طواحين الهواء (متلازمة دون كيشوت)

أوزجان يشار

الحوار المتمدن-العدد: 8256 - 2025 / 2 / 17 - 22:08
المحور: الصحة والسلامة الجسدية والنفسية
    

طواحين الهواء التي نصارعها وحدنا
(متلازمة دون كيشوت)

في روايته الخالدة دون كيشوت دي لا مانتشا، قدّم لنا الأديب الإسباني ميغيل دي ثيربانتس واحدة من أعمق الصور الإنسانية التي لا تزال تحاكي واقعنا حتى اليوم. فدون كيشوت لم يكن مجنونًا بالمعنى التقليدي، بل كان رجلًا أغرق نفسه في عالم من القصص حتى فقد الحدّ الفاصل بين الواقع والخيال، فقرر أن يكون فارسًا في زمنٍ لم يعد للفروسية فيه مكان، وبدأ يخوض معارك ضد أعداء لم يكن لهم وجود إلا في ذهنه. كانت طواحين الهواء مجرد رموز، لكنها في عينيه تجسّدت كوحوش يجب أن تُهزم، كأعداء يجب أن يطيح بهم ليعيد مجد الفروسية الغابر.
عقدة دون كيشوت: بين الوهم البطولي والصراع النفسي
في عالم العقد النفسية، هناك أنواع تنشأ بفعل الصدمات والخبرات الحياتية، بينما تتشكل أخرى نتيجة الانغماس في أفكار مثالية أو خيالية. عقدة دون كيشوت تنتمي إلى النوع الثاني، حيث يعيش الشخص في وهم البطولة، مقتنعًا بأنه يخوض معركة عظيمة ضد أعداء غير موجودين إلا في مخيلته. هذه العقدة، المستوحاة من شخصية دون كيشوت دي لا مانتشا في رواية ميغيل دي ثيربانتس، تعكس مأساة الإنسان الذي يصرّ على رؤية العالم من منظور معركة غير واقعية، ويستنزف نفسه في صراعات لا طائل منها.
البعد النفسي: وهم البطولة وصراع الذات
من الناحية النفسية، يعاني المصابون بعقدة دون كيشوت من الانفصال عن الواقع، حيث يبنون سيناريوهات تجعلهم يعتقدون أنهم أبطال في معركة لإصلاح العالم، دون أن يدركوا أن هذه المعركة قد تكون مجرد انعكاس لمخاوفهم الداخلية. يرتبط هذا النمط النفسي بعدة مظاهر مثل:
• الهوس بالمواجهة: البحث المستمر عن خصوم حتى في غيابهم.
• إدمان الشعور بالبطولة: الحاجة الدائمة لإثبات الذات من خلال صراعات غير مبررة.
• رفض الحقائق البسيطة: صعوبة التمييز بين العدو الحقيقي والخيال الذهني.
قد يكون هذا النمط النفسي مدفوعًا بتجارب سابقة من الفشل أو الإحباط، حيث يحاول الفرد التعويض عن شعوره بالعجز عبر خلق أعداء متخيّلين والاشتباك معهم.
البعد الاجتماعي: بين الاعتراف والرفض
اجتماعيًا، يمكن لهذه العقدة أن تؤثر بشكل كبير على علاقات الشخص بالآخرين، حيث يكون في حالة صدام مستمر مع محيطه، مقتنعًا بأنه الوحيد الذي يرى الحقيقة، فيما يراها الآخرون مجرد وهم. يمكن أن يؤدي ذلك إلى:
• الانعزال الاجتماعي: حيث يشعر الشخص بأنه مختلف عن الجميع.
• التوتر في العلاقات: بسبب رغبته المستمرة في إقناع الآخرين بوجود معركته.
• الإحباط والغضب: عندما لا يجد الدعم المتوقع من محيطه، مما يجعله أكثر تمسكًا بأوهامه.
في بعض الحالات، قد تتحول عقدة دون كيشوت إلى نشاط اجتماعي سلبي، حيث يصبح الشخص مهووسًا بقضايا لا تعكس الواقع، مثل نظريات المؤامرة أو محاربة أفكار غير موجودة إلا في ذهنه.
الأدب والفكر: البطل بين التراجيديا والكوميديا
من منظور أدبي، عقدة دون كيشوت هي مأساة ذات طابع كوميدي، حيث يعيش الشخص في عالم من البطولات المختلقة بينما يراه المجتمع على العكس تمامًا. ثيربانتس، في روايته، قدم شخصية دون كيشوت بمزيج من التعاطف والسخرية، ليكشف كيف يمكن للفكر المثالي أن يصبح أداة تدمير ذاتي إذا لم يكن مرتبطًا بالواقع.
في الأدب والفكر، هذه الظاهرة ليست حكرًا على دون كيشوت وحده، بل تمتد إلى شخصيات وأفكار كثيرة عبر الزمن، حيث يتكرر نموذج الإنسان الذي يتشبث بحلم بعيد، ويمضي فيه حتى النهاية، غير مكترث بمدى واقعيته.
كيف نتعامل مع عقدة دون كيشوت؟
1. إعادة تقييم الواقع
يحتاج المصاب بهذه العقدة إلى التمييز بين القضايا الحقيقية والوهمية. يمكن تحقيق ذلك عبر:
• التفكير النقدي: طرح أسئلة حول مدى واقعية التهديدات التي يعتقد بوجودها.
• الاستماع إلى آراء الآخرين: تقبّل وجهات نظر مختلفة لرؤية الأمور بشكل أوضح.
2. تحقيق التوازن النفسي
بدلًا من الانخراط في معارك لا طائل منها، يمكن توجيه الطاقة نحو أمور أكثر فائدة، مثل:
• العمل في قضايا ملموسة تعود بالنفع على المجتمع.
• ممارسة التأمل والوعي الذاتي لفهم الدوافع الحقيقية وراء هذا السلوك.
3. البحث عن الدعم النفسي
في الحالات الشديدة، قد يكون اللجوء إلى مختص نفسي ضروريًا لمساعدة الشخص على التحرر من أنماط التفكير الوهمية وتطوير رؤية أكثر اتزانًا للحياة.
خاتمة: نحو معركة حقيقية تستحق القتال
الحياة مليئة بالتحديات، لكن الصراع يجب أن يكون ضد مشاكل واقعية، وليس ضد طواحين هواء صنعها العقل. إن الوعي بأن بعض الحروب هي مجرد أوهام، والقدرة على التمييز بين الأعداء الحقيقيين والمتخيلين، هي أولى خطوات التحرر من عقدة دون كيشوت.

#أوزجان_يشار (هاشتاغ)      

---

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات