عندما وقف الرئيس الاميركي جورج بوش في جزيرة غوريه في السنغال، حيث كان <<العبيد>> يساقون إلى <<العالم الجديد>> في الولايات المتحدة، في إحدى أفظع المآسي في تاريخ البشرية، ووصف العبودية بأنها <<واحدة من اكبر الجرائم في التاريخ>>، لم يستطع ان يحجب عبودية الحاضر...
تحرر <<العبيد>> في الولايات المتحدة، لكن الاستعمار اعاد استعبادهم هذه المرة في بلدانهم، ونهب ثرواتهم وأثار النزاعات العرقية والدينية في ما بينهم، وفرض عليهم طبقة سياسية حاكمة ديكتاتورية وفاسدة أكملت ما بدأه الاستعمار وكانت <<ممثلة>> له فعممت الفقر والأمراض والمجاعة.
وكأن ذلك كله لا يكفي، سال لعاب الاميركيين على ما ظهر أخيرا من ثروة نفطية في أفريقيا.
قال بوش الاسبوع الماضي لصحافيين أفارقة إن <<الولايات المتحدة تهتم بمستقبل أفريقيا. إن مصالحنا القومية تقتضي ان تصبح أفريقيا مكانا مزدهرا>>. لكنه نسي أو تناسى تأكيده، خلال حملته الانتخابية الرئاسية في العام 2000، أن أفريقيا <<لا تحتل مركز الأولوية بالنسبة إلى الأمن القومي>> الاميركي. فما الذي تغير؟ قد يقول قائل إن بوش يسعى لمكافحة الإرهاب في القارة، أو لإشاعة <<الديموقراطية>> فيها، أو محاربة <<الإيدز>>، او اقامة قواعد عسكرية فيها، أو حتى الفوز بالصوت الأفريقي في الانتخابات الرئاسية المقبلة. ثمة قدر معين من الصحة في كل ذلك، لكن الهدف الأول لواشنطن في القارة، يبقى الطاقة والنفط.
وأكد مساعد وزير الخارجية الأميركي للشؤون الافريقية والتر كانشتاينر ان نفط القارة السوداء <<بات يشكل مصلحة قومية استراتيجية بالنسبة الى الولايات المتحدة>>. كذلك شدد السناتور أد رويس رئيس اللجنة الفرعية التابعة للجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب على أنه <<بعد أحداث 11 أيلول يجب التعامل مع موضوع النفط الافريقي على أنه أولوية بالنسبة الى الأمن القومي>>.
شكل النفط الافريقي بالنسبة الى شركات النفط الأميركية، خصوصا منها <<اكسون موبيل>> و<<شيفرون تكساكو>> العملاقتين، أولوية جيوسياسية حتى قبل 11 أيلول، وهو ما أبلغته، منذ آذار العام 2000، اللجنة الفرعية في مجلس النواب خلال اجتماع خصص للبحث في امكانات الطاقة المتوافرة في أفريقيا.
كانت <<مؤسسة الدراسات الاستراتيجية والسياسية المتقدمة>>، وهي معهد دراسات أنشئ في القدس المحتلة في العام 1984 <<كمركز تخطيط>> مقرب من حزب الليكود الاسرائيلي، حاضرة بقوة في الاجتماع.
في 25 كانون الثاني العام 2002، نظمت المؤسسة مؤتمرا بعنوان <<النفط الأفريقي، أولوية للأمن القومي الاميركي وللتنمية الافريقية>>، شارك فيه كانشتاينر وعدد من أعضاء إدارة بوش وفي الكونغرس، بالإضافة الى مستشارين دوليين ومسؤولين في مجال الصناعة النفطية وشركات الاستثمار. ومن هذا المؤتمر تشكلت <<مجموعة المبادرة السياسية للنفط الافريقي>>، وهي هيئة من القطاعين الخاص والعام، كما صدر عنه كتاب أبيض تحت عنوان <<النفط الافريقي، أولوية للأمن القومي الأميركي وللتنمية الافريقية>>.
وطالبت المجموعة ادارة بوش بإعلان خليج غينيا <<منطقة ذات اهمية حيوية>> للولايات المتحدة. ولم تكتف بذلك، بل حثت واشنطن على إقامة قاعدة عسكرية مهمة في المنطقة تحمي الاستثمارات النفطية الاميركية فيها.
كان للنفوذ الذي مارسته مجموعة الضغط هذه تأثير كبير في سياسة الادارة الاميركية، ظهرت ملامحه في <<سياسة الطاقة الوطنية>> التي كشف عنها في أيار العام 2002 نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني، الذي اعتبر أن <<النفط الافريقي بمواصفاته النوعية العالية ونسبة الكبريت المنخفضة فيه بات يشكل سوقا متنامية لمصافي النفط على الساحل الشرقي>> في البلاد و<<أحد المصادر الاسرع نموا للنفط والغاز للسوق الاميركية>>. اضاف ان الولايات المتحدة <<ستستورد حوالى اثنين من كل ثلاثة براميل من النفط (التي تستهلكها)، وهو ما يجعلها تعتمد على القوى الاجنبية التي لا تأخذ دوما مصالح الولايات المتحدة بالاعتبار>>.
وقدّر <<مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية>> مجمل الاحتياطي النفطي الافريقي ب80 مليار برميل، أي ما نسبته 8 في المئة من الاحتياطي العالمي الخام، أي اكثر من الاحتياطات المؤكدة في اميركا الشمالية والاتحاد السوفياتي السابق.
وبحسب دراسة السوق التي أجراها <<مجلس الدراسات الوطنية>> الأميركي، تستورد الولايات المتحدة حاليا 17 في المئة من نفطها من غربي القارة، المتمثل بنيجيريا والغابون وأنغولا وغينيا الاستوائية، أي اكثر مما تستورده من السعودية، وقد ترتفع النسبة الى 25 في المئة في العام 2015.
ويؤكد روبرت مورفي، مستشار وزارة الخارجية للشؤون الافريقية، ان الاحتياطات النفطية تلك هي في شكل أساسي من نوع <<الأوف شور>> أي حقول خارج الحدود البرية... و<<تبقى في منأى عن أي اضطرابات سياسية أو اجتماعية محتملة. فالتوترات السياسية أو أي نوع آخر من موضوعات النزاع نادرا ما تتخذ بعدا إقليميا أو إيديولوجيا قد يفضي الى عملية حظر جديدة>>.
ولعل ما يغري واشنطن اكثر كون السوق النفطية في القارة السوداء مفتوحة تماما للاستثمارات الاجنبية، بخلاف دول اخرى كالسعودية والكويت والمكسيك مثلاً، التي تخصص غالبية إنتاجها لشركاتها الوطنية.
وتشير توقعات <<ادارة معلومات الطاقة>> التابعة للحكومة الاميركية الى ان المنطقة ستنتج حوالى 9 ملايين برميل يوميا في العام 2030.
ونيجيريا هي سادس مصدر الى الولايات المتحدة وبلغ إنتاجها اكثر من مليوني برميل يوميا العام 2001، ومن المتوقع ان يرتفع الى 3,2 ملايين برميل يوميا العام 2020.
وأنغولا تاسع مصدر الى الولايات المتحدة، ويبلغ الاحتياطي النفطي لديها حوالى 5,4 مليارات برميل. تنتج حوالى مليون برميل يوميا تصدر اكثر من نصفها الى الولايات المتحدة. اطلق على الاكتشافات النفطية خارج الحدود في انغولا تسمية <<الجائزة النفطية الكبرى في القرن الحادي والعشرين>>.
كذلك قد يكون اكثر من 4 مليارات برميل من النفط في مياه جزيرة ساو تومي وبرنسيبي الصغيرة، حيث قد تنشئ الولايات المتحدة مركزا فرعيا للقيادة العسكرية فيها.
أما غينيا الاستوائية، فستسمح لها مياهها الاقليمية بأن تصبح من الآن وحتى العام 2020 المصدر الثالث في افريقيا للنفط الخام عبر انتاجها 740 ألف برميل يومياً.
اعلنت شركة <<شيفرون تكساكو>> العام الماضي انها استثمرت 5 مليارات دولار في السنوات الخمس الماضية في النفط الافريقي، وانها ستنفق 20 مليارا اخرى في السنوات الخمس المقبلة.
كذلك اشارت منافستها <<اكسون موبيل>> الى انها تنوي انفاق 15 مليار دولار في نفط انغولا في السنوات الاربع المقبلة، بالاضافة الى 25 مليارا اخرى في القارة السوداء في خلال العقد المقبل.
ان الارقام الخيالية تلك تبقى مرادفة للفساد، خصوصا في ظل غياب اية شفافية في التصريح عن المداخيل الناتجة من النفط، حيث التواطؤ قائم بين الشركات النفطية والسياسيين، واستخدام العائدات النفطية من أجل حماية الأنظمة الحاكمة.
في أنغولا، اختلس <<الفوتونغو>> (اي زمرة من السماسرة المقربين من السلطة) في العام 2001، اكثر من 30 في المئة من الأرباح المتحققة من النفط. لكن جائزة <<الاوسكار>> في الفساد تعود الى غينيا الاستوائية، التي يصفها التقرير السنوي لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية <<سي آي ايه>> بأنها دولة يحكمها <<زعماء لا يخضعون لقانون اقدموا على نهب الاقتصاد الوطني>>.
وفي نيجيريا، التي تحضها الولايات المتحدة على الانسحاب من منظمة الدول المصدرة للنفط <<اوبك>>، لم تكف حوالى 280 مليار دولار من عائدات النفط في تعبيد الطرقات ولا في مد خطوط الكهرباء، ناهيك بإقامة حكم ديموقراطي حقيقي!
في الذكرى الاولى لهجمات 11 ايلول، كتبت صحيفة <<نيويورك تايمز>> في صدر صفحتها الاولى ان <<افريقيا، ولد الزوج المهمل للدبلوماسية الاميركية، ترتفع اهميتها الاستراتيجية بالنسبة الى المخططين السياسيين في واشنطن، وكلمة واحدة تلخص السبب: النفط>>.
اكثر من الاقتصاد... <<إنه النفط يا غبي>>!
©2003 جريدة السفير