فاطمة الحصي
الحوار المتمدن-العدد: 8256 - 2025 / 2 / 17 - 02:54
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
أن ينتج الشعر باحثا
وأن ينتج البحث العلمي شاعرا*
د.فاطمة الحصي**
قراءة في كتاب:
(التراث الخفي:الأسطورة السومرية والرواية الخليجية للسيرة الهلالية)
/الكاتب :فتحي عبد السميع/2024
فتحي عبد السميع شاعرمصري قُح مهتم ليس فقط بالشعر والكلمات لكنه أيضا يهتم بالتاريخ وتأصيل التراث والبحث في المخفي فيه .
من أعماله الشعرية:الخيط في يدي1997/تقطيبة المحارب 1999،خازنة الماء 2002/ فراشة في الدخان 2002/تمثال رملي 2012/ الموتى يقفزون من النافذة 2013/ أحد عشر ظلا لحجر 2016/عظامي شفافة وهذا يكفي2022.
أما كتاباته الفكرية التي أنصح بالتوقف أمامها كثيرا منها النقدي ومنها البحثي والفكري وهي متعددة مثل الجميلة والمقدس 2014/القربان البديل2015/ شعرية الحدث 2015/ الشاعر والطفل والحجر و هي سيرة ذاتية 2016/ ولا ننسى وجوه شهريار 2022 ثم الكتاب الذي بين أيدينا اليوم وهو
التراث الخفي: الأسطورة السومرية والرواية الخليجية للسيرة الهلالية ٢٠٢٤.
في هذا الكتاب سيجد القارئ نفسه مستمتعا بقراءة حكايات السيرة الهلالية التي يقدمها له فتحي عبد السميع على شكل كبسولة مختصرة تساعده فيما بعد في فهم واستيعاب السيرة الهلالية كما نسمعها من الرواي.
الكتاب من 210 صفحة؛قسم فتحي عبد السميع دراسته إلى قسمين ؛القسم الأول تناول الرواية الخليجية للسيرة الهلالية إنطلاقا من استعراض حكاية العقيلي وحكاية الأميرة عالية والوصول إلى تحرير الهلالية من بني هلال والتمييز بين الراوي والمقدس للوصول إلى أن الهلالية هي سيرة كل إنسان ؛وفي القسم الثاني تناول بالبحث الأسطورة السومرية في السيرة الهلالية.
أسس الباحث/الشاعر فتحي عبد السميع بناءه في هذا الكتاب على فرضية مؤداها وجود مادة قديمة للسيرة الهلالية التي صالت وجالت في أنحاء العالم العربي؛ وبناء على هذه الفرضية يبدأ الباحث هو أيضا صولاته وجولاته التي بدأها بسؤالِ رئيس هو : أين النسخة الخليجية للسيرة الهلالية؛يقول : فوجئت بوجود روايةٍ أخرى في الدلتا،ورواية في الشام،وفي بلاد المغرب،وكانت المفاجأة في وجود رواياتٍ أخرى في البلاد الإفريقية تمتد من تشاد إلى نيجيريا،ليكتشف معنا أن : الصيغ التي تُروى بها السيرة الهلالية تأثرت بالبيئة التي ُتروي فيها وطبيعة الرواي ؛واضعا يده على شكل هذه الإختلافات.
يصطحبنا فتحي عبد السميع معه لكي نفرح لفرحته بالعثورعلى حكاية العقيلي التي أعدها د.راشد المزروعي وتم نشرها بمجلة تراث ؛ثم يغرقنا في الأحزان معه بسبب حجم الإهدار والإهمال والتجاهل الذي تم بالتراث الذي يصل لحد الإحتقار له؛لافتا إلى أهمية توثيق تراثنا..
ثم نتجول معه ليأخذنا التعجب نحن أيضا من حجم التطابق ما بين النسخة الصعيدي والنسخة الإماراتية للسيرة الهلالية من حيث الروح الواحدة هنا وهناك؛ليبدأ في مرحلة تالية تفكيك هذا التماهي الذي شعر به بينهما وجعله يشعر بالإستياء الشديد .
ويبدأ حسه البحثي في تتبع أوجه الإختلاف والتشابه ليفهم المشترك بين الحكايتان ومن ثم يفكك كل حكاية على حدة لعناصر عديدة متتبعا نداهته و حدسه الخاص الذي لا يتوقف عن الإلحاح عليه هامسا له من آن لآخر بوجود علاقة ما بين الحكايتان ليثق أخيرا في صدق حدسه ؛فينتقل لمرحلة طرح تساؤلات الدراسة ليصرخ كما صرخ نيوتن وجدتُها! وليخرج بنتيجة مهمة مؤداها أن التراث الشعبي يفسر بعضه ويستكمل اكتشافه ليخرج بنتيجة أو نظرية بأن التراث لابد أن نتكشفه بالتراث؛وان هذا هو المنهج الجيد لفهم التراث .
القراء ممن يحبون التراث والأمثال الشعبية سيقعون خلال قراءتهم لهذا الكتاب على كنز من تحليلات مختلفة لبعض الأمثال الشعبية من وجهة نظر مغايرة مثل( إجري يابن آدم جري الوحوش غير رزقك لن تحوش) و(اليد البطالة نجسة )حيث يعتمد الشاعر في تحليلاته تلك على فكرة أساسية مؤداها ضرورة العودة للمجتمع الذي تولد فيه هذه الأمثال والاطلاع على سياقها الإجتماعي والثقافي والاقتصادي للوصول إلى فهم جيد لها ؛وهي نفس الدعوة التي دعا إليها المفكر الجزائري محمد أركون في منهجه المتبع لدراسة لغة القرآن الكريم وفهمه تاريخيا بالعودة إلى السياق التاريخي للغة .
ويمكن القول ان الباحث الشاعر اتبع كلا من المنهج المقارن والمنهج التاريخي وبأساليب التحليل والمقارنة المنهجية للقراءات المختلفة استطاع الوصول إلى فهم سر تعدد الصيغ للسيرة الهلالية مما سهل عليه تلخيص هذه القراءات لمساعدة القارئ على فهمها؛يقول:( كان هدفي هو تحريرها من الزوائد التي تؤثر سلبًا حال تلقّيها مكتوبة،وتكثيف السرد بحيث يمكن تلقّيها في وقتٍ قصير،وبحيث تلبّي الحاجة إلى وجودها في هذا الكتاب،وهي إتاحة المقارنة بينها وبين حكاية العقيلي).
يلقي فتحي عبد السميع الضوء على الرواية الخليجية للسيرة الهلالية ليقف أولا على حكاية العقيلي ومن ثم يقف على حكاية الأميرة عالية ليصدمنا بعنوان "أبوزيد العقيلي"؛وليخرج بنتيجة حاسمة وهي أن الهلالية ما هي إلا " سيرة كل إنسان ؛لأنها تجسيد لأزمةً إنسانية عامة،أزمة عنفِ الطبيعة،ومعاناة الناس من ضعف الموارد الطبيعية التي تكفل لهم الحياة، وتقلبات المناخ،ومواجهة تحديات القحط والجدب والتصحر،وتعرّضهم لمخاطر الموت جوعً،والفناء الجماعي.؛ماذا تفعل الجماعات الإنسانية عندما تهاجمها الطبيعة،ويسقط أهلها صرعى الجوع؟لا يوجد سوى طريقٍ واحد الهرب من الأماكن التي ضربها القحط،والهجرة إلى الأماكن الخصبة."(ص 95)
ويصل فتحي عبد السميع بنفسه لنتيجة مؤداها أن" السيرة الهلالية في مصر تتمتع بنوعٍ معين من الرواة الذين اتخذوها حرفة،وبالتالي ظلوا طوال الوقت يعملون على تحسين أدائهم،وربطها بتفاعلات الجمهور المستمِع الذي يلعب هو الآخر دورًا في زيادة ثراء الرواية.
وفي ظل هذا التحسين المهني والتفاعل المتواصل مع الجمهور، استخدموا آلياتٍ كثيرة،مثل آلية التمطيط التي تزيد من مساحة بعض حكايات السيرة التي يرغبها الجمهور،ولعل هذا يفسر الفارق الكبير على مستوى الحجم بين حكاية "اليازية" وحكاية عالية العقيلية كما يقترب بنا من البنية الأساسية للسيرة الهلالية باعتبارها بنية مقدسة في الأساس."(صفحة 125)؛ مفسرا بذلك سبب الإختلافات بين الروايات المختلفة على ألسنة الرواة في مصر .
ثم ينتقل بنا الشاعر إلى الهلالية السومرية في العراق ؛ومحاولة لفك عدد كبير من الألغاز التي واجهته مثل لغزعامر الخفاجي ؛وبنات الهلالية والإلهة اللعو ب ؛ورمزية البئر والحيوان الأسطوري .
وفي "حكاية اليازية" تأخذنا إلى أسطورة إنانا وتموز بشكلٍ غير مباشر؛لأن الأسطورة تهرب من عالمٍ وثني وتعيش متخفيةً في عالمٍ عربي إسلامي غايته القضاء على الوثنية،وظهورها يعني موتَها،وكأن العقيلي في الحكاية لا يخفي وجه ولدِه فقط،بل يخفي وجه طقوس عبادة تموز وإنانا بشكلٍ عام.
إن تجربة فتحي عبد السميع الشعرية هي تجربة مصرية أصيلة؛وهذا الكتاب جدير بالقراءة فهو ليس دراسة صماء فحسب ولكن القارئ المهتم بالحكايا والقصص والسير الهلالية سيجد متعة في قراءتها بقلم فتحي عبد السميع العذب .
*نُشر في مجلة إبداع المصرية عدد نوفمر وديسمبر 2024.
**كاتبة مصرية .
#فاطمة_الحصي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟