|
شاعرية التجريد في ديوان فاكهة الغرباء ليحيى عمارة
جميل حمداوي
الحوار المتمدن-العدد: 1793 - 2007 / 1 / 12 - 11:51
المحور:
الادب والفن
يطل علينا من الجهة الشرقية بالمغرب الأقصى شاعر ينحو منحى التجريد في كتاباته الشعرية ، ويتحول عنده الغموض إلى ميسم فني وعلامة من علامات شاعرية التشكيل اللغوي في ديوانه الشعري. ويقف القارئ حائرا أمام لغة هذا الشاعر التي تتوغل في أدغال العمق والباطن، وثنائية الماضي والحاضر، وجدلية التأصيل والتجريب الحداثي. ومن ثم،يجد صعوبة كبيرة في الاستكشاف النصي والتأويل الدلالي بسبب لغته الزئبقية التي لاتعرف الاستقرار ولا الدلالة الحرفية الأحادية. إنه الشاعر الشاب يحيى عمارة رئيس فرع اتحاد كتاب المغرب بوجدة، وأستاذ جامعي محنك في الأدب العربي وفنونه وقضاياه بكلية الناظور الفتية. وهو كذلك عضو نشيط في الساحة الشعرية بالمنطقة الشرقية إلى جانب ميلود لقاح وعلي العلوي وعبد السلام بوحجر وجمال أزراغيد وفاطمة عبد الحق وحليمة الإسماعيلي... ويعد ديوان" فاكهة الغرباء" أول باكورة شعرية لمبدعنا الطموح، وقد صدر الديوان عن منتدى رحاب للثقافة والتضامن والتنمية بوجدة سنة 1999م في حلة إخراجية جميلة جدا ، وقد تسربلت بلوحة فنية تشكيلية لبنيونس عزيزي تحيل بألوانها الزاهية، وعلاماتها الأيقونية على الطبيعة بكل مكوناتها الرمزية والسيميائية والمرجعية وشاعريتها التجريدية. إذاً، ماهي مقومات الديوان الدلالية والفنية والمرجعية؟ هذا هو الموضوع الذي سنحاول استكناه حيثياته ضمن مقاربة مناصية.
1- البعـــــــــد المناصــــــــــي:
من خلال تصفحنا للديوان من الناحية المناصية وملحقاته الموازية التي تحيط بالنص الشعري من الداخل والخارج سنجد الشاعر قد استفتح كتابه بمقدمة تمهيدية قائمة على الترحيب والتشجيع والتقريض قدمها المبدع القصاص سامح درويش في حق الشاعر يحيى عمارة. كما تتخذ هذه المقدمة طابعا تقويميا فيها إشادة بشاعرية صاحب الديوان كما يظهر ذلك جليا في هذه القولة النقدية:" تأتي رغبة المنتدى في نشر هذا العمل الشعري المتميز بنفحاته الجمالية الصاعدة من حدائق اللغة الأصيلة، كما لو أن الشاعر يحيى عمارة هو بستانيها الحميم الذي يتعهدها بماء القواميس العتيدة، ويحميها من حوافر التهافت الشعري الأعمى، حتى تستوي قصائد في منتهى البهاء، حتى تنصب خياما وطيدة الأوتاد، أو لأقل حتى تتفتح في مروج الروح مثل شقائق النعمان لتتشكل أنفاس الشاعر في هيئة فراشات تطرز فضاء الذات، ثم تتجمع شيئا فشيئا في خلجات الكتابة لتتفتق من كيمياء ألوانها- في النهاية- ذلك الكائن الساحر، المدهش، البهي الذي يسميه يحيى عمارة قصيدة. إنها إضمامة شعرية جديرة بمزهريات النفوس، إنه عبق جمالي آخر، قادر على إيقاظ جوارحنا المترهلة،إنها مجازات بديعة لصورتنا المشتهاة" (ص4). وفي صفحة الإهداء يتخذ الإرسال الإهدائي طابعا عائليا وإخوانيا وإبداعيا:
" إلى من سقوني بالحب والحنان أمي وأبي إلى وردة أملي من بستاني روحي سميرة إلى جميع الأحباب والأصدقاء والمبدعين أقول: ما تبقى يؤسسه الشعر في هذا الوطن....يحيى." (ص:5)
يتبين لنا أن الإهداء يتوجه من المرسل الشاعر(يحيى عمارة) إلى المرسل إليه وهو متعدد في سياق الأداء، ويتمثل في الوالدين، والبنت سميرة، والأحباب والأصدقاء والمبدعين. و تتمظهرالإرسالية في إهداء المحبة والحنان والمشاركة في الإبداع الشعري وتأسيس الزمن الشعري في زمن الرفض والثورة والتمرد. ويتسم الإهداء بروح شاعرية قوامها المجاز والاستعارة والكناية (من سقوني بالحب والحنان- يؤسسه الشعر- إلى وردة أملي....). ويبدأ الشاعر بعض قصائده الشعرية بمقتبسات نصية تنبه القارئ وتضيء له سياقات القصائد وتفكك بعض طلاسمها من خلال محتويات هذه المقتبسات الاستفتاحية التي توضح مضامين النص دلالة ومقصدية. ومن الشخصيات المستحضرة في هذه المقتبسات نجد الشاعر العباسي الجهبذ المتنبي، وشاعر الهند العظيم رابراندت طاغور، والشاعر الرمزي ملارمي ، والصوفي الكبير عبد القادر الجيلاني ، والمبدع الألماني الشاعر الرمزي يوهان ڤولڤغانغ ڤون غوته. ويصبح المقتبس سياقا ظرفيا للقصيدة مثل هذا المقتبس" إلى كل جنين يئن في بطن أمه"؛ وبذلك يميل الديوان عبر مقتبساته إلى التجريد الرمزي الشعري والصوفي والواقعي. ومن حيث الفهرسة، يبدو أن الديوان طبع على شكل بحث أو دراسة أكاديمية ولكن بدون خاتمة، إذ يتوزع الديوان إلى مقدمة وإهداء وقصيدة شعرية باعتبارها استهلالا وثلاثة فصول شعرية وهي: رقص الزوابع، وترانيم على شاطئ الذات، وفاكهة الغرباء. ومن خلال العناوين الداخلية، يتبادر إلى أذهاننا التأثر بالمدرسة الرمزية الغربية بكل طوابعها الشعرية والدلائلية ( مالارمي- بودلير، ڤيرلين- رامبو- جوته- بول إيلوار- جاك بريڤير.....) سواء أكان هذا التأثر عن وعي أو بدون وعي؛ وبهذا يكون يحيى عمارة في رأينا الشخصي المتواضع من مؤسسي المدرسة الشعرية الرمزية في المنطقة الشرقية بالمغرب إلى جانب علي العلوي وعبد السلام بوحجروجمال أزراغيد.... وهذه المدرسة تتحاور في هذه الجهة الشرقية مع مدارس شعرية أخرى كالمدرسة الإسلامية مع حسن الأمراني، ومحمد علي الرباوي ،ومحمد بنعمارة، وعبد الرحمن عبد الوافي، وفاطمة عبد الحق، ومحمد زروقي... والمدرسة الوجودية كما عند عبد الرحمن بوعلي وفاطمة عبد الحق في ديوانها الأول ومحمد منيب البوريمي والحسين قمري....ومدرسة آل لقاح التي يمثلها كل من محمد لقاح وعيسى لقاح وعبد الناصر لقاح وميلود لقاح، والمدرسة الشعرية النثرية التي يمثلها كل من بوزيان حجوط وحليمة الإسماعيلي ونزيهة الزروالي وعبد الغني بوحميدي وتوفيق الغربي..... ويجسد الغلاف الخارجي الخلفي صورة المبدع وهو ينشد قصيدته التوجيهية " فاكهة الغرباء" لتكون نبراسا عرفانيا ووجدانيا لكل الشعراء كي ينحتوا باب الكتابة الشعرية في زمن الرداءة والهشاشة. ويقع الديوان في خمس وثمانين صفحة من الحجم المتوسط (20سم في13 سم)، ويضم سبع عشرة قصيدة شعرية متنوعة البنى والأشكال والتيمات الشعرية. 2- البعــــــــــد النصـــــــــــــــي:
أ- المستوى الدلالي:
يتغنى الشاعر يحيى عمارة في ديوانه بالألم والأمل، ويتيه في شاعرية التجريد الصوفي من خلال عشق الكتابة والثورة على الواقع المتردي برداءته متأرجحا بين لغة الورد ولغة الشوك. ينشد الشاعر سيمفونية الاغتراب الذاتي والمكاني، ويقدم قصائده الشعرية باقة وفاكهة للغرباء والمنفيين والمهمشين المقصيين والمغتربين في مدن الغرابة التي يغيب فيها الإنسان وتنعدم الألفة. إنها قصائد التراجيديا والألم المضني والتآكل الذاتي والتلذذ بالعذاب الاغترابي الذي يجعل الإنسان تائها ضائعا في ذاته وكينونته الداخلية. ويلاحظ أن تيمة الاغتراب ترد عند كل شعراء المنطقة الشرقية حتى أصبحت رمز طقوسيا في الذاكرة اللاشعورية الشعرية كالمقدمات الطللية في الشعر العربي القديم. ويحيل هذا الطقس على الحرمان وكبت الرغبات وقمع الغرائز والشهوات التي تغيب معها الذات وتضيع مع ضغوطات الواقع والسلطة. وما العزلة الذاتية والهجرة المكانية سوى تحرر من متاريس القمع والقهر والكبت الشعوري واللاشعوري. كما يرتل الشاعر أناشيد الغياب والفقد والصبر والانهيار والموت من خلال رسم لوحات رمزية تشكيلية يطغى عليها السراب الأسود:
غيبتي كانت النعمة الذاهبة وسرابي كشربي على المائدة أوقف الصبر مشية عمري(ص:15).
ويدخل الشاعر في شطحات صوفية عرفانية مبنية على العشق والحب النوراني للتأشير على المعاناة الذاتية والتمزق النفسي والهروب إلى الوصال الحلولي قصد تحقيق الرغبات الحلمية والذاتية:
أنت البعد المبثوث ضياء في القنديل. أنت القرب الخارج من جوف الترتيل. أنت الأنات البحرية، وأنا الزبد المحموم بثوب الغجرية. منفاي حقيقة موعود، حلما، صبت في عينيك.(ص:18-19).
وتلبس قصائد الشاعر حلة الحزن والسواد والارتحال الاغترابي والبكاء الشجي على غرار قصائد صلاح عبد الصبور وأمل دنقل ومعلقة امرئ القيس عندما يشيد بلغة الصمت والاحتراق والموت والسأم الوجودي :
ومن سقط هذا اللوى يتفتق سر النجوم وودق الرواعد سيف يشطب عرس القصائد سئمت فلذات اليراع من الويل والسحر فغدت خلفها وأمام السنين تستغيث بشرارة الروم والشطحات. فيا عازف الاحتراق، ويا حارس الحرف إذا رقصت في خمائل قبري زوابع حزن، علت شهب الشعراء على العهد القاسي(ص:21)
وفي قصيدته الشعرية الرائعة " شيخ من حجر" تتحول القصيدة من الغنائية الوجدانية إلى قصيدة درامية حوارية مركبة يتحاور فيها الشاعر مع شيخ حكيم. وتجنح هذه القصيدة إلى التنديد بزمن الغدر والخيانة والسمسرة، كما تنتقد إنسان الغرابة والاغتراب والتيه والضياع والفراغ الروحي والخواء الذي يعيش في زمن الجعجعة بلا طحين والقول بلا فعل:
إني شحوب من بيادر قومي أحوالكم تحت الحوافر راضية. لم تنشروا العهد الذي رسمته، شمّائي عشيرتي الماضية. في مجدكم، تهفو المعاطف وهي من قشيبة بالية.(ص:23).
ويعزف الشاعر في معظم قصائده على أوتار أنشودة الاغتراب والرحيل والغياب وأسطورة الموت والانبعاث، ولكن يبقى اليأس هو سيد الموقف و الميسم الطاغي على ملامح قصائده الشعرية:
وتحت جنح الظلام سرى طائر العارفين ترنم لحنا غريبا لدى الأصدقاء. ............ أبي من فيوض يقوم، يعانق منزل حزن، ومن لهفة الروح عجل دمعة وقت تغور. لقد صار سيد عشق عليه كياني يدور. بلادي على الغادرين تفيق. حمامي على التائهين، سجين ويهدل: فنيق، أين بقاؤك أين الرفيق!!؟(ص:26-27)
ومن الشعراء الذين تغنوا بالاغتراب بكل مرارة سوداء وقسوة وجودية ومأساة جنائزية نذكر الشاعر المقتدر علي العلوي الذي خصص ديوانه الشعري (أول المنفى) كله للموت والاغتراب الذاتي والمكاني من خلال رؤية واقعية انتقادية، و الشاعر الكبير محمد بنعمارة في ديوانه (نشيد الغرباء) من خلال رؤية شعرية عقائدية إسلامية، وديوان يحيى عمارة في(فاكهة الغرباء) يكمل هذه الترانيم الاغترابية برمزية موغلة في التجريد والإبهام الفني المقبول والانزياح الخارق. ولا يكتفي الشاعر بنسج الهموم الذاتية والوطنية فحسب، بل يتعدى ذلك إلى رصد الهموم القومية ورسم النكبات والنكسات بريشة الحزن ومحاولة النسيان وتبئير الخيانة والهزيمة والثورة على أرض اليباب والخراب والسخرية من الإنسان العربي المعلب والمستلب الراضي بواقعه الدامي الذي يسيل جرحا وألما:
في بلادي ريح تغني، بلا صوت عشق ولا نوتة يعتريها النغم. والعمائم ترقص في همة والخليج سواحله السقم. والذي ساق وجناء في لهب، مثقلا سفن العرب. رأيت خناس جرح على نهد امرأة يصطلي. يد حفار قبر على جثة ترسم الغدر في حفرة تنجلي.
كل أوراق ساحتنا، سقطت في قناع الشموس. وأرض اليباب على عري ماء تفاوض يأسا في الكؤوس. أيها المالك المركب، الكوكب، الشعر قد خنت عهد المتنبي. فيا باسط الأمر، دع عنك لومي ولا تجعل السيف مثقال دمي.(ص:32).
وتحضر النقمة الصارخة والمحاكاة الساخرة والباروديا الشعرية من خلال الثورة على الواقع الذاتي والوطني والقومي، هذا الواقع الذي لم يرسم سوى الهزائم المتتالية والموت الدائم والتآكل السادي وتعشش الفقر الذابل، حتى أصبح الوطن بالنسبة للشاعر وطنا أحدب يرضع أبناءه حليب الغربة و عسل الانتظار الأبدي وريق السراب الموعود والحلم اليائس، ناهيك عن تناقض القيم والمفارقات الصارخة بين القول والممارسة، و بين ادعاء الإيمان والفعل الكاذب:
فأس الدهر يحفر في الضلع. الأقدار المدسوسة في سدرة موتي. من زحمة أضداد في شارع ذاتي، شاهدة عين منقوشة أشفار بالغرقى تطفو فوق الوطن الأحدب. راء معقوفة رأس مجنون مصلوبة قلب في حجر النفط تصلي باسم الرب باب مسدودة باب تنحت من أوراق مسيلمة الكذاب.(ص:35).
و نستحضر قصيدة شعرية جميلة قوامها الأمل بعد الألم والحزن والاغتراب إنها قصيدة" الولد الحلم" التي تتناص مع ديوان عبد الرحمن بوعلي "الولد الدائري"، وديوان محمد علي الرباوي"الولد المر". فالولد الحلم هو ولد التغيير والثورة والفعل والممارسة وبناء الغد والمستقبل المعسول:
ولدي، ارفع الحجب واكتشف ذرك المختبأ في قماش الزمن الضائع أيها الحلم، طفلي العزيز كن جديدا، وجدد أوامرك المستحيلة. سأقدم، حين تسترد نهوضك من لهفة الاغتراب هبة من دموع الأبوة. ...... أيها الحلم كن صافيا مثل قلب الماء. لا تكن مبحرا في اللهيب، ولدي، لك مجد جميل ولي كبد مثقل بالبكاء فهل تسمعني؟؟؟(ص:43-44).
ويلبس الشاعر ثوب شارل بودلير تفاعلا وحوارا حينما يصور زائرته الداء التي أتت إليه ليلا لتعكر صفوه، وها هو الشاعر يحيى عمارة يصور نفس الزائر المميت الذي يرد إلى فضاء الشاعر ليجتث روحه الناقمة الثائرة على الفقر والظلم والقهر والبؤس :
غدا، سأموت وفي نفسي شيء من حتى. فدعي، يا زائرتي، سكري يترنح فوق الخضرة هذه أغنيتي في الرمس ماتمناه الشاعر، الآن، في عمر النخيل، قد ورد. فلتزأر أسود المراد إلى الأبد موت الشعراء، وهم حزانى أشد مضاضة من وقع السيف المهند.(ص:48)
وإذا كان الشاعر قد تغنى كثيرا بذاته المنهكة ووطنه الأحدب، فإنه تغنى كذلك كثيرا بالمدينة التي تصبح عنده مدينة حزن وكآبة واغتراب وسراب .إنها تشبه مدينة عبد المعطي حجازي ومدينة عبد الوهاب البياتي ومدينة صلاح عبد الصبور ومدينة خليل حاوي ومدينة السياب. إنها مدينة العري والحلم والجوع والأحلام المغتربة الضائعة. إنها باختصار فاكهة الغرباء، وتلبس وجدة خصائص هذه المدينة كوجدة محمد لقاح ومحمد علي الرباوي وعبد الرحمن بوعلي.....
وجدة في سنابل قريتها يسكن القمح. والحزم منجل رايتها. تنتمي في سراب الظروف إلى غسق الأرصفة. تمسك العود من شرقها؛ ترسم الحلم بالنزيف. ..... وجدة الحلم فاكهة الغرباء. ...... وتمد خدود نساء، يزغردن تحت باب سيد وهاب، وهن على حافة من طحين الخبز. يصنعن بيدر جوع ثقيل.(ص:63-64).
ويسير عبد الرحمن بوعلي في قصيدته( عن وجدة وزناكة والحزن) على هذا المنوال الشعري الحزين في تصوير وجدة الألم والعذاب:
للحزن الذابل في وجدة لافتة في الباب الغربي والجرس الموضوع بإتقان تدلى وتدلى... مابين عتبات الوقفات ولحن البحارين المشتاقين لرؤية وهج الشمس الحمراء. أغدا يزهر ذاك الحلم على مشيتنا يا وطني أم تكبو الأفراس وندخل نافذة الحزن الموقوف علينا.( الأعمال الشعرية ، مطبعة تريفة، بركان، سنة2006م، ص:112) .
ويقول محمد لقاح في هذا الصدد في قصيدته الشعرية" النهر" من ديوانه "نهر الأطلسية"(ص:45):
أصغي للنهر الممتد من القلب المحزون إلى وجده لاشيء، فقط شبه لي أن النهر تكلم، انظر حولي في شغف، آه بصري يرتد حسيرا، تتلاطم أهوائي في ذاكرة جوفها التشويه وأضنتها الأشواق الموسومة بالتأجيل لذا أتجرد من فقري المزمن.
ولكن محمد علي الرباوي يكن لها الحب والعشق الكبير ويسبغ عليها صفات الجمال الرومانسي في قصيدته (حب إلى وجدة) من ديوانه( أطباق جهنم):
وجده! ها قد أصبحت لعيني روضه تحمل في عينيها الأزهار، صارت وديانك تحمل فضة، تسكب خمرا في أوراق الأشجار، وتوزع حبل الإلهام على الأطيار، حسبك أنك صرت كلؤلؤة في عقد الأشعار، تسبح كالحلم العاطر مابين فساتين الأقمار. وجدة! حبي لك أكبر من كل الأشياء، واسمك أجمل من كل الأسماء، خفرته أصابع كفي الظمآى فوق الصخر، تركته تمثالا يسخر من أمواج البحر.(ص:49-50).
ويتخذ الاغتراب منحاه الجدلي عندما يعقد الشاعر تقابلا بين الشمال والجنوب لينتج عن ذلك اختلال مقايس المقارنة وأوجه التشابه؛ ليتحول الإنسان الجنوبي إلى كائن مغترب و كائن منفي يدغدغه الحزن والإقصاء والتيه والضياع والعذاب السيزيفي والموت الشنيع كإنسان البياتي وسعدي يوسف ومحمود درويش:
أنت الشاعر المنفي في دهليز اللغات أنت جنوبي جميل الآه فيك. .... يا حبيبة، تستظل بأشجار، أوراقها أينعت في خرائط النسيان. سمي المنفى لغة للغرباء وغن لم تصدقني فاسألي أفئدة الشعراء.(ص:76-79).
وهكذا نجد الشاعر يحي عمارة يتغنى بموال الاغتراب والفقر والحزن والألم والأمل، ويرسم صورا جنائزية لواقع ذاتي متآكل، ولواقع متعفن ينخره السراب الأحدب، ولواقع قومي تتعشش فيه الهزائم والنكبات الدونكيشوتية الحالمة، وعالم يتباعد فيه الشمال والجنوب اغترابا وتشتتا واستلابا.
ب- المستوى الفني:
تنزاح قصائد الديوان عن النظام الخليلي الكلاسيكي الذي يمتاز بثنائية الصدر والعجز ووحدة الروي والقافية وصرامة الوزن، ويعوض هذه المعايير التقليدية بالأسطر والجمل الشعرية؛ مما يجعل قصائد الديوان تندرج ضمن تجربة الشعر الحر أو شعر التفعيلة لتمسك الشاعر بالوحدات العروضية الجديدة. ويستند الديوان أيضا إلى قصائد شعرية غنائية وهي الطاغية، ويدشن الشاعر أيضا القصيدة الدرامية المركبة وخاصة الحوارية كما في قصيدة(شيخ من حجر)، والقصيدة الصوتية التي تفرع النص الشعري إلى مجموعة من الأصوات وإن كانت ملامح هذا النوع غير واضحة بكل دقة في الديوان، و يقول الشاعر مشغلا الأصوات الشعرية للتدليل على التمزق النفسي والتشرنق الذاتي كما في قصيدة(سدرة الموت):
عين منقوشة أشفار بالغرقى تطفو فوق الوطن الأحدب. راء معقوفة رأس مجنون. مصلوبة قلب في حجر النفط تصلي باسم الرب. ياء مسدودة باب تنحت من أوراق مسيلمة الكذاب. ياء تغتال الجرف القمري ألف لرصاصة غدر آخر طلقة شعب(ص:35)
كما يشغل الشاعر القصيدة المدورة في كثير من قصائد الديوان كقصيدة( القصيدة) و( سهم السؤال)، و( شيخ من حجر) وغيرها من القصائد الشعرية بله عن توظيفه للقصيدة القصصية ذات الحبكة الغنائية السردية كما في قصيدته الرائعة( سلام البلابل). وتتوفر قصائد الديوان على الوحدتين الموضوعية والعضوية التي تنسج نغمة الاغتراب الذاتي والمكاني إلى جانب الاغتراب الوطني وغربة الإنسان والقوم والعالم الإنساني. كما يقوم الاتساق والانسجام بدور هام في خلق الوحدة والربط بين مواضيع الديوان. وتحقق علامات الترقيم بكل فواصلها ونقطها تمفصلات دلالية ونظمية ونفسية تدل على التوقف والانطلاق والاسترواح ورصد إيقاعات التنفس وتموجاته بين الصمت والبوح ، أو بين السكون الهادئ والكلام الثائر. ومن حيث الإيقاع الخارجي، يوظف الشاعر مجموعة من البحور الشعرية وينوعها حسب السياقات النفسية والظرفية، ولكن يلاحظ هيمنة بحر الخبب الذي يلتزم بتفعيلات( فاعل وفعلن بسكون العين، وفعلن بفتح العين)، وهذا البحر قد تفرع عن المتدارك كما تقول نازك الملائكة في كتابها" قضايا الشعر المعاصر". وقد وظف الشاعر تفعيلة المتكامل(متفاعلن) التي تتداخل مع تفعيلة مستفعلن الرجزية (متفاعلن المضمرة) بتلويناتها الإيقاعية زحافا وعلة، كما شغل البحر المتقارب في قصيدته( سلام البلابل) و قصيدة( شرب في المنام)....كما ينوع من قوافيه الشعرية في ديوانه حيث يستعمل القافية الموحدة(أ-ا- ب- ب) كما في هذا المقطع الشعري:
في العروق المستكينة عند زيارة القبلة يفي الحس بوعده والبحر يغني بزبده(ص:82). كما يلتجئ إلى القافية المرسلة التي يتنوع فيها الروي كما في نصه(القصيدة)، والقافية المتراكبة التي تختفي وتظهر من جديد كما في قصيدة (سهم السؤال) حيث تتكرر بعض القوافي بعد عدة أسطر كما في : أعداء، والغرباء، والسماء، والشهداء. ويعمد أيضا إلى القافية المتعانقة (أ- ب- ب-أ) في الأسطر الشعرية التالية:
غيبتي كانت النعمة الذاهبة وسرابي كشربي على مائدة(ص:15).
ومن حيث الإيقاع الداخلي، يوظف الشاعر حروف المد للتعبير عن الآهات والتوجع المرير كما في الكلمات التالية: المشحون، المطبوع، مسنونا، المنسوج..... وتتسم هذه الكلمات في نفس الوقت بخاصية التوازي اللفظي والصوتي من خلال تكرار بعض الأصوات المهموسة والمجهورة الدالة على الإحساس بالألم والحزن والاغتراب الذاتي والمكاني كالميم والنون واللام والحاء والسين والزاي والجين والغين والراء والباء والفاء.... وتساهم الأصوات المتماثلة والمتكررة في خلق التعادل الشاعري والتناسب الهرموني الذي يحقق للديوان نغميته الداخلية والتي تبعده عن كل ملامح التقرير النثري. فلننظر-إذاً- في هذا المقطع الشعري لنرى تدفقات الأصوات المتماثلة والقريبة والمتقاطعة ( الشين والراء واللام والصاد والسين) التي تخلق ائتلافا إيقاعيا رائعا:
فراشة شعر تكبر رغم انكسار الجناح الأيمن فيا لقلب صفاء العشب من الماء المصنوع على عرش الثلج يغرد عشق الورد وفي حضرة بستان من أوراق الفصل يغني شاعر حلم عن رعشة بركة وقت باسم البلد العرجون أصلي في ملكوت النسيان وبين الشوك العقرب كانت نقطة شوق تمضي زئبقة تنمو في الحلم أو تروي هلوسة الروح غب التيه والهيجان(ص:8).
وإذا انتقلنا إلى كلام الشاعر وقناته الإبداعية، فإننا نجد لغة أصيلة معتقة بنكهة الماضي، وعراقة التراث...و تمتح اللغة الشعرية في الديوان من المعجم القديم(سقط اللوى- الطرس- العتر- العجاج- الأصفاد- خيلكم- الفرسان.....)، والمعجم الرومانسي الحديث عبر توظيف قاموس الطبيعة بكل تجلياتها الرمزية والعرفانية وأقنعتها الأسطورية. إنها لغة الانزياح والشاعرية المجردة التي تحتاج إلى الكشف والتأويل والسبر والتقسيم لكل منطوقات الديوان اللفظية. ويعني هذا أن الشاعر يتجاوز العقل والحس إلى ماهو مجرد وميتافيزيقي، ويتغلغل في اللاعقل والتجريد الماورائي. وبذلك تتحول قصائده الشعرية إلى خطاب شعري رمزي مليء بالأقنعة اللغوية والرمزية. وتحضر بعض التيمات من خلال استقصاء الحقول الدلالية كتيمة الذات وتيمة المكان وتيمة الاغتراب وتيمة الطبيعة. ويتسلح الشاعر بالطبيعة الصامتة والصائتة ليتخذها سلاحا لمواجهة الواقع ولعنة الاغتراب وسلطة القهر والاستبداد التي تنشر الدمار والخراب والفقر والجوع ، وتحول الوطن والأمة إلى أرض اليباب بمفهوم الشاعر الإنجليزي توماس إليوت . ويتجاوز الشاعر تركيبيا جمل الإثبات والإخبار المرجعي والتقرير الحدثي إلى لغة الإنشاء والوظيفة الشعرية الإيحائية التي تفجرها الأساليب الإنشائية الطلبية وغير الطلبية من خلال توظيف النداء( يا شهمنا....ّ!)، والاستفهام( هل جاءتكمو ريح الشتاء...)، والنفي(لم يثر وقع العجاج في السيل...)، والأمر( دع.....كن ....)، والنهي(لاتثق بغراب السماسرة...)، وغير ذلك من الأساليب التي تغذي شاعرية الديوان وتنميه إبداعا وانزياحا . وتتراوح جمل الديوان كذلك بين الجمل الفعلية الدالة على الحركية وديناميكية الممارسة والتوتر الدرامي والجمل الاسمية الدالة على الإثبات والتأكيد والإخبار والتقرير الغنائي والواقعي. وتلبس الصورة الشعرية في قصائد يحيى عمارة من بداية الديوان حتى نهايته حلة التشخيص والأنسنة والمجاز الشعري عبر المشابهة والمجاورة الكنائية. وبعد ذلك ترتقي صور الشاعر إلى التجريد والغموض والإبهام الفني قصد خلخلة المتن الشعري وإرباك القارئ العادي ودفعه إلى التخييل والتأويل، وهذا يذكرنا بالمدرسة الرومانسية عند شعراء المهجر ومدرسة الرمزيين العرب كما عند عمر أبي ريشة ومحمود حسن إسماعيل وعلي محمود طه.... هذا، وقد وظف الشاعر الصورة الرؤيا باستعماله لمجموعة من الرموز اللغوية ( السيف، والفرسان، وفاكهة الغرباء...)، والرموز الطبيعية ( الشمس، والورد، والشوك، والنور، والفراشة، والعشب.....)، و الرموز الأدبية(المتنبي، وسعدي،وجوته، وملارمي، وطاغور، وخناس....)، والرموز الدينية ( مثقال، ولهب، والحبيب، والترتيل، ومريم.....)، والرموز التاريخية ( مسيلمة الكذاب، وابن زياد، وابن نصير)، والرموز الفنية ( زرياب....)، والرموز الصوفية ( الجيلاني، والنور، والحلول، والحلاج، والعشق، والكؤوس، وحضرة البستان، والشطحات......)، والرموز المكانية( وجدة، وفاس،وبرلين....)، والرموز الأسطورية(فنيق،وزرقاء الريش، وأرض اليباب....).... وتحضر في الديوان خاصية الالتفات بواسطة تنويع الضمائر والأصوات الشعرية الغنائية والحوارية، كما تتنوع سياقات التركيب الجملي والبلاغي والتداولي رغبة في خلق تواصل حميمي بين المبدع وقارئه، وبين المبدع وواقعه.
خلاصات واستنتاجات:
نستشف مما سبق ذكره أن شاعرنا يحي عمارة هو رائد المدرسة الشعرية الرمزية في المنطقة الشرقية بالمغرب الأقصى ، و من الشعراء الذين خصصوا ديوانا شعريا كاملا للتغني بتيمة الاغتراب الذاتي والمكاني ، وهو كذلك من الشعراء الذين يتكئون على توظيف الأقنعة الشعرية والرموز الإحالية والمستنسخات التناصية. ويبدو لنا من خلال مقتبساته وتضميناته الثقافية أنه تأثر كثيرا بشعر بودلير وإليوت وعبد الوهاب البياتي وبدر شاكر السياب وأدونيس وصلاح عبد الصبور ومحمود درويش وعبد المعطي حجازي وعبد الكريم الطبال وعبد الرحمن بوعلي ومحمد بنعمارة ومحمد علي الرباوي... فضلا عن تأثره بالشعراء الأقدمين كامرئ القيس وعنترة بن شداد وأبي نواس والمتنبي و المتصوفة في تصوراتهم العرفانية وأشعارهم الروحية. وبهذا يكون يحي عمارة شاعر الإبداع والثقافة والتشكيل الرمزي وصاحب الأقنعة التناصية الخاطفة التي ترد امتصاصا وحوارا واشتقاقا. ولكن أهم ميزة يتسم بها مبدعنا الرائع هي خاصية التجريد الرمزي التي قربت معظم قصائد الديوان من الغموض الفني والانزياح الجمالي والخرق الوظيفي الممتع والإبهام الشاعري المقبول.
ملاحظة:
جميل حمداوي، صندوق البريد 5021 أولاد ميمون، الناظور، المغرب
#جميل_حمداوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ديوان- نهر الأطلسية- للشاعر المغربي محمد لقاح
-
من أجل إنشاء رابط او اتحاد للمواقع العربية
-
القصة القصيرة جدا جنس أدبي جديد
-
جوزيف كورتيس ومدرسة باريس السيميائية,
-
المنهج النقدي في كتاب الأدب والغرابة لعبد الفتاح كليطو
-
فخرالدين العمراني مخرجا مسرحيا
-
أطياف الظهيرة لبهوش ياسين أكبر رواية مغربية من حيث الحجم
-
رواية مجرد لعبة حظ لغبراهيم درغوثي بين التجريب والتأصيل
-
كيف تكون كاتبا روائيا وقصاصا متميزا؟
-
الرواية العربية الفانطاستيكية
-
السخرية في رواية اللجنة لصنع الله إبراهيم
-
العالم العربي بين الثقافتين: الورقية والرقمية:
-
بيداغوجيا المجزوءات في نظامنا التربوي المغربي
-
جنوب الروح لمحمد الأشعري رواية الحنين إلى الماضي والعودة إلى
...
-
الخطاب الأسطوري في رواية طوق السراب ليحيى بزغود
-
الشطار لمحد شكري: بين السيرة الذاتية والأدب البيكارسكي
-
حقوق الطفل بين المواثيق الغربية والإسلام
-
الشراكة البيداغوجية
-
لعبة النسيان لمحمد برادة بين الزمن الضائع والتجريب البوليفون
...
-
تجليات التجديد في رواية - أبجدية الموت حبّا ً - لجاسم الرصيف
المزيد.....
-
قبل إيطاليا بقرون.. الفوكاتشا تقليد خبز قديم يعود لبلاد الهل
...
-
ميركل: بوتين يجيد اللغة الألمانية أكثر مما أجيد أنا الروسية
...
-
حفل توقيع جماعي لكتاب بصريين
-
عبجي : ألبوم -كارنيه دي فوياج- رحلة موسيقية مستوحاة من أسفار
...
-
قصص البطولة والمقاومة: شعراء ومحاربون من برقة في مواجهة الاح
...
-
الخبز في كشمير.. إرث طهوي يُعيد صياغة هوية منطقة متنازع عليه
...
-
تعرف على مصطلحات السينما المختلفة في -مراجعات ريتا-
-
مكتبة متنقلة تجوب شوارع الموصل العراقية للتشجيع على القراءة
...
-
دونيتسك تحتضن مسابقة -جمال دونباس-2024- (صور)
-
وفاة الروائية البريطانية باربرا تايلور برادفورد عن 91 عاما
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|