|
ألا في الفتنةِ سقطوا (١)
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن-العدد: 8248 - 2025 / 2 / 9 - 11:47
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
التاريخُ مرايا، لو أمعنَّا في صفحتها النظرَ، لمحنا شيئًا من الحاضر، والمستقبل كذلك. فالتاريخُ يعيدُ إنتاجَ أوجاعِه؛ إذا سمحنا لأخطاء الماضي أن تتنفس في وجه الحاضر. وبراعمُ الفتن الأولى التي أطلّت من تربة التاريخ في لحظات بعينها، قد تغدو مع الزمان أشجارًا سوداءَ، بملامح وأسماء جديدة. تلك هي "اللحظات" القديمة التي يصحبنا الدكتور المستشار "محمد الدمرداش العقالي" لنقفَ أمام مراياها، لكي نشهد لحظة ميلاد الفتنة الأولى، وكيف تردّد صداها في كل عصر، بعدما استقوت وتجبّرت وغلُظت ملامحُها، عبْر كتابه الساحر: “ألا في الفتنةِ سقطوا” الصادر عن "عصير الكتب"، وعُقدت حوله ندوةٌ ثريةٌ في "معرض القاهرة الدولي للكتاب"، بإدارة وتحليل الناقدة والأكاديمية الجميلة الدكتورة "عزة هيكل". يفتح لنا "العقالي" بعض نوافذ تاريخنا الإسلامي الغنيّ، ساكبًا الضوءَ غزيرًا في بضعة سراديب معتمة، كَمُنت فيها أفاعي الفتن، لولاها، صفا لنا وجهُ الرسالة النبيلة دون قطرة دماء واحدة، تسيلُ على الثوب الأبيض. هذا الكتاب الممتع، الذي استُلَّ عنوانُه البليغ من الآية الكريمة: “ومنهم مَن يقول ائذَنْ لي ولا تفتنّي ألا في الفتنة سقطوا”، يرسمُ خطًّا سرديًّا متصاعدًا يبدأ بالخارجي الأول: "حرقوص بن زهير السعدي" الذي نثر البذرة المسمومة في أرض الرسالة بعد موقعة "حُنين"، وينتهي بالمأساة الكبرى: استشهاد الإمام "علي بن أبي طالب"، شهيد المحراب، على يد "حرقوص جديد"، هو الآثم: "عبد الرحمن بن ملجم”. وبين هاتين اللحظتين، يمتدّ مسارٌ تاريخيٌّ طويل من "الخوارج"، تحول إلى تيار جارف من الفجاجة يُعتم وجه الحياة، ويشوّه الرسالةَ النبيلة، باسم الدين. الكتابة عن "الفتنة" ومسارات تحوّرها وتبدّل وجوهها عبر العصور، ليست بالأمر اليسير، خصوصًا بهذا الأسلوب السردي الحكائي الجميل الذي نهجه الكتاب. فالتاريخ أصداءٌ لصوت المنتصر، وحكايةٌ يعيد تأويلها الزمانُ وفق ظرفه. إلا أن الدكتور "محمد الدمرداش العقالي"، بقلمه الروائي الرفيع، ومنهجه التوثيقي الصارم، لم ينزلق إلى هوّة الانحياز، بل أعمل مبضعَ الجرّاح ليُشرِّح جسدَ التاريخ ويُمعن النظرَ في مكامن الوجع، مستعيدًا تفاصيلَ المشاهد الدامية، التي رفع فيها الخوارجُ شعارهم الأثير: “لا حكم إلا لله”، بعدما أخرجوه عن سياقه الفضيل، وأحالوه إلى صكّ تكفير واستباحة؛ فصارت كلمةُ الحق سيفًا للباطل. بأسلوبه العذب، يتتبع "العقالي" ميلاد تيار الخوارج، وكيف نجحوا، بدهائهم الخطابي، أن يُلبسوا الباطلَ ثوبَ التقوى، ليخدعوا العوامَّ، ويمضي التاريخُ في درب العنف؛ بدلا من الرحمة المبتغاة. مع صفحات الكتاب، نعايش أصداء حرب صِفّين، ونرى المصاحفَ وقد شُهرت على أسنّة الرماح، ليتشكّل المشهدُ الأكثر عجبًا في تاريخ الإسلام، رغم ظاهر شاعريته. فبدلًا من أن يظلَّ القرآنُ سبيلًا إلى العدل مثلما ينبغي له، صار حيلة سياسية بيد مَن لا يُحسن تأويله. وخسر "الإمامُ عليّ" كرم الله وجهَه، ليس المعركة فحسب، بل خسر بعض رجاله الذين كانوا أقربَ إليه من ظِلِّه، بعدما ابتلعتهم حيرةُ الفتنة. في قلب العاصفة، يقف "الإمامُ عليّ" المفكّر العظيم، محاولاً تغليبَ "الحكمة" على مشهد محتدم، أمام "معاوية" الذي استملحَ "الفوضى" بزعم "القصاص لدم عثمان”. فاشتعلت الفتنُ وبدأت الصدوعُ والشقوقُ والانقساماتُ تُطلُّ برأسها الأشوه في متن الجسد الصلب. يتناول الكتابُ مأساة "الإمام عليّ"، لا بوصفه مِشعلا نيّرًا وحسب، بل باعتبارها نموذجًا خالدًا للصراع الأبدي بين الرُّقيّ والانتهازية، وبين الحكمة والطمع. نتعرف عبر سطور الكتاب على "الإمام علي" البطل والإنسان الذي كان عليه حسم لحظة مفصلية، وخوض حرب ضد أعداء الخارج وأعداء الداخل في آنٍ واحد. وبهذا، يرسم الكتابُ صورة أكثر عمقًا لهذه الشخصية العظيمة، بعيدًا عن الإسقاطات الأيديولوجية. هذا الكتابُ ليس مجرد عملٍ تأريخيّ مكتوب بمداد الأدب الرفيع، بل شهادةٌ تتجاوز زمنها، تطرح السؤال اللحوحَ: "هل انتهتِ الفتنةُ؟ أم مازلنا ندور في رحاها، بأسماء جديدة وأقنعة مختلفة؟!" اليوم، لا يُشهر التكفيريون المصاحفَ على أسنّة الرماح، بل يُشهرون شعاراتٍ براقةً، ليقنعوا البسطاءَ بأنهم الناطقون باسم الدين. وكما تُوسِّل شعارُ: “لا حكمَ إلا لله” قديمًا لشرعنة القتل والدم، تُستخدم اليوم عباراتٌ جديدة، لتبرير الإقصاء والتكفير، وربما الدمار الشامل. هنا، يتحول الكتاب إلى مرآة "ميدوزا" المرعبة، تعكس الهولَ والنذير، إذا لم نتعلم من دروس التاريخ. فالمستشار "العقالي" لا يكتب للتاريخ، بل للحاضر والمستقبل؛ في محاولة جادّة لوأد فتن جديدة، قد تكون أشد فتكًا من سابقاتها. “ألا في الفتنة سقطوا” ليس كتابًا ماضويًّا، بل تحذيرٌ صارخ من أن الفتَن لا تموت، بل تتربّصُ بنا، تنتظر أن نكرر أخطاء مَن سبقونا. كتابٌ يعيد قراءة الماضي بروح الباحث عن الحقيقة؛ علّنا نكتشف أن "الحكمة" وحدها قادرة على هزيمة الفتن، التي إذا اشتعلت، لن تُبقي لنا إلا الرماد. وأُكمل في مقال قادم بإذن الله رحلتي مع هذا الكتاب الغنيّ.
#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رأسُ السنة الصينية... في دفء القاهرة
-
طقسُ الشتاء والقراءة في -معرض الكتاب-
-
المرأةُ وحقوقُها … في -منتدى القيادات النسائية-
-
“خبيئة بيكار- … في صُوانِ طفولتنا
-
إحدى خوالد: الدكتور -بدر عبد العاطي-
-
“خالد العناني- … صوتُ مصرَ الحضاريُّ في اليونسكو
-
“مكرم هارون-… واحدٌ من النبلاء
-
صلاح دياب: -إيجي لاند- الفرعونية
-
عيد الميلاد المجيد … مِحرابٌ ومَذبح
-
سنة حلوة بالحب… شكرًا ستّ -عفاف-
-
كسّارة البندق … عصا -نادر عباسي-
-
قلوبُنا أخبرتنا …. ميري كريسماس
-
أُهدي جائزتي …. إلى جريدتي
-
لم أتسبّبْ في دموعِ إنسان!
-
أنصتوا… الملائكة تغنّي …. في مسرح النيل
-
سارقو الثورات والثروات
-
“الملحد-… مغالطة: “الكتابُ يُقرأ من عنوانه-!!!!
-
إشراقة -الأكسجين- في صالون -وسيم السيسي-
-
خيال … -صلاح دياب-
-
-نجم- … في قاعة -إيوارت-
المزيد.....
-
ليلى والذئب HD .. تردد قناة طيور الجنة 2025 على نايل سات وال
...
-
ماذا بين البرهان والإسلاميين في السودان؟
-
-الخارجية- تحذر بشدة من مخاطر اعتماد الاحتلال تسمية -يهودا و
...
-
الخارجية الفلسطينية تحذر من مخاطر اعتماد تسمية -يهودا والسام
...
-
الجيش الباكستاني: قوات الأمن تقتل 7 من عناصر من حركة طالبان
...
-
طاهر النونو: الجمهورية الاسلامية هي جزء اصيل من هذه المعركة
...
-
الاحتلال يبعد صحفيا مقدسيا عن المسجد الأقصى
-
مصر.. سجن يوتيوبر شهير 3 سنوات لازدرائه الإسلام والقرآن الكر
...
-
الاحتلال يسلم صحفيا مقدسيا قرارا بالإبعاد عن المسجد الأقصى
-
كاميرا ترصد رجلًا يسقط شمعدانًا تاريخيًا داخل كنيسة القديس ب
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|