرج لكن حالته مستقرة
-
الجهاد الاسلامي: الاجراءات القمعية بالضفة تؤكد مأزق الاحتلال
...
-
الجهاد الاسلامي: العدو تجاوز كل الحدود بمشروع الضم بما فيه م
...
-
الجهاد الاسلامي:يتمددالاستيطان وتفرض الوقائع بتواطؤ اميركي و
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|