|
الشيخ البهائي وكتابه الكشكول: بين الزهد والتناقضات الأدبية
محمد علي محيي الدين
كاتب وباحث
الحوار المتمدن-العدد: 8250 - 2025 / 2 / 11 - 10:01
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
الشيخ بهاء الدين محمد بن حسين العاملي، المعروف بالشيخ البهائي (1547-1621م)، يُعدّ من أبرز علماء الإسلام في العصر الصفوي، حيث تميز بموسوعيّته في العلوم الدينية والفلسفية والفلكية والهندسية. كان له أثرٌ عظيم في المجالات العلمية والفقهية، لكن من أكثر أعماله إثارةً للجدل كتابه "الكشكول"، الذي جمع فيه نصوصًا أدبية وأشعارًا، بعضها حمل طابعًا ماجِنًا أو خادشًا للحياء. ومن الغريب أن يصدر مثل هذا الأدب عن شخصية معروفة بالتصوّف والزهد، مما أثار استغراب البعض وانتقاد آخرين. لقد عُرف الشيخ البهائي بميوله الصوفية، حيث كتب في التصوف وأشاد بالزهد والورع، وكان يُنقل عنه التأكيد على أهمية التقوى والعلم النافع. وقد تولّى مناصب دينية عليا، مثل شيخ الإسلام في الدولة الصفوية، مما جعله شخصية دينية بارزة، ولكنه ترك هذا الجاه والعز ولجأ الى الزهد وأرتدى لباس المتصوفة، غير أن بعض محتويات "الكشكول" شكّلت صدمة لمن نظر إليه بوصفه رجل دينٍ متقشفًا، إذ ضمّ الكتاب بين دفتيه قصائد وأبياتًا غزلية ذات طابع صريح، بل تضمنت بعض الأبيات شعرًا في التغزل بالمذكر، وهو موضوع كان يُطرح في الشعر العربي الكلاسيكي لكنه ظلّ منبوذًا في الأوساط الدينية. يُعدّ "الكشكول" خليطًا من العلوم والحكايات والأمثال والقصائد والنوادر، كما يحوي تأملات فلسفية وأدبية ودينية. ولم يكن البهائي مبتكرًا في هذا النوع من التأليف، إذ سبقه آخرون في جمع مختارات أدبية متنوعة، لكن ما جعله مثيرًا للجدل هو تضمينه لنصوص اعتُبرت منافية للأخلاق الدينية. لقد احتوى الكتاب على مقاطع شعرية ماجنة وغزلية صريحة، ومن بين ما أثار الاستغراب تضمنه أشعارًا في التغزل بالمذكر، وهي ظاهرة وُجدت في التراث الشعري العربي منذ العصر العباسي، لكنها كانت تُقابل بالرفض الديني والاجتماعي. هذه المفارقة بين شخصية الشيخ البهائي كعالم ديني معروف، ومحتوى "الكشكول"، دفعت البعض إلى البحث عن تفسير لهذا التناقض. ولكن ما هي أسباب تضمين الشيخ البهائي لهذا الأدب؟ وهل هناك موجباً للانغمار في ايراد مثل هذا المحتوى، هناك عدة تفسيرات لما دفع الشيخ البهائي إلى إدراج مثل هذه الأشعار في "الكشكول" أحتج بها بعض المدافعين عنه، رغم أن ما في سلوكه الشخصي ما يبعده عن الشبهات، ومن هذه الاسباب: - الرغبة في التوثيق الأدبي: ربما كان البهائي يسعى إلى جمع مختلف النصوص الأدبية دون أن يكون بالضرورة مؤيدًا لمحتواها، بل أراد تقديم صورة شاملة عن الأدب في عصره وما قبله. -النزعة الأدبية والانفتاح الثقافي: رغم كونه رجل دين، فقد كان موسوعيًا لا يقتصر على العلوم الشرعية، بل اهتم بالأدب والفكر بشكل عام، وربما كان يرى أن الأدب يحمل أبعادًا مختلفة وليس مجرد وسيلة للوعظ أو التربية الأخلاقية. -التأثير الصوفي: بعض المدارس الصوفية لم تكن ترى تعارضًا بين الأدب الغزلي والتأمل الروحي، بل اعتبرت أن الغزل، حتى في أشكاله الجريئة، قد يُقرأ تأويلًا على أنه تعبير عن الحب الإلهي أو تجربة روحية رمزية. -النقد الاجتماعي غير المباشر: ربما أراد البهائي تقديم بعض هذه النصوص كشكلٍ من أشكال النقد للمجتمع، أو لفضح بعض الممارسات غير الأخلاقية التي كانت سائدة. لقد أثارت بعض نصوص "الكشكول" استياء رجال الدين في فترات لاحقة، خصوصًا أولئك الذين لم يتقبلوا فكرة الجمع بين التصوّف والأدب الماجن. ومن هنا، جاءت انتقادات حادة واتهامات بالتناقض بين دعوته إلى الزهد وبين بعض ما نقله من أشعار. غير أن بعض المدافعين عنه اعتبروا أن جمعه لمثل هذه الأشعار لا يعني بالضرورة تأييده لها، بل قد يكون جمعها لغرض دراستها أو تسليط الضوء عليها، وناقل الكفر ليس بكافر على ما جاء من كلام السلف. وللباحث أن يتساءل هل أنفرد البهائي عن غيره من رجال الدين في طرق هذه المواضيع، وهل يوجد له أنداد في هذا الجانب، لو تصفحنا كتب الأدب والتاريخ لوجدنا كثير من أجلة العلماء ومقدميهم خاضوا في هذا الأمر وأبدعوا به، وجاءوا بأعذب القصائد الحافلة بالتصوير الفني، والمعاني المبهرة، وفيها ما يشير الى غوص في الأعماق لا يمكن تبرئة قائله لما فيه من دلائل واضحة على هذا السلوك، رغم ما حضوا به من أجلال وتقدير في الأوساط الدينية والاجتماعية. وتاريخ الأدب العربي حافل بعديد الأسماء والنصوص التي خاضت غمار المثلية الجنسية، وأوردت نصوصاً حافلة بغريب الصور ودقيقها، وفي مقدمتهم "أبي نواس، بشار بن برد، مطيع بن إياس، يحيى بن زياد ، حمّاد عجرد، سلم الخاسر، والبة بن الحباب، إبان اللاحقي وصفي الدين الحلّي، وكتاب يتيمة الدهر وغيره ودواوين هؤلاء الشعراء، شاهد لرواج النزعة المثلية، ما يدل على انتشارها وتفشيها في تلك المجتمعات. وهذا النوع من الأدب جنى عليه قلم الرقيب لدواع مختلفة، فلم يصلنا منه إلا أقل القليل، وهذا الذي وصلنا يعطينا فكرة عن تأثير المجتمع على شيوعه، فقد أنعدم أو كاد في العصرين الجاهلي والأموي ولكنه شاع في العصر العباسي وما تلاه من عصور الانحطاط، والى ذلك أشار الجاحظ في واحدة من رسائله، " لو نظر كُثيِّر وجميل وعروة ومن سمّيت من نظرائهم إلى بعض خدم أهل عصرنا ممن قد اشتُري بالمال العظيم فراهةً وشطاطاً ونقاءَ لونٍ وحُسنَ اعتدالٍ وجودةَ قدٍّ وقوام لنبذوا بُثينة وعزّة وعفْراء". ولكن رغم محاولات المنع والبتر والقص فقد وصلتنا بعض الكتب بطبعات خاصة وردت فيها نماذج منه، كديوان (أبو نواس) طبعة دار المدى، وصفي الدين الحلي، وما ورد في يتيمة الدهر وكتب (ابو حيان التوحيدي) وغيرها وهو ما يشير الى تفشي هذه الظاهرة، بل ربما قبولها في تلك المجتمعات، بدليل اندفاع الشعراء لتناولها وتداولها بين الناس، وهو ما يعني في أقل الاحتمالات وجود سوق رائجة لها. وهناك نصوص لرجال دين مرموقين، عبروا عن موهبتهم وقدرتهم على تصوير هذه النزعات، وجاءوا بمعان مبتكرة عبرت عن دواخلهم وميولهم النفسية المكبوتة، ومنهم من لم يوغل في صميم التجربة بل عبر عنها بما يظهر ما بنفسه من هذه الميول ، يقول الشيخ عباس القرشي عندما انحبس عنهم المطر وخرجوا للاستسقاء فأبدع وأجاد: مالي أرى الناس يستسقون ربهم * بكل ذي شيبة محدودباً ظهرا ويتركوا كل مصقول عوارضه * أغر أملد ألما يشبه القمرا لو يسأل الله (وناساً) بصورته * مستسقياً لسقانا الخالق المطرا ورغم ما قيل ويقال فسيظل الشيخ البهائي شخصية جدلية تجمع بين العلم الديني والانفتاح الأدبي، وبين الزهد الروحي والاهتمام بالنصوص الأدبية ذات الطابع الجريء. وبينما يُنظر إليه كعالم ديني كبير، يبقى كتابه "الكشكول" شاهدًا على عصرٍ امتزج فيه العلم بالأدب، والتدين بالتصوّف، في تركيبة معقدة أثارت الكثير من الجدل حول شخصيته ومواقفه.
#محمد_علي_محيي_الدين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الشاعر عبد الحسين الحيدري ونزعته في التمرد والانطلاق
-
الدكتور عبد العظيم السلطاني وآراؤه النقديةم
-
كناية الديالكتيك نزهة ثانية في المعرفة
-
لقد قصدها يوما
-
قطف الثمر في التاريخ والتراث والفكر
-
نبيل الربيعي باحثا ومقاليا
-
دار الظالم خراب
-
سجلت ضد مجهول
-
كلاوات حجي علي
-
كلها سوده مصخمة
-
ينرادلها هلهولة
-
سالفة الاخرس
-
لمن تقرع الأجراس
-
وزير بالمزاد
-
خَل يموت الحصان من أكل الشعير
-
عازف الناي سفاح عبد الكريم
-
سيد ويهودي راضعين من ديس
-
قراءة في سونيتة الغجر
-
بدون تربية
-
رفقا بالقوارير
المزيد.....
-
الكرملين يعلق على تصريحات ترامب باحتمالية أن تصبح -أوكرانيا
...
-
رئيس وزراء الكويت يعلق من القمة الحكومية على قرارات ترامب وأ
...
-
الملك عبدالله الثاني يلتقي مستشار الأمن القومي الأمريكي بواش
...
-
ما أهمية سعي العالم العربي في مجال الذكاء الاصطناعي؟.. خبير
...
-
لبنانيون يعثرون على كاميرات وأجهزة تنصت زرعتها إسرائيل في ال
...
-
الخطر يتهدد آخر الأنهار الجليدية في أوغندا بعد أن فقد 80% من
...
-
جهاز محمول لتخفيف القلق والتوتر
-
-الغرب يساعد حماس على الدعاية والرهائن يدفعون الثمن- - جيروز
...
-
شولتس يعلن عن إجراءات ردا على الرسوم الجمركية الأمريكية
-
اجتماع ترامب وملك الأردن بشأن غزة.. هل يفجر قنبلة في المنطقة
...
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|