أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد بركات - المختار من كتاب (مغامرة العقل الأولى) للسيد فراس السواح (4)















المزيد.....


المختار من كتاب (مغامرة العقل الأولى) للسيد فراس السواح (4)


محمد بركات

الحوار المتمدن-العدد: 8246 - 2025 / 2 / 7 - 22:11
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


التكوين التوراتي
م يُحضر اليهود إلى سوريا الجنوبية معهم ثقافةً خاصةً بهم؛ فقد عاشوا في مصر عيشة العبيد والأذلاء، وفرُّوا منها استجابةً لدعوة رجل فولاذي هو موسى. وقد تضاربت الآراء حول هذه الشخصية الفذة. ولعل أكثر هذه الآراء إثارةً النظرية القائلة بأن موسى مصري الأصل وليس عبرانيًّا،٩ وأنه قائد عسكري من أتباع ديانة آتون، وهي أول ديانة توحيدية معروفة تاريخيًّا، أسَّسها الفرعون أخناتون. ولمَّا هلك أخناتون، ودمَّر كهنة الديانات التقليدية كل ما بناه؛ تفرَّق أتباعه وأهله، إلا أن موسى التابع المخلص لأخناتون أخذ على عاتقه متابعة الرسالة فقام باختيار اليهود، تلك الفئة الغريبة المضطهدة؛ للتبشير بينهم، وقادهم، لقاء اهتدائهم، في مسيرتهم الطويلة للخلاص من العبودية. ولعل هذا الاختيار الذي قام به موسى، هو الذي أعطى فكرة اختيار الإله يهوه لشعبه في التوراة. وتُتابع هذه النظرية منطقها فتقول إن اليهود بعد خيباتهم المتلاحقة وضياعهم الطويل، قد قتلوا قائدهم في ثورة من ثورات الغضب، وهذا الفعل الشنيع هو الذي أدخل على اليهودية فكرة المسيح المنتظر؛ لأن الندم قد اعتصر قلوب المغتالين، وترسَّخ بعد ذلك في لا شعور الجماعة، ونشأت الأمنية بعودة القتيل، الذي لم يمت وإنما اختفى؛ ليعود في نهاية العالم لقيادة شعبه.
رغم قلة ما نعرفه عن الديانة الآتونية، بسبب الانتقام الشامل الذي تعرضت له من قِبل الكهنة الثائرين، فإننا نستطيع أن نلمح بعض أوجه التشابه بين الديانتَين، الآتونية والموسوية، وذلك رغم ما خضعت له الأخيرة بعد موسى من تبدُّلات.
فأوَّلًا: تصر الديانتان، ولأول مرة في التاريخ، على وحدانية الإله. إلا أن وحدانية أخناتون أعم وأشمل؛ لأنه يرى آتون إلهًا للأمم كلها، بينما بقيت اليهودية على الاعتقاد بيهوه إلهًا للشعب اليهودي، يتجلَّى في المعارك والانتصارات، لا كما يتجلَّى آتون في الأزهار والأشجار وجميع أشكال النماء والحياة.
ثانيًا: تمنع الديانتان أي نوع من أنواع التصوير أو النحت للإله الواحد؛ لذلك فقد حُطِّمت كل التماثيل إبان حكم أخناتون ومُسحت عن جدران المعابد كل صور وأسماء الآلهة القديمة. وكانت الإشارة الوحيدة المسموح بها كرمز للإله هي أشعة الشمس التي كانت جميع الصلوات تحث على النظر للقوة الكامنة خلفها. فآتون ليس قرص الشمس ذاته، بل خالق أشعته التي يمدها بالطاقة. وليس ما في الكرة الملتهبة من مجد مشرق، إلا رمزًا للقدرة المستورة. كذلك نقرأ في التوراة: «لا تصنع لك تمثالًا، صورة ممَّا في السماء من فوق، وما في الأرض من أسفل، وما في الماء تحت الأرض.»١٠
ثالثًا: لا نجد في الديانتَين أثرًا لفكرة البعث والحساب والحياة الآخرة؛ فأخناتون في صراعه مع الديانات القائمة آنذاك، أراد أن يحرم أوزوريس، وهو الإله الشعبي الأول، ملكوته في العالم الآخر؛ لأنه كان رب البعث والحساب الذي يزن الحسنات والسيئات في العالم الأسفل، ومالك قلوب العباد الباحثين عن السعادة في الحياة الثانية. فعمد أخناتون إلى إلغاء فكرة البعث والحساب. وعلى منواله نُسجت الديانة الموسوية التي لا نجد عندها أفكارًا واضحةً عن الحياة بعد الموت،١١ بل إن هذه الفكرة قد اعتُبرت لفترات طويلة ضلالًا مبينًا، ولم تبدأ في السيطرة على عقول بعض المتدينين إلا في الفترات المتأخِّرة وقبل ظهور السيد المسيح.
رابعًا: نظرًا لاتصال الديانات المصرية بالسحر؛ فقد حاربت الآتونية السحر والسحرة وأبطلت تأثيرهم في المجتمع. كذلك الأمر في الديانة اليهودية التي حرَّمت السحر.
إن تأثر الديانة الموسوية بالديانة الآتونية هو أمر منطقي وممكن، بصرف النظر عن حكاية موسى المصري؛ فالديانة الموسوية نشأت في زمن لا يبعد كثيرًا عن زمن ازدهار الآتونية. ونستطيع بسهولة أن نفترض أن الديانة الآتونية بعد انهيارها، قد تحوَّلت إلى ديانة سرية انتشرت بين المضطهدين الغرباء، وخضعت لتحوُّلات أساسية عبر الوقت، إلى أن اتخذت شكلها الجديد على يد موسى. وقد استمرَّت بعض الصلوات الآتونية حيةً في كتاب التوراة. ومن ذلك مثلًا إحدى صلوات أخناتون في تسبيح إلهه التي نجدها في المزمور ١٠٤ من سفر المزامير في التوراة:

(٢١) صلاة أخناتون١٢
• العالم في ظلام كأنه الموت. الأسود تخرج من عرينها،
والحيَّات من جحورها،
والظلام يسود،
وعندما تشرق في الأفق يتلاشى
الظلام، وكلٌّ يذهب إلى عمله.
• تزهر كل الأشجار والنباتات وتتفتَّح،
والطيور ترفرف على أعشاشها، والخرفان
ترقص وتثب على أرجلها.
• السفن تمخر عُباب الماء صعودًا وهبوطًا،
والأسماك في النهر تقفز أمامك، وأشعتك
في وسط البحر العظيم.
– كم هي متعدِّدة أعمالك … لقد خلقت
الأرض وفقًا لمشيئتك. وكل ما عليها
من ناس وحيوان.
• لقد خلقت نيلًا في السماء
يرسل الماء على المخلوقات، فيسقي
حقولهم، ويجعل الجبال تفيض سيولًا؛
فتروي الناس والقطعان في الأرض.
• أنت الذي خلق الفصول، وخلقت السماء
البعيدة تسطع فيها وتشرق وتغرب يومًا بعد يوم.
• العالم كله بين يدَيك. عندما تسطع على المخلوقات
تحيا، وعندما تغرب عنها تموت، وبك يعيش الإنسان.

هذا وربما كُنَّا أقدر على إيجاد مزيد من المشابهات لو وصلَنا من تراث الآتونية أكثر ممَّا وصل. ولكن الانتقام الشامل الذي تعرَّضت له هذه الديانة بعد وفاة مؤسِّسها جعل التاريخ لا يعرف عنها إلا القليل.

وإذا كانت الآتونية قد أعطت اليهودية دفعتها الأولى، فإن المناخ الثقافي الذي نمت فيه وترعرعت، فيما بعد، وأعني به الثقافة السورية المجاورة، كان له أكبر الأثر في تشكُّلها وتطوُّرها البطيء. وقد كُتِب التوراة عبر مسافة زمنية تبدأ في القرن العاشر قبل الميلاد، وتنتهي في القرن الأول؛ فالأسفار الخمسة الأولى قد كُتبت على مدى ثلاثة قرون ابتداءً من القرن العاشر، أمَّا آخر أسفار التوراة، وهي سفر المكابين الأول، وسفر المكابين الثاني، فقد حُرِّرت خلال القرن الأول قبل الميلاد. والتوراة هو المأثرة الثقافية الوحيدة للشعب اليهودي.

ومع هذا التطوُّر البطيء تطوَّرت فكرة اليهود عن الإله. وكان على إلههم يهوه أن ينتظر طويلًا قبل أن ينتقل من مجرَّد إله خاص بشعب إسرائيل، يصارع ويقارع آلهة الشعوب الأخرى للحفاظ على وحدانيته لدى شعبه المختار، إلى إله مطلق للعالم. فآيات التوراة تتحدَّث عن يهوه دائمًا كأعظم الآلهة شأنًا: «والبيت الذي أنا بانيه عظيم لأن إلهنا أعظم من جميع الآلهة.»١٣ ويهوه نفسه على ما يبدو كان إلهًا كنعانيًّا؛ فقد وُجدت في أرض كنعان عام ١٩٣١م بعض المكتشفات؛ قطع من الخزف من بقايا عصر البرونز، مكتوب عليها اسم إله هو ياه أو ياهو. كما نسمع الإله إيل يقول في بعض ألواح أوغاريت: اسم ابني ياو. وهذا الإله ربما حمله العبرانيون معهم إلى مصر، وعادوا به وقد اختلط بالإله آتون بعد هربهم من هناك، أو طردهم.١٤
وفي أسفار التوراة الأولى نجد أن اليهود ينادون إلههم باسم إيل، وهو رب الأرباب عند الكنعانيين والآراميين وإله السماء. نقرأ في سفر التكوين: «وبكَّر يعقوب في الصباح وأخذ الحجر الذي وضعه تحت رأسه وأقامه عمودًا، وصبَّ زيتًا على رأسه، ودعا المكان بيت إيل … وهذا الحجر الذي أقمته يكون بيت الرب.»١٥ وفي مكان آخر نقرأ: «فأتى يعقوب إلى لوز التي في أرض كنعان هو وجميع القوم الذين معه، وبنى هناك مذبحًا ودعا المكان بيت إيل؛ لأنه هناك ظهر له الرب حين هرب من وجه أخيه.»١٦ هذا ونجد اسم إيل في كثير من أسماء الأعلام اليهودية مثل؛ رعوئيل، إسماعيل، إسرائيل … إلخ. وهي أسماء مركبة؛ رعو-إيل، إسماع-إيل، إسرا-إيل.
وفي المراحل التالية نجد يهوه ينفصل عن إيل ويحاول انتزاع صفات وسلطات الإله السوري بعل إله المطر والصاعقة والرعود، والإله الأكثر محبةً في قلوب السوريين. فالرعد هو صوت بعل الذي يعلن قدومه، والغيوم مركبته التي تُقله، والصاعقة سلاحه، والبرق هيبته، والمطر نعمته. هذه الرموز كلها ادعاها يهوه لنفسه: «صوت الرب على المياه، إلى المجد أرعد، الرب فوق المياه الكثيرة، صوت الرب بالجلال.»١٧ وأيضًا: «الجاعل السحاب مركبته، الماشي على أجنحة الريح.»١٨ فيهوه هنا يتخذ لنفسه صفةً أساسيةً من صفات بعل وهي: راكب الغيوم. وحتى عندما يأتي يهوه لمصارعة التنين والقضاء عليه فإن تنين يهوه هو نفس تنين بعل.

ويأتي المزمور ٩٢ بسرد مشابه لسرد النص الأوغاريتي عن صراع بعل ضد أعدائه:

النص الأوغاريتي* المزمور ٩٢
هو ذا أعداؤك يا بعل هو ذا أعداؤك يا رب
هو ذا أعداؤك تبيدهم هو ذا أعداؤك تبيدهم
هو ذا خصومك تفنيهم يتبدَّد كل فاعلي الإثم

وكما تغلَّب بعل على المياه الأولى يم كذلك يهوه: «أنت متسلِّط على كبرياء البحر، أنت سحقت رهب مثل القتيل.»١٩ وكما طالب بعل ببناء بيت له بعد انتصاره، كذلك يفعل يهوه: «وفي تلك الليلة كان كلام الرب إلى ناثان قائلًا، اذهب وقل لعبدي داود، هكذا قال الرب، أأنت تبني لي بيتًا لسكناي؛ لأني لم أسكن في بيت منذ يوم أصعدت ببني إسرائيل من مصر إلى هذا اليوم، بل كنت أسيرًا في خيمة؟»٢٠ وكان اليهود لدى قراءتهم في التوراة يتهيَّبون لفظ اسم يهوه، فعندما يصلون في قراءتهم للاسم يلفظون بدلًا عنه اسم أدوناي وهو من ألقاب بعل، كما أن اسم أدوناي يرد تبادليًّا مع اسم يهوه في أكثر من موضع في الكتاب المقدس.
وإذا كان يهوه قد حاول التشبُّه بالآلهة السورية والبابلية، فإنه قد بزَّ قساتهم بما جنته يداه من أعمال الدمار والفتك والقتل. فهو إله حقود لا يكتفي بعقوبة المذنب وحده، بل إنه يتابع انتقامه من ذرية المذنب، ويحل عليهم غضبه وانتقامه: «أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء، وفي الجيل الثالث والرابع من الذين يبغضونني.» «وغضبه لا يهدأ إلا بالتضحيات التي تُحرق على المذبح ويُسر لرائحتها كثيرًا.» ويرتِّب بنو هارون، الكهنة، القطع مع الرأس والشحم فوق النار التي على المذبح. أمَّا أحشاؤه وأكارعه فيغسلها في الماء، ويوقد الكاهن على المذبح محرقة وقود، رائحة سرور للرب:٢١ «وتوقد كل الكبش على المذبح، هو محرقة للرب، رائحة سرور، وقود هو للرب.»
وغضب يهوه لا يزول بالتضحية الحيوانية فقط، بل لا بد من التضحية الإنسانية أيضًا. نقرأ في سفر صموئيل الثاني من العهد القديم … إن جوعًا وقحطًا شديدَين قد عمَّا البلاد مدة ثلاث سنوات، وكان ذلك أيام الملك داود فيطلب داود وجه الرب، ويفهم منه أنه حاقد من أجل شاول الذي قتل الجبعونيين، فيقوم داود بتقديم سبعة رجال قربانًا للرب حتى يهدأ: «وسلَّمهم إلى يد الجبعونيين، فصلبوهم على الجبل أمام الرب، فسقط السبعة معًا، وقُتلوا في أيام الحصاد.»
ورغم قسوة يهوه وجبروته فإن اليهود لم يتوقَّفوا عن عبادة آلهة السوريين طيلة تاريخهم؛ فهذا يعقوب نفسه يطلب من أهل بيته أن ينزعوا الآلهة السورية من وسطهم: «فقال يعقوب لبيته ولكل من كان معه: اعزلوا الآلهة الغريبة التي بينكم وتطهَّروا وأبدلوا ثيابكم … فأعطَوا يعقوب كل الآلهة الغريبة التي بين أيديهم، والأقراط التي في آذانهم، فطمرها يعقوب.» وهؤلاء بنو إسرائيل وموسى بعد بين ظهرانيهم، يتركون يهوه ويتجهون لعبادة بعل: «وتعلَّق إسرائيل ببعل، فحمي غضب الرب على إسرائيل، فقال الرب لموسى خذ جميع رءوس الشعب وعلقهم للرب مقابل الشمس، فيرتد حمو غضب الرب.»
والملك سليمان، أعظم ملوك اليهود قاطبة، كان من عبدة الآلهة السورية: «ولم يكن قلبه كاملًا مع الرب إلهه كقلب داود أبيه. فذهب سليمان وراء عشتاروت إله الصيدونيين وملكوم رجس العمونيين. وعمل سليمان الشر في عيني الرب، ولم يتبع الرب.»٢٦ وبعد سليمان كان معظم ملوك اليهود يعبدون مع يهوه آلهة سوريين: «وعمل آخاب الشر في عينَي الرب أكثر من جميع الذين قبله، وسار وعبد البعل وسجد له، وأقام مذبحًا للبعل في بيت البعل الذي بناه بالسامرة.»

وهكذا نجد أن مطلب يهوه المتواضع في الوصية الأولى من الوصايا العشر لم يتحقَّق له، وهو أن يكون مقامه فوق سائر الأرباب. لقد كانت رحلةً مضنية، تلك التي مشاها يهوه، عبر تاريخ طويل امتدَّ أكثر من ألف سنة، قبل أن يصبح من خلال الديانة المسيحية إلهًا واحدًا مطلقًا. لقد ابتدأ يهوه بدايةً وثنيةً متواضعة، ثم شقَّ طريقه بدأب نحو الوحدانية. ولعل علاقته المبكِّرة مع موسى تظهر تلك البداية المتواضعة. فيهوه لا يدَّعي العلم المطلق عندما يطلب إلى اليهود أن يميِّزوا بيوتهم بدهنها بدماء الخرفان المضحاة، فلا يهلكوا مع من يريد إهلاكهم من المصريين: «ويكون لكم الدم علامةً على البيوت التي أنتم فيها، فأرى الدم وأعبر عنكم، فلا يكون عليكم ضربة للهلاك حين أضرب أرض مصر.»٢٨ وهو إله متردِّد يخشى شماتة الناس به وبشعبه، ويستطيع موسى بذكائه أن يدفعه لتغيير رأيه: «إلى متى يهينني هذا الشعب، وحتى متى لا يصدِّقونني؟ إنني سأضربهم بالوباء، وأبيدهم.» فقال موسى للرب: «فإن قتلتَ هذا الشعب، يتكلَّم الشعوب الذين سمعوا بخبرك قائلين لأن الرب الذي لم يقدر أن يدخل هذا الشعب إلى الأرض التي حلف لهم، فقتلهم في القفر. اصفح عن ذنب هذا الشعب، وكما غفرت لهذا الشعب من مصر إلى هنا. فقال الرب قد صفحت حسب قولك.»٢٩
وهو إله مُشخَّص يمكن رؤيته بالعين المجرَّدة؛ فهذا موسى يلمح قفاه: «فقال أرِني مجدك … فقال الرب هو ذا عندي مكان فتقف على الصخرة، ويكون متى اجتاز مجدي، أني أضعك في نقرة من الصخرة وأسترك بيدي حتى أجتاز، ثم أرفع يدي، فتنظر إلى ورائي، وأمَّا وجهي فلا يرى.»٣٠ وهو بطل يصارع الوحوش والتنانين تمامًا كآلهة السوريين والبابليين والإغريق: «أنت شققت بعزتك يم٣١ وشدخت رءوس التنانين على المياه، أنت رضضت رءوس لوياتان، جعلته مأكلًا لزمر القفار.»٣٢
وقصارى القول إن كتاب التوراة وهو المأثرة الثقافية الوحيدة للشعب اليهودي، قد نشأ وتطوَّر انطلاقًا من أرضية ثقافية سورية وبابلية ومصرية. وإن مسيرة الفكر العبراني، في سعيه لبناء ديانة مستقلة، لم تتكلَّل بالنجاح إلا عن طريق استيعاب وتمثُّل الديانات السابقة، والآلهة القوية التي لم يستطِع يهوه زحزحتها إلا باستعارتها لنفسه.

لقد بدأت المشابهات بين التوراة وآداب الشرق القديم تظهر عندما بدأت الحضارات القديمة للمنطقة تتكشَّف من تحت التراب بواسطة الحفريات الأثرية التي أحيت آدابًا قد فُقدت منذ عهد بعيد. إن ضوءًا قويًّا قد سُلط الآن على التوراة ومنشئه، وأصبح في وسع القائلين بالمعجزة التوراتية أن يدركوا أن آداب التوراة لم تظهر كاملة النمو، وإنما مدَّت جذورها عميقًا لتشرب نسغ حضارات معاصرة لها وأخرى سابقة عليها. وأن التربة التي أمدَّت مؤلفي التوراة بمادتهم الأدبية كانت تربة كنعان وآرام وأرض الرافدَين.

قتفي التكوين التوراتي أثر أساطير التكوين السومرية والبابلية والكنعانية في خطوطه العامة وفي تفاصيله. فالحالة البدائية السابقة للخلق حالة عماء مائي، وظلمة سرمدية. ومن هذه المياه تمَّ التكوين، حيث يقوم يهوه بتقسيم المياه إلى قسمَين؛ رفع الأول إلى السماء، وترك الثاني في الأسفل فصار بحارًا منها برزت اليابسة. وعلى هذه اليابسة تابع يهوه أفعاله الخلاقة، فأخرج النبت والمرعى والشجر المثمر، وخلق الحيوان. وفي السماء خلق الشمس والقمر والنجوم، وفي البحر خلق الحيوانات المائية، وفي الجو خلق الطير، وأخيرًا خلق الإنسان.

وإذا كان صراع يهوه مع التنين البدئي لم يظهر في هذه الأسطورة كمقدمة للخلق، كما هو الشأن في أسطورة التكوين البابلية، فإن مثل هذا الصراع يظهر في نصوص أخرى تتحدَّث عن أفعال يهوه الخلاقة. وفيها نجده قبل الخلق وقد انهمك في الصراع مع تنينه لوياتان. من ذلك مثلًا المزمور الرابع والسبعون: «أنت شققت البحر بقوتك، كسرت رءوس التنانين على المياه، أنت رضضت رءوس لوياتان، جعلته طعامًا للشعب، لأهل البرية. أنت فجَّرت عينًا وسيلًا، أنت يبَّست أنهارًا دائمة الجريان. لك النهار ولك الليل أيضًا. أنت هيَّأت النور والشمس. أنت نصبت كل تخوم الأرض. الصيف والشتاء أنت خلقتهما.»

على أن القراءة المتأنية لنص التكوين التوراتي تُظهر لنا تناقضًا واضحًا في أحداثه. ففي البدء خَلَقَ الربُّ السموات والأرض، ثم نجده يخلقهما مرةً ثانيةً بفصل المياه عن بعضها. ومرةً نجده يخلق البشر دفعةً واحدة: «ذكرًا وأنثى خلقهم وباركهم الرب وقال لهم أثمروا واكثروا واملئوا الأرض»، وفي المرة الأخرى يخلق الرب الإنسان بدءًا من زوجَين أوليَّين مقتفيًا بذلك أثر الأساطير البابلية والسومرية: «جبَلَ الرب الإله آدم ترابًا من الأرض …»
موضوعات الكتب
مجموعات هنداوي
السلاسل والأعمال الكاملة
مغامرة العقل الأولى: دراسة في الأسطورة: سوريا وبلاد الرافدين
ePub Logo
PDF Logo
Kindle Logo
الفصل الخامس
ألواح التكوين السبعة وأيام التكوين السبعة
إضافة للاحتكاك الطويل مع الثقافات السورية المجاورة، فإن السبي البابلي قد قدَّم لليهود فرصةً للاطلاع على آداب وديانة وأساطير ثقافة أرض الرافدَين. وعندما عادوا إلى أورشليم، وقاموا بتدوين نصوص التوراة المتفرِّقة في كتاب جامع شامل، دخلت خبراتهم أيام السبي بشكل تلقائي وطبيعي فيما دوَّنوه من نصوص. وكانت الإينوما إيليش، درة الأدب والفكر البابلي، عميقة التأثير فيهم. وسنعرض فيما يأتي أوجه التشابه بين التكوين البابلي والتكوين التوراتي.

(١) طبيعة المبدأ الأول
المبدأ الأول في كلا النصين هو المياه. وانطلاقًا من هذه المياه البدئية تتم كل عمليات الخلق. وهي أزلية غير مخلوقة؛ ففي النص البابلي هي جسد آلهة ثلاثة؛ أبسو وتعامة وممو، وفي النص التوراتي نجدها إلى جانب الإله دون أن يوضِّح لنا النص أيهما أقدم.

(٢) الظلام البدئي
يأتي النصان على ذكر الظلام البدئي، غير أن الإينوما إيليش لا تذكره بوضوح، بل يأتي ذكره صراحةً في نص بيريسوس الذي يقول إنه في البدء لم يكن هناك سوى الظلام والماء.

(٣) الضوء قبل النجوم والأجرام السماوية المُشِعة
يقول النصان بوجود الضوء واختلاف الليل والنهار قبل خلق الأجرام السماوية؛ فالإينوما إيليش تتحدَّث عن وجود الأيام والليالي منذ عهد أبسو، عندما كان لا يستطيع النوم ليلًا ولا الراحة نهارًا، كما أن مردوخ نفسه كان يشع بالنور. وفي الفصل الأول من سفر التكوين يخلق الرب النور ويميِّز الليل من النهار قبل أن يخلق الأجرام المنيرة والنجوم والكواكب.

(٤) خلق السماء
يتفق النصان على أن السماء أتت نتيجة فصل المياه الأولى إلى قسمَين. ففي النص البابلي يشطر مردوخ تعامة شطرَين، ويرفع أحدهما سماءً. وفي النص التوراتي: «وفصل بين المياه التي تحت الجَلَد والمياه التي فوق الجَلَد، وكان ذلك. ودعا الرب الجَلَد سماءً.»

(٥) خلق الأرض
قام مردوخ بقياس أبعاد الأبسو وأقام لنفسه نظيرًا له بناءً هائلًا دعاه عيشارا؛ أي الأرض. ولقد صنع ذلك بنصف تعامة الآخر. كذلك الأمر في سفر التكوين التوراتي، فبعد أن يرفع الرب نصف المياه الأولى إلى الأعلى، تتجمَّع المياه السفلى إلى جانب مُشكِّلةً البحار، وتظهر الأرض منبثقةً من تحتها: «وقال الرب لتتجمَّع المياه تحت السماء إلى مكان واحد، ولتظهر اليابسة، ودعا الرب اليابسة أرضًا، ومجتمع المياه دعا بحرًا.»

(٦) خلق الأجرام المنيرة
بعد أن شكَّل مردوخ السماء والأرض، الْتفت إلى خلق الأجرام المضيئة، وقسَّم الوقت فرسم خط السَّمت، وحدود السنة، وجزَّأها إلى أشهر وأيام، وأمر القمر بالسطوع وأوكله بالليل، جعله حليةً وزينةً ومنظمًا لشهور السنة، وخلق الشمس محدِّدةً لأيام الأرض. وفي سفر التكوين بعد أن ينتهي الرب من تشكيل السماء والأرض: «وقال الرب لتكن أنوار في جَلَد السماء لتنير على الأرض، وكان كذلك. فعمل الرب النورَين العظيمَين؛ النور الأكبر لحكم النهار والنور الأصغر لحكم الليل، والنجوم، وجعلها في جَلَد السماء لتنير على الأرض.»

(٧) خلق الحيوانات والنبات
لا تحتوي ملحمة التكوين البابلية في أجزائها المقروءة شيئًا عن خلق الحيوان والنبات، ويُعتقد أن الأجزاء المفقودة من اللوح الخامس تتحدَّث عن مثل هذا الخلق. أمَّا النص التوراتي فيتحدَّث عن خلق الحيوانات في اليوم الخامس. أمَّا نبات الأرض فلم يظهر إلا بظهور الإنسان.

(٨) خلق الإنسان
تتفق الروايتان على أن خلق الإنسان هو آخر عمل في سلسلة الخلق التي قام بها الإله. كما تتفقان على الأهمية البالغة لهذا العمل؛ ففي بداية اللوح السادس نجد مردوخ وقد حدَّثته نفسه بخلق أشياء مبدعة. وقد وصف هذا العمل في مكان آخر من اللوح بأنه العمل الذي يسمو على الأفهام. أمَّا أهمية خلق الإنسان في نص التوراة فتظهر في كونه قد خُلق على صورة الإله، وأُعطي السيطرة على الأرض، وسُخِّرت له حيواناتها ونباتاتها.

وفي نصوص بابلية أخرى تتعلَّق بالتكوين، وجرى ذكرها سابقًا تتحدَّث الأسطورة عن خلق الإنسان انطلاقًا من زوجَين أولَين، وكذلك الأمر في الرواية التوراتية. وقد تمَّ صنع الإنسان الأول في الأسطورة، إمَّا من دم الإله وحده، وإمَّا من دم الإله ممزوجًا بالطين، ثم عُلِّقت عليه صورة الآلهة ليأتي على شبهها. وفي الرواية التوراتية يُصنع الإنسان من طين على صورة الإله.

هدفت الآلهة البابلية من خلق الإنسان إلى تحميله عبء العمل الذي كان مفروضًا على الآلهة. ورغم أن هذا الهدف لا يظهر واضحًا في النص التوراتي، إلا أن النتيجة النهائية الأخيرة تتطابق مع غايات الأسطورة البابلية عندما يُطرد آدم من الجنة ويُفرض عليه العمل كعقوبة: «وقال للمرأة: تكثيرًا أُكثِّر أتعاب حبلك، بالوجع تلدين أولادًا، وإلى رَجلك يكون اشتياقك، وهو يسود عليك. وقال لآدم: لأنك سمعت قول امرأتك وأكلت من الشجرة التي أوصيتك قائلًا لا تأكل منها، ملعونة الأرض بسببك، بالتعب تأكل منها كلَّ أيام حياتك، وشوكًا وحَسَكًا تُنبت لك، وتأكل عشب الحقل. بعرق وجهك تأكل خبزًا، حتى تعود إلى الأرض التي أُخِذت منها؛ لأنك تراب وإلى تراب تعود.»١
أطلقت الرواية التوراتية على الإنسان الأول اسم آدم، والواقع أن هذه الكلمة أوغاريتية فينيقية وتعني البشر أو الإنسان.٢ وقد وردت هذه الكلمة في عدة نصوص أوغاريتية ومنها ملحمة كرت، عندما يظهر الإله إيل للملك كرت في الحلم:
«وبينما هو يبكي وقع في غفوة،
بينما هو يذرف الدموع غلبه النعاس.
نعم لقد غلب كرت النعاس،
وغاب في سبات عميق،
ولكنه ما لبث أن أجفل؛
إذ ظهر له في الحلم إيل،
في رؤاه ظهر أبو آدم».
وكاختصار لِمَا سبق نضع تسلسل الخلق في كلا النصَّين جنبًا إلى جنب:

الإينوما إيليش سفر التكوين
(١) العماء الأول تعامة. (١) الظلام يغلِّف المياه
الماء المالح وزوجها. الأولى، وروح الرب
الماء الحلو، يحيط بهما ظلام. يرف فوق المياه.
(٢) النور يشع ويتولَّد من الآلهة.(٢) خلق النور.
(٣) خلق السماء. (٣) خلق السماء.
(٤) خلق الأرض. (٤) خلق الأرض.
(٥) خلق الأجرام السماوية. (٥) خلق الأجرام السماوية.
(٦) خلق الإنسان. (٦) خلق الإنسان.
(٧) مردوخ ينتهي من الخلق والآلهة تحتفل به. (٧) يهوه يستريح.



#محمد_بركات (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المختار من كتاب (مغامرة العقل الأولى) للسيد فراس السواح (3)
- المختار من كتاب (مغامرة العقل الأولى) للسيد فراس السواح (2)
- المختار من كتاب (مغامرة العقل الأولى) للسيد فراس السواح (1)
- محادثات مع الله - الجزء الثالث (52) نيل دونالد والش
- الفلسفة أنواعها ومشكلاتها (5)
- الفلسفة أنواعها ومشكلاتها (4)
- الفلسفة أنواعها ومشكلاتها (3)
- الفلسفة أنواعها ومشكلاتها (2)
- الفلسفة أنواعها ومشكلاتها (1)


المزيد.....




- منظمات يهودية تنتقد استخدام ترامب للمهاجرين والمتحولين جنسيا ...
- سلي أطفالك.. طريقة تثبيت تردد قناة طيور الجنة الجديد على الق ...
- الأمير رحيم آغا خان: ماذا نعرف عن الطائفة الإسماعيلية وقائده ...
- الإعلان عن موعد دفن آغا خان الطائفة الإسماعيلية في مصر
- ترامب: -علينا العودة إلى الله والدين.. وسنلاحق العنف والتخري ...
- شاهد بالصور.. احتفال بذكرى انتصار الثورة الإسلامية في الإمار ...
- عراقجي يتباحث هاتفيا مع نظيره بالفاتيكان حول اخر التطورات ال ...
- وزيرا خارجية ايران والفاتيكان يبحثان التطورات الاقليمية والد ...
- وزيرا خارجية ايران والفاتيكان يبحثان هاتفيا التطورات الاقليم ...
- 30 ألفا يؤدون صلاة الجمعة في المسجد الأقصى


المزيد.....

- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد بركات - المختار من كتاب (مغامرة العقل الأولى) للسيد فراس السواح (4)