|
العرب والدولة الحديثة والديمقراطية
فهد المضحكي
الحوار المتمدن-العدد: 8247 - 2025 / 2 / 8 - 11:29
المحور:
السياسة والعلاقات الدولية
يبدو من التحليل النقدي لتاريخ العربي الحديث والمعاصر أننا فشلنا في العالم العربي في تأسيس دولة حديثة على النمط الغربي! ونعتقد أنه من المناسب هنا أن نشير إلى رأي المفكر السيد ياسين المنشور في جريدة الأهرام عدد 46672، والذي شخّص فيه هذه القضية تشخيصًا عقلانيًا. يقول ياسين: قنعنا باستبدال الديمقراطية التي تميز الدول الحديثة بما أطلقنا عليه «شرعية التحديث»، بمعنى قيام الدولة العربية - أيا كان نظامها السياسي - بمحاولة تجديد الأطر المؤسسية والنظم الاقتصادية والأداء الاجتماعي للمجتمع التقليدي العربي، سواء كان زراعيًا أو صحراويًا، لكي يصبح بدرجة أو بأخرى مجتمعًا حديثًا. ويمكن أن نفسر عجز العالم العربي عن الاحتذاء الكامل لنموذج الحداثة الأوروبي، وبالتالي الفشل في تأسيس دول حديثة، إلا أن هذا النموذج كان في الواقع نتاج ثورة ثقافية كبرى حدثت في الدول الأوروبية. وكان من أهم معالم هذه الثورة القطع الكامل بين النصوص المقدسة وسلوك الدولة والأداء السياسي والاقتصادي، تحت شعار العلمانية، الذي هو في معناه الأصلي - الذي يتعرض للتشويه في عديد من الدول العربية - الفصل بين الدين والدولة. وتحت تأثير الحداثة أصبح شعار الدولة الحديثة الأوروبية «العقل هو محك الحكم على الأشياء»، والمقصود هنا العقل بالمعنى الواسع للكلمة، العقل الفلسفي والعقل العلمي والعقل الأدائي. ولذلك تم فتح الباب واسعًا وعريضًا أمام البحث العلمي والتكنولوجي، واستطاع المجتمع الصناعي الأوروبي بحكم التطور التكنولوجي المتسارع سد الحاجات الأساسية لملايين البشر في مجالات الغذاء والسكن والعلاج والتعليم. غير أن تحكم العقل في إدارة الدولة والمجتمع لم يكن سوى مفردة واحدة من عدة مفردات، شكلت منظومة الدولة الأوروبية. ولعل أهم هذه المفردات قاطبة هي الديمقراطية. والتي تعني حرية التفكير وحرية التعبير وحرية التنظيم، بما في ذلك من تعددية سياسية وفكرية، وقبل ذلك كله تداول السلطة عبر انتخابات دورية. الدولة الحديثة بالمستويات التي أشرنا إليها، قابلتها مقاومة شديدة من قبل السلطة التقليدية في المجتمع العربي. من ناحية أخرى، رفضت التيارات الدينية على قنوع شعار الحداثة الغربي «العقل هو محك الحكم على الأشياء»؛ لأن في ذلك نقضًا لشعارهم الأصلي، وهو أن النص الديني وليس العقل هو محك الحكم على الأشياء. وهكذا نشأت حركات مقاومة ضد تأسيس الدولة الحديثة العربية، تنتمي إلى تيارين أساسيين: التيار الأول هو التقاليد الشمولية السلطوية، والتيار الثاني هو التقاليد السلفية التي تبنتها تيارات إسلاموية متعددة، بعضها يؤمن بالعمل السلمي لتحكيم شرع الله، والبعض الآخر يعتنق مبدأ العنف ويعتمد الإرهاب وسيلة لقلب الدول العربية التي لا تحكم - في زعمهم - بشرع الله. وقد خاضت النظم السياسية العربية الشمولية، التي قامت على أساس زعيم ملهم أو حزب قائد، وكذلك النظم السلطوية معركة كبرى ضد مبادئ الديمقراطية للدولة الحديثة. وذلك بزعم أن التعددية السياسية بما تتضمنه من تعدد الأحزاب السياسية مسألة غير مقبولة لأنها تهدد وحدة الشعب، وتسمح للقوى السياسية الرجعية أن تتسلل دوائر الحكم، وتهيمن بالتالي على مقدرات الشعب. سقوط النظم الشمولية والسلطوية هو - كما يجمع على ذلك عدد كبير من الباحثين - الذي فتح الباب أمام التيارات الدينية الأصولية لكي يحاربوا الحداثة الغربية إجمالاً من ناحية، ولكي يرفضوا الديمقراطية خصوصًا كأساس للمجتمع السياسي العربي باعتبار أنها بدعة مستوردة. إن قادتها - من باب الانتهازية السياسية - غيروا مواقفهم في السنوات الأخيرة للوصول إلى السلطة عبر الانتخابات الديمقراطية. وهكذا اجتمعت بالرغم من الاختلاف البين في المنطلقات والوسائل التيارات الشمولية والتيارات الدينية التقليدية والرجعية على رفض الدولة الحديثة على النمط الأوروبي، والتي تقوم على أساس دستور يحدد العلاقة بين الدولة والمواطنين، وعلى الفصل بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، وعلى أساس مبدأ سيادة القانون، وأهم من ذلك كله على مبدأ تداول السلطة، والفصل بين الدين والسياسة. ولم تكتفِ النظم السياسية السلطوية بمقاومة نموذج الدولة الحديثة الأوروبية، ولكنها لتعويض فشلها حاولت أن تلجأ إلى شرعية التحديث، لكي تثبت أنها تساير روح العصر، وتسعى إلى ترقية الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للجماهير، وأن كان ذلك على حساب الحريات السياسية. غير أن مجيء عصر العولمة، بتجلياتها السياسية وهي الديمقراطية والتعددية واحترام حقوق الإنسان، كان إيذانًا بنهاية شرعية التحديث العربي، والبحث الجاد «من خلال التحول الديمقراطي عن طريق تأسيس الدولة العربية الحديثة». غير أن عملية التحول فشلت فشلاً ذريعًا، ولذلك قامت بما يسمى ثورات الربيع العربي لتحقيق الديمقراطية في وثبة واحدة، غير أن تعثر ثورات الربيع العربي أكد أن بناء الديمقراطية يحتاج إلى سنوات طويلة تستقر فيها الثقافة السياسية. إلا أن الأحداث أثبتت أن المشكلة ليست في تحقيق الديمقراطية، بل في الدولة ذاتها التي سقطت في عديد من الدول العربية! حين تناول الباحث والمؤرخ اللبناني إيليا حريق في كتابه «الديمقراطية والحداثة بين الشرق والغرب»، وهو ما أشرنا إليه في مقال سابق في صحيفة «الأيام»، أخذ يفسر، أو بالأحرى يبين، مواقف بعض أعلام المفكرين الإسلاميين من الديمقراطية وتصورهم لكيفية المواءمة بينها وبين التراث الحضاري الإسلامي، كما ناقش بعض المصاعب التي يواجهونها في تصوراتهم للديمقراطية. ويعتقد حريق أن الانطباع العام بين المعتدلين سياسيًا في البلدان العربية هو أن الإسلاميين عامة يتبعون نهجًا غير ديمقراطي ويتبنون من التراث ما عفا عنه الزمن، وأنهم يقفون على خط معادٍ للحداثة. ليس هناك من شك فى أن الإسلاميين يعانون من أزمة مصداقية كبرى في دعوتهم إلى الديمقراطية. لم تساعد ممارسات الإسلاميين السياسية في المعارضة العاملة في مصر وسوريا والأردن والجزائر ولبنان، ولا تلك التي تظهر في الحكم الإسلامي في أفغانستان وإيران، على أن تخفف من وطأة تلك الهوة السحيقة بين الفريقين، بل العكس هو الأصح، فهي لم تعطِ المفكرين الإسلاميين أي مادة يقدمونها كدليل على التزامهم بالديمقراطية، وتحرص على الظهور بمظهر المدافع عنها، مسؤولة عن الكثير مما حصل من خلط الأوراق وإشاعة الفوضى الفكرية حول هذه القضية. ولعل أهم ثنائية ناقشها الباحث ثنائية الدين والدولة. في البدء كانت ملاحظته أن أول ما يواجهه الباحث في قضية المواءمة الحضارية في البلدان الإسلامية عامة هو الثنائية المتعارضة بين الدين والدولة، وتظهر تلك الثنائية أحيانًا بزي الحداثة والتقليد وتتداخل مع الديمقراطية. وفي تقديره يميل الفكر التحديثي السائد في هذه البلدان إلى طرح ما هو ديني كنقيض للحداثة، ويميل الفريق الآخر إلى طرح ما هو علماني كنقيض للشرعية. فلا هذا الموقف ولا ذاك يساعدان على التفكير الإيجابي أو التعايش الديمقراطي. إلا أن التضارب في الأهواء هو الذي يستحث الهمم من أجل فض تلك المعضلة، وقد يأخذ الحل طابع العنف أو الإقناع. كل من المخارج المقترحة والمتبعة تراعي الظروف المستجدة، أكثر مما تقوم به محاكات لنموذج خارجي. أما الحل التوفيقي المجامل، كالذي نشهده في المحافل الرسمية الاجتماعية، أو التوفيقي الخادع، كالذي يدعيه السائرون في السبيل السالك والمسيسون للدين، إنما هو تخلٍّ صريح عن المسؤولية. من المعلوم أن هناك اعتقادًا شائعًا بين العامة والراسخين في العلم على حد سواء أن الإسلام دين ودولة يلزم المجتمع، كما يعطي النظام السياسي هويته وشكله. فهل تلك المقولة أنه ليس للتشريع البشري، المتحرر من مرجعية قابضة، من دور في المجتمع الإسلامي أو لا يجوز أن يكون له دور؟ هذا هو السؤال وغيره من الأسئلة التي تثير جدلاً واسعًا عن فصل الدين عن السياسة والدولة.
#فهد_المضحكي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نعوم تشومسكي
-
لماذا الأزمة البيئية كونية؟
-
حديث عن الصحافة الثقافية
-
الدكتور عادل العوا.. قامة فلسفية وفكرية
-
العرب وأسئلة الهوية
-
أمريكا: حدود الممكن إلى الانبعاث
-
أكاديمي صيني: بريكس لا ينبغي أن تكون منظمة مواجهة.. بل خيارً
...
-
المؤرخ والأديب أحمد أمين.. من رواد التنوير الإسلامي
-
فوز ترامب.. انتصار للشعبوية الأمريكية
-
وداعًا النقابي محمد المرباطي
-
سيد درويش... رائد الأغنية الوطنية
-
مأزق المشروع الحضاري العربي
-
العرب والفكر النقدي
-
قيم قابلة للتبديل بحسب الحاجة
-
المنهج النقدي عند محمد مندور
-
لماذا لا تزال أوروبا تدور في الفلك الأمريكي؟
-
الكتابة والحرية
-
هل تراجعت الهيمنة الأمريكية؟
-
يوسف سلامة.. فيلسوف العقل والتغيير
-
كتاب «وجهة نظر»
المزيد.....
-
شاهد كيف علق ترامب على ظهور إيلون ماسك جالسا على كرسي الرئاس
...
-
الأردن.. ولي العهد الأمير الحسين يستذكر جده الملك الحسين بصو
...
-
كيف تتحكّم بخوفك من الطيران مع تزايد حوادث الطيران في الآونة
...
-
الكوت.. فيديو -تفحيط- خلال ملاحقة سيارة الأمن يثير تفاعلا وا
...
-
دول البلطيق تنفصل عن شبكة الكهرباء الروسية الموصولة بها منذ
...
-
دبلوماسي أمريكي سابق يشبه إصلاحات ترامب بعملية جراحية لقلب ا
...
-
-ذا هيل-: القضاء الأمريكي يوقف مؤقتا خطة ترامب لسحب موظفي US
...
-
الصين تقدم احتجاجا لبنما بشأن قرارها الانسحاب من مبادرة -الح
...
-
استعدادات إسرائيلية لعودة المحتجزين من غزة (فيديو+صور)
-
فريق الصليب الأحمر يصل إلى موقع تسليم المحتجزين الإسرائيليين
...
المزيد.....
-
افتتاحية مؤتمر المشترك الثقافي بين مصر والعراق: الذات الحضار
...
/ حاتم الجوهرى
-
الجغرافيا السياسية لإدارة بايدن
/ مرزوق الحلالي
-
أزمة الطاقة العالمية والحرب الأوكرانية.. دراسة في سياق الصرا
...
/ مجدى عبد الهادى
-
الاداة الاقتصادية للولايات الامتحدة تجاه افريقيا في القرن ال
...
/ ياسر سعد السلوم
-
التّعاون وضبط النفس من أجلِ سياسةٍ أمنيّة ألمانيّة أوروبيّة
...
/ حامد فضل الله
-
إثيوبيا انطلاقة جديدة: سيناريوات التنمية والمصالح الأجنبية
/ حامد فضل الله
-
دور الاتحاد الأوروبي في تحقيق التعاون الدولي والإقليمي في ظل
...
/ بشار سلوت
-
أثر العولمة على الاقتصاد في دول العالم الثالث
/ الاء ناصر باكير
-
اطروحة جدلية التدخل والسيادة في عصر الامن المعولم
/ علاء هادي الحطاب
-
اطروحة التقاطع والالتقاء بين الواقعية البنيوية والهجومية الد
...
/ علاء هادي الحطاب
المزيد.....
|