أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - أحمد الجوهري - الموضوع السياسي العربي :الكآبة اليسارية و مسألة فلسطين من النهر إلى البحر (مُترجم الي العربية)















المزيد.....



الموضوع السياسي العربي :الكآبة اليسارية و مسألة فلسطين من النهر إلى البحر (مُترجم الي العربية)


أحمد الجوهري
مهندس مدني *مهندس تصميم انشائي* ماركسي-تشومسكي|اشتراكي تحرري

(Ahmed El Gohary)


الحوار المتمدن-العدد: 8258 - 2025 / 2 / 19 - 05:45
المحور: القضية الفلسطينية
    


كتابة نيهال الأعصر ترجمة أحمد الجوهري

التعريف بالكاتبة
نيهال الأعصر هي كاتبة ومحللة سياسية معاصرة تتميز بعمق رؤاها النقدية وتحليلها الدقيق للواقع السياسي والاجتماعي في العالم العربي. تتناول في أعمالها قضايا النضال الوطني والتحولات السياسية والتحديات التي يفرضها الهيكل الإمبريالي والأنظمة الرجعية على الشعوب. تسعى من خلال كتاباتها إلى إعادة وعي الجماهير وتسليط الضوء على أهمية استعادة الذات السياسية وتمكينها من مواجهة السياسات القمعية، مما يجعل صوتها مرجعًا هامًا في النقاشات حول مستقبل الحرية والعدالة في المنطقة.

المقدمة
نشر هذا المقال للمرة الأولى في مجلة بارابراكسيس (Parapraxis Magazine) بتاريخ 23 ديسمبر 2024.
يقدم هذا المقال تحليلاً عميقاً لمسألة فلسطين من منظور سياسي عربي، مستنداً إلى رؤى نقدية لفكر ثوري عربي، كما تناولها مفكّرون مثل غسان كنفاني وغيرهم. جاءت أهمية ترجمة هذا المقال من اللغة الإنجليزية إلى العربية لتوسيع دائرة القراء، وتمكين جمهور أوسع من الاستفادة من هذه المعلومات القيمة والتحليل المتميز الذي يعيد النظر في العلاقة بين النضال الفلسطيني والواقع السياسي العربي. إذ إن فهمنا لتاريخنا ومآسي النكسة والهزيمة المستمرة يشكلان حجر الزاوية لإعادة بناء ذاتنا السياسية والتصدي للتحديات الإمبريالية والأنظمة الرجعية. كانت هذه الترجمة بمثابة جسر لنقل المعرفة والرؤى الثاقبة التي قد تسهم في إيقاظ الوعي الجماهيري وإعادة النظر في أسس المقاومة والتنظيم الشعبي

لا يوجد "مخرج غير عربي" لمسألة فلسطين. كان هذا أحد استنتاجات غسان كنفاني في "المقاومة وتحدياتها: رؤية الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (1970)". بعد الخسارة الهائلة في نكسة 1967 وبروز الثورة الفلسطينية، ظهرت فكرتان متنافستان حول البعد العربي للصراع: هل تمثل الثورة العربية ووحدة الأمة الطريق إلى تحرير فلسطين؟ أم أن تحرير فلسطين يجب أن يكون الخطوة الأولى لتهيئة الظروف لسيادة الدول العربية وتحرير العالم العربي من الهيمنة الإمبريالية؟ في كلتا الحالتين، وفقًا لكنفاني، لا شك أن البعد العربي للنضال الفلسطيني -وتعبئة الجماهير العربية- يشكل خطوة حاسمة لأي مشروع تحرري قومي عربي.
رأى كنفاني أن الثورة الفلسطينية جزء لا يتجزأ من النضالات الثورية العربية الأوسع. وقد وسّع ذلك من نطاق مسألة فلسطين إلى ما هو أبعد من الإطار الضيق اليوم -أي كونها مجرد صراع بين فلسطين و"إسرائيل". إن هذا الإطار المحدود يجرّد القضية من سياقها العربي الأوسع ويفصل الجماهير الفلسطينية عن الجماهير العربية الأكبر، بل ويُجزّئ الفلسطينيين داخل فلسطين نفسها. تسعى هذه المقاربة إلى عزل النضال الفلسطيني وتغييب حقيقة أن الطبقات العاملة العربية تتقاسم مصيرًا سياسيًا مشتركًا. كانت التحديات، في نظر كنفاني، دائمًا ثلاثية: الإمبريالية، الصهيونية، والأنظمة العربية الرجعية -مرتبطة بعلاقة جدلية مترابطة. لقد فضح كنفاني العلاقة بين الأنظمة العربية والجماهير العربية، موضحًا أن "الواقع العربي الحالي" هو واقع تهيمن فيه الإمبريالية ووكلاؤها في الأنظمة العربية على تطلعات الجماهير نحو التحرر القومي والطبقي على قدم المساواة.
تاريخيًا وحديثًا، يُعتبر هذا الفهم معرفة بديهية في معظم أنحاء العالم العربي. حتى من دون تبنّي أيديولوجيات معينة، من الشائع سماع بائعي المتاجر وسائقي الأجرة وغيرهم يشيرون إلى القادة العرب باعتبارهم دمى، ويتحدثون عن طرق استعادة فلسطين من الصهاينة. حتى من منطلق غريزي، تدرك الجماهير العربية أن تحرير فلسطين مرتبط بمستقبل العالم العربي.

منذ أكتوبر، طُرحت العديد من الاعتبارات المتعلقة بالعالم العربي والتي تستدعي تحليلًا معمقًا: كيف كان رد فعل العالم العربي الأوسع على هذه الإبادة الجماعية، ولماذا؟ ما هي الآثار التي خلفتها الإبادة الجماعية على الجماهير العربية؟ كيف أثّرت ردود أفعال الدول العربية المختلفة—والرأي العام العربي—في تصعيد وتزايد وحشية الإبادة الجماعية؟ وأخيرًا، كيف أثّر طوفان الأقصى والهجوم المستمر على غزة على مستويات المقاومة داخل الكيان الصهيوني وضده؟ تشكّل هذه الأسئلة الأساس لمنهجي في هذا المقال، رغم أنني لا أدّعي تقديم إجابات شاملة عليها.
من الطبيعي أن تكون هناك توقعات قوية بأن الجماهير العربية سترد بشكل أكثر حدة وإلحاحًا على هذه الإبادة الجماعية. البعض لبّى النداء؛ والبعض الآخر حاول لكنه لم ينجح. أثناء تحليل ردود الأفعال—أو غيابها—من الجمهور العربي، طرح الفلسطينيون وحلفاؤهم، سواء الأصدقاء أو الخصوم، خلال الأشهر العشرة الماضية السؤال المتكرر: "أين العرب؟". هذا السؤال مألوف في العالم العربي، يُسمع على شاشات التلفاز، في الشوارع، وحتى في الأغاني. أحد الأمثلة الشهيرة هو أغنية المغنية اللبنانية جوليا بطرس "وين الملايين؟" التي كتبها الشاعر الليبي علي الكيلاني.
حاول كنفاني التعامل مع هذه المعضلة ذاتها. جادل بأن الأنظمة العربية الرجعية قد أضعفت الحركة الوطنية، لكن من خلال الفشل في تحليل العالم العربي بناءً على الظروف المادية—بدلًا من العواطف والشعارات—تم تضييع "الأفق الاستراتيجي" للثورة. انتقد الميل لدى بعض فصائل المقاومة الفلسطينية إلى "لوم العرب (بهذه الصيغة العامة، دون تحديد) على الفشل في تحرير فلسطين". بدلًا من ذلك، قدّم تقييمًا أكثر دقة للظروف الراهنة في العالم العربي، حيث حلّل الطرق المختلفة التي تتموضع بها الأنظمة العربية من جهة والجماهير من جهة أخرى في علاقتها بفلسطين. باختصار، حدد كيف يكون البعض متواطئًا أو متقاعسًا عن مواجهة الحدث التاريخي.
"إذا كانت الحركة الوطنية العربية مسؤولة جزئيًا [عن هذا الوضع]، فإن تحميلها اللوم إلى حدّ النفور يعني الفشل في فهم طبيعة الواقع وتطوراته: فقد أثبتت الأنظمة البرجوازية الصغيرة العربية عجزها عن توفير الظروف الملائمة لنضوج هذه الحركات الوطنية العربية، أو خلق بيئة مادية تتيح نمو قوى أخرى، لأن غالبية هذه الأنظمة لم تكن مجرد برجوازية صغيرة فحسب، بل كانت -بسبب طبيعة نشأتها وممارساتها- ذات طابع عسكري وشرطي أيضًا. وهكذا، فإن تصورها المحدود للحزبية والعمل التنظيمي (بما في ذلك العمل التنظيمي الذي حاولت بناءه لخدمة أغراضها الخاصة) أدى إلى إضعاف الأحزاب الوطنية العربية، وتركها لمصيرها في المعركة حين بلغت مرحلة أكثر تقدمًا، حيث تعرضت بنيتها إلى الإرهاق والتصدع والانهاك الشديد، سواء على المستوى الأيديولوجي أو التنظيمي."
لا يزال الموضوع السياسي العربي يواجه تحديات سياسية داخلية تؤثر على انخراطه في مسألة فلسطين. بالنسبة لكنفاني في هذا المقطع، لا مجال للتكهن بالنوايا أو المشاعر، بل ينصب التركيز على التحليل المادي للظروف التي تحكم الفعل السياسي.

في فبراير من هذا العام، وهو الشهر الرابع من الإبادة الجماعية، قرأت مقالًا في صحيفة الأخبار اللبنانية ترك أثرًا عميقًا في ذهني. بعنوان "موت إنسان الربيع العربي"، جادل المقال بأن الموضوع السياسي العربي الذي شارك في ثورات الربيع العربي يجب أن يختفي لإفساح المجال لموضوع طوفان الأقصى. أي أن الذات السياسية التي اعتمدت على منظمات حقوق الإنسان والمنظمات غير الحكومية والمؤسسات الغربية يجب أن تُطوى صفحتها. في مكانها، سيبرز ذات سياسية جديدة في العالم العربي—ذات تقترح أساليب جديدة للتنظيم والمقاومة والصمود، متجسدة في رفض الخضوع للهزيمة، رغم الحصار والقمع والتآمر. سواء كانت هذه الفرضية صحيحة أم لا، فقد دفعتني إلى التفكير بجدية في حالة الذات السياسية العربية قبل وبعد العدوان الإبادي الذي تشنه "إسرائيل" على غزة."
إحدى التأثيرات المتعددة ليوم 7 أكتوبر كانت القطيعة الكاملة التي أحدثها في المشهد السياسي للعالم العربي. فقد هزت الصدمة الظروف التي عززت الهزيمة السياسية منذ الحركات التي اجتاحت العالم العربي، والتي غالبًا ما يشار إليها بالربيع العربي. انتشرت تداعياتها إلى ما هو أبعد من الحدود الجغرافية لفلسطين، حيث كشفت التناقضات المتراكمة في العالم العربي ووضعتنا أمام ذاتنا السياسية في لحظة ما بعد الربيع العربي، مما أيقظنا من حالة الركود التي تخللتها الهزيمة.
في الدول الكمبرادورية الخاضعة للولايات المتحدة مثل مصر والأردن، ازداد الفارق وضوحًا بين الأنظمة الرجعية والشعوب، مما أبرز التباين بين مصالح الدولة ورغبات الجماهير. ورغم القمع الشديد، نزل الناس إلى الشوارع عندما دعت المقاومة إلى التعبئة الجماهيرية. خرج الأردنيون في مسيرات إلى السفارة الإسرائيلية، بينما اقتحم المصريون ميدان التحرير لأول مرة منذ سنوات. هناك، عدّلوا الهتاف الشهير لعام 2011 إلى "عيش، حرية، وفلسطين عربية"، مما أدى إلى اعتقال المئات في كلا البلدين بسبب احتجاجهم ضد إسرائيل.
أدى الرد غير الكافي على الإبادة الجماعية على الحدود إلى حملة مقاطعة جماعية للمنتجات الغربية في العالم العربي. تمثل هذه الحملة تعبيرًا عن التعبئة الاحتجاجية ضد التجليات الأيديولوجية والمادية للإمبريالية بقيادة الولايات المتحدة في المنطقة، رغم استمرارها لعقود. في الإسكندرية، تصاعدت التوترات بعد مقتل سائحين إسرائيليين في أكتوبر 2023، ورجل أعمال إسرائيلي في مايو 2024، ومقتل جنديين مصريين، حيث أفادت التقارير بأنهم قُتلوا في تبادل لإطلاق النار مع جنود إسرائيليين عند الحدود. اندلع النقاش حول اعتبار إسرائيل مجددًا العدو الأساسي للأمة العربية—مما شكل ضربة إضافية لموقف الدولة المصرية الذي طالما سعى إلى التطبيع منذ اتفاقيات كامب ديفيد عام 1978.
كما كان الأمر واضحًا في القرن العشرين، فإن الصراع لا يقتصر على غزة أو يدور داخلها فقط، بل تمتد آثاره عبر جميع العواصم العربية—من القاهرة إلى عمّان إلى دمشق إلى بغداد—وهو قضية تستدعي تنظيم الجماهير في المنطقة حولها. إن النضال من أجل فلسطين هو نضال من أجل مستقبل المنطقة العربية. لقد أدركت شعوب المنطقة هذه الحقيقة في القرن العشرين، وما زالت تدركها اليوم—على الرغم من عقود من محاولات فرض التطبيع الفوقي.
ورغم ذلك، لا يزال التساؤل حول "أين الجماهير؟" مطروحًا للنقاش. مع استمرار تصعيد العدوان الصهيوني على غزة، شهدنا تراجع بعض ردود الأفعال، خاصة فيما يتعلق بالتعبئة الجماهيرية. يمكننا القول بأمان إن استجابة الجماهير العربية لم تكن كافية لتلبية متطلبات اللحظة السياسية. وإذا كان الشعور المؤيد لفلسطين والمناهض للصهيونية لا يزال قويًا إلى حد كبير في المنطقة، فكيف يمكننا تفسير هذا الشلل؟ هل يعد القمع العنيف تفسيرًا كافيًا؟ وإذا فهمنا الذات السياسية كفرد يمتلك الإرادة السياسية للتدخل الواعي في مسار التاريخ، فكيف نحول هذه الذاتية من كونها متفرجًا وشاهدًا إلى كونها فاعلًا تاريخيًا؟
"إذا فهمنا الذات السياسية كفرد يمتلك الإرادة السياسية للتدخل الواعي في مسار التاريخ، فكيف نحول هذه الذاتية من كونها متفرجًا وشاهدًا إلى كونها فاعلًا تاريخيًا؟"
للإجابة على هذه الأسئلة، من الضروري تحليل التاريخ الحديث للمنطقة والسياق الذي وقع فيه حدث 7 أكتوبر. لم تنشأ الذات السياسية العربية القائمة مع فجر 7 أكتوبر، بل هي نتاج للظروف المادية التي وُجدت فيها. فقد اتسمت السنوات الاثنتا عشرة الماضية في العالم العربي بالثورة المضادة، والحروب الإقليمية، وسقوط عشرات الآلاف من العرب قتلى، واعتقال عشرات الآلاف الآخرين، والتبعية الاقتصادية، والعقوبات، والتدخل الغربي، وتصاعد الاستبداد والقمع.
في حالة مصر، ورغم أن الخوف من القمع بين الجماهير مبرر، فإن مدى هذا الخوف الاجتماعي هو في حد ذاته انعكاس لفشل إدخال قوى سياسية واجتماعية جادة مناهضة للهيمنة. وقد أدى ذلك إلى نوع من الشلل الجماعي. ومع ذلك، لم يأتِ هذا الوضع من فراغ؛ بل هو جزئيًا نتيجة لعمليات ممنهجة من نزع الطابع السياسي والكآبة السياسية المرتبطة بنجاح العمليات المضادة للثورة، التي أبطلت أي مكاسب تحققت خلال الثمانية عشر يومًا من الانتفاضة في ميدان التحرير. كان لهذا آثار كارثية على قدرة الجماهير في مصر على رؤية نفسها كفاعلين في التاريخ—كقوى تغيير—وكذلك على الذاكرة السياسية فيما يتعلق بالتنظيم.
لقد عززت نزعة "المنظمات غير الحكومية" في السياسة—إلى حد كبير نتيجة تجريم التنظيم السياسي والاعتماد المفرط على المنظمات الحقوقية بدلًا من التنظيم القاعدي والتشكيلات السياسية—بيئة معادية للتعبئة الجماهيرية. هناك الآن أجيال شابة في مصر لم تشارك قط في مظاهرة سياسية، أو تصوت في اتحاد طلابي، أو تقدم اقتراحًا نقابيًا. هذا مختلف تمامًا عن الظروف التي مهدت الطريق لانتفاضة يناير 2011، والتي تشكلت من خلال التنظيم خلال الانتفاضة الثانية، والإضرابات العمالية، وتنظيم الطلاب، وغيرها.
وقد أدى ذلك إلى مغامرات سياسية، حيث بات التعبير السياسي محصورًا في تحركات متفرقة تستهدف أفرادًا بعينهم، مما يؤدي إلى الاعتقال والمزيد من القمع. على سبيل المثال، في شهر مارس، قام فرد وحيد في مصر بتسلق لوحة إعلانية ورفع علم فلسطين أثناء وصف عبد الفتاح السيسي بالخائن، ليتم اعتقاله على الفور. وبالمثل، تم اعتقال طالبان حاولا تأسيس حركة طلابية مناصرة لفلسطين بالتزامن مع الاحتجاجات الطلابية في الولايات المتحدة، وذلك بعد أيام قليلة فقط من محاولتهما.
لم تكن أكثر الفئات المناهضة للصهيونية في العالم العربي مفعلة سياسيًا بالشكل الكافي لمواجهة اللحظة، لكن لا يكفي أن نتساءل عن السبب فحسب؛ بل يجب علينا تحليل الظروف المادية التي أعاقت ذلك. فهذه الفئة نفسها اقتحمت السفارة الإسرائيلية في سبتمبر 2011، وأسقطت أحد جدرانها الخارجية، وتسلق المتظاهرون المبنى لإسقاط العلم الإسرائيلي واستبداله بالعلمين المصري والفلسطيني، ما أدى إلى وقوع أكثر من ألف إصابة وثلاث وفيات على الأقل. وخلال العدوان الإسرائيلي عام 2012، استغل وفد مكون من نحو خمسمائة مصري الفراغ السياسي للدخول إلى قطاع غزة، ليصبح بذلك أكبر وفد مدني يدخل غزة منذ عام 1967. ألم يكن الحراك الطلابي في القاهرة خلال حرب الاستنزاف هو ما أجبر أنور السادات على شن حرب 1973؟ إذا لم تكن المشكلة في غياب التضامن، فكيف نفسر إذن هذا الإحساس المتزايد بالعجز السياسي الذي نشهده حاليًا في مصر؟
ماذا يحدث عندما يمر مجتمع ما -أو لا يزال يمر- بثورة مضادة شرسة وشاملة؟ يكفي النظر إلى تاريخ المشاريع الثورية "الفاشلة" -وما يليها حتميًا من عقود التصحيحات القمعية والثورات المضادة- لإدراك مدى القمع الاستثنائي ومحو الحياة السياسية في مصر منذ عام 2013. لقد تابع الناس الضميريون حول العالم، بمن فيهم الفلسطينيون في غزة، ثورة يناير 2011 بشغف، لكنها سُحقت بحلول 2013. وبينما أدت شعبية انقلاب عبد الفتاح السيسي في البداية إلى حراك سياسي واسع، سرعان ما انهارت المكاسب التي تحققت على مستوى التعبئة السياسية، والتخطيط الاستراتيجي، وتطوير الوعي السياسي بعد عام 2013. تمثل مصر اليوم مثالًا واضحًا على تبعات الهزيمة السياسية: استراتيجيات فاشلة ناتجة عن زواج بين هزيمة ثورية وعملية قمعية مستمرة للثورة المضادة.

لقد دفعتني قراءة كتاب هانا بروكتور "الاحتراق: التجربة العاطفية للهزيمة السياسية" إلى التفكير في الحالة الراهنة للسياسة المصرية. فهي لا تقتصر على الاستشهاد بالتجربة المصرية عدة مرات، بل تسلط الضوء أيضًا على أهمية تحليل التجارب الذاتية للهزيمة كمكمل للتحليلات المادية. الفصلان المعنونان بـ"الكآبة" و"الحنين" شكّلا بشكل خاص الإطار الذي أتعامل به مع سؤال الذات السياسية العربية. تبني بروكتور على أفكار إنزو ترافيرسو، ويندي براون، وفالتر بنيامين حول الكآبة. وتجادل بأنه عندما يُنظر إلى الكآبة باعتبارها مجرد مزاج أو حالة نفسية، فإن ذلك يفشل في نقل الواقع المادي للهزيمة. بدلاً من ذلك، تُعاش تجربة الهزيمة السياسية ويتم الشعور بها بشكل شخصي بدلاً من أن تكون مجرد حقبة تاريخية، إذ تُعتبر جزءًا من لحظة تاريخية محددة. وتؤكد أن ترافيرسو، على سبيل المثال، يركز على الخيال الطوباوي والتآكل التدريجي للوعود التحررية كنتيجة لإحساس بفقدان كلي في الماضي أو فشل في تخيل المستقبل، بدلاً من رؤيتها كواقع مادي يُعاش يوميًا نتيجة النضال الجماعي.
"تصبح الخسارة ذاتًا مفقودة. الشبح الذي طارده ماركس وإنجلز في أوروبا أتى من المستقبل، بينما ينعي اليساري الكئيب فقدان شيء لم يتحقق بالكامل أبدًا. وتتحول هذه الأحزان المتكلسة إلى وضع سياسي دائم."
عندما نستحضر الذات العربية المهزومة أو المنزوعة الطابع السياسي، يجب أن نفكر أيضًا في آثار الهزيمة بعد محاولات تشكيل التاريخ—بعد أن تم انتزاع إمكانية كسر الوضع الراهن بالعنف. حتى يومنا هذا، تستمر هذه الذوات في تحمل عمليات يومية عنيفة من الضبط وإعادة الترتيب، والتي لا تؤدي إلا إلى ترسيخ الهزيمة بشكل أكبر. نحتاج إلى تجاوز رؤية يناير 2011 من خلال ثنائية الهزيمة والانتصار—بوصفها هزيمة مفاجئة شاملة—والنظر إليها بدلًا من ذلك على أنها عملية تفكك تدريجي. إن هذا المنظور يفرض اعتبارات سياسية جديدة تُلقي بظلالها على المشهد السياسي الإقليمي الحالي. وبالتالي، فإن حالة الهزيمة ليست مجرد شعور، بل هي عملية تُفرض على الذات السياسية المصرية وتُعاش بعمق.
عند النظر إليها من خلال عدسة الكآبة، لا تكون الهزيمة مجرد شعور نفسي. إن هذا التغيير في الذاتية السياسية هو تغيير مادي—ليس مجرد تحول فكري، بل تجربة ملموسة. ولكي نغير هذه الحالة، ونمنع استمرار مشاعر الكآبة السياسية، ونعيد الانخراط في النضال السياسي، علينا التعامل مع الهزيمة باعتبارها واقعًا ماديًا وليس مجرد حدث تاريخي معزول. إذن، ما الفرق بين التعلم من النضالات السابقة وبين التعلق الرومانسي المرضي بالماضي؟ تقدم لنا بروكتور الإجابة عبر التمييز بين الحنين المرضي والحنين السياسي، أو بين الكآبة اليسارية والحزن الكفاحي. الأول يمثل ارتباطًا غير صحي بالماضي يعوق الفعل السياسي، بينما يتضمن الثاني "الارتباط بتاريخ الثورات بطريقة تستفيد من طاقات التجارب الماضية في الحاضر".
"عند النظر إليها من خلال عدسة الكآبة، لا تكون الهزيمة مجرد شعور نفسي. إن هذا التغيير في الذاتية السياسية هو تغيير مادي—ليس مجرد تحول فكري، بل تجربة ملموسة."
إن الحالة الكئيبة غالبًا ما تختلط بالنزعة الحنينية، مما يؤدي إلى صورة مفرطة في الرومانسية للآمال السياسية السابقة، وتجسد ذلك بشكل خاص في التعلق بالثمانية عشر يومًا الأسطورية في ميدان التحرير. كتب السجين السياسي المصري علاء عبد الفتاح عن هذه الحالة قائلًا: "التشبث بالصورة الأسطورية للميدان يؤدي إلى إهمال النشاط الثوري في الحاضر. فالتعامل مع كل من الأمل (الميدان) واليأس (القمع الذي تلاه) يشكل جزءًا من تحول ذاتي". إن الدولة المصرية منشغلة، إن لم تكن أكثر انشغالًا، بالمكانة التذكارية ليناير 2011، الذي شهد تراجعًا سريعًا—من التدمير غير المسبوق للمجتمع المدني، إلى تسجيل أحد أسوأ سجلات الاعتقال السياسي في العالم، إلى عمليات إعادة الهيكلة الحضرية على غرار كومونة باريس، وإلى نقل الهيئات الحكومية والسفارات إلى عاصمة جديدة في الصحراء. هدفت هذه الثورة المضادة إلى محو 2011 من الوجود ومنع تكرارها. وإذا لم يكن استهجان النظام لعام 2011 واضحًا بما يكفي من خلال أفعاله، فإن الرئيس السيسي يحرص في خطاباته على استدعاء 2011 للتعليق على العواقب الكارثية لسعي الناس إلى تحسين ظروفهم المعيشية.
من المؤسف للغاية أن الجماهير المصرية تجد نفسها في حالة ذاتية سياسية غير متماشية مع المتطلبات السياسية للحظة الراهنة. لقد فتحت غزة شرخًا سياسيًا جديدًا يستدعي مرحلة جديدة من المقاومة، لكن الذات السياسية المصرية ظلت عالقة في لحظة كئيبة—تحاول التعافي من الماضي بينما تسعى الدولة بشكل نشط إلى محوه تمامًا. ففي حين أن محاولة غزة للتحرر أحدثت تصدعًا في الوضع القائم على الحدود، كان المصريون يعيشون إعادة ترسيخ أسوأ للوضع الذي سبق 2011. هذه هي المعضلة التي تحدد علاقة مصر-فلسطين في مرحلة ما بعد 7 أكتوبر: بينما يتسع الشرخ في النظام الاجتماعي الأخير، فإن الشرخ في النظام الأول آخذ في الانغلاق.

لا يمكن استحضار موضوع الهزيمة في العالم العربي دون الإشارة إلى الحدث الرئيسي الذي شكل الشرق الأوسط الحديث بطريقة غير مسبوقة: الهزيمة التي لحقت بالجيوش العربية بقيادة مصر وسوريا أمام إسرائيل عام 1967. يُعد هذا الحدث السبب الجذري للكآبة اليسارية في العالم العربي والمقياس الذي تُقاس به جميع الأحداث اللاحقة. وكما صاغها الصحفي المصري محمد حسنين هيكل، كاتب خطابات جمال عبد الناصر ومقربه، فإن "النكسة" تؤطر الهزيمة باعتبارها جزءًا من عملية مستمرة وليست حدثًا نهائيًا. أما المؤرخ المصري خالد فهمي، فيشير إليها على أنها "هزيمة يونيو المستمرة" لتوضيح أننا ما زلنا نعيش تداعياتها حتى اليوم.
المقطع التالي مقتبس من مذكرات الكاتبة والرسامة اللبنانية لمياء زيادة "كآبتي العربية الكبرى"، والتي توضح أهمية النكسة:
5 يونيو 1967. صدمة، إذلال، خيبة أمل، نزيف دم، فقدان الإيمان، ضيق، حزن، دمار. الشرق الأوسط يُمحى، يُدمّر. خلال ست ساعات فقط، دمّرت إسرائيل كامل سلاح الجو المصري وهو لا يزال على الأرض. خلال خمسة أيام فقط، سقطت سيناء، غزة، الضفة الغربية، والقدس. ناصر يستعد لإلقاء خطاب متلفز. الضابط الشاب، الذي طُلب منه كتابته وهو يبكي، يسلمه إليه. يقرأ ناصر الخطاب ويجري تعديلاً واحدًا. يزيل عبارة "مستعد لتحمل نصيبي من المسؤولية" ويستبدلها بـ"مستعد لتحمل كل المسؤولية". مصر بأسرها متسمّرة أمام التلفاز. يعلن استقالته. تخرج مصر إلى الشوارع فورًا، حتى قبل أن ينتهي الخطاب. بيروت، بغداد، دمشق، الجزائر أيضًا. "ناصر! ناصر!"، صرخات، دموع يأس، الجماهير تتوسل إليه ليبقى. يبقى. لكنه سيموت بعد ثلاث سنوات، عن عمر يناهز الثانية والخمسين. لكنه، في الحقيقة، مات في ذلك اليوم من يونيو 1967، حين بدأ العالم العربي في الانحدار إلى هاوية بلا قاع...
إن الوجود المستمر والمفروض لكيان "إسرائيل" في المنطقة يمثل حربًا دائمة، ليس فقط ضد الفلسطينيين، بل ضد الشعوب العربية جمعاء. وفقًا للأكاديمي اللبناني علي قدري، يشكل هذا الوجود حجر الأساس لعملية التراكم في الشرق الأوسط. في مقابلة أجريت معه في أكتوبر 2023، يجادل قدري بأن استخراج الحياة البشرية هو الخطوة الأولى في الاقتصادات الاستخراجية، كما هو الحال في دول العالم الثالث. وقد كان ثمن استخراج هذه الموارد باهظًا بشكل خاص في منطقتنا. إن وجود الكيان الصهيوني في المنطقة يمثل أحد أعلى التكاليف، حيث يلعب دورًا وظيفيًا في تأمين المصالح الإمبريالية في المنطقة.
"لقد أصيبت اليسارية العربية بالكآبة اليسارية قبل اليسار الغربي بثلاثة عقود، كما تجلى ذلك في سقوط الاتحاد السوفيتي وسقوط جدار برلين."
كانت هزيمة 1967 محورية في هذا السياق. فلم تدرك الولايات المتحدة قيمة وجود إسرائيل في المنطقة إلا بعد هذه الهزيمة. ومن ثم، عززت دعمها لإسرائيل، سواء ماليًا أو عسكريًا. وبينما كانت الولايات المتحدة تخوض حربها ضد الشعب الفيتنامي، كانت إسرائيل تنفذ لها مهام الحرب الباردة القذرة في جزء آخر من العالم. وكما يقول جو بايدن في عبارته الشهيرة، "لو لم تكن إسرائيل موجودة، لكان على الولايات المتحدة أن تخترعها". أصبحت إسرائيل الأداة الرئيسية في مكافحة النفوذ السوفيتي وتيارات عدم الانحياز والتضامن الثلاثي الناشئة في العالم العربي. لم تكتفِ إسرائيل بهزيمة أقوى جيش في الشرق الأوسط، بل أدت هذه الهزيمة أيضًا إلى تقويض وهزيمة المشروع المزدوج: القومية العربية والاشتراكية العربية، كما تجسد في ناصر والحركات الراديكالية العربية اليسارية الأخرى. في النهاية، نُظر إلى هذه الحركات على أنها فشلت في تحقيق النصر والتحرر العربي، مما أدى إلى فقدان السيادة الوطنية لدول رئيسية في المنطقة. حتى ثيودور هرتزل، مؤسس الصهيونية السياسية، وصف الدولة الصهيونية بأنها حصن ضد "الهمجية العربية".
يجادل قدري بأن حالة الهزيمة التي تعيشها الجماهير العربية هي واقع مادي فرضته الإمبريالية الأمريكية في المنطقة. يشير بحق إلى أنه إذا قمنا بتحليل التاريخ المعاصر للمنطقة، فلن نجد مرحلة لم تتعرض فيها شعوبنا للهجوم المتكرر. يذهب قدري إلى أبعد من ذلك ليؤكد أن غرس الإحساس بالهزيمة في الجماهير العربية كان جزءًا أساسيًا من النظام العالمي الذي فرضته الرأسمالية في حقبة ما بعد الاتحاد السوفيتي. فلو لم تكن شعوب المنطقة عرضة للضرب المستمر والهزيمة المتواصلة، لما تمكنت الآلة الرأسمالية المدفوعة بالإمبريالية من العمل.
في العالم العربي، فإن محاولة تقويض الكآبة دون تقويض الاحتلال الإسرائيلي الراسخ والهيمنة الأوروبية-الأمريكية المستمرة تعني فقدان الهدف الأساسي وتحويل الانتباه بعيدًا عن الظلم الجوهري الذي أنتج هذه الكآبة في المقام الأول.
في كتابه "أفعال الكآبة: الهزيمة والنقد الثقافي في العالم العربي"، يقدم الأكاديمي نوري غنى ملاحظة لافتة، مفادها أن اليسار العربي قد أُصيب بالكآبة اليسارية قبل نظيره الغربي بثلاثة عقود، كما تجلى ذلك في سقوط الاتحاد السوفيتي وهدم جدار برلين. وقد تفاقمت هذه الكآبة بسبب حقيقة أن الحركات اليسارية العربية الراديكالية كانت لا تزال في مراحلها الأولى ومؤسسة على الكفاح المسلح، قبل أن يتم استبعادها فجأة من التاريخ عبر الهزيمة في عام 1967. كان هذا التشكيل الاجتماعي-السياسي اليساري، حيث كان التحرر الوطني متشابكًا بشكل لا ينفصم مع الأفكار الاشتراكية، ما يعني أن خسارة الأول أدت حتميًا إلى انهيار الثاني. ويجادل غنى بأن الكآبة في العالم العربي هي في الأساس نتاج العلاقات الاستعمارية التي تشكل بنيته، وارتباطه بالإمبريالية العالمية.
"كما لو أن الهزيمة قد قذفت بالعرب أو طردتهم من التاريخ في اللحظة التي كانوا يعيدون دخولها من خلال أيديولوجية التحرر من الاستعمار المتمثلة في القومية العربية والحركات المناهضة للاستعمار التي أصبحت نماذج للتخيل العالمي الثالثي وعدم الانحياز... لقد دمرت هزيمة 1967 الأساس المفاهيمي للمشروع التحرري الواعد لأمة عربية موحدة ومتحررة، وأرست القواعد لأنظمة ديكتاتورية منقسمة وسيادات وطنية مخترقة في معظم الدول العربية... وسرعان ما أعيد تمثيل الدمار الاجتماعي والنفسي للعنف الاستعماري داخليًا، في أشكال متعددة، تتراوح بين الانقلابات المتكررة، وأعمال الشغب، والانتفاضات، إلى الصراعات العنيفة على السلطة، وعمليات الاغتيال السياسي، والمجازر، والحروب الأهلية المطولة."

في ظل الأنظمة النفطية الرجعية واقتصادات الريع التي تعتمد عليها العديد من الدول العربية، يمكن اعتبار ترسيخ الرأسمالية المالية أحد أبرز نتائج 1967. إن اتفاقيات كامب ديفيد وأوسلو ما هما إلا تجليات أخرى لنفس العمليات التي أعقبت الهزيمة. إن فشل اليسار العربي آنذاك—وفشله المستمر حتى اليوم في إحداث تحول اجتماعي—يجب أن يُفهم ضمن سياق وجود المستوطنة الاستعمارية، التي تتطلب تواطؤ الإمبريالية مع الأنظمة العربية لدعم بقائها. فلو لم تكن إسرائيل موجودة، لما كان هناك حاجة مماثلة للإمبرياليين لدعم وحماية الحكومات الاستبدادية على حدودها. هذا يخلق دائرة مفرغة: نظام إمبريالي عالمي مدعوم بأذرعه الاقتصادية والعسكرية، حيث تؤدي الرأسمالية المالية إلى تآكل السيادة الاقتصادية للدول العربية وتعزز هزيمة جماهيرها العمالية، بينما تؤمّن القواعد العسكرية بقاء المستوطنة الاستعمارية ومصالحها.
في الدول الكمبرادورية مثل مصر والأردن، تستخدم الولايات المتحدة الديون عبر مؤسساتها المالية لضمان خضوع هذه الدول للأسواق العالمية، بينما تستخدم العقوبات كأداة للحرب الاقتصادية ضد الدول الأكثر مقاومة، مثل محور المقاومة.
على الرغم من اختلاف أشكال الضبط السياسي، فإن كلا النوعين من الدول يظلان خاضعين للإمبريالية. يمكن رؤية ذلك في تخصيص الولايات المتحدة لكامل مساعداتها العسكرية السنوية لمصر، والتي تبلغ 1.3 مليار دولار، حيث أشار وزير الخارجية بلينكن صراحة إلى "المساعدة في غزة" كسبب لصرف كامل المبلغ، رغم تعليق جزء منه في السنوات السابقة بسبب انتهاكات حقوق الإنسان في مصر وارتفاع عدد السجناء السياسيين. لم يتغير نهج النظام المصري القمعي تجاه شعبه، بل ربما ازداد سوءًا منذ العام الماضي، حينما تم تعليق بعض المساعدات. التغيير الوحيد هذا العام هو دوره في دعم المصالح الأمريكية في المنطقة خلال العدوان على غزة، وقمع سكانه البالغ عددهم 100 مليون نسمة، الذين يدعمون فلسطين في الغالب، بدلاً من استخدامهم للضغط على الولايات المتحدة وإسرائيل، كما فعل رؤساء مصريون سابقون.
على النقيض، في الدول الأخرى، تتيح الاستراتيجية الأمريكية لمواطنيها التعبير عن تضامنهم مع فلسطين بشكل أكثر علانية، لأن تركيز الدولة ليس منصبًا على ضبط الجماهير فيما يتعلق بتحدي الولايات المتحدة. يتيح هذا لهذه الدول اتخاذ مواقف أكثر عدائية تجاه المصالح الأمريكية في المنطقة، حيث يكون الكيان الصهيوني التجلي الرئيسي لهذا العداء. في كلتا الحالتين، لا يتعلق الأمر بنيات القادة—سواء كان الملك الأردني، السيسي، أو حسن نصر الله—بل بموقعهم بالنسبة إلى الإمبريالية الأمريكية في المنطقة وما تمليه مصالحهم الوطنية.
ولتوضيح هذا الوضع، يمكننا النظر إلى حجة نضال خلف في "موت إنسان الربيع العربي": أن يوم 7 أكتوبر قد خلق نوعًا جديدًا من الذاتية السياسية العربية. فما هي طبيعة هذه الذات التي استيقظت؟
من الواضح أن مصالح الطبقات الحاكمة في مختلف الدول العربية العميلة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا برأس المال الإمبريالي الذي تقوده الولايات المتحدة، مما يعكس علاقاتها بالغرب، وبقية الدول العربية، وشعوبها. وقد تطورت هذه العلاقة تاريخيًا من خلال الحروب بالوكالة والتدخل المباشر، من ليبيا إلى لبنان إلى مصر إلى العراق، مما أدى إلى هزيمة المشاريع التنموية وتعميق الانقسامات الطبقية. لا تزال "إسرائيل" تمثل تهديدًا وجوديًا واضحًا، حيث كانت مسؤولة إلى حد كبير عن تدمير المشرق العربي خارج فلسطين. وقد امتدت آثارها المدمرة عبر المنطقة: في لبنان، الذي غزته عام 1982 والذي تنتهك مجاله الجوي أكثر من ألفي مرة سنويًا (قبل 7 أكتوبر)، والذي تخوض معه حربًا منذ 8 أكتوبر، متسببة في استشهاد أكثر من خمسمائة شخص في الجنوب؛ في سوريا والعراق، اللتين كانتا من أكثر الدول العربية سيادة، وقد تعرضتا لأضرار جسيمة؛ وفي مصر، التي تم تحييدها كقوة تهديد. علاوة على ذلك، تنخرط "إسرائيل" اليوم في تأجيج الحروب ضد إيران واليمن، وتنفذ عمليات اغتيال في العواصم العربية، وتسعى إلى جرّ العالم إلى صراع إقليمي واسع. ومن الأمثلة الحديثة على ذلك التفجيرات الإرهابية باستخدام أجهزة مزودة ببطاريات الليثيوم في لبنان، التي أسفرت عن آلاف الإصابات وتسعة قتلى (حتى الآن)، بينهم أطفال. وكما يشير المؤرخ أسامة مقدسي، فإن "إسرائيل" هي دولة ومجتمع "ملتزمان بإبادة البرابرة"، مما يجعلها تمثل تهديدًا دائمًا بالحرب والموت والدمار ضد العرب.
"إن هذه المقاومة تتحدى الوضع الراهن للهزيمة، وتخوض معركة من أجل مستقبل العالم العربي في النقطة الأكثر حدة من المواجهة مع الإمبريالية الأمريكية."
وقع طوفان الأقصى في توقيت لم يؤدِ فقط إلى تعميق التناقضات بين الأنظمة الرجعية في المنطقة وشعوبها، بل أيضًا بين الدول العربية التي تقع على طرفي نقيض من الإمبريالية الأمريكية. لقد أدى ذلك إلى تحطيم، على الأقل، مظاهر الهزيمة على الصعيد العسكري. فعلى المستوى العسكري، أظهرت العملية أن بعضًا من أكثر الفئات تهميشًا في المنطقة—وفي العالم—يمكنها أن تواجه أحد أكثر الجيوش تمويلًا ودعمًا، رغم الحصار والعقوبات والمراقبة المستمرة. وعلى المستوى السياسي، فإن العملية كانت مقاومة واضحة وتموضعت خارج إطار جهود التطبيع الأمريكي/السعودي. وهذا بدوره يهدد التحالف بين الأبعاد الاقتصادية والعسكرية للإمبريالية والأنظمة العربية الرجعية، مما يفتح آفاقًا سياسية بديلة.
ومن الأمثلة اللافتة على هذا التأثير السياسي خطاب ألقاه السيسي في يناير 2024، حيث تناول الأزمة الاقتصادية في مصر واستياء المصريين من الارتفاع القياسي في أسعار السلع الأساسية. وقارن أوضاع مصر بغزة، قائلاً: "لقد أرسل الله لنا مثالًا حيًا على الحدود لأناس لا يمكننا حتى إرسال المواد الغذائية الأساسية إليهم"، مستخدمًا هذه المقارنة للإيحاء بأن على المصريين تحمل الجوع لأن وضعهم قد يكون أسوأ. وتعتبر هذه الإشارة مستفزة للغاية بالنظر إلى دور الدولة المصرية في إدارة معبر رفح. وكانت الرسالة الضمنية للخطاب هي زرع الخوف وردع الجماهير عن تحدي الوضع القائم والسعي إلى تحسين ظروفهم. فبالنسبة للسيسي، يمثل يوم 7 أكتوبر تهديدًا، لأنه ذكر الجماهير المصرية بأن إخوانهم في غزة سعوا إلى كسر الوضع القائم، ما يشير إلى إمكانية قيامهم بالشيء نفسه. وفي الخطاب ذاته، سعى السيسي إلى تذكير المصريين العاديين بعواقب مثل هذه الأفعال، ملقيًا مرة أخرى باللوم على ثورة يناير 2011 في انهيار الاقتصاد المصري.
في مصر، تم حظر الاحتجاجات الداعمة لفلسطين، وأصبح رفع العلم الفلسطيني في أي حدث رياضي سببًا للاعتقال. يرتبط العنف الشديد في القمع بشكل مباشر بقرب الإبادة الجماعية في غزة. استجابت الدول الرجعية بتكثيف قمعها، فهي تدرك جيدًا أن شعوبها قد تستلهم من أولئك الذين يقاومون الوضع القائم على الحدود. هذه المقاومة تتحدى حالة الهزيمة المفروضة، وتخوض معركة من أجل مستقبل العالم العربي في صميم الصراع مع الإمبريالية الأمريكية. يهدف هذا الرد القمعي إلى تثبيط أي مقاومة أو بحث عن ظروف معيشية أفضل بين الجماهير العربية. يعتمد النظام الإمبريالي العالمي على هذا القمع لضمان استمرار عمليات التراكم الرأسمالي وتدفقات رأس المال، بينما تعتمد الأنظمة العميلة عليه لضمان بقائها وشرعيتها من خلال الدعم الغربي.
لا تزال تحليلات كنفاني في عام 1972 صالحة حتى اليوم:
"كانت الدول العربية المحيطة بفلسطين تلعب دورين متناقضين. فمن ناحية، كانت الحركة الجماهيرية القومية العربية بمثابة محفز للروح الثورية للجماهير الفلسطينية. ومن ناحية أخرى، كانت الأنظمة القائمة في هذه الدول تبذل كل ما في وسعها لكبح وإضعاف الحركة الجماهيرية الفلسطينية. لقد هدد تصاعد الصراع في فلسطين بالمساهمة في تطور النضال داخل هذه الدول في اتجاه أكثر عنفًا، مما خلق إمكانيات ثورية لم تستطع الطبقات الحاكمة فيها تجاهلها."
ورغم أن أحداث أكتوبر لم تؤدِ فورًا إلى التعبئة الجماهيرية المطلوبة، إلا أن تداعياتها أسفرت عن تحولات كبيرة داخل العالم العربي. تم كسر العلاقة الفكرية مع الغرب، وزعزعة الثقة بالمؤسسات الدولية والأطر الليبرالية بشكل كبير. تعرضت العديد من المنظمات غير الحكومية والمنظمات الحقوقية لقطع التمويل من المؤسسات الألمانية نتيجة دعمها لفلسطين بعد 7 أكتوبر. أدى ذلك إلى خلق فراغ مختلف عن ذلك الذي نتج عن الربيع العربي. توسعت جاذبية محور المقاومة وتعدد الأقطاب لتشمل دوائر كانت تعارضه في السابق، لكنها باتت تنظر إليه بشكل براغماتي كخيار للخروج من الدمار الحالي.
لطالما كانت القضية الفلسطينية عنصرًا جوهريًا في أي نضال تحرري أو أيديولوجيا راديكالية في العالم العربي، لكنها مرت بتقلبات عدة. إلا أن الطبيعة التوسعية لإسرائيل بصفتها مستوطنة استعمارية إمبريالية جعلت مكاسب السلام من خلال الاستسلام واهية وغير محققة. ومع ذلك، لا يزال من الواضح للجماهير العربية من هو عدوها الطبيعي، حيث يقف عائقًا أمام تقدمها.
لم يكن اختيار توقيت طوفان الأقصى في الذكرى الخمسين لحرب 1973 مع إسرائيل مصادفة، بل كان خيارًا مدروسًا. فالحرب الوطنية الفلسطينية من أجل التحرير تستند بوعي أو دون وعي إلى الذاكرة السياسية المتراكمة للنضالات العربية السابقة، وتُسقط نفسها على مستقبل تحرير الوطن العربي من الصهيونية. لقد أدركت المقاومة أن العمليات السياسية غير المكتملة لا تُرفض رفضًا مسبقًا، بل يجري دمجها مع الظروف المادية الراهنة، ما يكشف عن الطبيعة التراكمية للتاريخ.
بالنسبة لروزا لوكسمبورغ، كانت الهزيمة دائمًا ضرورية لتحقيق النصر النهائي. وكما كان الانتصار العسكري لحزب الله ضد إسرائيل عام 2006، يجب اعتبار هذه اللحظة جزءًا من جهد تراكمي سيؤدي إلى تفاقم التناقضات، وفي النهاية، إلى التحرير. لقد باتت المهمة الآن تقع على عاتق الجماهير العربية لمواجهة هذه الكآبة—وهذه الهزيمة—والنهوض لمواكبة اللحظة السياسية.


الخاتمة
يخلص المقال إلى أن النضال من أجل فلسطين لا يمكن فصله عن مصير العالم العربي بأسره؛ فالهزائم التاريخية والكآبة اليسارية ما زالت تلقي بظلالها على الذات السياسية العربية. ومن خلال التحليل العميق للعوامل المادية والظروف السياسية التي أدت إلى تقويض الحركة الوطنية، يُبرز المقال ضرورة إعادة استعادة الوعي السياسي الجماهيري وتجاوز حالات الإحباط المستمرة. إن مواجهة التحديات المفروضة من القوى الإمبريالية والأنظمة الرجعية تتطلب تحركاً جماعياً واعياً يهدف إلى إعادة صياغة التاريخ وفتح آفاق جديدة للنضال من أجل الحرية والكرامة. وفي النهاية، يبقى التحدي الأكبر هو تحويل الشعور بالهزيمة إلى دافع حقيقي للمقاومة والتغيير، معتمداً على إرادة الشعوب وتصميمها على استرداد مستقبلها.



#أحمد_الجوهري (هاشتاغ)       Ahmed_El_Gohary#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العمل المنزلي غير المأجور للنساء من منظور الماركسية: تحليل م ...
- توحيد الماركسية الأصلية لكارل ماركس مع الشتراكية التحررية لن ...
- التواجد الأزلي للخالق والمادة: من منظور رياضيات المالانهاية
- الحقيقة الرياضية للواقع: النظام المتناغم للمادة والإرادة الح ...
- مسارات مختلفة نحو الاشتراكية: حوار بين الأجيال
- أهمية دراسة كارل ماركس في وقتنا المعاصرز
- الاعجاز العلمي افيون المتدين الشائع
- حول النظرة الحنبلية-العبرانية الرعوية للمرأة


المزيد.....




- السودان: ما هي مخاطر تشكيل حكومة موازية؟
- ماكرون يؤكد أن فرنسا لن تنشر قواتها في أوكرانيا قبل إبرام ات ...
- انفجارات في مدينة بات يام الإسرائيلية.. والشرطة تصدر بيانا
- نتنياهو يعقد مشاورات أمنية عقب تفجيرات تل أبيب وكاتس يأمر بت ...
- هكذا تفاعل مصريون مع تصريحات مستثمر إماراتي لتحويل وسط البلد ...
- الكوكب الأحمر في عهد ترامب.. هل تفتح واشنطن الطريق أمام أول ...
- عشية إعلان مرتقب لحكومة موازية - السودان يستدعي سفيره لدى كي ...
- هل ستواجه أوروبا حلفا روسيا أمريكيا؟
- لافروف: بحثنا مع الولايات المتحدة في الرياض بناء علاقات قائم ...
- انفجار 3 حافلات في عدة مواقع تهز تل أبيب ـ فيديوهات


المزيد.....

- اعمار قطاع غزة بعد 465 يوم من التدمير الصهيوني / غازي الصوراني
- دراسة تاريخية لكافة التطورات الفكرية والسياسية للجبهة منذ تأ ... / غازي الصوراني
- الحوار الوطني الفلسطيني 2020-2024 / فهد سليمانفهد سليمان
- تلخيص مكثف لمخطط -“إسرائيل” في عام 2020- / غازي الصوراني
- (إعادة) تسمية المشهد المكاني: تشكيل الخارطة العبرية لإسرائيل ... / محمود الصباغ
- عن الحرب في الشرق الأوسط / الحزب الشيوعي اليوناني
- حول استراتيجية وتكتيكات النضال التحريري الفلسطيني / أحزاب اليسار و الشيوعية في اوروبا
- الشرق الأوسط الإسرائيلي: وجهة نظر صهيونية / محمود الصباغ
- إستراتيجيات التحرير: جدالاتٌ قديمة وحديثة في اليسار الفلسطين ... / رمسيس كيلاني
- اعمار قطاع غزة خطة وطنية وليست شرعنة للاحتلال / غازي الصوراني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - أحمد الجوهري - الموضوع السياسي العربي :الكآبة اليسارية و مسألة فلسطين من النهر إلى البحر (مُترجم الي العربية)