الرد على مقالة الباحث: السيد عبد الحسين سلمان/ 5-20

حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي
(Hussain Alwan Hussain)

الحوار المتمدن-العدد: 8247 - 2025 / 2 / 8 - 16:10
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    

6. فرية: " خذوا نحوكم من اعجمي ..... سيبويه"
في السطر الثاني من مقاله المنقود يلفق السيد عبد الحسين سلمان المحترم النص أعلاه لإقامة الدليل على أن علم "النحو العربي هو من صنع أعجمي ..... سيبويه" .
وسيبويه (ت. 180 هـ) هو لقب عالم النحو العربي الفَذ: عمرو بن عثمان بن قنبر الحارثي بالولاء، المكنى بأبي بشر.
وسأتجاوز هنا عن حقيقة كون سيبويه إنما هو من موالي عرب بني الحارث، والتي تجعله عربياً بالموالاة وجوباً بموجب القانون "مولى القوم منهم" وفق شريعة العرب ومحمد التي أوضحتها في الحلقة السابقة، ناهيك عن وجوب اكتسابه العربية بتربيته في مجتمع عربي كي يستطيع وصفها. سأركز هنا فقط على ما تؤكده الوثائق التاريخية التي بين أيدينا.
إذاً، فعلى العرب طراً أن يأخذوا نحوهم من سيبويه، مثلما يصرح لنا المنقود، بكل رهاوة والبذخ في التنقيط!!
ولكن الثابت هو أن الأطفال في كل مجموعة بشرية إنما يكتسبون لغتهم الأم من مجتمعهم عفو الخاطر بلا تعلم وتعليم ولا نحو، ولا من يحزنون، أليس كذلك؟
السيد عبد الحسين سلمان المحترم يتصور واهماً بأن علم النحو العربي هو مثل جدول الضرب الذي اكتشفه الرياضي الفلاني من عندياته ووهبه للبشرية جمعاء كي يتعلمه وينتفع به كل محتاج إليه. وحسب تصوره، فإنه لما كان النحو العربي هو من اكتشاف سيبويه مثلما يفتري، فإن على العرب تعلمه والانتفاع به من مكتشفه سيبويه مثل تعلمهم لجدول الضرب من مكتشفه سين. هنا لدينا طرفان: المعلم المُعطي، وهو سيبويه؛ والطالب الآخذ، وهم العرب أجمع.
لا يفهم المنقود أن علم النحو لكل اللغات وأي لغة إنما هو علم وصفي وضعي سماعي. ماذا يعني هذا؟ إنه يعني أن سيبويه العظيم وغيره من علماء اللغة العربية إنما يأخذون نحوهم من كلام الناطقين باللغة، وليس بالعكس، مثلما يفتري المنقود!
ولكونه علماً سماعياً وصفياً، فقد كان النحاة العرب الأوائل يرتحلون إلى ديار القبائل العربية المختلفة ويأخذون منها لغاتها ويسجلون ذلك عندهم. هنا النحوي هو الذي يأخذ قواعد علمه من كلام الناطقين بالعربية، وليس بالعكس، مثلما يخرِّف المنقود. كما يأخذ النحوي العربي قواعد اللغة العربية من شواهد أبيات الشعر العربي الجارية على ألسن المتحدثين، ومن أمثالهم، ومن كتاب القرآن الكريم، ومن الأحاديث النبوية المتناقلة، ومما أخذه أساتذته وأساتذة أساتذته قبله ممَّن سمعوا وأثبتوا الألفاظ من ألسن قبائل العرب.
النحو العربي ليس هو أبدا "اكتشافاً" لسيبويه ليأخذه منه العرب، مثلما يخرّف المنقود. وبخلاف جدول الضرب – الجامد والصالح لكل الأزمان – فإن نحو أي لغة إنما يصف قواعدها كما هي في زمكان تدوينه، واللغات تتغير دينامياً بتغير المجتمعات عبر الزمان، وعلى علم النحو مواكبة هذا التغير بالتوثيق والوصف والتحليل والمقارنة.
لنأخذ هذه الأمثلة من كتاب سيبويه نفسه والتي يصرح فيها بمصادر مَنْ أخذ منهم أمثلته اللغوية. يقول سيبويه:
ا. "ودعاهم سكون الآخر في المثْلَين أن بيَّن أهل الحجاز في الجزم فقالوا: (أُرْدُدْ) و (لا تَرْدُدْ)، وهي اللغة العربية القديمة الجيدة".
الكتاب، تحـ. عبد السلام هارون، 1968 - 1977، جـ 4، ص. 473.
ب. "وزعم الخليل أن ناساً من بكر بن وائل يقولون (ردَّن) و (مدَّن) و (ردَّت)، جعلوه بمنزلة (رَدَّ) و (مَدَّ).."
ن.م.، جـ 3 ، ص. 535.
جـ. "وزعم أبو الخطّاب – وسألته عنهم غير مرة – أن ناساً من العرب يوثَقُ بعربيتهم، وهم بنو سُليم، يجعلون باب (قُلْتُ) أجمع مثل (ظننتُ).
ن.م. جـ 1 ، ص. 124.
الأمثلة الثلاثة أعلاه تُبيِّن أن سيبويه في وصفه لكلام العرب كان يأخذ مما قد سمعه هو بنفسه من ذلك الكلام، ومن أستاذه الخليل بن أحمد الفراهيدي، ومن أستاذه أبو الخطاب الأخفش الأكبر؛ وهو يؤصل كل قاعدة نحوية يوردها، ويوثقها من مصادرها بنزاهة علمية قلَّ نظيرها في العالم القديم.
وهذا يعني أن سيبويه العظيم كان أرفع وأنزه من أن يدعي بأن كتابه في "علم الكلم في العربية" إنما هو من تأليفه لوحده، مثلما يكذّب المنقود. على العكس من هذا: لقد كان هذا العبقري الفذ والنجيب يعتبر أن كتابه هو الإحياء لـ "علم الخليل" أستاذه. لذا تراه يذكر اسم أستاذه حوالي (548) مرة في الكتاب، إمّا بأسمه أو بضميره: سالته .. و قال ..! ولم يعرف تاريخ البشرية برمته أي كتاب نحو يذكر فيه جامعه اسم أستاذه بهذه الكثافة النجيبة.
ويذكر أبو بكر الزبيدي (ت. 379 هـ) في كتابه: "طبقات النحويين واللغويين":
"نصر بن علي قال: سمعتُ الأخفش يقول: يُعدُّ من أصحاب الخليل في النحو أربعة: سيبويه، والنضر بن شميل، وعلى بن نصر - وهو أبو نصر ابن على - ومؤرَّج السَّدوسى.
قال: وسمعت نصراً يَحكي عن أبيه قال: قال لي سيبويه حين أراد أن يضع كتابه: تعال حتى نتعاونَ على إحياء علم الخليل."
المصدر.
https://shamela.ws/book/13235/64
وفي صفحة (52) من نفس الكتاب أعلاه، نقرأ ما يلي عن أخبار الأستاذ الآخر لسيبويه: يونس بن حبيب (توفي 182 هـ):
"ولما مات سيبويه قيل ليونس: إن سيبويه ألَّف كِتابًا من ألْفِ ورقة في علم الخليل. فقال يونس: ومتى سَمِعَ سيبويه من الخليل هذا كله؟ جيئوني بكتابه. فلما نظر في كتابه ورأى ما حكى، قال: يجب أن يكون هذا الرجل قد صدق عن الخليل فيما حكاه، كما صدق فيما حَكى عَنِّي."
المصدر:
https://shamela.ws/book/13235/41#p1
ومن المعروف أن سيبوية ينقل في كتابه عن استاذه يونس بن حبيب المذكور في النص أعلاه (200) مرة. كما أنه ينقل أيضاَ عن: أبو عمر بن العلاء (ت. 145هـ) وعيسى بن عمر (ت. 149هـ) وأبو الخطاب الأخفش الأكبر (ت. 177هـ) وابو زيد سعيد ابن أوس (ت. 215 هـ).
ويورد ابن النديم (ت. 384 هـ) صاحب "الفهرست" رواية عن أبي العباس ثعلب (ت. 291 هـ)، يقول فيها: "قرأتُ بخطّ أبي العباس ثعلب: اجتمعَ على صنعة كتاب سيبويه اثنان وأربعون إنساناً، منهم سيبويه" مؤكداً أن "الأصول والمسائل" فيه تعود للخليل بن أحمد الفراهيدي.
أذاً، فسيبويه وأساتذته وأصحابه يعترفون بكونه إنما قد صنف كتابه الرائع والجامع في النحو ذاك لإحياء علم الخليل: أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي. والخليل هو عربي من قبيلة أزد بعُمان، وكانت ولادته في العام المائة للهجرة، أمّا وفاته فكانت في العام 175 للهجرة. وهو صاحب كتاب "الجُمَل" في النحو، ومؤلف أول قاموس عربي: "كتاب العين"، وواضع علم العروض والقوافي الفريد للشعر العربي (ليستعيره بعدئذ الشعر الفارسي والتركي والأوردي...). وهو – بلا منازع – أعظم عالم لغة في كل العصور، وسابق لعلم اللغة العالمي في زمانه بأكثر من ألف عام (تاريخ أول قاموس في اللغة الانجليزيه هو: 1755م). وهو مكتشف "المنهج البنيوي الوصفي الوظيفي" في علم اللغة، ونظرية "العامل" (actant)، و "الاتسام" (markedness)، والصويتة (phoneme)، وقانون "الجهد الأدنى" (law of the least effort) و"البنية المعلوماتية للجملة" (sentence informational structure)، والبنية العميقة للجملة (clause deep structure) و"نظرية "أفعال الخطاب" ( speech act theory). كل هذه المفاهيم اللغوية الأساسية وغيرها لم يعرفها علم اللغة العالمي إلا في القرن العشرين . كما كان الخليل زاهداً - يسكن في خص - وعظيم الخلق: يُلقي الدروس مجاناً؛ يرحب بمقدم تلميذه المفضّل سيبويه عليه بالقول: "مرحباً بزائر لا يُمل". وقد نُقل عن سفيان بن عيينة قوله: «من أحب أن ينظر إلى رجلٍ خُلِق َمن الذهب والمِسْك فلينظر إلى الخليل بن أحمد».
ما دام الأمر هو هكذا، فكيف يفتري المنقود على سيبويه وعلى قارئات وقراء الحوار المتمدن الأغر فيقول: "خذو نحوكم من عجمي ..... سيبويه" ؟ ها ؟
هذا، ومن المعلوم والثابت وثائقياَ أن علماء العربية قد بدأوا بتدوين قواعد النحو العربي قبل زمان سيبويه بأكثر من قرن من الزمان، لتفادي اللحن في القرأن، باعتباره عيباً اجتماعياً ومن الذنوب دينياً؛ لذا، نجد أن سيبويه هو من علماء الطبقة السادسة من النحاة البصريين في كتاب أبو بكر الزبيدي أعلاه:
مدرسة النحو البصرية
الطبقة الأولى
-١ - أبو الأسود الدؤلي
-٢ - عبد الرحمن بن هرمز
الطبقة الثانية
-٣ - نصر بن عاصم الليثي
-٤ - يحيى بن يعمر
-٥ - عنبسة الفيل
-٦ - ميمون الأقرن
الطبقة الثالثة
-٧ - ابن أبي عقرب
-٨ - عبد الله بن أبي إسحاق
الطبقة الرابعة
-٩ - أبو عمرو بن العلاء
-١٠ - أبو سفيان بن العلاء
-١١ - الأخفش الكبير
-١٢ - عيسى بن عمر
-١٣ - مسلمة بن عبد الله
-١٤ - بكر بن حبيب السهمي
الطبقة الخامسة
-١٥ - الخليل بن أحمد
-١٦ - حمّاد بن سلمة
-١٧ - يونس بن حبيب
-١٨ - يعقوب بن إسحاق الحضرمي
-١٩ - أبو عاصم النبيل
الطبقة السادسة
-٢٠ - النضر بن شميل
-٢١ - أبو محمد اليزيدي
-٢٢ - سيبويه
-٢٣ - أبو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش
-٢٤ - أبو عمر الجرمي
-٢٥ - علي بن نصر الجهضمي
-٢٦ - مؤرج بن عمرو
-٢٧ - محمد بن أبي محمد اليزيدي
-٢٨ - أبو جعفر أحمد بن محمد بن أبي محمد اليزيدي
-٢٩ - أبو العباس الفضل بن محمد بن أبي محمد اليزيدي
واستناداً للرواية الشهيرة عن مؤسس علم النحو العربي أبي الأسود الدؤلي (ت. 69 هـ) (الذي عمل قاضياَ ثم والياً على البصرة في خلافة علي بن أبي طالب (ت. 40 هـ)) أنه قال : "دخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فوجدت في يده رقعة؛ فقلت: ما هذه يا أمير المؤمنين ؟ فقال: إنّي تأملتُ كلام العرب فوجدتُه قد فسد بمخالطة هذه الحمراء -يعني الأعاجم- ، فأردت أن أضع شيئا يرجعون إليه ويعتمدون عليه، ثم ألقى إليّ الرقعة وفيها مكتوب: الكلام كلّه اسم وفعل وحرف، فالاسم: ما أنبأ عن المسمى، والفعل: ما أُنبئ به ، والحرف: ما أفاد معنى . وقال لي : انحُ هذا النحو، وأضف إليه ما وقع إليك، واعلم يا أبا الأسود أنّ الأسماء ثلاثة: ظاهر، ومضمر، واسم لا ظاهر ولا مضمر، وإنّما يتفاضل الناس يا أبا الأسود فيما ليس بظاهر ولا مضمر ". وتمضي الرواية فتذكر أنّ أبا الأسود جمع لعلي أشياء وعرضها عليه، وكان فيها حروف النصب: إنّ، وأنّ، وليت، ولعلّ، وكأنّ، ولم يذكر أبو الأسود: ( لكنَّ) ؛ فقال له علي: لمَ تركتها ؟ فقال: لم أحسبها منها؛ فقال: بل هي منها، فزدها فيها ".
ويُذكر أنّ أبا الأسود الدؤلي قد وضع أبواب الفاعل والمفعول به والتعجب والاستفهام والعطف والنعت و(إنَّ) وأخواتها وغير ذلك من الأبواب، مثلما وضع نقط وحركات أواخر الكلمات في القرآن الكريم، ثم قام تلميذه نصر بن عاصم بنقط الإعجام تمييزًا لحروف القرآن المعجمة من الحروف المهملة.
المصدر: "أبو الأسود الدؤلي" في الوكيبيديا العربية.

ملاحظة: من يود الاستزادة بصدد مميزات ومنهج وأبواب كتاب سيبويه على نحو مفصل باللغة الإنجليزية، أحيله الى المصدر:
https://www.ahewar.org/eng/files/3423.pdf
وهو الفصل الثالث من أطروحتي للدكتوراه في كلية الآداب، جامعة بغداد، 2004.

يُتبع لطفاً.

#حسين_علوان_حسين (هاشتاغ)       Hussain_Alwan_Hussain#          

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات