|
كتاب -في اليُتْم الوجودي-: جمال علي الحلاق يتأمل الكتابة كنافذة للنجاة
فرج الحطاب
الحوار المتمدن-العدد: 8251 - 2025 / 2 / 12 - 15:00
المحور:
قضايا ثقافية
في كتابه "في اليُتْم الوجودي"، الذي صدر عن دار نابو للنشر والتوزيع في بغداد عام 2024، يتناول الكاتب جمال علي الحلاق مفهوم اليُتْم من جوانبه اللغوية والاصطلاحية، إضافةً إلى اعتباره تجربة وجوديّة خاصة. كما يتطرق الحلاق إلى تحليل أشكال اليُتم المختلفة ودراسة مجموعة من المسائل والنصوص الأدبية، التي تطرح تطبيقات عملية على موضوع البحث. يقدّم الكاتب في هذا العمل جدليَّة مفادها أن "الانقطاع عن الأصول البعيدة هو اليُتْم الوجودي الحقيقي، بل إنّ انقطاعنا عن أصولنا الأولى هو يُتْمنا الذي يحاصرنا بالمجهول حيثما التفتنا، لكنّه في نفس الوقت يجعلنا لا نتردّد لحظة في حالة التمكّن أن نقفز على كوكب آخر حتى وإن كان يبابا"، (ص26). استناداً إلى هذه الرؤية، يرى الحلاق أن البشرية تتجه نحو موجة هجرة مقبلة خارج حدود كوكب الأرض، حيث من المرجّح أن تكون وجهتها المريخ. ويوظف الكاتب مقاربة رمزية لهذه الهجرة، مشبّهاً إياها بقصة خروج آدم من الجنة. ففي هذا السيناريو، سيصبح كوكب المريخ بمكانة الجحيم الذي سيأوي أولئك المهاجرين الجدد، بينما يتحول كوكب الأرض إلى صورة "الجنة المفقودة"، التي ستظل محفورة في ذاكرتهم كمصدر للحنين وألم الفقد في المستقبل.
وللتعمق في دراسة الموضوع بشكل أكثر دقة، يطرح الكاتب مجموعة من الأسئلة المحورية، أبرزها: هل الغاية النهائية للإنسان، أو الغرض الأساسي من وجوده، يتمثل في قدرته على ابتكار شكل من أشكال الفردوس كلما واجه واقعاً يشبه الجحيم؟ وهل يمكن اعتبار هذا المنظور نافذة أمل للإنسان تتيح له النجاة من الكوارث الكونية، مثل انهيار الكواكب والنجوم والمجرات، التي قد تعترض طريقه على مدى وجوده في الكون؟ وسط هذه التحولات الكبرى، كيف سينظر الإنسان والأجيال القادمة المهاجرة وهي على سطح كوكب المريخ إلى كوكبهم السابق، الأرض؟ هل سيبدو لهم وكأنه الفردوس المفقود، بما كان يتمتع به من حدائق غنّاء، أنهار عذبة، وثمار وخمور وغيرها من الخيرات؟
في ظل هذه الأسئلة والتحولات الوجودية التي تمس جوهر الوجود الإنساني، سيقف الإنسان مُجبَراً -أينما كان- متأملاً ما آلت إليه حاله وهو على حافة الزوال. هذا التأمل يعكس الفهم العميق لحالة "اليُتم الوجودي" التي يشير إليها هذا الكتاب. وعندها، لن تكون الخيارات المتاحة كثيرة أمام الإنسان. ومع ذلك، قد تكون الكتابة هي نافذة النجاة. بهذا المعنى الذي يقترحه الكاتب، يمكن أن تصبح الكتابة وسيلة وجودية لمواجهة التحولات الكبرى والنهايات الحتمية، بأسلوب يعيد تعريف الدور الذي يمكن للكلمات أن تلعبه في مواجهة ضياع المعنى.
يتناول الكاتب جمال الحلاق تعريف مفهوم اليُتم من الناحيتين اللغوية والاصطلاحية في كلٍ من اللغة العربية والإنجليزية، مقدماً تحليلاً دقيقاً لمعاني الكلمة ودلالاتها. في اللغة العربية، يعرف الفراهيدي اليُتم بأنه "فقدان الأب"، بينما يفسره الراغب الأصفهاني على أنه "انقطاع الصبي عن أبيه قبل بلوغه، وفي سائر الحيوانات من قِبَل أُمِّه"، كما أن كل "منفردٍ يتيم"، وهكذا يُقال "درّة يتيمة". ومن جانبه، يرى الزمخشري أن اليُتم يعني "الانفراد"، ويتضح ذلك في استعمال عبارات مثل "صبي يتيم" أو "بيت يتيم"، وهو المعنى ذاته عند ابن السكّيت، فاليتُم هو "الانفراد"، وهو كذلك "فقدان الأب". أما الفيروزآبادي، فيعرِّف اليتيم في قاموسه المحيط بأنه "الفَرّدُ، وكلُّ شيءٍ يعزُّ نظيره". ويُضيف ابن منظور في لسان العرب بعض المعاني الأخرى، مثل أن اليُتم قد يعبر عن "الغفْلَةُ" و"الإبطاء".
أما في اللغة الإنجليزية، فإن كلمة Orphan تستمد أصلها من الجذر الإغريقي Orphanos الذي يعني "الثُّكل". واستخدم أرسطو هذا المصطلح للإشارة إلى فقدان الأب -تحديداً-. وفي سياق مختلف داخل مجال الطباعة، تشير كلمة Orphan إلى السطر الأول من الفقرة الجديدة عندما يظهر وحيداً في أسفل الصفحة.
وبعيداً عن التعريفات اللغوية والاصطلاحية لمفهوم اليُتم الواردة في القواميس والمعاجم، يرى الكاتب جمال الحلاق أن اليُتم الحقيقي هو "أن تكون وحيداً مع ما تعرف، ووحيداً مع ما تجهل، بل أن الدخول في (الوعي/المعرفة) هو بحدّ ذاته دخول في اليُتْم، بل اليُتْم هو السؤال المعرفي في أمة يكون السؤال فيها خروجاً على العقل الجمعي، وحين أقول (أُمّة) فإنّني أعني بها المفهوم الهرمي للعائلة، بدءاً من غرفة النوم وانتهاءً بالكوكب"، (ص 53). كما يقدم الحلاق مفهوماً آخراً لليُتم، يسميه "اليُتم المُبكّر"، وهو الحالة التي يعيشها الفرد حين يفتقر للمعرفة ويسعى للوصول إليها من خلال البحث والتساؤل. إلا أن محاولة طرح الأسئلة قد تؤدي إلى نفور المحيطين به أو ابتعادهم عنه لأنهم يظنون أنه يسأل عن شيء يعرفه بالفعل، أو هكذا يتوهمون.
في هذا الكتاب، يسلط الكاتب جمال الحلاق الضوء على محاولاته لإعادة تعريف بعض الأبعاد الجديدة لمعنى اليُتم، تلك الأبعاد التي لم تسجلها القواميس والمعاجم التقليدية ووقفت صامتة أمامها. يتناول الكتاب تعريف ثلاث حالات أساسية من اليُتْم "غير المألوف"، ويستعرض من خلالها مفاهيم عميقة تتجاوز الفهم التقليدي.
الحالة الأولى التي يناقشها الحلاق هي "العقم الجيني"، والذي يصفه بأنه يُتْم من نوع خاص ولكنه معكوس؛ إذ يمثل حالة انقطاع تتمثل في موت الابن الوحيد وبقاء الأب منفردا. هذه الرؤية تنظر إلى الانقطاع الجيني باعتباره شكلاً غريباً ومؤلماً من الفقد. أما الحالة الثانية فهي ما يسميه "العقم الذهني"، وهو "الانقطاع القسري عن المعرفة"، حيث ينعكس هذا النوع من اليُتْم في انعدام القدرة على الاطلاع أو التعلم بسبب القيود التي تفرضها الظروف أو الثقافة. والحالة الثالثة التي يعرضها الكاتب تتجسد في "انفتاح الذهن في بيئة منغلقة"، وهو شعور بالعزلة الفكرية عند شخص يعيش في محيط غير متقبل للأفكار المتجددة أو المتحررة.
إلى جانب ذلك، يوسع الكاتب معنى اليُتم ليشمل تجارب إنسانية أخرى، مثل الشعور بالغربة إذا رحل جميع أبناء جيلك وبقيت وحيداً بين أجيال تختلف جذرياً عن ثقافتك وتجاربك. كما يتطرق إلى فكرة اليُتْم الناتج عن النجاة من لحظات انهيار التاريخ والثقافة والمجتمعات، إذ يتغير فيها العالم بشكل جذري أمام ناظريك. ويوضح المثال بمآسي تقسيم أو اختفاء خرائط بلاد كفلسطين ويوغسلافيا والاتحاد السوفيتي، والتي تركت آثاراً نفسية عميقة لجيل كامل من البشر.
ويتوِّج الكاتب هذه التفسيرات بالإشارة إلى أن اليُتْم قد يعني أيضاً أن تولد وتعيش طفولتك وشبابك ضمن نظام فكري ومعرفي، ثم تجد نفسك فجأة خارج إطار ذلك النظام بفعل تغيرات دراماتيكية.
ويربط الحلاق كل هذه التجليات لجذر أعمق لمعنى اليُتْم، وهو "الإبطاء"، حيث يعبر عن هذه الكلمة بمعاني التأخر، التخلف، الفشل في الوصول في الوقت المناسب، أو حتى الوصول قبل الأوان. هذه الأفكار تدعونا للتأمل في أبعاد جديدة لليُتْم تمتد لتشمل الانقطاع النفسي والفكري والاجتماعي الذي يُبدّل صميم إحساس الإنسان بانتمائه للعالم.
يُعرِّف المؤلف مفهوم "اليُتم الوجودي"، وهو عنوان الكتاب، على أنه إعلان عن موت الأب، والذي يعني أيضاً "إعلان بموت المعرفة الموروثة بكلّ أشكالها"، (ص68). وفقاً للمؤلف، يؤدي اختفاء صورة الأب إلى انهيار البنية التقليدية للمعرفة، مما يفتح الطريق أمام ظهور معارف جديدة وتصوّر مختلف للعالم. فتصبح المعرفة الجديدة بمكانة شعار يحمل معنى "أنا أفكّر، إذن أنا يتيم"، مما يشير إلى التوقف عن الاعتماد على الآخر في اكتشاف الوعي والعودة إلى الذات كمرجعية لاستيعاب وفهم العالم المحيط.
وفق هذا الطرح، يمكننا القول إن "اليُتم الوجودي" ظهر بقوة في تجربة سقراط، من خلال وجوده "وحيداً ومنفرداً وجهاً لوجه -بلا جذر معرفي- إزاء عالمٍ يقاضيه بموروثاته"، (ص67). من هنا، يبدو أن تحقيق الوجود الفردي الأصيل لا يتحقق إلا من خلال التحرر من المعرفة الموروثة التي لم تتشكل عبر التجربة الذاتية. إذ تصبح بذلك حياة الإنسان رحلة شخصية، وتجربة غنية تهدف إلى البحث عن الحقيقة واكتشاف المعنى.
في النهاية، يرى الكاتب أن "اليُتْم الوجودي" يمكن اعتباره أحد أشكال الخسارة العديدة التي يختبرها الإنسان، وكل تجربة فردية هي تعبير عن أحد أبعاده. ومع ذلك، يبقى هذا المفهوم من بين الألغاز الغامضة التي يصعب على معظم الناس استيعابها بشكل كامل. لكن الزمن قد يكشف مستقبلاً عن أجيال تعيش يُتماً من نوع جديد، يتمثّل في غياب الأب، واضمحلال الدولة، وانحسار سلطة الدين والإنتاج، في وقت تصبح فيه الأرض أضيق من خرم إبرة.
مؤلف هذا الكتاب، جمال علي الحلاق، شاعر وكاتب يتميز بغزارة إنتاجه وتنوّع موضوعاته. ويمثّل هذا العمل إضافة جديدة إلى مسيرته الأدبية دون أن يكون الأخير -بطبيعة الحال-. كالعادة، يبهرنا الحلاق في كل إصدار جديد برؤية مبتكرة، وزاوية مختلفة يتناول بها موضوعاته، وهذا الكتاب ينسجم تماماً مع هذا النهج. حيث يعالج المؤلف موضوع اليُتم الذي يبدو مألوفاً ومطروقاً للجميع، لكنه سرعان ما يحوّله إلى قضية جدلية يُعيد طرحها، وكأنها مسألة تُكتشف لأول مرة.
يمكن عدّ هذا العمل متفرّداً بطبيعته، أو "يتيماً" بموضوعه -جرياً على طريقة وصف المعاجم العربية لمسائل مشابهة-. وما يعزّز قيمة هذا الكتاب بشكل كبير هو جهود المؤلف في إجراء مقارنات دقيقة بين موضوع اليُتم كما يُتناول في تجارب الشعراء. فالشعر، باعتباره "مستودع العاطفة"، يشكّل منبعاً غنياً بالمعلومات والتعبيرات لدراسة مثل هذه المواضيع بعمق. ومن أبرز النقاط التي يمكن الإشارة إليها في هذا السياق، المقارنات الممتعة التي يطرحها العمل حول "تداخل تمثلات اليُتم". من بينها دراسة اليُتم الوجودي في تجربة الشاعر الفلسطيني توفيق صايغ، الذي تجلى في فقدان الوطن، مقابل تجربة اليُتم الناتج عن فقدان الأب المبكّر التي عاشها الشاعر العراقي عباس اليوسفي. يقدّم الكاتب تحليلاً عميقاً لهذا التداخل بين التجربتين، ويصفه بكونه شكلاً من أشكال "انسحاب المعنى"، وهو انسحاب يمنح الحياة عمقاً إضافياً ويصبح مصدر إلهام للاستمرار والبحث عن المعنى في مسيرتها.
ينقسم كتاب الحلاق "في اليُتم الوجودي" إلى مقدمة وقسمين رئيسين يتألفان من ستة فصول. يركز القسم الأول على الجانب النظري ويشمل الفصول الثلاثة الأولى التي تتناول موضوعات محددة: الفصل الأول بعنوان "في الكتابة"، الفصل الثاني "اليُتم الوجودي"، والفصل الثالث "البحث عن الذات". أما القسم الثاني من الكتاب، فيركز على تطبيقات عملية لمفاهيم "اليتم الوجودي"، مستعرضاً ذلك في قصائد عدد من الشعراء مثل عباس اليوسفي، توفيق صايغ، فرج الحطاب، وجمال الحلاق. وتشمل فصول هذا القسم أيضًا بعض التطبيقات الأخرى التي تضمَّنت حوارات مختلفة موثقة مع شعراء وشخصيات بارزة مثل عيسى حسن الياسري، سليمان جوني، الدكتور نبيل وادي الجبوري وآخرين. وحمل الفصل الرابع عنوان "الدخول إلى النصّ من اليُتم"، بينما جاء الفصل الخامس تحت عنوان "تداخل تمثّلات اليُتم"، واختُتم الكتاب بالفصل السادس الذي حمل عنوان "الإنسان الجديد وإمكانية النجاة".
#فرج_الحطاب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
البحث عن الذات المحضة في مجموعة (النوم في محطة الباص) لعبد ا
...
-
أسلوب المناجاة في مجموعة (مرد روحي) للشاعر عباس اليوسفي
-
حرية الذات ومفهوم السعادة المطلقة في نظرية المعرفة الصوفية ع
...
-
داعش ودولة الخلافة الإسلامية :آخر نتاجات الحرب الباردة
-
النظريات الحديثة لدراسة علم الأديان (3)
-
النظريات الحديثة لدراسة علم الأديان (2)
-
النظريات والمناهج الحديثة لدراسة علم الأديان (1)
-
الهوية المحلية في شعر بدر شاكر السياب
المزيد.....
-
ميونخ.. إصابة 15 شخصًا بحادث دهس بسيارة
-
بالفيديو.. شاهد لحظة انفجار غاز مميت بمركز تجاري بتايوان
-
مي كساب بمسلسل -المداح 5- في رمضان وتأجيل -نون النسوة-
-
بيدرسون: الانتقال السياسي الشامل هو السبيل الوحيد لمعالجة ال
...
-
القنصل الروسي في إسطنبول: مباحثات بوتين وترامب فرصة لاستئناف
...
-
روسيا.. اكتشاف مادة في الطحالب البحرية تحمي خلايا الكبد من ا
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك
-
الجيش الإسرائيلي: إطلاق النار على فلسطيني عند مدخل قاعدة بال
...
-
الرئيس الإيراني: واشنطن تدعم القتل وتتهمنا بالإرهاب
-
فرنسا.. إصابة 10 أشخاص بانفجار قنبلة يدوية في حانة (فيديو)
المزيد.....
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
أنغام الربيع Spring Melodies
/ محمد عبد الكريم يوسف
المزيد.....
|