عبدالرحمن مصطفى
الحوار المتمدن-العدد: 8262 - 2025 / 2 / 23 - 02:03
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
الكثير من الليبراليين التنويريين يعتبرون أن الدين ممثلا بالإسلام هو سبب تأخر المجتمعات العربية والشرق أوسطية ،وأن العرب لن تقوم لهم قائمة إلا بفصل الدين عن الدولة أو المجتمع حتى في تشابه مع ما حدث في أوروبا من القرن الثامن عشر وحتى القرن العشرين (تطور العلمانية الغربية) ،ويستخدم التنويريون شعار العلمانية هي الحل كبديل عن شعار الإسلام السياسي "الإسلام هو الحل" ،ويتم اسقاط التجربة الغربية على واقع مغاير تماما وحتى التجربة ذاتها يتم تصويرها كصراع ممتد عبر القرون بين التنويريين والظلاميين ،وأن الغلبة كانت للتنوير في النهاية دون أي فهم للتطورات السياسية التي شهدتها أوروبا وأعادت تقديم هويتها بما يخالف ما كانت عليه في العصور الوسطى.وينفق هؤلاء التنويريون وقتهم في نقد البخاري أو القرآن والكتب الإسلامية المقدسة لكافة المذاهب
فضلا عن هذا هناك نظرة حدية الى الأديان وبالتحديد الأديان الإبراهيمية ،فتصور هذه وكأنما هي ردة عن الحضارة التي كانت سائدة في العصور القديمة مع أديان التعدد الإلهي كما كان الحال في الحضارة المصرية القديمة والسومرية والبابلية والإغريقية الرومانية الخ..وهنا يعتقد متبني هذا الرأي أن فترة العصور الوسطى كردة كاملة عن حضارة التعدد كما كانت عليه في الحضارات القديمة ،هذا الرأي يتعارض مع حقيقة أن الديانات الابراهيمية لم تظهر من فراغ ،فالحضارات القديمة كانت تحمل في طياتها تناقضات طبقية جمة وصراعات سلطوية وظلم فظيع للفلاحين كما كان عليه الحال في الحضارة الرومانية القديمة .
أحد أهم الاختلافات بين ديانات التعدد الالهي والديانات الابراهيمية ؛أن الأخيرة شجعت على فكرة الخلاص الفردي وبذلك تضمنت فكرة استقلال الفرد ،بينما في ديانات التعدد الالهي كان هناك نظاما طبقيا صارما يلقي في ظلاله على تصور الحياة ما بعد الموت كاستمرار لمرتبة الفرد في الحياة الدنيا ،فضلا عن هذا كان هناك تمييز عرقي وكان ذلك مبرر فلسفيا وعقليا كما تصور أرسطو وأفلاطون ،فالأثيني بالنسبة لهم في مرتبة أعلى من العرقيات والقوميات الأخرى .
وبالطبع للعصور الوسطى مشاكل وتناقضاتها لكن ذلك لا يعني أن نغفل حقيقة التقدم الذي أحرزته البشرية في العصور الوسطى قياسا للعصور القديمة .
اسقاط التجربة الأوروبية المسيحية على التجربة العربية الإسلامية يتغافل عدة حقائق واختلافات مهمة بين التجربتين ،فالتجربة الأوروبية المسيحية شهدت تغولا لسلطة الكنيسة على حياة الشعوب الأوروبية وهي كانت نموذج شمولي بمعنى لا تنخرط الكنيسة في النشاطات السياسية والاقتصادية فحسب ،بل تتعدى ذلك الى تشكيل الحياة الثقافية والاجتماعية ،كانت الكنيسة الكاثوليكية سلطة قائمة تنازع السلطة السياسية للملوك ،والانشقاق الباباوي الذي لا يذكره التنويريين كان صراعا بين السلطة السياسية ممثلة بالملوك والكنيسة الكاثوليكية في روما ،كان انشقاق الأمارات الأوروبية خصوصا في ايطاليا صراعا سياسيا بين سلطة البابا ممثلا بالكنيسة الكاثوليكية من جهة والسلطة التنفيذية ممثلا بالملك ،كانت العديد من الامارات المنشقة تدخل في تحالفات مع المسلمين ممثلين بالعثمانيين ضد البابا المسيحي الذي يشاركهم بالدين ،أي كان الصراع صراعا سياسيا وليس دينيا في الجوهر ..
ينسى التنويريون أن أساس الإصلاح الديني كان الانشقاق البابوي ،فالإمارات الأوروبية والإيطالية كانت تشكل دينها الخاص وهنا البروتستانتية حيث أن العلاقة بين الفرد والرب تتأسس على تواصل مباشر دون وسيط كما هو الحال في المذهب الكاثوليكي ،وكان ذلك تعبيرا عن غضب الطبقة السياسية من طبقة رجال الدين التي كان لها امتيازاتها الواضحة .
هل هناك سلطة دينية في العالم الإسلامي والتاريخ الاسلامي حتى ؟ الحقيقة لا لم يكن هناك سلطة مستقلة لرجال الدين وعلى طول التاريخ الاسلامي كان رجال الدين المسلمون خاضعون للسلطة السياسية ،وكانت السلطة السياسية تشكل مذاهبها الخاصة بناءا على مقتضيات الصراع ،فالأمويون مثلا بشروا بالمذهب الجبري لحفظ سلطاتهم وإعفاءهم من أي مسؤولية طالما أنهم مسيرون وهناك حكمة الهية في وجودهم ،كما أن المأمون ترجم الفلسفة اليونانية للحد من تغول الفقهاء على السلطة السياسية .
ليس هناك مؤسسة دينية تخرج عن طاعة السلطة السياسية حتى في العصر الحديث كانت المؤسسات الدينية ممثلة بالأزهر مثلا تتدثر بالمذاهب السياسية والاقتصادية التي تناسب النظام الحاكم في كل مرحلة ،فكان الأزهر في فترة جمال عبد الناصر يزاوج بين الاسلام والاشتراكية وأن الإسلام حث على العدالة الاجتماعية والمساواة بين الناس ورفض الطبقية لكن عندما جاء أنور السادات تحول الأزهر عن هذا وأصبح من دعاة الحرية الاقتصادية وأن الإسلام صان حقوق الملكية وأثنى على دور الملكية الخاصة والمبادرة الفردية كما شدد على ذلك الشيخ الشعراوي ،وأصبحت المطالبة بإصلاح الأرض الزراعية وإعادة التوزيع بمثابة تعدي على قضاء الله وقدره ،واستمر ذلك مع عهد حسني مبارك .
وهنا يتضح أن رجال الدين المسلمين يخضعون لإملاءات الحكومات والأنظمة السياسية على عكس ما كان سائدا في أوروبا العصور الوسطى حيث كان هناك تداخلا بين السلطة الدينية ممثلة بسلطة البابا والسلطة السياسية ممثلة بالملك
إن استقلال الدول الأوروبية وظهور اللغات القومية هو جزء من عملية التحرر من سلطة الكنيسة الكاثوليكية كما مورست في العصور الوسطى،الدين الإسلامي يتشابه مع المذهب البروتستانتي من ناحية عدم وجود سلطة كهنوتية تمارس على المؤمنين نفوذا دينيا ،والمؤسسات الدينية الإسلامية تخضع لإرادة الحاكم وهواه وما يريده وما لا يريده ،من هنا يمكن معرفة جذر المشكلة وأس الصراعات في العالم العربي والمتمثل بسوء توزيع السلطات بين فئات الشعب المختلفة ،فهناك حكام يتحكمون في شؤون الاقتصاد والسياسة والثقافة ومحكومون على الطرف الآخر ليس لهم أي دور في اتخاذ هذه القرارات .
وللتدليل على أن المشكلة لا تتعلق بالدين بحد ذاته ،يمكن لنا أن نذكر بعض الأمثلة لدول اسلامية لا تتوفر على الشرط العلماني حتى في دساتيرها ومع ذلك حققت هذه الدول نجاحا اقتصاديا ومجتمعيا باهرا كما الحال مع ماليزيا مثلا ،فالاقتصاد الماليزي في المرتبة ال 26 من ناحية حجم الناتج المحلي محسوبا وفقا للقوة الشرائية ،اكثر من 35 بالمئة من الناتج المحلي الماليزي يأتي من القطاع الصناعي ،ماليزيا تصدر منتجات ذات قيمة عالية كالأجهزة الالكترونية وأشباه الموصلات والمنتجات الكيماوية والبيتروكيماوية الخ..ومتوسط الدخل فيها يقارب ال 10 آلاف دولار أعلى من معظم المناطق الريفية والحضرية في الصين ،في نفس الوقت ماليزيا دولة تعتبر الاسلام دينها الرسمي ،فضلا عن أن المجتمع الماليزي هو مجتمع متدين بالمقارنة مع مجتمعات أخرى ومن بينها مجتمعات عربية .
في الماضي كانت هناك تجارب رائدة في التنمية المجتمعية والاقتصادية والثقافية فترة الستينيات والسبعينيات في مصر وسوريا والعراق ولو أنها كانت مؤقتة ومفروضة من قبل أنظمة سلطوية ،لكن لم يكن آنذاك أي تأثير للجماعات الدينية في المجتمع ،كلمة السر هنا أنه كان آنذاك مشروع سياسي واجتماعي ولو أنه فشل لأن الأنظمة التي كانت تتبناه كانت أنظمة ديكتاتورية ،لكن بافتراض أن هناك أنظمة ديمقراطية ليس بالضرورة الشكلية التي ينادي بها الغرب في بلادنا لكن إعطاء دور للناس في تقرير مصيرهم ومشاركتهم في القرارات الاقتصادية التي تخصهم يمكن أن تجاوز مشكلة التخلف أو مجابهتها على الأقل ،أما في ظل أنظمة الطغيان التي لا تملك مشروعا باستثناء تنفيع طبقتها فبالطبع لن يتغير أي شيء
وبالمناسبة هذه الأنظمة تستفيد من تحميل الشعوب مسؤولية تخلفها فهي بذلك تعفي نفسها من أي مساءلة وأنها ليست إلا انعكاس لثقافة شعوبها المتخلفة!
ختاما ...
وجهة النظر هذه لا يلزم منها إنكار أن هناك حالة تخلف ثقافي واجتماعي للشعوب العربية ،لكن هذا التخلف لا يمكن فصله عن سياقه السياسي والاقتصادي ،فالتغيير يعتمد على الدولة وطالما أن الدولة بيد فئة مستبدة لا تكترث الا لمصالحها الضيقة فلن يتغير هناك أي شيء وستسود الثقافة الظلامية المنغلقة وتسيطر على وجدان الناس ووعيهم ،كلمة السر هنا في عبارة ماركس الشهيرة ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم ،إنما وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم.
#عبدالرحمن_مصطفى (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟