|
تاملات في كتاب مهزلة العقل البشري للدكتور علي الوردي(طبيعة المدنية)احلقة 2
علي ماضي
الحوار المتمدن-العدد: 1795 - 2007 / 1 / 14 - 13:48
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
في الفصل الأول من كتاب مهزلة العقل البشري ،والمعنون طبيعة المدنية ،يطرح الدكتور الوردي موضوع الاختلاف والاتفاق وفقا للتصورات التي خلص إليها في المقدمة 1، فيما يخص المقارنة بين المنطقين القديم والحديث. والدكتور الوردي في كل مؤلفاته يعمد إلى استخدام الثنائيات المختلفة"المتناقضة"2 ،ولعله يقصد من وراء ذلك ،حثّ العقل على التفكير ،لأن العقل منظومة تتحسس الاختلاف،(حسبي أن افتح الباب للقراء لكي يبحثوا ،ويتناقشوا ،فالحقيقة هي في الواقع بنت البحث والمناقشة)3. فهو يبدأ الفصل مبينا أن المنطق القديم يتبنى فكرة الاتفاق والتعاون وينبذ الاختلاف والفرقة (كان المفكرون الطوبائيون ولا يزالون ،يمدحون التعاون والتآخي واتفاق الكلمة ،.....وهم قد اجمعوا على هذا الرأي ..لم يشذ منهم أحداً)4. أما المنطق الحديث فهو لا ينكر ما للأنفاق من منافع ،ولكنه في ذات الوقت لا ينكر ما له(الاتفاق)من أضرار ،وبذلك سيكون مقدار ما يقدمه (الاتفاق)من منافع هو العامل المرجح ،وليس بهاء الفكرة وزخرفها اللغوي، أو مطابقتها للمنطق المجرد بغض النظر عن الإمكانية العملية للتطبيق على ارض الواقع(نحن لا ننكر صحة هذا الرأي الذي يقولون به :فاتفاق الكلمة قوة للجماعة بلا ريب ولكننا لا نستطيع أن ننكر ما له من أضرار ....في الوقت ذاته . أن الاتفاق يبعث على التماسك في المجتمع ،ولكنه يبعث فيه الجمود أيضا ،اتحاد الأفراد يخلق منهم قوة لا يستهان بها تجاه الجماعات الأخرى،وهو في ذات الوقت يجعلهم عاجزين عن التطور أو التكيف للظروف المستجدة. أن التماسك الاجتماعي والجمود توأمان يولدان معا،ومن النادر أن تجد مجتمعا متماسكا ومتطورا في آن واحد. "لذا تراه ينتقد القدماء بقوله":والقدماء حين ركزوا انتباههم على الاتفاق وحده إنما نظروا إلى الحقيقة من وجه واحد وأهملوا الوجه الآخر....وهم بذلك قد أدركوا نصف الحقيقة ،أما النصف الآخر منها فقد بقي مكتوما لم يجرؤ أحدا على بحثه )5. ولعله يقصد من وراء عبارة(لم يجرؤ احد على بحثه) طوق الموت الذي ضرب حول كل من تسول له نفسه أن يأتي بجديد خشية أن يتهم بأنه كان سببا لفرقة الكلمة وهي جمعاء ،فيضرب بالسيف كائنا من يكون ،بحسب ما روي في النص النبوي(من فرق أمر هذه الأمة وهي جمعاء فاضربوه بالسيف كائنا من يكون) ،ولطالما أستغل هذا النص ليكون المقصلة التي وأدت كل محاولات العقل العربي للخروج من تحت جلباب الآباء والأجداد ،وخصوصا محاولة العقل العربي في الصحوة الفكرية في العصر العباسي ،( حيث ..أُحرِقت كتب المعتزلة، والفلاسفة، وكتب الفرق المخالفة. ووضعت آراء المعارضة في ذلك الوقت، خارج العقيدة القويمة، التي أعاد تأسيسها أبو الحسن الأشعري، ومن أتى بعده من أئمة المتكلمين، وبخاصة بعد صدور" المنشور القادري"، الذي أصدره الخليفة القادر بالله ، واعتُبر هو الفكر الديني الوحيد للمسلمين، وأن من خالفه فقد فسق وكفر وسادت القراءة الحرفية الجامدة للنصوص. ومنذ أن أعلن الخليفة القادر بالله في جوامع بغداد، بأن من يقول بأطروحات المعتزلة فدمه حلال، لم تقم للقراءة العقلانية قائمة في أرض الإسلام. وتم في ذلك العهد قتل المعتزلة وغيرهم من المعارضين، ونفيهم، ولعنهم على المنابر، وتشريدهم من ديارهم ).6 بات من الواضح أن المنطق الحديث الذي يدعوا إليه الدكتور الوردي يفضل الاختلاف على الاتفاق ،ولكن هذا لا يعني انه يرجح الاختلاف بشكل مطلق ،فالمنطق الحديث يفرق بين الاختلاف الذي يبعث على التطور ،والآخر الذي يبعث على التخلف،(أن التنازع الذي يؤدي إلى الحركة والتطور يجب أن يقوم على أساس مبدأي لا شخصي ، فالمجتمع المتحرك هو الذي يحتوي في داخله على جبهتين متضادتين على الأقل ،حيث تدعو كل جبهة إلى نوع مبادئ يختلف لما تدعو إليه الجبهة الأخرى.....وبذلك يتحرك المجتمع إلى أمام)7. فالاختلاف يعني الحركة إلى أمام ،والحركة إلى أمام تعني التطور، وعلى هذا الأساس تجد أن المجتمعات الحديثة أصبحت توفر مناخات مناسبة للاختلاف ،كما هو الحال في تصارع الأحزاب السياسية في الدول المتقدمة حضاريا،أو الصراع الاقتصادي الذي ينشب بين كبريات شركات الإنتاج العالمية. أما الشكل الثاني من الاختلاف هو ذلك الذي ينشا بين أوساط المجتمعات البدائية (التي تؤمن بتقاليد الآباء والأجداد إيمانا قاطعا...ولكن تنازعها قائم على أساس شخصي لا يمس التقاليد بشيء. كلهم مجمعون على التمسك بها لا يخرجون عنها قيد أنملة،وكثيرا ما يكون تنازعهم ناشئا عن تنافسهم في القيام بتلك التقاليد ..)8. للاختلاف محاسنه ولكنه كظاهرة اجتماعية لها مساوئها أيضا ، المجتمع المتحرك هو مجتمع قلق ،ولعل هذه من ابرز مساوئ المجتمع المتحرك كما يبرزها الدكتور الوردي بقوله:(فليس هناك في الكون شيء خير كله أو شر كله، فالحركة الاجتماعية تساعد الإنسان على التكيف من غير شك ، ولكنها تكلف المجتمع ثمنا باهضا إذ هي تقدّم ومجازفة نحو المجهول، الإنسان الذي يعيش في مجتمع متحرك لا يستطيع أن يحصل على الطمأنينة )9 ، ويصف الدكتور حال الإنسان في البلدان المتحضرة بقوله (إذا ذهبت إلى نيويورك أو باريس أو غيرها من المدن العالمية الكبرى وجدت الناس في ركض متواصل وحركة لا تفتر ليلا أو نهارا ...وإذا سألتهم إلى أين ؟ همهموا بكلمات غامضة واستمروا في سيرهم مسرعين. أما في المجتمع الراكد فشعار الناس العجلة من الشيطان)10 ونستطيع أن نلخص مراد الدكتور الوردي من المقارنة بين المنطقين في النقاط التالية: 1. أن الدعوة إلى الاتفاق هي من سمات المجتمعات البدائية. والسبب في ذلك يعود بحسب رأي إلى أن تلك الأقوام عاشت في ظل ظروف كان منطق السيف هو السائد، والاقتتال سمة العصر الذي عاشوه لذا كانوا بحاجة إلى التماسك ليستمروا في البقاء على قيد الحياة . 2. الاتفاق يبعث على الجمود في حين يبعث الاختلاف على الحركة والتطور. 3. ينقسم الاختلاف إلى نوعين • نوع ينشا في المجتمعات البدائية من اجل الحفاظ على التقاليد لا كسرها. ،ومثل هكذا صراعات فإنها أن لم تدفع المجتمع إلى الخلف لاهثا وراء التقاليد والعادات، فإنها تبقيه راكدا على حاله،والركود يؤول به إلى التفسخ والتعفن لا محالة. ولعل من أوضح الأمثلة على ذلك ،الخلاف العقائدي ،الذي ينشب بين مذاهب الدين الواحد ،إذ انه صراع من أجل تجسيد التقاليد ،وليس صراع مبادئ بين فرفاء احديهما يريد التغيير والآخر يريد المحافظة. • والنوع الثاني ينشا في المجتمعات المتحضرة ،وهو اختلاف بين المبادئ القديمة ومبادئ جديدة ،ويدفع هذا التنازع المجتمع إلى الأمام دائما. ولعل التنازع الذي نشا بين الكتلتين الشرقية والغربية ،أو بين النظامين الرأسمالي والاشتراكي ،كان ذو فائدة عظيمة للبشرية ،إذ أنه ودون أدنى شك دفع بالمجتمع البشري إلى الأمام وكان حافزا مهما في تقدمها. 4. المجتمع المتفق هو مجتمع مطمأن . والمجتمع المتحرك مجتمع قلق وناسه في حركة دءوب لا تفتر أبدا. وبعد أن ينتهي الدكتور الوردي من مناقشة ظاهرتي الاختلاف والاتفاق بحسب منظور المنطق القديم والحديث ،يبدأ بتناول نموذجين لكل منهما ،حيث يتناول توينبي المؤرخ الإنكليزي المعروف ،ويشير إلى منطق المتصوفة وابن خلدون ، كنماذج للمنطق الحديث ،ويتناول الشهرستاني صاحب كتاب الملل والنحل كنموذج للمنطق القديم. يرى المؤرخ الإنكليزي توينبي أن القصص التي أوردتها الكتب المقدسة حول خروج ادم من الجنة ونزوله إلى الأرض هي في حقيقتها ،ترمز إلى خروج الإنسان من البدائية إلى التحضر ،حيث ينقل الدكتور الوردي عن توينبي قوله(أن الحكاية التي تذكرها التوراة حول إغراء الشيطان لآدم وإخراجه من الجنة هي في الواقع أقصوصة رمزية تشير إلى ظهور المدنية ،وخروج الإنسان من طور البدائية إلى طور المدنية)11. (ويعلل توينبي ظهور حضارة الإنسان القديمة،(بما فيها الديانات)، وتمركزها في وادي الرافدين ووادي النيل ،واسيا عموما يرجع إلى أن أوربا كانت مغطاة بالجليد تماما في العصر الجليدي الرابع في حين كانت قارة آسيا معتدلة،وتشكل بيئة تصلح لعيش الإنسان القديم،فالماء وفير ،والطعام في متناول اليد لا يبذل الإنسان أي جهد ،ليبقى على قيد الحياة ما خلا مقاومة الوحوش والضواري ، لذلك عاش الإنسان ردحا من الزمن حياة بدائية قريبة جدا من حياة الحيوانات ،وفي وسط هذه الوفرة من مستلزمات البقاء على قيد الحياة ، لم يستخدم ذلك الإنسان عقله إلا بشكل محدود.فسعة استخدم العقل تتناسب طرديا مع الحاجة إلى الاستخدام، لذلك قيل أن الحاجة هي أم الاختراع12 . نقل سلامة موسى أن نيتشه كان يؤمن بان صعوبة التحديات التي توضع أمام الإنسان هي السبيل الوحيد للوصول به لما اسماه الإنسان الخارق ،على اعتبار أن القوانين التي أودعها الله في الطبيعة مصممة على اختيار الأفضل ،واشتهر عنه (نيتشه)قوله أن الطبيعة الحمراء بين الناب والمخلب هي التي أوجدت كل هذه الكثرة في الأنواع الحيوانية. كما نقل روجيه غارودي في كتابه ماركسية القرن العشرين عن جون بول سارتر قوله(إننا إذ نلقي بالإنسان في مجتمع متسامح فإننا نحرمه من حقه في الكفاح واستنهاض طاقاته). وأني أرى أن المجتمعات الغربية تنهج مثل هذه الاستراتيجية إذ إنها تضع أمام أبناءها تحديات ليست بالسهلة من اجل الرقي بالنوع ،وصولا إلى الأفضل. ويرى توينبي أيضا ،أن حاجة الإنسان لأستخدم عقله بدأت مع نهاية العصر الجليدي الرابع حيث انحسر الجليد باتجاه القطبين ،وبدا التصحر،ينتشر في آسيا ،ومع التصحر بدأت الشّحة والنقص في الغذاء، وبدأت الحاجة إلى إعمال العقل . كما أن التصحر ونقص الغذاء أديا إلى هجرة بعض البدائيين إلى حيث الأنهر ،فنشأت القرى وتعلم الإنسان الزراعة،وتدجين الحيوانات ،وبدأت ملامح الحياة الاقتصادية تلوح في الأفق،ومعها خطوات الحضارة الإنسانية الأولى،في حين بقي قسما منهم يعيش في الصحراء يرعى الأغنام،ولم يستقر فكان في حل وترحال دائمين، سعيا وراء العشب والماء.وهذه هي البدايات الأولى لنشوء مجتمعات مختلفة،مجتمع بدوي ومجتمع زراعي،كان الأساس التي انطلقت منه الحضارات،و يرى توينبي أن حكاية قابيل وهابيل ما هي إلا رمزا للصراع بين البداوة والحضارة)13. وعلى هذا فان توينبي يرى أن الاختلاف في البيئة كان سببا مهما في نشوء الحضارة،بل يذهب إلى ابعد من ذلك حيث يآخي بين البدائية والاتفاق ،وبين المدنية والاختلاف كما ينقل عنه الدكتور الوردي قوله:( أن الصفة الرئيسة التي تميز المدنية عن الحياة البدائية هي الإبداع ،فالحياة البدائية يسودها التقليد بينما يسود الإبداع الحياة المدنية ... من الممكن القول بان المدنية والقلق صنوان لا يفترقان فالبشر كانوا قبل ظهور المدنية في نعيم مقيم ولا يسألون " لماذا" ،كل شيء جاهز بين أيديهم قد أعده لهم الآباء والأجداد ،فهم يسيرون عليه ولسان حالهم يقول "أنا وجدنا آباءنا على أمة وأنا على آثارهم مهتدون")14. ( وقد نقلت كتب التفسير الشيعية ما يشابه هذا الرأي ، في معرض تفسيرها النص القرآني(فلما اختلف النّاس بعث الله الانبياء والرسل....) ،حيث سئل الأمام الباقر*،وكيف كان الناس قبل الاختلاف فأجاب كانوا على الفطرة قيل وما الفطرة يابن رسول الله قال:كانوا لا ضالين ولا مهتدين. وهذا يعني أن إنسان ما قبل الرسالة كان بدائيا لم يستخدم عقله بعد ،يأكل مما تنبت الأرض من عدسها وفومها،أو بحسب تعبير الشاعر (كنا نوسوس في أذن الأرض فتعطينا مائدة..وكنا نصفق للطير فتعطينا الحلوى)15،وهذه هي الجنّة التي أخرج منها آدم كما ورد في الأثر الشيعي أيضا أن جنة آدم التي اخرج منها لم تكن جنة الخلد واستدلوا على ذلك، بالنصوص القرآنية التي تشير إلى خلود الإنسان في الجنة ،وبما أن آدم لم يخلد فيها ،بل اخرج منها فهي ليست بجنة الخلد المقصودة). و ينقل الدكتور الوردي عن توينبي قوله:(أن المدنية هي مسرح الشيطان ومجاله الذي تخصص فيه ،أن المدنية في رأيه هي نتاج التنازع بين الله والشيطان،وان الله قد خلق الشّيطان عمدا وسلطه على الإنسان لكي يسيره في سبيل المدنية) ،وهو بذلك يؤكد على أن الشر ضروري لمعرفة الخير. وخلاصة ما يراه توينبي 1. أن الاختلاف الذي نشأ بسب التغير الكبير في مناخ الأرض وظهور التصحر في موطن الإنسان القديم كانت هي السبب الرئيسي في نشوء حضارة الإنسان ،أضف إلى ذلك إمكانية العقل على تحسس هذا الاختلاف ،فعقل له القدرة على تحسس الاختلاف ،وواقع متغير(مختلف) هما أساس حقائق الإنسان التي يمتلكها حتى هذه اللحظة ،وهذا تماما ما تطرحه نظرية المعرفة الماركسية . 2. أن النصوص الدينية التي أوردت بخصوص قصة آدم تؤرخ البدايات الأولى لظهور الإنسان المتعقل ،الذي بدا يدرك أن للحوادث أسباب منفصلة عن ذاتها ، الإنسان الذي تسربت إلى ثنايا عقله "لماذا" ومعها كل القلق الإنساني الذي عانت وتعاني منه البشرية إلى يومنا هذا ،بسب ولوجها عالم التحضر ، وخروجها من طور البدائية( الجنّة) **. منطق الشهرستاني ينقل الدكتور الوردي عن الشهرستاني صاحب كتاب الملل والنحل،أن إبليس احتج على ربه ووجه اليه سبعة احتجاجات سنلخصها بما يلي: 1. لماذا خلقني الله وهو يعلم ما سيصدر مني مسبقا؟ 2. إذا كان لا ينتفع من طاعة مخلوق ولا يتضرر من معصيته! فلماذا امرني بالطاعة ونهاني عن المعصية؟ 3. لماذا كلفني بطاعة آدم والسجود؟ وما الحكمة من هذا التكليف؟ 4. إني لم ارتكب قبيحا سوى قولي"إني لن اسجد إلا لك وحدك" فلماذا لعنني وطردني من الجنة،وما الحكمة في ذلك؟ 5. لماذا مكنني من الدخول للجنة ؟فوسوست لآدم فارتكب المعصية،ولو كان منعني من الدخول لأسترح آدم وبقي خالدا في الجنة؟ 6. لماذا سلطني على أبناءه؟ 7. لماذا أمهلني إلى يوم القيامة؟فلو انه أهلكني في الحال لاستراح ادم وأولاده،ولما بقي شر في العالم؟ ويروي الشهرستاني ،والعهدة عليه ،أن الله أجاب على حجج إبليس قائلا))لو كنت يا إبليس صادقا مخلصا في الاعتقاد باني إلهك واله الخلق لما احتكمت علي بكلمة "لماذا". فانا الله لا اله إلا أنا غير مسؤول عما افعل ،والخلق كلهم مسئولون))16. (ويقول الشهرستاني تعليقا على ذلك أن كل شبهة وقعت لبني آدم منذ بدأ الخليقة حتى يومنا هذا ،نشأت كلها من هذه الكلمة الرعناء "لماذا" أو هي ترجع على حد تعبير الشهرستاني " إلى إنكار الأمر بعد الاعتراف بالحق والى الجنوح إلى الهوى في مقابلة النص" 17.
ويلخص الدكتور الوردي مراد الشهرستاني بمنطقه القديم بقوله:(يعتقد الشهرستاني أن الإنسان يجب عليه أن يخضع للأوامر الربانية التي يأتي بها الأنبياء والأولياء فلا يسال عن العلة فيها ولا يشك في حكمتها ،فالجنة التي سكنها ادم من قبل ،ولا تزال تسكنها الملائكة اليوم ، ....حيث يعيش أهلوها فيها"سامعين مطيعين"). 18 منطق المتصوفة وابن خلدون يرى الدكتور علي الوردي أن المتصوفة وابن خلدون قد تبنّوا منطقا مختلفا عما تبنّوه معاصريهم ،منطقا يشابه تماما المنطق العلمي الحديث. حيث يقول(حاول بعض متصوفة الإسلام أن يجيبوا على سؤال"لماذا خلق الله الشيطان وأجرى الشّر على يديه؟" بما معناه أن الشيء لا يعرف الا بنقيضه،فالنور لا يعرف إلا بالظلام،والصحة لا تعرف إلا بالسقم،والوجود لا يعرف إلا بالعدم ،وان امتزاج هذه النقائض هو الذي أنتج في رأي المتصوفة هذا الكون..... ومشكلة الشر تفسر عند المتصوفة على هذا الأساس) 19.
وهذا ما ذهب إليه ابن خلدون حيث قال:(قد لا يتم وجود الخير الكثير إلا بوجود شر يسير من اجل المواد فلا يفوت الخير بذلك على ما ينطوي عليه من الشر اليسير وهذا معنى وقوع الظلم في الخليقة فتفهم...). ويرى الدكتور الوردي أن ابن خلدون والمتصوفة سبقوا هيكل في طرح منطق التناقض بعدة قرون . ويرى أن المفكرين القدماء لم يعنوا بهذا الأمر،ولم يلتفتوا إليه، بسبب أنهم كانوا يجرون في تفكيرهم حسب المنطق الارسطي القديم الذي يؤمن بعدم التناقض 20. ولعلهم أحسوا إحساسا باطنيا بان هذه المفاهيم ستؤدي بالعقل إلى التحرر تدريجيا ،وبذا ستدفع العقل شيئا فشيئا إلى الشك ،والتساؤل في كل شيء وهذه هي الطامة الكبرى21 .ً (لأن الشك كالمرض المعدي ،لا يكاد يبدأ في ناحية حتى يعم جميع النواحي ،والإنسان إذ يكسر تقليدا واحدا يكسر جميع التقاليد. وهو بذلك قد استفاد من جهة وتضرر من جهة أخرى لذلك قيل من تمنطق فقد تزندق. وينقل الدكتور الوردي عن حافظ وهبة ،كيف أن علماء نجد والحجاز اعترضوا على إدخال الملك عبد العزيز آل سعود المدارس ،والمحطات اللاسلكية ،فقد ظن هولاء أن المدارس تعلم الكفر والمجون ، والمحطات اللاسلكية تستخدم الشياطين في نقل الأخبار كما أن المشايخ والفقهاء اعترضوا بالحجج والبراهين الشرعية، على معارف مكة لأنها قررت في برامج التعليم : أولا: تعليم الرسم. وثانيا : تعليم اللغات. وثالثا الجغرافية ،التي تقول بكروية الأرض). ويرى الدكتور الوردي( أن الحجج التي أدلى بها مشايخ والفقهاء في تحريمهم للرسم والجغرافيا واللغات هي في الواقع حجج ظاهرية .ولعلهم متأكدون باطنا من إنها لا تنافي الدين ... أن أخوف ما يتخوفون منه هو ما تجر إليه تلك الأمور من جدل وتساؤل وتفلسف، فالأيمان بكروية الأرض مثلا لا صلة له بالاعتقاد بالله وبالنبوة أو باليوم الآخر ،ولكن هذه الفكرة الجديدة تهدم بطبيعتها مزاج التسليم والتقليد ،الذي يطلبه المشايخ من أتباعهم). 22 ومن الجدير بالذكر أن بعض المجتهدين في النجف يحرمون على مقلديهم قراءة الكثير من المؤلفات ،ومن ضمن المؤلفات الممنوعة هي كتب الدكتور علي الوردي ، تحت ذريعة أن هذه المؤلفات والكتب تثير الشك وتزعزع الثبات على العقيدة ،كما أن كتب الأدعية أفردت دعاءا طويلا عريضا ،تزعم أن من يواظب على قراءته بصدق، يُمنح بركة الثبات على العقيدة ويكون محفوظا من وسوسة الشياطين "لماذا" إلى أن تبلغ الروح الغرغرة،وهذا الكلام دقيق جدا ،وأنا بدوري أضمن أن الشيطان((الشّك)) لن يأتيه من بين يديه أو خلفه ،لأنه وببساطة يتعرض لعملية غسل دماغ ذاتية،وذلك من خلال تكراره نفس الكلمات يوميا وبرغبة صادقة.. كما أنهم يحذرون مقلديهم من قراءة الفلسفة بقولهم ( شطئان الفلسفة هائجة ولكن أعماقها هادئة) . أن استراتيجيتهم تعتمد على عزل الأتباع عزلا ثقافيا تاما ،عن الاحتكاك بالثقافات الأخرى ،خوفا من إن تتسلل أليهم" لماذا" فيصيبهم ما أصاب إبليس اللعين. ويرى الدكتور الوردي أن الميل إلى التسليم إلى ما جاء به الآباء والأجداد وعدم الرغبة في التغير، والقناعة ،وتحريم الشك والتساؤل هي من سمات المجتمع البدائي ، فهو يصفهم بقوله( أما البدائي فهو لا يكفر ولا يتزندق أبدا .... انه في قريته يعيش في تراث الماضي السحيق ويتمتع بأوهامه وأحلامه .وليس في القرية أحد يقول"لماذا" كل شيء عندهم مقدس لا يجوز الخروج عليه،والشك عندهم كفر يعاقب صاحبه عليه عقابا شديدا. وهو بذلك عكس المتمدن الذي يسيطر عليه الخوف وتأخذ منه الوساوس كل مأخذ)23 يقول الدكتور علي الوردي أن الإحساس بالظلم لدى الفرنسيين هو الذي دفعهم إلى القيام بالثورة ضد ملك فرنسا انذاك ،وان السبب في تنامي هذا الشعور لدى الفرنسيين ،هي مؤلفات روسو ،ومنتسيكيو وغيرهم من الأدباء، وينقل الدكتور عن المؤرخين أن أحوال الفرنسيين كانت أفضل بكثير من أحوال الشعوب المجاورة مثل روسيا ،ولذا يقول أن الشعور بالظلم أهم من وجود الظلم نفسه فقد يكون الظلم موجودا ولكننا لا نشعر به. يبدو أن مراد الدكتور الوردي من عموم كتبه هو أن يحس الإنسان العراقي خصوصا والعربي عموما ببدائيته ،لأنه يدرك تماما إنها ستكون الخطوة الاولى على طريق الثورة على الذات ،املآ في بزوغ عصر تنوير يشابه تماما عصر التنوير الأوربي.و لأنه يدرك أيضا من إننا مدمنون على البدائية وليس فقط لا نشعر بها. ______________________________________________________ اقرا الحلقة الاولى الموجودة على الرابط التالي http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=8253 2اذ أن المنطق الارسطوي يضع شروطا معقدة للتناقض راجع منطق المظفر لمزيد من التفاصيل 3مهزلة العقل البشري ص4 4 مهزلة العقل البشري ص16 5نفس المصدر السابق ص16-ـــ ص17 6 شاكر النابلسي مقال منشور بعنوان من وصايا الماوردي للسلطان http://www.akhbaar.org/wesima_articles/articles-20070107-23241.html 7نفس المصدر السابق ص17 8 نفس المصدر ص17 9مهزلة العقل البشري ص 18 10 نفس صفحة المصدر السابق 11 مهزلة العقل البشري ص20 12 ينقل بريل ليفي في ص14 من كتابه العقلية البدائية عن بنتلي قوله(لايفكر الافريقيون ولايتعقلون ولا يعللون ما دامو يستطيعون الاستغناء عن ذلك) 13 جمعت هذا الملخص لمفهوم الموؤرخ الانكليزي توينبي من اكثر من كتاب للدكتور الوردي من بينها مهزلة العقل البشري ص18-ــص19 14مهزلة العقل البشري ص20 * الامام الباقر ابن الامام السجاد خامس ائمة اهل البيت بحسب المذهب الشيعي الاثني عشري 15 زخرف للبياض زخرف للسواد مجموعة شعرية لحميد حسن جعفر ** والملاحظ أيضا أن توينبي كان ينحى منحى باخوفين في الاستدلال ،إلا أن الأخير استخدم الأدب اليوناني لدراسة تاريخ العائلة حيث تمكن من تحديد تاريخ نشوء حق الأبوة ،بعد أن كان حق الأمومة هو السائد، من خلال دراسته لمسرحية اريستوس الذي قتل أمه لأنها قتلت أباه وتحليله للمحكمة التي أقامتها الآلهة على حد ما نقلته تلك المسرحية التي مثلت على مسارح أثينا .راجع انجلز تاريخ العائلة 16مهزلة العقل ص21 17 مهزلة العقل ص21 18 مهزلة العقل ص21 19 مهزلة العقل ص21 20نفس المصدر ص22 21نفس المصدر السابق ص26 22نفس المصدر ص 24_ص25 23نفس المصدر ص32
#علي_ماضي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
( تأملات في كتاب مهزلة العقل البشري للدكتور علي الوردي(1
-
من سيوقف صناعة الغيلان في العراق؟
-
إقليمي الوسط و الجنوب المزمع إقامتهما في العراق
-
قراءة متاخرة في الحدث اللبناني
-
العلمانية
-
الاشعور
-
صديقي ومنطق العجوز الأنكليزية
-
سياسة الحمق في ايران والعراق
-
شمس التغير لن يحجبها غربال
-
بلدي بين ياسي وتفاءلي
-
صراع الديكة
-
العقلية البدائية
-
لقطات
-
دراما المشهد السياسي في العراق
-
أحداث ألاعتداء على المراقد... تحت المجهر
-
مسكوا الحمار
-
حطوتنا الثالثة
-
افرحني..ابكاني...اغضبني
-
اكلت يوم اكل الثور ألأبيض
-
كيف نقيم وننتخب؟
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|