|
بيروتُ سوريٍ ملتبس!
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 1793 - 2007 / 1 / 12 - 12:13
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
طوال أكثر من عامين وعلي يلح عليّ أن أسافر إلى لبنان. كان يظن أن من شأن زيارة بيروت أن تتيح لي التعرف على محرري الصحف اللبنانية، وتفتح لي فرصا أوسع للنشر فيها. وهذا أمر لا يكاد يتقدمه شيء لمن جعل الكتابة للصحف نشاطا كتابيا ومورد معيشة، شأني و، بصورة ما، شأن علي أيضا. ليس السفر من دمشق إلى بيروت سفرا، غير أني لم أسافر. لا أعرف بالضبط لماذا. كما يحصل دوما حيال مبادرة غير مسبوقة وجدتني متوجسا، خائفا مما لست أدري. قلت لعلي إني خائف من بيروت. أحب المدينة التي لم أزرها أبدا كما يحب المراهق عن بعد فتاة لا تعلم بغرامه ولا بوجوده. يخشى إن فاتحها بحبه أن يهشم رفضها حلمه بها. كنت أخاف أن لا أحب بيروت إن زرتها. طارقا أبواب "النهار" و"السفير" و"المستقبل" .. ما سأكون غير سوري آخر يعرض بضاعته؟ لا. لا أريد الذهاب إلى بيروت لأعرض بضاعتي وهشاشتي و..سوريتي. كانت "سورية" وقتها مهيمنة في لبنان وعليه. وما أنا صاحب مال أو سلطة لأستفيد من هذا الشرط، وما كنت على درجة اضطرار أعمام وأولاد عم لي من قريتنا في أقصى شمال البلاد لأقصد لبنان بحثا عن عمل، أي عمل. أخيرا، صيف 2003، برفقة علي، غدونا صباحا إلى بيروت. كان توتري مضاعفا. قلق من الحدود، وخشية مما وراء الحدود. عبرنا الحدود بيسر أظهر ترددي السابق مبالغا فيه. كان علي دليلي. هذه عنجر. هذه شتورا. وهذا ظهر البيدر. وهذه عاليه. على اليمين هناك الجبل. و..ها هي بيروت تنبسط أمامنا، ووراء بيروت البحر. سار كل شيء بيسر محبط. في بيروت ظن بول الذي كان يعلم بخوفي من المدينة أنه سيكون لدي ما أدونه عن لقائي الأول بها على دفتر صغير أهداني إياه. "بفتكر إنو هالدفتر راح يلزمك"! "افتكرت" أنا ذلك أيضا. لكن عشرة أيام زيارتي الأولى انقضت ولم أخط كلمة واحدة. لم يكن ثمة ما يكتب: ولا صدمة واحدة، ولا عوائق من أي نوع؛ لا دراما. لسوء حظ الكتابة لم يجد الكاتب ما يكتبه. لحسن حظ الكاتب؟ لا أعرف. ربما لا. /لن يمتلأ الدفتر عن آخره تقريبا إلا بملاحظات دونتها من سفري الأول إلى القامشلي في آذار 2004، بُعيد "أحداثها" الشهيرة/. كان كل شيئا سهلا (وأهلا) مع عقل وبلال، وحسام، وحسن ويوسف، وسماح. أما إلياس وزياد، وبول، فقد كانوا من سالكي الطريق المعاكس: من بيروت إلى دمشق. كانت سورية وقتها، كي نتذكر، تبدو لبنانية بعض الشيء. أعني بالطبع سورية في سورية. خارج سورية، في لبنان، كانت سورية أشبه بماضيها. لم يتغير هذا المنوال الهانئ المريب في أربع زيارات. وفي رفٍ ما من نفسي كنت محبطا. أظنني كنت أنتظر أن تعاملني بيروت بجفاف وجفاء كي أسكن إلى سابق توجسي، أو كي تثار مقاومتي. لم تفعل. هل عرفت بيروت، إذن؟ لم أصطدم بأية مقاومة في تعرفي عليها. وربما مثل المرأة، قد لا نعرف المدينة جيدا دون اختبار قسوتها ومعاناة صدها. كيف يفهم ذلك؟ لعل لإشغالنا، بيروت التي عرفت وأنا، موقعين متقاربين من هيمنة واحدة عابرة للحدود ضلع فيه. كان مثقفون وكتاب لبنانيون قد عرفوا من أشياء كتبتها في "ملحق النهار" أني سجين سياسي سابق... ولقد حزت بفضل وضعي ثقة يضن بها لبنانيون كثيرون على "السوري". ولعل بيروت لا تعبس في وجه من يأتونها دون أي يقين ودون أي سلاح، كحالي. ستنسج الزيارات اللاحقة على المنوال الودود ذاته. سأتعرف على حازم وحازم، على آخرين لن أصنع من أسمائهم قائمة. لكن تعرفت على كثيرين لا يعني أني عرفت الكثير. أتبين الآن أن بيروتي المثقفة كانت ذكورية إلى حد بعيد. هذا غريب. ولعله يُلزِمني بأن أقر أني لم أعرف بيروت، المدينة العربية الأقل "فحولية" و"بطريريكية" وعسكرا، إن لم أقل الأكثر أنوثة. عدا مثقفين وكتاب تكاد بيروتي تكون سياحية: تجوال من مقهى لآخر منوعين كؤوسنا، اختلاس نظرات إلى جميلات مكشوفات البطون، وفيما يخصني شخصيا: شعور حقيقي بالأمان. /ينبغي أن أكون غريبا حتى أشعر بالأمان: الغربة هي الوطن!/. في وداع بول، في "بارومتر"، كان سمير. أظن أن علي كان سعيدا وهو يقدم مواطنه إلى أصدقائه اللبنانيين. كانت ابتسامته العريضة تشف عن شعوره بشيء من "الونس". ربما الكتاب والسجناء السابقون وحدهم يتعارفون بهذا اليسر. نكاد نشترك فورا في الذاكرة مثل جهازي كمبيوتر موصولين إلى بعضهما. سنتجول في بيروت. قال الأمير الوسيم، مؤرخ بيروت. سآخذك في السيارة غدا بعد الظهر إن كان لديك ساعتين من الوقت. في الغد كان الصداع يأكل رأسي. ولن تتسنى فرصة الجولة الموعودة مع سمير حتى الزيارة الأخيرة لبيروت. لن أراها، ولن أراه بعدها. وبعد أقل من عام لن يراه أحد. صورنا، في مركز بيروت التجاري الجديد، ما يسميه اللبنانيون الشغوفون باستخدام الكلمات الأجنبية داونتاون، وكتابين بإهداء منه، وبضع رسائل إلكترونية، هي ما بقي من سمير عندي. في هذه الزيارة كانت بيروتي أنا، المكونة حصرا من مثقفين وصحفيين وناشطين، على يقين من أن أمر التمديد للحود غير وارد. كان هذا في الثلث الأول من آب 2004، وكان ورد من دمشق كلام على لبننة الاستحقاق الرئاسي. أفهم جيدا كم أحست بيروت بالمهانة حين انقلب كل شيء بعد أيام فحسب. شعرت بيروت المثقفة، التي لا تكف عن "التحليل"، أنها أهينت في ذكائها. يوم 15 أيلول 2004، كنت في زيارتي الخامسة لبيروت. على الحدود: ممنوع من المغادرة! كانت البرقية التي تحظر سفري مؤرخة في 12 أيلول. بعد أشهر تلقيت دعوة من جهة طلابية في الجامعة الأميركية في بيروت لقول شيء عن العلاقة السورية اللبنانية. قصدت الحدود بسذاجة قدرية. كان قصد الحدود أيسر علي من قصد الجهة التي حظرت خروجي من البلاد. ممنوع أيضا. كان ذلك في أيار 2005، أقل من شهر بعد "خروجنا"، وأقل من شهر قبل غياب سمير. أقول لنفسي اليوم، لعل في نقمة المنع نعمة خفية. لو كنت قادرا على السفر إلى بيروت، لكنت ربما اليوم قرب ميشيل أو فائق، "خائنا" مثلهما. فبيروت "ما بعد الخروج" هي بيروت مشبوهة، موبوءة، تورد زائرها السوري المتكلم السجن. بعد أن عادت سورية إلى سورية، غدت أقل شبها بلبنان وأشد شبها بماضيها. ***** مساهمة في ملف "السفير الثقافي" عن بيروت، 29/12/2006.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إهدار المعنى القرباني لإعدام صدام
-
اللهُمَّ أعزَّ الحرية بأحد الدالَيْن: الدين أو الدولة!
-
عمقان لإسرائيل وضحالات متعددة لنا
-
المعارضة الديمقراطية السورية في أزمة!
-
معضلة حزب الله ومحنة لبنان
-
حنين إلى الوطنية القبلية في حمى الدكتاتور
-
في أصل السخط العربي وفصله
-
تعاقب أطوار ثلاث للسياسة والثقافة العربية...
-
كل التلفزيون للسلطة، ولا سلطة للتلفزيون!
-
أزمة الهيمنة وعسر التغيير السياسي العربي
-
في -نقد السياسة-: من الإصلاح والتغيير إلى العمل الاجتماعي
-
ديمقراطية أكثرية، علمانية فوقية، ديمقراطية توافقية؟
-
الخرائط العقلية والسياسية أم الخرائط الجغرافية هي التي ينبغي
...
-
الخرائط العقلية والسياسية أم الخرائط الجغرافية هي التي ينبغي
...
-
الإنترنت وحال العالم الافتراضي في سوريا
-
في أصل -الممانعة- ونظامها وإيديولوجيتها ..وازدواج وجهها
-
في أن الخيانة نتاج وظيفة تخوينية لنظام ثقافي سياسي مغلق
-
في مديح الخيانة
-
نحو حل غير نظامي للمشكلة الإسرائيلية!
-
-غرابة مقلقة- للإرهاب في سورية!
المزيد.....
-
بعد استخدامه في أوكرانيا لأول مرة.. لماذا أثار صاروخ -أوريشن
...
-
مراسلتنا في لبنان: غارات إسرائيلية تستهدف مناطق عدة في ضاحية
...
-
انتشال جثة شاب سعودي من البحر في إيطاليا
-
أوربان يدعو نتنياهو لزيارة هنغاريا وسط انقسام أوروبي بشأن مذ
...
-
الرئيس المصري يبحث مع رئيس وزراء إسبانيا الوضع في الشرق الأو
...
-
-يينها موقعان عسكريان على قمة جبل الشيخ-.. -حزب الله- ينفذ 2
...
-
الرئيس الصيني يزور المغرب ويلتقي ولي العهد
-
عدوى الإشريكية القولونية تتفاقم.. سحب 75 ألف كغ من اللحم الم
...
-
فولودين: سماح الولايات المتحدة وحلفائها لأوكرانيا باستخدام أ
...
-
لافروف: رسالة استخدام أوريشنيك وصلت
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|