أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادارة و الاقتصاد - عبدالله تركماني - مرتكزات انتقال الدولة السورية الجديدة إلى دولة تنموية (1 - 2)















المزيد.....


مرتكزات انتقال الدولة السورية الجديدة إلى دولة تنموية (1 - 2)


عبدالله تركماني

الحوار المتمدن-العدد: 8246 - 2025 / 2 / 7 - 17:28
المحور: الادارة و الاقتصاد
    


مرتكزات انتقال الدولة السورية الجديدة إلى دولة تنموية (1 – 2) (*)
يشهد موضوع التنمية اهتماماً خاصاً في صياغة سياسات الدول، على مستويات عديدة، اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية. إذ إنّ العالم المعاصر ينطوي على معانٍ جديدة لحياة الناس، تتطلب ضمان إرساء دولة تنموية، دولة الحق والقانون التي توفر الرفاهية لمواطنيها من عمل وصحة وسكن وتعليم، من خلال تنمية تشاركية بين الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدني.
وفي هذا السياق، تُبرز مقاربتنا المؤشرات الدالة على مستقبل الدولة السورية الفاشلة قبل الحراك الشعبي في آذار/مارس 2011، إذ ساد وهم إمكانية تعجيل التنمية الاقتصادية في غياب تحرك واضح في اتجاه التحديث السياسي، وقد أظهرت السنوات الأربعة عشرة الأخيرة الفشل الواضح للدولة السورية. ومن ثم محاولة بلورة رؤية للدولة السورية التنموية، بعد سقوط سلطة آل الأسد بعد 54 عاما، ومحاولة الانتقال السياسي من الاستبداد إلى الدولة الحديثة، بالاستفادة من تجارب دول خرجت من حروب أهلية وحققت السلام الأهلي والتنمية المستدامة.
إنّ مقاربتي حاولت أن تتجاوز المفهوم الضيق للتنمية، باعتبارها نمواً اقتصادياً فقط، إلى مفهوم أوسع ينطلق من أنّ البشر هم الثروة الأهم للأمم، وهذا ما يمكن أن تحققه الدولة السورية التنموية المنشودة في سورية المستقبل، من خلال التنمية التشاركية بين مختلف القطاعات وتوسيع قاعدة الملكية. انطلاقاً من أنّ الدولة التنموية والحكم الصالح يمكنهما السير معاً إذا توفرت إرادة سياسية، وتشريعات ضامنة ومؤسسات وقضاء مستقل، وحوكمة رشيدة تقوم على المساءلة والشفافية، وتداول سلمي للسلطة، ومجتمع مدني ناشط، ورقابة شعبية وإعلام حرٍّ.
وتكمن أهمية المقاربة في توصيف عام للتجربة التنموية السورية (1963 – 2024)، التي اتسمت بهيمنة السلطة على الدولة واستخدام آلياتها في بسط سيطرتها على الاقتصاد من جهة، وعبر احتكار السياسة الذي آل في النهاية إلى تكوّن نظام شمولي استبدادي من جهة أخرى. حيث تميزت الخطط التنموية السورية بأنها تأشيرية، افتقرت إلى الإلزام وإلى محددات وأولويات، كما يفترض التخطيط العقلاني لتوظيف الإمكانيات والموارد، مما فسح في المجال لغياب المساءلة، وبالتالي نمو الفساد والإهمال والتقصير، ما مهّد السبيل للإعلان عن فشل الدولة السورية بعد الحراك الشعبي في سنة 2011.
الإطار المفاهيمي لأهم المصطلحات في المقاربة
لن يكون هذا الإطار نظرياً فحسب، وإنما سأربط هذه المفاهيم بتجارب ناجحة، انتقلت من الحرب الأهلية إلى الدولة التنموية. فمثلاً رواندا أصبحت الأكثر استقراراً وتنمية في أفريقيا بعد أكثر الصراعات الأهلية دموية في القرن العشرين بين قبيلتي الهوتو والتوتسي، كما استطاعت أن توحد الروانديين في إطار وطني جامع. حيث "نما الناتج المحلي بأكثر من 8 في المئة بين عامي 1995 و2022. وزاد متوسط العمر من 49 عاماً إلى 66 عاماً بين عامي 2001 و2021، وانخفضت وفيات الأطفال بنسبة 77 في المئة" (1).
(1) - الدولة الفاشلة
مصطلح يُتداول الآن على نطاق واسع في التحليلات الاستراتيجية، فهي صفة تلازم الدول التي تعجز عن القيام بوظائفها عامة، أي حماية مواطنيها وتأمين سيادتها وحدودها الإقليمية.
ومنذ عام 2005 بدأ صندوق السلام الأميركي بالتعاون مع مجلة وزارة الخارجية في إصدار تقارير سنوية حول الدول الفاشلة، اعتماداً على الخصائص الرئيسية التالية (2): فقدان سيطرة الدولة على أراضيها أو جزء منها، وتآكل السلطة الشرعية من خلال تعطيل حكم القانون وانتهاك حقوق الإنسان، وعدم القدرة على توفير الخدمات العامة، وعدم القدرة على التفاعل مع الدول الأخرى كعضو كامل العضوية في المجتمع الدولي.
وهذه الخصائص نجدها مجسدة في حالة الدولة السورية، خاصة بعد الحراك الشعبي السوري عام 2011، فمن جهة فقدت سلطة الدولة سيادتها على الحدود، ومن جهة أخرى باتت مستباحة من روسيا وميليشيات إيران الطائفية، كما فقدت القدرة على تأمين متطلبات الحياة الكريمة لمواطنيها، وتسوّق مخدر الكبتاغون في المنطقة والعالم، مما يعزلها عن المجتمع الدولي.
ووفقاً لتقارير " صندوق السلام " جاء ترتيب سورية بين دول العالم، في مؤشر الدول الهشة أو الفاشلة، في الفترة ما بين 2005 -2016، كما يلي (3):
الترتيب الدولي العام
29 2005
33 2006
40 2007
35 2008
39 2009
48 2010
48 2011
23 2012
21 2013
15 2014
9 2015
6 2016

وجاءت سورية، في تقرير عام 2020، في المركز الثالث عالمياً، بعد اليمن والصومال، وبدرجة 110.7 من 120 التي تصنف كمستوى " إنذار عالٍ جداً ".
(2) – الدولة التنموية
حظي المفهوم باهتمام كبير من باحثي السياسات التنموية، وقد ظهر لأول مرة عام 1982 على يد عالم السياسة الأميركي تشالمرز جونسون فى كتاب له حول " المعجزة اليابانية ". ويشير المفهوم إلى نموذج تنموي تلعب فيه الدولة الدور الأهم، من حيث تدخلها في مسار التنمية وتوجيهه، وقد تحددت مؤشرات معينة للدولة التنموية (4): وجود دور مهم للكفاءات الاقتصادية والإدارية تتمكن من وضع أفضل السياسات الاقتصادية، ودور لآليات السوق إلى جانب الدور التدخلي الأساسي للدولة، وسياسة اقتصادية تقوم أساساً على تحقيق أعلى معدلات النمو الاقتصادي، ونظام تعليمي متطور يستجيب لسوق لعمل ولأهداف التنمية، ونظام سياسي مستقر، وادّخار مرتفع وكافٍ لتمويل الاستثمار، والتوجه نحو السوق العالمية من خلال سياسة " تشجيع التصدير ".
(3) – التنمية التشاركية
دخل مفهوم التنمية التشاركية بين القطاعين العام والخاص ومنظمات المجتمع المدني في إطار إرهاصات نهاية الحرب الباردة خاصة، مع انهيار الأنظمة الشمولية وسقوط جدار برلين. إذ إنّ التنمية الشاملة اقتضت التشاركية من أجل تحسين مستوى المعيشة، من خلال توفير فرص العمل والصحة والتعليم والسكن للمواطنين، وتنمية الموارد البشرية، بما فيها مشاركة النساء والشباب في الشأن العام.
ويعد مفهوم التنمية التشاركية من المفاهيم الجديدة التي " أصبحت متبادلة في السياقات الاقتصادية والإدارية بحكم تعقّد علاقات السوق، ليشير إلى علاقة قانونية بين منظمات شريكة، وقد اتسع هذا المفهوم ليشمل مؤسسات مدنية، فهو صيغة بديلة أفرزتها السياسات التي حلت محل الدولة الراعية والتي تقوم على مقاربة الاعتماد المتبادل، بغرض تحقيق مصلحة عامة مشتركة " (5).
ويبدو أنّ تعميم اللامركزية الإدارية يساهم في زيادة مشاركة المواطنين في متابعة المشاريع والسياسات التنموية للدولة. ويمكن الاستفادة من تجربة رواندا في إحداث " صندوق تنمية المجتمع "، الذي يمثل مؤسسة حيوية في جهود اللامركزية، حيث " يشرف وينسق إدارة المناطق والبلديات، كما أنه يمثل قناة لتوزيع الميزانيات التي تُخصّص للمشاريع أو البرامج على مستوى المقاطعات، والمنح المقدمة مباشرة لهذه المقاطعات، حيث تشمل الأولويات المشاريع التعليمية، والمشاريع الصحية، ومشاريع البنية التحتية الصغيرة " (6).
(4) – الحكم الرشيد
يعتبر الحكم الرشيد أحد توجهات العصر في عالم السياسة والاقتصاد وإدارة الأعمال، ويُبنى على ركائز أساسية: المشاركة، والمساءلة، والشفافية، وسيادة القانون، والفاعلية، والإنصاف.
مظاهر إخفاقات التنمية في سورية التي مهدت للإعلان عن أنها دولة فاشلة بعد سنة 2011
لم تنجح حكومات حزب البعث، منذ انقلاب 8 آذار/مارس 1963، بتفاوت بين المراحل، في إنجاز تنمية شاملة تلبي حاجات الشعب السوري، بل أدت سياساتها إلى تراكم الثروة في أيدي مافيات الحكومات المتتابعة. خاصة بعد تشجيع القطاع الخاص الفردي الطفيلي، وغياب السياسات التنموية التشاركية بين القطاعين العام والخاص والمجتمع المدني التعاوني. إضافة إلى غياب الحوكمة الرشيدة، بما تقتضيه من مؤسسات رقابية وآليات الشفافية والمحاسبة، بل تقديم أهل الولاء على أهل الكفاءة، مما أدى إلى انتشار الفساد وتغييب دور الإعلام في كشف بؤره.
وتدل المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية، منذ ثمانينات القرن الماضي إلى عام 2005، على التراجع عن مجملها إذ " تتراجع الاستثمارات، وتتراجع إنتاجية الاستثمار، وإنتاجية قوة العمل، وترتفع معدلات البطالة، وترتفع معدلات الفساد، وتتراجع كفاءة الجهاز الحكومي، وتتراجع قدرته على تطبيق السياسات وتنفيذ القرارات، ويتراجع مستوى التعليم الحكومي، وخاصة الجامعي، وتتراجع الصادرات الصناعية، وتتراجع القدرة التنافسية للاقتصاد، وتتراجع مؤشرات التنمية الاجتماعية لسورية في تقرير التنمية البشرية للأمم المتحدة " (7). كما تمَّ ملاحظة أنّ الطابع الريعي للاقتصاد السوري في تزايد، في حين أنّ التوجه العالمي هو تزايد حصة قطاعات الاقتصاد الحديث، التي تقوم على معطيات مجتمع واقتصاد المعرفة.
ويمكن الاستنتاج من مؤشرات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، بعيداً عن الأرقام المعممة من قبل السلطة في خطابها التنموي، ففي ظل غياب الحريات العامة ومنظومة حقوق الإنسان، أُخضع ذلك الخطاب للأهواء السياسية للسلطة. إذ تشير تلك المؤشرات إلى: انتشار الفساد، وغياب سيادة القانون، والمخاطر المحيطة بالاستثمار، وغياب الحريات الفردية والعامة...
ومن المظاهر السائدة للفساد يمكن الإشارة إلى (8): انتشار الرشوة في العديد من مؤسسات الدولة، واستغلال المناصب الرسمية للثراء من خلال الدخول في قطاعات الأعمال الخاصة، وتبذير المال العام من خلال منح تراخيص أو إعفاءات ضريبية أو جمركية لأشخاص أو شركات لتحقيق مصالح متبادلة أو مقابل رشوة.
وقد كان للفساد نتائج سلبية على سياسات التنمية، منها: الفشل في جذب الاستثمارات الخارجية وهروب رؤوس الأموال المحلية، وضعف عام في توفير فرص العمل وتوسيع ظاهرة البطالة والفقر، وهدر الموارد بسبب تداخل المصالح الشخصية بالمشاريع التنموية العامة.. وعليه فقد احتلت سورية المرتبة 147 من بين 180 شملها تقرير " منظمة الشفافية الدولية " لعام 2009. وهنا يُطرح سؤال عن مدى شرعية نظام لم يستطع أن يوفر الحدَّ الأدنى من الحاجات الاقتصادية والاجتماعية لشعبه؟
وتشير المعطيات المتكررة إلى أنّ من مظاهر إخفاقات التنمية، عشية الحراك الشعبي في عام 2011، أنّ ثلث السوريين كانوا تحت خط الفقر، كما أنّ ثمة فوارق اجتماعية وجهوية. إذ وفق تقرير الفقر وعدالة التوزيع في سورية، الذي أعدته هيئة تخطيط الدولة بالتعاون مع البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة في سورية عام 2008، أنّ الفقر " يشمل 33.6% من السكان، مما يعني أنّ حوالي 6.7 ملايين من السوريين يعتبرون فقراء، خاصة في الأرياف، ومن هذه المجموعة الكبيرة فإنّ 12.3% من السكان، يمثلون حوالي 2.4 مليوناً، يصنفون على أنهم يعيشون في فقر شديد ". وأوضح التقرير الأبعاد الجغرافية للفقر في سورية، حيث " ظهرت المنطقة الشمالية الشرقية باعتبارها الأكثر فقراً، إذ يصل معدل الفقر الشديد فيها إلى 15.4%. وعند أخذ معدل الفقر الإجمالي بعين الاعتبار، يؤكد التقرير أنّ حالة الفقر الأعلى حاضرة بصورة متساوية بين المنطقة الشمالية الشرقية والمنطقة الجنوبية " (9).
وفي الواقع كان لتراجع دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي، خاصة مع التوجهات الاقتصادية الليبرالية في الخطة الخمسية العاشرة، بما سمي " اقتصاد السوق الاجتماعي " في عهد بشار الأسد، مما أدى إلى " تحوّل فئات واسعة من الطبقة الوسطى نحو الفئات الفقيرة، وبات وضع الفئات الفقيرة أصعب.. وإنّ الوضع الاجتماعي شهد صعوداً وهبوطاً خلال العقود الأخيرة، لكن في العقد الأول من القرن الحالي أصبح الأمر أكثر صعوبة، مع استمرار معدلات المواليد المرتفعة، وارتفاع أعداد الوافدين إلى سوق العمل، وضعف قدرة القطاع الخاص على توفير فرص عمل كافية، والقيام بالأدوار التي تتخلى عنها الدولة " (10).
وتعود أغلب أسباب المؤشرات السلبية السابقة إلى ما فرضته سلطة الاستبداد من أوهام إمكانية فصل مجال التنمية الاقتصادية عن مجالاتها الأخرى، السياسية والاجتماعية والثقافية. إذ إنّ السلطة اعتمدت الأجهزة الأمنية للتحكم في المجتمع، من خلال تقييد فعالية نشطاء المجتمع المدني، في مجال الرقابة والشراكة مع الدولة في التنمية الشاملة. وقد ظهر ذلك جليّاً في تعامل سلطة الوريث بشار الأسد مع فعاليات نشطاء ربيع دمشق، خلال عامي 2000 و2001، حيث أُغلقت منتديات الحوار وسُجن أبرز مسؤوليها ونشطائها.
وهكذا، أُلحقت أغلب الفعاليات الاجتماعية والثقافية والسياسية بـ " المنظمات الشعبية " للسلطة وبـ " الجبهة الوطنية التقدمية "، تكريساً لشمولية سلطة الاستبداد منذ انقلاب 8 آذار/مارس 1963. وكان من نتيجة هذه التوجهات فشل التنمية الشاملة، بل تقييدها من خلال عسكرة العديد من قطاعات الاقتصاد والمجتمع، في ظل الدولة الأمنية، وتحت شعار " اقتصاد السوق الاجتماعي ".
وهكذا، فإنّ إخفاقات التنمية في سورية مرتبطة بسياسات وخيارات استراتيجية، إذ إنّ الحديث عن الإصلاح، منذ ثمانينات القرن الماضي، لم تؤدِ إلى أية نتائج تنموية معتبرة (11).
وهكذا، فإنّ جوهر المشكلة غياب الإصلاح السياسي، المفترض أن يكون أحد أعمدة التوجهات الليبرالية للسلطة، بما يفتح في المجال للحريات الفردية والعامة وقوننة تشكيل الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، إضافة إلى وجود إعلام مستقل، بما يوفر الرقابة المجتمعية على سياسات السلطة.
أهم التحديات التي ستواجه التنمية بعد التغيير
ثمة تحديات عديدة ستواجه سورية بعد إسقاط سلطة بشار الأسد وأربعة عشر عاماً من الصراع في سورية وعليها، مما يفرض - بداية - إعادة توحيد الجغرافيا السورية وعودة السلم الأهلي إلى مكوّناته الطائفية والمذهبية والقومية، ومن ثمَّ إعادة الإعمار وتلبية الحاجات الأساسية للمواطنين، في ظل انحسار الدور التنموي والخدمي للدولة منذ سنة 2011، وسيادة مافيات الميليشيات على اقتصاد الحرب، المتمثل في تجارة السلاح ومخدر الكبتاغون وفرض الأتاوات على الحواجز المتعددة، إضافة إلى نهب وتعفيش أملاك المواطنين. كما أنّ أغلب المؤسسات تعاني من الترهل والتسيّب والركود، خاصة أنّ بعضها قد تحوّل إلى مؤسسات وجاهية وبيروقراطية.
ولا شكَّ أنّ إطالة أمد الصراع وما رافقه من الفساد ومظاهر الإثراء الخيالية لدى أمراء الحرب، وعدم الولوج في الحل السياسي للمسألة السورية، فاقما التحديات على المستوى الإنساني. فعلى الرغم من الاستقرار النسبي للوضع الأمني لاتزال حكومة الأمر الواقع الحالية تفتقد إلى الحوكمة الرشيدة، مما يفاقم من تحديات التنمية وتلبية الحاجات الأساسية للمواطنين السوريين، إذ يزداد تردي أوضاعهم على صعيد الحياة اليومية.
وفي الواقع، منذ عام 2012 توقفت العديد من مشاريع التنمية - القليلة أصلاً – التي كانت في منطقة سيطرة النظام، بل تحوّلت هذه المنطقة إلى دولة فاشلة بالتدريج، غير قادرة على تلبية الحدود الدنيا من حاجات شعبها، وعدم سيطرتها على حدودها الجغرافية المعترف بها دولياً. ومن مؤشرات ذلك تزايد الحاجة إلى المساعدات الإنسانية، إذ " أدت الزلازل التي ضربت شمال وغرب سورية في شباط/فبراير 2023 إلى تفاقم أزمة إنسانية طويلة الأمد في البلاد، مما ترك الأسر المنهكة بلا شيء تقريباً. وقبل وقوع الزلازل، كان 12.1 مليون شخص بالفعل في قبضة الجوع، وكان 2.9 مليون شخص يقتربون من حافة الجوع. كما ظهرت التغذية باعتبارها مصدر قلق كبير، وقد وصل التقزم (النمو المحدود للأطفال بسبب سوء التغذية) وسوء التغذية لدى الأمهات إلى مستويات غير مسبوقة بحلول نهاية عام 2022 (12).
ومما يجدر ذكره أنه " وُلِد حوالي 5 ملايين طفل في سورية منذ عام 2011، ولم يعرفوا سوى الحرب والنزاع في أجزاء كثيرة من البلاد، وما زالوا يعيشون في خوفٍ من العنف والألغام الأرضية والمتفجرات من مخلفات الحرب " (13). كما أنّ تقريراً لمنظمة يونيسيف ذكر " إنّ أكثر من 4 آلاف مدرسة، أي ما يشكل 40 بالمئة تقريباً من المدارس، تعرّضت للضرر أثناء الحرب أو باتت تُستخدم لإيواء النازحين داخل البلاد، ومنها ما تم الاستيلاء عليها من قبل الجماعات المسلحة أو الميليشيات في جميع أنحاء سورية " (14). مما أدى إلى التسرّب المدرسي والتوجه إلى سوق العمل في ظل تفاقم سوء الأوضاع الاقتصادية للأسر السورية.
إنّ المعطيات السابقة تشير إلى فشل الدولة السورية في صون الأمن الإنساني للمواطنين، بما فيها توفير الرعاية الصحية والتعليم والخدمات العامة الأساسية، مما يدل على أنّ الدولة أضحت مجرد سلطة تسيطر على جغرافيا مبتورة الأوصال، وتسير من فشل إلى فشل، مما شكل مقدمة إلى انزلاق الحراك الشعبي إلى حرب أهلية، وظفتها قوى الأمر الواقع لتقاسم النفوذ فيما بينها من جهة، ومن جهة أخرى إلى مزيد من التشظي السوري، حسب تعريف المركز السوري لبحوث السياسات (15). وقد ترتب على ذلك تشظياً سكانياً، نتيجة للتهجير والنزوح في الداخل والهجرة إلى الخارج، وتزايد أعداد الوفيات الناجمة عن الصراع المسلح.
مؤشرات عامة لتحديات التنمية بعد التغيير
تفاقم تراجع الاقتصاد السوري، ومن مؤشرات ذلك خسارة الليرة السورية من قيمتها الشرائية، حيث سجلت هبوطاً مريعًا لقيمتها أمام العملات الصعبة.
وفي حين أنّ الموازنة السورية كانت قد " بلغت في مطلع عام 2012 نحو 24 مليار دولار، ولكن عاماً تلو آخر بدأت تنهار الدولة من الداخل حتى وصلت مطلع العام الحالي 2024 إلى ثلاث مليارات دولار فقط، وفق سعر صرف الدولار في البنك المركزي السوري ونحو مليارين وقليل على حسابات السوق السوداء " (16).
وهكذا، يتفاقم الوضع الاقتصادي في سورية نحو مزيد من التدهور، مما يصعّب إمكانية عودة النازحين والمهاجرين إلى ديارهم، دون الانخراط في عملية إعادة الإعمار. إذ " يمكن النظر إلى إطار إعادة الإعمار بأنه استكمال لعملية التدمير التي أحدثت تغييراً كبيراً في الطابع الديموغرافي للبلاد، حيث سعى النظام السابق، من خلال تمكين الرأسماليين المحسوبين عليه عبر عملية إعادة الإعمار لإحداث تحوّل في التركيبة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بما يساهم في ترسيخ قبضته السلطوية على البلاد " (17).
لقد كانت ثقافة التنمية الشاملة تواجه عقبات على مستوى مؤسسات مناطق سلطات الأمر الواقع الأربع (النظام السابق، تركيا في الشمال الغربي، أميركا في الشمال الشرقي، هيئة تحرير الشام في إدلب)، منها: أزمة مشاركة المواطنين في مناقشة الخيارات المتاحة، وضعف منظمات المجتمع المدني ذات الصلة بحاجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وضعف أدوار المجالس المحلية واللامركزية الإدارية. وكان من نتائج ذلك الضعف محدودية مشاريع تنموية في البنى التحتية وتلبية الحاجات الأساسية للمواطنين، والاعتماد على مساعدات الإغاثة الإنسانية، التي كانت ميداناً لسطوة ميليشيات المناطق الأربع.
وهكذا، لا يمكن الشروع في تنمية إنسانية شاملة بمعزل عن إعادة إعمار سورية، وذلك لن يتم بمعزل عن السياق السياسي الجديد، بما يقتضيه من انفتاح سلطة الأمر الواقع الحالية على القوى الحية في المجتمع السوري، من نشطاء الشأن العام، لتجسيد عملية انتقال حقيقي من نظام استبدادي إلى نظام ديمقراطي، بما ينطوي على الانتقال إلى نظام يعتمد التنمية التشاركية في دولة تنموية.
الهوامش:
1 - راجع أسعد عبود: ثلاثينية الإبادة والحل الرواندي – صحيفة " النهار العربي "، 31 آذار/مارس 2024.
2 - فيصل براء متين المرعشي: الدولة الفاشلة – الموسوعة السياسية، 9 حزيران/يونيو 2016.
3 - رسلان عامر: سورية في المؤشرات والتقارير الدولية.. الأرقام تتحدث عن نفسها – مركز حرمون للدراسات المعاصرة، 22 تموز/يوليو 2020.
4 - آية يوسف ذكي يوسف: الدولة التنموية دراسة مقارنة -15 حزيران/ يونيو 2020.
ود. رضوان زهرو: الحاجة إلى "دولة تنموية " - المركز الديمقراطى العربى، برلين17 حزيران /يونيو 2020.
5 - بلقاسم نويصر: ديمقراطية التشاركية في الجزائر – الموسوعة السياسية 17 آب/أغسطس 2016.
6 - طارق ناصيف: رواندا من الحرب الأهلية إلى التنمية الشاملة – مركز حرمون للدراسات المعاصرة 6 أيار/مايو 2020.
7 - سمير سعيفان: ورقة بحثية نشرت في كتاب "الإصلاح في سورية بين السياسات الداخلية والتحديات الإقليمية والدولية" - تحرير د. رضوان زيادة 2005، الناشر مركز الراية.
8 - حالة الفساد في سورية: لجان الدفاع عن الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان في سورية، 8 كانون الثاني/يناير 2007.
9 - الحسن عاشي: الفجوة الفاصلة بين الاغنياء والفقراء في سورية، صحيفة " تشرين " - ٥ أيار/مايو 2011.
10 - سمير سعيفان: الآثار الاجتماعية للسياسات الاقتصادية في سورية، محاضرة "ندوة الثلاثاء الاقتصادي" - 9 شباط/فبراير 2010.
11 - تُعتبر الدراسة الاستشرافية في ثلاث مجلدات التي أنجزها 265 باحثاً من الخبراء السوريين في عام 2007، ذوي الاختصاص في كافة المجالات ذات الصلة بالتنمية، الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، ضمن إطار مشروع سورية 2025، بالتعاون مع البرنامج الإنمائي لهيئة الأمم المتحدة، من الدراسات المهمة التي تضع يدها على مظاهر إخفاقات التنمية في سورية، مع العلم أنها وُضعت في أدراج وزارة التخطيط السورية دون العمل بمضامينها. إذ إنّ الدراسة توقعت تزايد عدد الفقراء والعاطلين عن العمل، وتهجير الخبرات المعرفية، والأهم أنها استنتجت أنّ استمرار السياسات الاقتصادية الليبرالية سيؤدي إلى مزيد من إخفاقات السياسات التنموية للسلطة.
12 - سورية في برنامج الغذاء العالمي عام 2022.
13 - إسماعيل نصر: أطفال الحرمان – " الجمهورية " 4 آذار/مارس 2024.
14 - إسماعيل نصر: أطفال الحرمان، المرجع السابق.
15 - عملية تمزيق حاد في البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية ضمن المجتمع الواحد، أو بين المجتمع وبقية المجتمعات على الصعيد العالمي. وتتبلور هذه العملية في شرذمة المؤسسات القائمة الرسمية وغير الرسمية، بما في ذلك انحلال السيادة وتعدد القوى القابضة على السلطة، وتبديد رأس المال الاجتماعي والثقافي، وتشتت الاقتصاد الوطني. ويشكل العنف الخارج عن السيطرة القاسم المشترك للمجتمعات التي تعاني هذه الظاهرة - مواجهة التشظي، 11 شباط/فبراير 2016.
16 - طارق علي: انهيار الموازنة السورية... بطون وجيوب فارغة – صحيفة " إندبندت عربية " 23 شباط/فبراير 2024.
17 - سوسن أبو زين الدين وهاني فاكهاني: إعادة إعمار سورية بين التطبيق التمييزي والاعتراض المطوَّق - مركز " كارنيغي " 22 أيار/مايو 2020.
(*) – نُشرت في مجلة " منتدى الفارابي للدراسات والبدائل " التونسية، العدد (211) – شباط/فبراير 2025.



#عبدالله_تركماني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مرتكزات انتخابات حرة ونزيهة في سورية الجديدة
- تداعيات التغيير السوري على التوازنات الإقليمية
- رؤية سياسية وإدارية لسورية بعد التغيير (3 - 3)
- ضمانات نجاح الانتقال إلى دولة الحق والقانون في سورية
- رؤية سياسية وإدارية لسورية بعد التغيير (2 - 3)
- رؤية سياسية وإدارية لسورية بعد التغيير (1 - 3)
- محددات العدالة الانتقالية بعد سقوط سلطة آل الأسد (4 - 4)
- محددات العدالة الانتقالية بعد سقوط سلطة آل الأسد (3 - 4)
- محددات العدالة الانتقالية بعد سقوط سلطة آل الأسد (2 - 4)
- محددات العدالة الانتقالية بعد سقوط سلطة آل الأسد (1 - 4)
- تحديات مرحلة ما بعد التغيير في مستقبل سورية
- أسئلة ما بعد سقوط نظام آل الأسد
- إشكالية الهوية والمواطنة في سورية (3 - 3)
- إشكالية الهوية والمواطنة في سورية (2 - 3)
- إشكالية الهوية والمواطنة في سورية
- في الحاجة العربية لمقاربات نقدية
- أهمية حيادية الدولة للوطنية السورية الجامعة (3 - 3)
- أهمية حيادية الدولة للوطنية السورية الجامعة (2 - 3)
- أهمية حيادية الدولة للوطنية السورية الجامعة (1 - 3)
- جدل العلاقة بين الحريات الأكاديمية والنسق السياسي في العالم ...


المزيد.....




- “سرقوا الذهب” استقبل الآن تردد قناة كراميش الجديد 2025 على ا ...
- ترامب يأمر بإجراء تحقيق في التمويل الحكومي للمنظمات غير الرب ...
- الإمارات تستضيف أول مهرجان ومعرض -صنع في روسيا- (صور وفيديو) ...
- إندونيسيا تعلق مشروع بناء يتضمن عقارات باسم ترامب
- تعرف على حصيلة أسبوع من حرب ترامب التجارية الجديدة
- دبي تحقق نموا بـ 3.1% خلال الأشهر التسعة الأولى من 2024
- صندوق النقد الدولي سيعلن عن حزمة قروض جديدة لمصر
- الفاو: أسعار الغذاء العالمية تتراجع في يناير
- اقتصاد روسيا ينمو بأسرع وتيرة منذ 2021
- -سيتي غروب- يرجح صعود سعر الذهب إلى 3 آلاف دولار ويتوقع التو ...


المزيد.....

- دولة المستثمرين ورجال الأعمال في مصر / إلهامي الميرغني
- الاقتصاد الاسلامي في ضوء القران والعقل / دجاسم الفارس
- الاقتصاد الاسلامي في ضوء القران والعقل / د. جاسم الفارس
- الاقتصاد الاسلامي في ضوء القران والعقل / دجاسم الفارس
- الاقتصاد المصري في نصف قرن.. منذ ثورة يوليو حتى نهاية الألفي ... / مجدى عبد الهادى
- الاقتصاد الإفريقي في سياق التنافس الدولي.. الواقع والآفاق / مجدى عبد الهادى
- الإشكالات التكوينية في برامج صندوق النقد المصرية.. قراءة اقت ... / مجدى عبد الهادى
- ثمن الاستبداد.. في الاقتصاد السياسي لانهيار الجنيه المصري / مجدى عبد الهادى
- تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر ... / محمد امين حسن عثمان
- إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية ... / مجدى عبد الهادى


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادارة و الاقتصاد - عبدالله تركماني - مرتكزات انتقال الدولة السورية الجديدة إلى دولة تنموية (1 - 2)