إريك توسان، مؤرخ وعالم سياسة بلجيكي، مؤسس لجنة إلغاء ديون العالم الثالث CADTM، ورئيسها. وهو عضو في المجلس الدولي للمنتدى الاجتماعي العالمي، وفي المجلس العلمي لحركة "أتاك" الفرنسية. وهو عضو في قيادة الفرع البلجيكي للأممية الرابعة، وفي اللجنة الأممية للأخيرة. مؤلف كتاب "La Bourse ou La Vie"، الذي صدرت له طبعات عدة منذ 1998، في بروكسل، وسيصدر قريباً بالعربية في بيروت. مشارك في تأليفLe bateau Ivre de la modialisation(2000), Afrique: abolir la dette pour liberer le developpement(2001), Cuba, le pas suspendu de la revolution(2001), sortir de l impasse, dette et ajustement(2002), 50 questions 50 reponses sur la dette, le FMI et la banque mondiale(2002)
بعد أيام على بدء غزو قوات الولايات المتحدة وبريطانيا وأوستراليا العراق قدّر جورج بوش، أمام الكونغرس، أن كلفة الحرب، بالنسبة إلى الخزانة الأميركية، قد ترتفع إلى 80 مليار دولار. وبحسب "برنامج الأمم المتحدة للتنمية" و"اليونيسيف"، هذا هو المبلغ السنوي الضروري عالمياً لضمان حصول الجميع على الماء للشرب، والتربية الأساسية، والعناية الأولية بالصحة، وتغذية معقولة، وتقديم العناية بخصوص أمراض النساء وعمليات التوليد(لجميع النساء). هذا المبلغ الذي فشلت أي قمة عالمية في السنوات الأخيرة في جمعه(في قمة جنوى، لم يتمكن لقاء الحكومات السبع عام 2001 من أن يجمع إلا أقل من مليار دولار للصندوق ضد السيدا، والملاريا والسل)، تحقق حكومة الولايات المتحدة مأثرة جمعه وإنفاقه في أشهر قليلة. وتشكل الثمانون مليار دولار التي حصل عليها بوش من الكونغرس الأموال الضرورية لتدمير العراق وضمان احتلاله حتى 31 كانون الأول 2003. وبالطبع لم تؤخذ في الحسبان الكلفة المالية للأضرار التي يتسبب بها هذا التدخل.
لقد استخدم هذا العدوان الاستعماري الجديد، مرة أخرى، ذريعة إنسانية، متمثلة بالرغبة في إعطاء الشعب العراقي نظاماً ديموقراطياً وحماية البشرية من أسلحة الدمار الشامل. وتضاف هذه الحجة إلى اللائحة الطويلة للتبريرات الإنسانية المعطاة لتغطية عمليات خسيسة للاستيلاء على أقاليم، وللنهب الاقتصادي: من تبشير غزاة أميركا سكانها الأصليين بالإنجيل، إلى الكفاح ضد الإرهاب، مروراً بالنضال ضد العبودية الذي غطى عملية ليوبولد الثاني الكولونيالية في الكونغو.
من سيدفع، في الحقيقة، ثمن هذا العدوان؟ لم تكن انتهت الحرب بعد، حين تفاهم وزراء مال البلدان السبعة الأكثر تصنيعاً، الذين اجتمعوا في واشنطن في العاشر والحادي عشر من نيسان 2003 للتحضير لاجتماع الربيع للبنك الدولي ولصندوق النقد الدولي، فضلاً عن القمة السنوية للحكومات الثماني(بداية حزيران في إيفيان)، على تحديد دين العراق الخارجي بمئة وعشرين مليار دولار، أي مبلغ يزيد عن دين تركيا(التي يبلغ عدد سكانها ثلاثة أضعاف عدد سكان العراق)، هذا من دون ذكر التعويضات المترتبة على العراق بسبب غزو الكويت عام 1990.
وإذا صدقنا وزراء مال الحكومات السبع، تصبح ديون العراق، إذا أخذت في الحسبان هذه التعويضات، 380 مليار دولار. يكون العراق ما بعد صدام هكذا صاحب الامتياز الكئيب المتمثل في كونه البلد الأكثر مديونية في العالم الثالث، متخطياً بذلك إلى حد بعيد دولة كالبرازيل بدينها القياسي الذي يبلغ حالياً 230 مليار دولار. والاتفاق التعسفي على هذا الرقم يرمي على نحو أساسي إلى تبرير وضع اليد على موارد العراق النفطية بحجة ضمان تسديد الدين. وتحديد سقف الدين عند هذه الدرجة العالية يقدم ميزة هائلة تتمثل بإجبار السلطات العراقية الجديدة على الخضوع لشروط الدائنين على امتداد عشرات السنين.
فحتى إذا كان الاحتلال العسكري محدوداً زمنياً، وحتى إذا أمّنت الأمم المتحدة إدارة عملية إعادة البناء، فإن سياسة هذه الدولة سيحدّدها، في الواقع الدائنون وشركات النفط المتعددة الجنسية التي ستحصل على امتيازات بخصوص النفط العراقي.
لهذا السبب، فإن مطلب إلغاء الدين الخارجي العام للعراق ليس شرعياً وحسب بل هو شرط لا بد منه لإعادة السيادة بعد العدوان العسكري المخزي الذي تعرَّض له. فإذا رجعنا إلى القانون الدولي، ينطبق على حالة العراق تماماً مبدأ الدَّين "الكريه". وبحسب هذا المبدأ، "إذا عمدت سلطة مستبدة إلى الاستدانة، لا وفقاً لحاجات الدولة ومصالحها، بل لتقوية نظامها الاستبدادي، وقمع السكان الذين يقاتلونها، يكون الدَّين كريهاً بالنسبة إلى سكان الدولة بأسرها. وهذا الدين ليس إلزامياً بالنسبة إلى الأمّة: إنه دَين نظام، دين شخصي للسلطة المستدينة؛ لذا فهو يسقط مع سقوط تلك السلطة"(Alexander Scack, Les effets des transformations de Etats sur leurs dettes publiques et autres obligations financières, آثار التغيرات في الدول على ديونها العامة والتزاماتها المالية الأخر، Recueil Sirey, 1927)
ولقد طبَّقت الولايات المتحدة هذا المبدأ مرتين على الأقل في التاريخ، ففي العام 1898، بعد الهجوم الظافر على البحرية الإسبانية الحربية في عرض السواحل الكوبية، لأجل "تحرير" كوبا من السيطرة الإسبانية، استحصلت حكومة الولايات المتحدة من مدريد على التنازل عن دَينها لكوبا.
وبعد خمس وعشرين سنة، أي العام 1923، حكمت المحكمة العليا في الولايات المتحدة ضد دائني كوستاريكا بعد إطاحة الديكتاتور تينوكو، متذرعة بأن هؤلاء لا يمكنهم أن يلاحقوا إلا الديكتاتور المخلوع وليس النظام الجديد.
هذا ويعود للحركة لأجل عولمة أُخرى أن ترفع مطلب إلغاء دين العراق الخارجي العام، علاوة على مطالب أُخرى كانسحاب قوات الاحتلال، وممارسة العراقيين بأنفسهم السيادة كاملة(وهو ما يتضمن التمتع بمواردهم الطبيعية)، وأن تُدفع للعراقيين تعويضات بسبب أعمال التدمير والنهب التي حصلت خلال الحرب التي شنها تحالف كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وأوستراليا، في انتهاك واضح لميثاق الأمم المتحدة.
ونلفت الانتباه إلى أن أعمال النهب التي تمت في نيسان وتواصلت في أيار تحدث في حضور قوات الاحتلال المسؤولة بالكامل، وفقاً لقوانين الحرب، عن حماية الأملاك والأشخاص.
من الضروري أيضاً أن يلاحَق أمام القضاء ويُدان كل من جورج بوش، وطوني بلير، وج. أزنار، وج. هوارد(رئيس الوزراء الأوسترالي) وقادة الدانمارك وهولندا كمسؤولين مباشرين عن جريمة الاعتداء وجرائم الحرب.
المقصود إنما هو التشديد على أهمية مبدأ الدَّين الكريه بالنسبة لمستقبل السكان العراقيين، وأبعد من ذلك الجزء الأعظم من سكان البلدان المستدينة المسماة في طور النمو. وبخصوص العراق، يجب أن يُطبَّق أيضاً مبدأ الدَّين الكريه بخصوص الديون التي يجري التعاقد عليها خلال احتلال أرضه. فالديون التي تتعاقد عليها الدول المحتلة للعراق بحجة "إعادة بناء" هذا الأخير لا يمكن أن توضع على كاهل العراق، وهي لا تلزم سوى المحتلين، والاجتهاد الدولي واضح بهذا الخصوص(أنظري معاهدة فرساي بخصوص الديون التي تعاقدت عليها ألمانيا لاحتلال بولونيا). وإذا طُبِّقَ مبدأ الدَّين الكريه على العراق، ستكون له أهمية أكبر بكثير لأن العديد من الحكومات، والشعوب سيكون من حقها اشتراط تطبيق هذا المبدأ على حالتها الخاصة. فلنفكر في الدين الخارجي لجمهورية الكونغو الديموقراطية(الذي استدان 95% من نظام موبوتو الاستبدادي بين عامي 1965 و1997)، ورواندا وأفريقيا الجنوبية، ونيجيريا، وإندونيسيا، والفيليبين، وباكستان، وبلدان الجزء الجنوبي من بلدان أميركا اللاتينية التي كانت ديكتاتورياتها العائثة فساداً في السبعينات والثمانينات مسؤولة عن استدانة مكثَّفة... ومن حق مواطني تلك البلدان كلياً أن يشترطوا اعتبار الجزء الأعظم من ديون بلدانهم لاغياً، تطبيقاً لمبدأ الدَّين الكريه.
وللأسباب المذكورة أعلاه، نراهن على أن أعضاء الحكومات الثماني، سواء منها الأربع التي اعتدت على العراق واحتلَّته(الولايات المتحدة، بريطانيا، أوستراليا) أو دعمتها(إيطاليا، اليابان)، أو الأربع التي عارضتها(ألمانيا، فرنسا، كندا، روسيا)، سوف يتفقون على عدم تطبيق مبدأ الدَّين الكريه على العراق.
لقد أحدثت تناقضات واضحة انقساماً ضمن الحكومات الثماني قبل بدأ العدوان على العراق. ويجب أن نتوقع أنها ستحاول الحد مما لا يزال يقسمها بحيث تتصدى مجتمعة لاستحقاقات أُخرى وتدفع أكثر إلى البعيد العولمة النيوليبرالية. سوف تحاول الاتفاق لمواجهة الأزمة الاقتصادية العالمية(انهيار مالي زاحف في البورصات، عدم استقرار نقدي، استدانة كثيفة للقطاع الخاص في البلدان الأكثر تصنيعاً) وللتعامل مع اجتماع صندوق النقد الدولي المتوقع انعقاده في كانكون(المكسيك) في مطلع أيلول 2003.
لقد أخذت الدرس من سياتل، فهي واعية أن عدم حصول اتفاق بين الولايات المتحدة وأوروبا المتحدة بخصوص أجندة التجارة يمكن أن يفضي إلى إخفاق كانكون. وهي ستجتمع في إيفيان من أول حزيران إلى 3 منه عام 2003، بهدف تقريب وجهات نظرها.
وستكون الحركات لأجل عولمة أُخرى، والمناهضة للحرب، عند الموعد.
• هذا المقال كان قد نشر في جريدة النهار يوم الأحد 25 أيار 2003.