خالد محمود خدر
الحوار المتمدن-العدد: 8256 - 2025 / 2 / 17 - 09:17
المحور:
المجتمع المدني
تبادل الحوار بأسلوب متمدن يعني استخدام لغة راقية، دافئة وملتزمة ، سواء كان الحوار بشكل مباشر أو افتراضيا عبر مواقع الانترنيت المعنية ومنها منصات التواصل الاجتماعي.
واقعا كم نقرأ على صفحات منصات التواصل منشورات وردود تحمل عبارات لا تليق برفعة وسمو العلاقات الإنسانية بين الناس. هذه العلاقات وجدت بالأساس لتعلو بالإنسان وتسمو به بما يجعل من الآخر أخا له لم تلده أمه ، وليس عدوا يترقب تحيّن الفرص للنيل منه وإن كان أخا شقيقا.
تعليقات وردود بل أحيانا مقالات كشفت معادن الكثيرمن الأفراد ممن يراهم الناس على حقيقتهم ومستوى ثقافتهم من خلال تلك الصفحات ، فقد كشفت وسائل التواصل الاجتماعي الكثير عن مستوى تفكيرهم وأسلوبهم في الحوار.
لم يعد تبادل المعرفة اليوم مقتصرا على المجالس والمناظرات كما في زمن سقراط حين قال لأحد جلسائه : تكلم لأراك ، بل أصبح تأتي أيضا عبر حوارات افتراضية و منشورات وتعليقات تكتب على مواقع شبكة الانترنت ومنها منصات التواصل ، لتختصر شخصية صاحبها عبر تبادل الحديث والتعليق والرد ، وتمنحه تقيماً بما قد يكون أكثر مما كان يطمح له سقراط في أن يسمع جليسه يتكلم ليختبر او يلاحظ مستوى معرفته عبر تبادل الحوار.
لو كان سقراط بيننا حياً اليوم ، ربما كان سيعدل عبارته إلى: اكتب لأراك ، وذلك لسببين أولهما أن الناس باتو يلتقون افتراضيا على هواتف ومنصات التواصل أكثر مما هو على أرض الواقع ، وأن الكلمات المكتوبة على هذه المنصات صارت مرآة تعكس أخلاق الإنسان ومستوى تفكيره. الكثير يكتب ليعبّر عن رأي ناضج وواعٍ، بينما قد يتم إيجاد البعض يفضح جهله وتعصبه من خلال كلماته الجارحة وردوده المتشنجة. السبب الثاني يكمن فحواه في رد الأديب الروسي الكبير دوستويفسكي على سقراط بعد أكثر من ألفي سنة قائلا : قد يكون في أعماق المرء ما لا يمكن نبشه بالثرثرة. إياك أن تظن أنك عرفتني لمجرد أني تحدثت إليك.
كم يفترض أن يعكس الإنسان نفسه بما يكتبه ، ليختار كلماته كما يختار ملابسه عندما يخرج للناس. عندها يظهر الفرق بين من يحترم فكره ويحترم الآخرين، وبين من يتخذ الحروف سلاحا للهجوم والانتقاد الهدّام. فالكلمة لم تعد مجرد صوت يسمع في مجلس اجتماعي أو ادبي عام أو مجلس علمي وفلسفي كمجلس سقراط ، بل صارت الكلمة بصمة تبقى على صفحات الإنترنت، تكشف الإنسان أكثر مما يظن.
أحد الطلبة السابقين في جامعة الموصل / كلية الهندسة/ نهاية التسعينات ، يعمل حاليا في إحدى الوزارات العراقية كمهندس اقدم بدرجة ماجستير . كتب في صفحته على الفيسبوك ذات يوم من ايام شهر كانون الاول ٢٠٢٣ :
لم يؤلمني التقدم بالعمر لأنه محتم ، بقدر ما ألمتني أمنيات شابت بداخلي ، لقد شاخ قلبي قبل عمري. ثم أضاف:
نمضي في الحياة ولا نعرف أين نحن ذاهبون ، نهرب من أشياء لا نعرف لما تطاردنا .. نقوم بكل الأشياء المفروضة علينا .. إلا تلك التي نرغبها و بشدة نتكلم كثيرا إلا الكلام الذي نود قوله نحبسه بداخلنا ... تائهون في حكايات مضت .. وأخرى نعيشها مشتتون بين أمنيات نرغب بها .. وأخرى تاهت منا دون
أن ندركها. معتادون على كل شيء حدث ويحدث معنا مقبلون على الحياة دون أنفسنا ...
وبعد
إلى الأيام القادمة:
مري علينا بسلام ... فقلوبنا جدا متعبة ومرهقة أرهقتها الحظوظ .. وأتعبتها تراكمات الأيام.
أحد أساتذته في الجامعة ، بينهما مسافة جغرافية طويلة عمقها عمق العراق من شماله إلى جنوبه ، كتب له كصديق على تلك المنصة معقبا على مقاله :
كبير انت استاذ….
كبير في علمك و عملك الوظيفي
كبير في كتاباتك التي تحمل هموم الناس اجمعين مجسدة في شخصك الطيب الاصيل.
وقع كلماتك الجميلة المعبرة ذكرني بهذه الكلمات :
أيها العمر المسافر تمهل قليلاً
فما تزال صناديق امنياتنا مغلقة
وما زالت احلامنا ملقاة على عتبات الزمن
وما زلنا نحبو باتجاه بساتين افراحنا
وما زلنا على قيد امل
لعل شيء في القلب يزهر
أيها العمر المسافر تمهل.
تمنياتي لك بتحقيق كل امنياتك وامالك
استعن بالله وبعده بما تمتلكه من علم وشهادة عالية وثقافة كبيرة موازية تبعث الامل بان العراق قوي بشبابه امثالك الكثر الطيبين
ليبقى العراق هو الكتاب الجميل المفتوح الذي سيظل جميلا وعزيزا وشامخا طوال الزمن.
توكل على الله وهو سيصلح بحكمته حياتك ، ويطفئ بلطفه قلقك ويجبر برحمته كسرك . مع تحياتي
وسرعان ما جاءه رد المهندس طالبه السابق سريعا كاتبا:
استاذنا الغالي الف الف شكر ، ممنون منك على كلماتك الرائعة ودعمك اللامحدود ربي يحفظكم ممنون منك يا غالي انتم سندنا واستاذتنا الكبار.
هكذا رغم البعد الجغرافي وانعدام اللقاء المباشر على امتداد أكثر من ربع قرن من الزمان تطورت العلاقة بينهما من علاقة علمية ورسمية بين استاذ و طالبه في العلم إلى صداقة ملؤها الاحترام المتبادل بين استاذ اكاديمي ومهندس لتسمو وتطور بعدها على صفحات التواصل إلى صداقة بين أخوين ملؤها الاحترام والتقدير.
لم أشر إلى الاسماء المعنية ، لأن العبرة بالمواقف واردت بها أن أشير إلى مدى إمكانية التواصل الإيجابي الكبير عبر منصات التواصل.
بالتأكيد ليست كل العلاقات تنمو بهذه الطريقة ، ولكن حين يحدث أن تتحول المعرفة والاحترام المتبادل إلى صداقة حقيقية ورابطة أخوية عميقة ، فإن ذلك الأمر يكون شهادة على عمق الأخلاق والوفاء بين الطرفين.
مهندس آخر ، كان أحد طلبة نفس الأستاذ في كلية الهندسة في جامعة الموصل ، واغترب في أمريكا ويعمل منذ فترة طويلة في شركة مختصة ، بعد أن حصل على شهادة الماجستير ، ولكن سرعان ما ترك عمله في تلك الشركة ليكرس نفسه منذ عشرة سنين لمتابعة قضية إبادة أهله من قبل عصابات داعش ، ليساهم اولا في تأسيس منظمة إنسانية عالمية تعمل من أجل أهله وقضيتهم ، ثم ترأسها ، ليلتقي عبرها وبمساعدة ناشطين عالميين بكبار رؤساء دول العالم ومجالسهم البرلمانية من أجل التعريف بقضيتهم وماذا حل بهم وارتكب بحقهم ، كمكون ديني مسالم ، من إبادة جماعية ذهب ضحيتها عشرات الآلاف من القتلى ومثلهم من الفتيات المختطفات والأطفال. كتب ذات يوم على موقعه في الفيسبوك مقالا ، جاء فيه:
لا حدود لخير الإنسان و لا حدود لشره. هناك أشرار بين البشر لدرجة لا يمكن استيعاب شرهم. وهناك من أعمال الخير ما يصعب قياسه أيضا.
وأضاف :
منذ ٢٠١٤ وبفعل طبيعة عملي واختلاطي مع الناس.. صادفت كل أنواع البشر وهذا اكثر شيء تفاجأت به عن البشر.
اليوم احد من هؤلاء الأشرار كتب لي كلاماً قاسيا باسم مستعار......
يبقى التعليق او الرد بالكلام القاسي وباسم مستعار، يعكس ضعف صاحبه أكثر من قوته. وغالبا ما يعانون الأشخاص الذين يختبئون وراء أسماء مجهولة ، ليؤذوا غيرهم ، من عقدهم و مشاكلهم الخاصة. ويبقى ما يصبّونه من سموم على الآخرين يكون بدافع الحقد والغيرة أو الشعور النقص. وكم كان موفقا ذلك المهندس عندما لم يدع ذلك التعليق ينال منه و يؤثر عليه. بل أبانه للناس وكشفه على حقيقته.
يبقى البشر خليط معقد من الخير والشر، بينهم كما اشرت نموذجا الكثير ممن يدهشنا بطيبتهم و نبلهم وسمو قيمهم ، وبينهم القليل من تتجاوز شرورهم توقعاتنا. الفضيلة تكمن في سلوك الإنسان وليس في ما يدعيه من اعتقاد او قيم ومبادئ يحملها فقط و يرددها كالببغاء دون أن يترجمها واقعا بما يرتقي بانسانيته وعلاقاته مع المجتمع ، بما يجعل الناس تذكره طويلا بجميل أفعاله.
أن أول مظاهر الفقر الأخلاقي وانعدام الضمير يكمن في غياب الإحساس بمعاناة الآخرين ، بل الأسوأ من ذلك هو التلذذ بنزف بإثارة أوجاعهم، وكأنها وسيلة لتعويض نقص داخلي أو هروب من واقع مرير. بعض الأشخاص لا يكتفون بأن يكونوا متفرجين على آلام غيرهم، بل يضغطون على أكثر المواضع حساسية، لا لشيء سوى أنهم يشعرون بشيء من الرضا المؤقت عندما يرون غيرهم يتألم.
الشخص الذي يقلل من احترامك أمام الآخرين قد يكون مدفوعًا بالحقد أو الغيرة، أو ربما لأنه يشعر بأنك تتفوق عليه في خدمة المجتمع اوإحقاق الحق او تمثل تهديدًا له في ذلك. هذا السلوك غالبًا ما يعكس عنده شعورًا داخليًا بعدم الأمان، مما يدفعه لمحاولة التقليل من شأنك لتعزيز مكانته الوهمية.
قريبا مما ورد في أعلاه كتب الفيلسوف كانط في مذكرات حياته:
بدأت حياتي معتقدا أن رقي الإنسان وشرف الإنسان و حيثية الإنسان هي رهن ما يحصله من معرفة( شهادات ،معارف ، ثقافة ) إلى أن أستيقظت من غفلتي حين قرأت وعلمت أن الإنسان يكون بمقدار ما يكون إنسانا. وهو الإنسان الجمالي الذي يدرك جمال الوجود وجمال الخلق.
وحينها أدركت غفلتي وبدأت أعلم نفسي كيف احترم إخواني من بني الإنسان .
ما اريد ان اصل اليه من اعلاه انه على الانسان عدم الاستهانة باخيه الانسان ،وان يقدر ما يفعله من اجل الاخرين مضحيا بوقته وعمله وأن لا يترجم وجهة نظره او غايته الشخصية لـ جرح الاخرين امام الملأ . وكم يكون وقع الأمر مؤسفا جارحا عندما يكون هدف تلك السهام النيل من المقابل دون استحقاق و سبب.
ان جمال الوجود في الحياة يتجسد في احترام الإنسان لأخيه الإنسان بروح أخوية صادقة ، بعيدة عن المصالح واختلاق الاختلافات التي قد تجر الى خلافات التي لا ينفع بعدها تقديم المبررات ولا الأعذار والاعتذار ، و كما افاد احد المعنيين انه حتى القهوة لا أحد يحب أن تقدم إليه باردة.
عن هذا كتب عالم النفس الدكتور ابراهيم الفقي قائلا:
عندما تحترمني جيدا وتعاملني بذوق وتقدير
لن يكون على رأسي ريشة بل ستكون على رأسي أنت !
نعم ان كل ما هو متبادل في الحياة يستمر سواء كان احترام ، محبة ، اهتمام ، تقدير او غير ذلك.
اكسبوا قلوب الاخرين بِاربع عبارات:
طيب الكلام ، جميل الإهتمام ، صدق الإلتزام وحسن المعاملة
يحمل الإنسان في داخله التناقض بين فطرته الاجتماعية و دوافعه الذاتية التي قد تدفعه إلى الأنانية والصراع واذى الغير. و تلعب هنا التربية العائلية والمجتمعية وكل ما يتلقاه دورا كبيرا في أعداد سلوك الفرد بما يحدد توجهه سواء نحو الخير أو الشر.
هناك بالمقابل أيضًا نزعة إنسانية نحو الخير، مدفوعة بالقيم، والتربية الصالحة، والوعي، والقوانين التي تردع الفوضى. فالبشر ليسوا محكومين فقط بالغرائز السلبية، بل لديهم القدرة على الاختيار والتغيير.
قد يتسائل الكثير سؤالا مفاده:
كيف يمكن تعزيز الجوانب الإيجابية عند الفرد وتقليل تأثير العوامل السلبية التي تدفعه نحو العنف والإقصاء؟
يكتسب الطفل القيم والسلوكيات من بيئته، ويتأثر بالتربية والمعتقدات والتجارب التي يمر بها. إن تمت تربيته على مبادئ العدل والتسامح والتعاطف، فمن المرجح أن يسلك طريق الخير. أما إذا نشأ في بيئة تغذي العنف والتمييز والتنافس غير النزيه ، فقد تتشكل عنده هوية خاصة تميل به نحو الأنانية والعنف وكره الآخر على هويته المختلفة أيا كان نوعها.
من هنا يمكن القول إن مسؤولية بناء مجتمعات متوازنة وإنسانية لا يقع عاتقها فقط على الأفراد، بل أيضًا على الأسرة والمجتمع والمدرسة والجامعة والإعلام وكل أدوات الدولة التشريعية والتنفيذية والقانونية بما يتجسد بإصدار قوانين علمانية مدنية تحد من السلوكيات السلبية و ترسّخ القيم الأخلاقية والمبادئ الإنسانية وتسمو بالمواطن في انتمائه الوطني والإنساني بما يجعله محبا لوطنه متفانيا في سبيل رفعته وتطوره و ينظر إلى مواطنه الآخر بل واي انسان كأخ له.
يقول مارتن لوثر:
لقد تعلمنا أن نطير كالطيور وتعلمنا أن نسبح في البحار كالأسماك ، ولم نتعلم بعد أن نمشي على الأرض كالاخوة
فما أحرى بكل إنسان أن يكون تاجا على رأس اخيه الانسان. عندها تعم المحبة ويعم الخير والسلام بين الناس. وذلك ليس امرا غريبا او صعب المنال ، اذ توجد في قلب كل إنسان نبتة صالحة ، إن سقاها بالخير تفرّعت وصنعت له بستاناً . واي بستان هذا الذي فيه من مواصفات الجنان كما يقال الكثير ، ولكنه بستان حقيقي وعلى الأرض وفي حياته.
ب. د. خالد محمود خدر
#خالد_محمود_خدر (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟