أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ياسين المصري - معضلة المواطن المستقر في بلادنا!















المزيد.....


معضلة المواطن المستقر في بلادنا!


ياسين المصري

الحوار المتمدن-العدد: 8254 - 2025 / 2 / 15 - 22:11
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


من الأفلام الأمريكية الرائعة فيلم (چانغو الغير مقيد، أو المتحرِّر من القيود Unchained Django)، الذي تعامل مع ”المواطن المستقر“، تم عرضه لأول مرة في 25.12.2012، وفاز بجائزة الأوسكار. تدور أحداث الفيلم في فترة ما قبل الحرب الأهلية، في الجنوب الأميركي، ويسلط الضوء على ظاهرة فئتين من العبيد، هما: عبيد المنزل، الذين ينتقيهم السادة لخدمتهم وللقيام بشؤون منازلهم. وعبيد الحقل الذين يفرض عليهم سادتهم العمل الشاق في حقولهم. كلا الفئتين مملوكتين لأسـيادهم، الذين يسومونهما سوء الاضطهاد والعذاب، ويتدخلون بتعسف في كل شؤونهما الحياتية، ورغم ذلك، تعيش الفئتان في عالميْن مختلفيْن، وثقافتين متناقضتين.. في المنزل يرى العبيد أنفسهم في مرتبة أعلى وأفضل من عبيد الحقل، باعتبار أنفسهم هم النخبة المختارة،، وكان بينهم من هو أكثر وحشية وقسوة من أسياده ضد أبناء جلدته، لشعورهم بالراحة والسعادة حين يقارنون وضعهم مع عبيد الحقل، الذين يهلكون كل يوم، لمجرد بقائهم أحياء. لذلك، عندما أقدم الرئيس « أبرهام لنكولن» أثناء فترة رئاسته القصيرة (من 1861 - 1865م) على تحرير العبيد بعد الحرب الأهلية، رفض عبيد المنزل الحرية، وفضّل الكثيرون منهم البقاء في منازل العبودية، لإحساسهم بالاستقرار والتأقلم مع الاضطهاد، بينما عبيد الحقل هم الذين ثاروا، وهم الذين فرحوا بتحررهم.
وقد أشار الناشط الحقوقي«مالكوم إكس» (1925 - 1965م) إلى أن هذه الحالة تتكرر في جميع أنحاء العالم، وليس فقط في أميركا. وذلك لأن السلطة، في أي مجتمع، تعمل على ضمان استمرارها، وضمان مصالحها عن طريق توليد وإدامة وضع تراتبي هرمي بين الناس، تتمتع فيها المراتب الأعلى بميزات فعلية أو رمزية لا تُتاح للمرتبات الأدنى. وتسعى السلطة دائما إلى ترسيخ وتوسيع الحدود الفاصلة بين تلك الطبقات والفئات الاجتماعية، تماما كما كان يفعل السيد في التفريق بين عبيد المنزل وعبيد الحقل، بما في ذلك إشراف عبيد المنزل على عبيد الحقل، بل وقمعهم، والتنمر عليهم.
ومن هنا يمكن فهم لماذا يصبح الفقراء أدوات طيعة في يد السلطة، وليس الأغنياء وحدهم؛ حيث تنشأ مجموعة من المصالح والعلاقات لكل طبقة، تكون مرتبطة بشكل أو بآخر بوجود السلطة الاستبدادية، وببقاء حالة التمايز التراتبي بينها، مما يتيح للسلطة تحقيق حالة من الاستقرار في المجتمع؛ بين طبقاته المتفاوتة من جهة، وبين تلك الطبقات والسلطة نفسها من جهة أخرى، ويكون حجر الزاوية في هذا المنهج هو إيجاد ما يسمى بالمواطن المستقر.
المفكر الفرنسي إتين دي لابويسيه ( Étienne de La Boétie) كان أول من تحدث عن ”المواطن المستقر“، عام 1552م، أثناء دراسته الجامعية، في كتابه: "العبودية المختارة"، كمرافعة قوية ضد الطغيان، لكن الكتاب لم ينشر الا في عام 1835م. ما قاله حينها ينطبق تماما على واقع المجتمعات الخاضعة للعبودية والإضطهاد بوجه عام وفي كل زمان ومكان، قال إنه عندما يتعرض بلد ما لقمع طويل تنشأ أجيال من الناس لا تحتاج إلى الحرية وتتواءم مع الاستبداد ويظهر فيه ما يمكن ان نسميه ” المواطن المستقر “، الذي يعيش في عالم خاص به، وتنحصر اهتماماته فقط في التدين ولقمة العيش وكرة القدم. فالدين عنده لا علاقة له بالحقوق أو العدالة أو غيرهما من القيم السامقة التي تحمي المرء بسياج الحرية والكرامة الإنسانية، وتبعده عن الذل والمهانة وتقديس الأقوياء والرُهاب من السلطة.. إنه مجرد أداء لطقوس شكلية فارغة من المضمون الحقيقي، بدليل ان تدينه لا يتجلى في سلوكه ومواقفه وقراراته اليومية، فنجده يمارس الكذب والنفاق والرشوة ويقبل الظلم ويقدس الظالمين ويتعاون مع الفاسدين واللصوص والاعتداء على حقوق الغير، وهو يعلم ذلك، فهو لا يشعر بتأنيب الضمير، ويشعر به فقط إذا فاتته إحدى الصلوات…
والأمر الخطير ان هذا المواطن لا يدافع عن دينه و مقدساته الدينية، إلا إذا تأكد أنه لن يتعرَّض للأذى من جراء ذلك، فقد يستشيط غضبا ضد الدول التي تبيح زواج المثليـين مثلا، بحجة أن ذلك ضد إرادة الله، ويستاء فقط إذا رأى مفطرا في رمضان.. لكنه لا يفتح فمه بكلمة مهما بلغ عدد المعتقلين في بلاده ظلما وعدد الذين ماتوا من التعذيب، ويَفعل الفاحشة والفساد في حياته جهارا وبعد ذلك يحمد الله على نعمائه !!؟
أما لقمة العيش لدي المواطن المستقر، فهي تشكل العمود الفقري لحياته، فهو لا يعبأ إطلاقا بحقوقه السياسية والمدنية ويعمل فقط من أجل تربية أطفاله حتى يكبروا، فيزوج البنات ويشغِّل الأولاد، ويقرأ فى الكتب المقدسه ويذهب بانتظام إلى بيت الله ليطلب منه حسن الختام. إن اقصى امانيه توفير المتطلبات المادية بالدرجة الأولى لحياته وحياة أسرته، ولا يعي ان الحياة بدون حرية وكرامة وبدون مجتمع صالح حياة لا معنى لها..
السمة الثالثة في حياة المواطن المستقر هي الهروب من الواقع، ويتجنب القضايا الأساسية التي تهم حاضره ومستقبله ومستقبل ذويه ووطنه. كان بيت القصيد آنذاك ينحصر في “كرة القدم”، كوسيلة للتسلية والإلهاء، بينما اليوم إزدادت تلك الوسائل بشكل كبير من خلال شبكة الإنترنت والأقمار الاصطناعية التي تعمل على تخدير الذهن وتدجينه والاهتمام بسفاسف الأمور وتوافه الأحداث التي تنبئ في الغالب عن الخسة والدناءة وعدم المروءة، فالمواطن المستقر يجد فيها مواطن التسلية ما يعوضه عن فقدان إحتياجاته الطبيعية والأساسية المحروم منها في حياته اليومية، وتنسيه همومه وتحقق له العدالة وسيادة القانون ومبدأ تكافؤ الفرص التي يفتقدها في حياته، التب يعيشها في مجتمع السيادة فيه للقوي وللأوليغارشية (الأقلية) المحتكرة للسلطة والثروة ..
المواطن المستقر بوجه عام لا يستطيع الشعور بالأمن والامان فهو مهدد في كل لحظة إذا خرج عن الخطوط الحمراء التي وضعها الاسياد في تركيبته النفسية والذهنية.. لذلك، ومن خلال تحليل ميكانيزمات العبودية المختارة يظهر انه هو العائق الحقيقي أمام كل تقدم ممكن ، ولن يتحقق التغيير في أي مجتمع، إلا عندما يخرج هذا المواطن من مثلثه الضيق، ويتأكد بنفسه من أن ثمن السكوت على الإستبداد أفدح بكثير من عواقب المطالبة بالتغيير وإقامة الحكم الصالح والرشيد … يمكن للقارئ العزيز تحميل وقراءة الكتاب على الرابط التالي:
https://file.kutubm.com/s/z57wK5wBWyDgazb/download/Lo5o1Ex8EWiHCuB.pdf
***
المفكر والروائي المصري الدكتور علاء الأسواني أكثر من كتب وتحدث عن مفهوم المواطن المستقر، وأعتبر أنه يشكل أزمة للمجتمع؛ فشرح كيف ولماذا يفضّل «المواطن المستقر» الاستقرار (مع القمع والظلم)، على أي محاولة للتغيير؛ «فالمواطن المستقر نشأ وعاش في ظل الاستبداد، وهو مقتنع بأن الرئيس من حقه أن يفعل ما يريد، وأن الحكومة ستظلمه وتسرقه في كل الأحوال. لقد يئس تماما من تحقيق العدل، فأنشأ عالمه الصغير المنعزل، وتعلم كيف يتعايش مع الظلم والفساد حتى يحصل على الحد الأدنى من حقوقه. إذا كان دخله متدنيا سيتعلم كيف يتلقى رشاوى صغيرة يستعين بها على الحياة، ويتعلم كيف يذعن أمام مديره في العمل. وهكذا يصبح ولاء المواطن المستقر الوحيد لعائلته، فهو يكافح بضراوة من أجلها، لكنه خارج نطاق أسرته لا يعنيه ما يحدث اطلاقا. إنه لا يشارك في الانتخابات، ولا يعبأ بانتهاك الدستور، أو قمع الحريات، لكنه يتحايل ويكذب حتى لا يدفع اشتراكه في مصعد العمارة التي يسكنها».
ويفسر الأسواني سبب كره المواطن المستقر للثورة؛ أولا: لأنها تعطل مشروع حياته الرتيب، ولا تقدم بديلا فوريا، ثانيا: لأنه تأقلم مع الاستبداد، فلم يعد النضال من أجل الحرية من أولوياته، ثالثا: لأن وجود شباب الثورة الذين يضحّون من أجل مبادئهم يحرجه أمام نفسه، لأنه عاش يعتبر الجبن عين العقل، والإذعان منتهى الحكمة. 
ويضيف الأسواني: المواطن المستقر يحتاج إلى البطل، ليس فقط لأنه ضعيف، ولكن لأن البطل سيعفيه من الاهتمام بالشأن العام. يحتاج إلى «زعيم» حتى لو كان فاسدا وظالما ليمسك بزمام الدولة، حتى يتفرغ هو لمشروع حياته. يقبل بالدكتاتورية لأنه يرى أن الشعب لا تصلح معه إلا القوة.
https://www.dw.com/ar/علاء-الأسواني-أزمة-المواطن-المستقر/a-19456621
***
الاستقرار هنا لا يعني الهدوء أو الراحة أو الطمأنينة، بل يعني الخضوع والخنوع والاستسلام والرضا بالعبودية. وعليه يكون تاريخ المواطن الخانع المستقر في بلاد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، قد بدأ بالفعل وعلى نطاق جماعي واسع، عقب الاحتلال البدوي الصحراوي لتلك البلاد، ومن ثم تحالف الفاشية الدينية الإسلاموية مع الفاشية السياسية الاستبدادية، ورغم كراهيتهما الشديدة لبعضهما البعض، إلَّا أنهما وجدتا في ثقافة الطاعة لله ولرسوله وألي الأمر منه، وسيلة ناجعة لإخضاع المواطن وتكيُّفه معهما، حتى صار الجميع راضيا وقانعا بوضعه، حتى وإن كان مزريا، على أساس أنه ما قسم الله له، مما يتيح للفاشيين من الطرفين أن يحرموه من خيرات الدنيا لينعموا هم بها.
السلطتان الفاشيتان تنجحان في محاصرته واحتوائه ضمن القطيع المطيع من خلال الأسرة والمدرسة ووسائل الإعلام والوضع الاقتصادي، فالأسرة تخنق حرية الطفل، وتطالبه بالامتثال لقيم المجتمع، ثم تأتي المدرسة لتحد من خيال الطالب، وتقيد نموه الذهني، وعقليته النقدية، وتقتل فيه روح التمرد، من خلال المناهج، والنظم، والامتحانات، والحشو، والتلقين، مما ينمي فيه نزعة الانضباط والخنوع. وتستخدم الأسرة والمدرسة آليات الضبط والتوبيخ والعقاب، لإنتاج أجيال مُقَلَوْبَة ومكررة تسير على نفس المنوال الذي يحدده المجتمع، ثم يأتي دور الإعلام، الذي يمجّد السلطة ومنجزاتها، ويعظم الزعيم ومآثره، ويطالب المجتمع بالامتثال للنظم السائدة، في حين يقسم النظام الاقتصادي المجتمع إلى فئات وشرائح تقوم على أساس التراتبية والطبقية، بحيث ينتظم المجتمع بأسره على إيقاع السلطة. ومن يشذ عن هذه القواعد لا مكان له سوى السجن يقضي فيه بقية عمره! والمحصلة هي تشكيل المواطن المستقر، الذي لا ينشغل سوى بالطقوس الدينية المظهرية، وبلقمة العيش، ووسائل التسلية والسلوان بحسب ايتيان دي لابويسيه..
ورغم توفر دائمًا عوامل الانفجار، وأسباب الثورة، ودواعي الغضب في غالبية مجتمعات العربان، إلا أنه لا يحدث شيء! والسبب هو أن المواطن المستقر بات ركيزة قوية يعتمد عليها تحالف الفاشية السياسية مع الفاشية الإسلاموية ، وصار هو العائق الحقيقي أمام التقدم. فمنذ خضوع المنطقة للثقافة البدوية الصحراوية المنحطة، وهي شعوب مستقرة، تجري الأحداث التي تمس حياتها دون أن يكون لها دخل بها أو تأثير يذكر على مجرياتها، أصيب المواطن العروبي بالكسل الذهني أو الخلل الفكري الذي يجعله لا يفكر إلَّا في نفسه، وفي كيفية الهروب بنفسه مما يجري حوله من اضطرابات سياسية واقتصادية واجتماعية، وكأنها لا تعنيه في شيء، إنه مكبَّلٌ بالأنانية والخوف على حياته، فيعيش وحده في عالمه الخاص به.
في مصر وبعض الدول في المنطقة شهدت فترة حكم البكباشي عبد الناصر تحركات جماهرية محسوبة ومدبرة، دون أن يكون لها دخل في الأحداث السياسية والاجتماعية المتلاحقة من حولها، كان (ومازال) الهدف منها هو استغلال تحركاتها الصاخبة لأغراض شخصية من قبل الحكام وحدهم لتعزيز مكانتهم الهشة وتثبيت أركان سلطتهم التي سلبوها عنوة، بعدها تخمد الشعوب وتستقر في ثبات عميق، رغم معرفتها بأن تحركاتها لم تسفر عن شيء مفيد لأوطانهم أو لها بالتبعية، بل على العكس، فبينما تتحرك وتصرخ وتشيد بالبطل المغوار وتفْدي الزعيم الخالد بالروح والدم، كانت أحوالها المعيشية تتدهور تدرجيا وكانت كرامتها الإنسانية تتقلص باستمرار، حتى أصبحت هذه الشعوب مسوخا لا قيمة لها ولا فائدة من ورائها.
في عام 2011 إنطلقت شرارة الانتفاضة الشعبية في تونس وانتقلت عدواها إلى مصر وغيرها من دول المنطقة، فيما أطلق عليه ”الربيع العربي“، ولكن سرعان خمدت الانتفاضات، وتحول الربيع المأمول إلى خريف، ثم إلى شتاء قارص البرودة، واستقرت الجماهير مرة أخرى في أماكنها مستسلمة. لقد انتصر الطغيان المستشري في مجتمعاتها مرة أخرى وبأسرع مما يمكن تصوره، وبمرور الوقت أصبحت الأغلبية العظمى من مواطنيها تعتقد بأن العبودية شكل من اشكال الاخلاق والالتزام والسعادة. لقد تحول التلقين والتدجين والامتثال والخضوع والاستسلام الى ثقافة عامة في حياتهم. أصبحوا شخصيات مستقرة ومتنازلة عن كل حقوقها، بما في ذلك شروط الحياة الطبيعية التي تتعلق بكرامتهم ومصيرهم ومستقبلهم. وجدوا أن حياتهم يجب أن تمضي في اتجاه واحد فقط، وهو ما يمثل السياسة القمعية التي تقتل كل انواع الحياة في الانسان وتجعله يعيش في قوالب جاهزة، مخدَّر الذهن. لا سبيل له سوى التبجُّح والاستعراض والظهور والإيمان بالأكلشيهات الدينية المعدَّة سلفا. يعيش في مناحة تاريخية مزمنة تغنيه عن الحرية، وتجعله يضيِّع حياته بالوهم، وكأنها بالخيبات والحروب والفواجع والاضطرابات والسجون والامراض تعتبر حياة حقيقية. لا يدري أن ما يراد له هو ان يظل يحيا في دوامات من الظلام والمتاهة حتى تتحطم لديه كل القيم والمعايير ويبقى هو ذلك الانسان المستقر والمقهور والخاضع والصامت. عليه أن يتعود فقدان أية قيمة لنفسه، وأن تصبح حياته مرهونة بالظروف التي حوله. لا يبالي بمن سرقوا حاضره ومستقبله، لا يتذمر ولا يعترض ولا يطالب بحقوقه، بل يدافع عن كل من يستغله ويستبيح حياته لانه مُجهَّز ومُروَّض لهذا منذ طفولته. سعيد مع قيوده التي فتح عينيه عليها، حتى أن القيود اصبحت جزءا من تركيبته النفسية، بحيث لا ستطيع العيش بدونها.
إن وجود المواطن الخانع المستقر مريح ومطلوب جدا للسلطة الفاشية المستبدة، لأن خنوعه واستقراره يتيح لها أن تفعل به وبأصول الدولة ومواردها ما تريد،؛ وعلى العكس من السلطة الديموقراطية التي تعتمد في تحركاتها على صوت المواطن ومشاركته الفعلية معها، فإن السلطة الفاشية الاستبدادية تعتمد على طاعته وخنوعه واستسلامه، لذلك تعمل كل ما في وسعها على عدم تكوين إنسان يستعمل عقله وفكره، حتى لا تواجه في وقت ما شعبًا يعترض على حماقاتها، بل يتشكل قطيع أو جمهور يصفق مرة، ويلعن مرة أخرى... فمن ناحية تمتلئ نفسه بالقسوة والغل والإفتراء والبشاعة!، ويعتقد أن الله يغفر ذنوبه ما بين الجمعة والجمعة وأنها تتساقط مع الوضوء ويكفرها الصيام ويمحوها الحج، ومن ناحية أخرى يدفع وضعه هذا بالسلطة للاستخفاف به ومن ثمة إقصائه من المشهد السلطوي ومن الممارسة السياسية، إلا من يرضى عنه السلطان.
يقول خليل جبران:" لا يبني العصفور عشّه في القفص لغرض واحد.. لكيلا يعلّم أولاده العبودية!". بينما الإنسان، يتعوَّد على العبودية منذ نعومة أظافره، ويفقد الوعي بما يدور حوله ويلمس حياته بشكل مباشر، أو يحاول فهمه من خلال منظومة فكرية دينية مغلقة وجامدة، مما ينتهي به إلى الإفلاس والجهل بالواقع، ومن ثم يتحول إلى شخصية ضعيفة ومضطربة من الداخل. يستخدم الثرثرة بمهارة لغوية للهروب من واقعه المشين، ومنطقه في ذلك هو « الباب اللي يجيلك منه الريح سده واستريح»، فلا يملك سوى الشماتة كنوع من القصاص الإلهي من الظالمين والمستبدين. إنه شخص متخلف، ومقيد بسلاسل العبودية والاستبداد والجمود والاستسلام، ويعاني من قصور في الفهم، الذي يجعله يتجاهل الكثير من الأمور المطلوبة لحياته كي تكون حياة إنسانية كريمة. ومن هنا، تصبح عملية الخروج من هذه العبودية صعبة جدا عليه، بسبب المؤثرات النفسية والعاطفية والتعود على الخوف والطاعة العمياء .لا يوجد ابشع من شعور الانسان بالخوف، فالانسان الخائف لا يستطيع ان يغامر بالتغيير او ان يحطم اغلاله. إنه مكبل ومقموع من الداخل بسلاسل من القناعات والافكار والقوالب الجاهزة والفوضى. لذلك فان الذين عاشوا في اقفاص فكرية وعبودية يعتبرون الحديث عن الحرية جريمة. وهو العنصر الاساس الذي لجم المجتمع المستقر وعرقل اي نمو طبيعي والغى لديه فكرة المراجعة والثورة على المفاهيم والقناعات الثابتة والصلبة.
يرى لا بويسيه إنّ مقاومة البؤس والقهر والاضطهاد، لا تمرّ، عبر العنف والقتل، لأن عبودية الشعوب عبودية طوعية، فالمواطنون «يذبحون أنفسهم بأنفسهم»، وهم بخضوعهم لنير الاستعباد والاستغلال يشوّهون طبيعتهم البشرية المفطورة أصلاً على الانعتاق والحرية.
بالطبع حاول إيتيان دو لابويسيه وضع علاج لعبودية المواطن المستقر الطوعية واختصره في تهديم هرم التسلط الذي يجعل الحاكم معبودا في القمة من طرف الرعية في القاعدة، وما بينهما من الخدم ورجال الدين والاعلام والمستفيدين منه، وهم على تماس مباشر مع عامة الشعب، لهذا فالحل يكمن في اعلان العصيان والتمرد والقطيعة مع هؤلاء بشرط الشجاعة والارادة الكاملة في تحمل كل العواقب المترتبة على ذلك والاستعداد لدفع الثمن كاملا، لأن الشعب الذي أوجد المشكلة يملك حلها بنفسه، ويكفي أن يسحب هو قاعدته من المستبدين ليسقطوا تلقائيا لأنه هو مصدر قوة هؤلاء الحكام أولًا وأخيرًا.
ومع أن هذا الطرح قد يكون قابلا للتحقيق في بعض الدول، إلا أنه من الصعب، وربما يكون من المستحيل، تحقيقه مع معضلة المواطن المستقر القائمة في الدول المتأسلمة، كنتيجة حتمية وضرورية للتحالف المزمن بين الفاشية السياسية والفاشية الدينية!.



#ياسين_المصري (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لماذا يكره الفرس العربان؟ (2/2)
- لماذا يكره الفرس العربان؟ (1/2)
- جنون العظمة من البكباشي إلى المشير
- فتاوي ”البلاوي“ والهوس الجنسي
- ابن سلمان وصدمة التغيير
- العلمانية والضلال الإسلاموي المبين
- أصل الاستبداد الإسلاموي
- الغرب و شيزوفرينيا العربان
- الصنم الذي يتحكَّم حيا وميِّتا!
- من أين يبدأ تنوير المتأسلمين؟
- ثقافة ”البهللة والسبهللة“ الدينية!
- التفضيل بالنفاق في مصر! (2/2)
- التفضيل بالنفاق في مصر! (1/2)
- أنا لسْتُ مُدينًا بشيء لوطن مسلوب الإرادة!
- أين حدود الصبر؟!
- يا شعب مصر (العظيم)!
- الآلهة التي دمَّرت مصر (2/2)
- الآلهة التي دمَّرت مصر (2/1)
- عن سجن الأوهام والإجرام
- الرئيس الذي يبكي!


المزيد.....




- مستعمرون يقتحمون المسجد الأقصى
- شيخ الأزهر يدعو لوضع -دستور أهل القبلة-
- الفاتيكان يلغي ارتباطات البابا فرنسيس الأسبوع المقبل
- الفاتيكان يعلن إصابة البابا فرنسيس بالتهاب رئوي ثنائي
- حرس الثورة الاسلامية يفكك خلايا للتجسس لصالح أميركا واسرائيل ...
- حاخام كبير يدعو اليهود السوريين المنتشرين في العالم للعودة إ ...
- مداهمة منزل خطيب المسجد الاقصى الشيخ عكرمة صبري
- حاخام كبير يوجه رسالة من قلب دمشق ويدعو اليهود السوريين المن ...
- ماذا حلّ بأقدم كنيس يهودي في العالم؟
- المشرعون الفرنسيون يناقشون حظر الملابس الدينية -ظاهريًا- في ...


المزيد.....

- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ياسين المصري - معضلة المواطن المستقر في بلادنا!