|
السياسة الجهوي بالمغرب : من أجل عدالة مجالية
عبد الإله بسكمار
الحوار المتمدن-العدد: 8243 - 2025 / 2 / 4 - 15:18
المحور:
حقوق الانسان
على مر تاريخ المغرب الحافل بالمنعطفات والأزمات وأيضا فترات الازدهار والاستقرار، وصولا إلى مرحلة الحماية الفرنسية، التي ابتدأت رسميا في 30 مارس 1912 ويمكن إضافة فترة الاستقلال السياسي، التي بدأت سنة 1956 ولا ننكر أنها عرفت بعض الإصلاحات في التوجهات والتصورات التنموية، رغم ما يوصف بسنوات الرصاص على الأقل أخذا في الاعتبار مكتسبات " العهد السابق " بموازاة مع العهد الحالي، على مر كل هذه المراحل والحقب، نلاحظ ارتباط جملة من المفاهيم، ذات الطابع الاقتصادي أو الاجتماعي والثقافي على وجه العموم، بأكثر المناطق والمدن المغربية ولنأخذ كنماذج فقط خلال عصر الحماية : " بلاد السيبة " مقابل " بلاد المخزن " " " المغرب النافع " مقابل" المغرب غير النافع ". المعروف بالمناسبة أن المغرب غير النافع ارتبط بمناطق محددة، توجد عموما بأغلب جبال الأطلس والريف والجهات الموجودة جنوبها أي ما سمي بالنجود العليا والصحراء الشرقية والجنوبية الشرقية للمملكة، وتميز بقلة موارده الفلاحية وجفاف أرضه مع وجود بعض المواد المعدنية الأساسية للصناعة والتي كانت توجه للتصدير بالدرجة الأولى، هذا إضافة إلى ضمور المجال التجاري، وذلك مقابل المغرب النافع الواقع ضمن الحيز أويسار الخط المائل عموديا نحو اليمين الممتد بين مدن فاس ومكناس ووجدة عبر تازة ( من خلال شريط ضيق ) والذي يشمل مناطق محدودة من الأطلس المتوسط وكل سهول الغرب والشاوية ودكالة وعبدة وجزءا من السوس، ثم هضبة السايس وحوض لوكوس وملوية السفلى وهذا الحيز " النافع " من البلاد يتسم بوجود مصادر اقتصادية مهمة تتمثل في خصب الأراضي الفلاحية ( الغرب والسايس واللكوس وتادلة وسهل طريفة مثلا ) أو وجود الثروات المعدنية، كهضبة الفوسفاط، أو الشواطئ حيث إمكانية التجارة البعيدة عبرالموانئ مع أنشطة الصيد البحري. لقد استمر هذا الوضع بشكل آو بآخر في المغرب المستقل، لكن يمكن إضافة أدوار ووظائف أخرى، إما كانت موجودة خلال العهد الاستعماري أو نُحتت بعد استقلال البلاد، كارتباط مدينة وجدة مثلا بحدود المملكة مع الجزائر، حتى أطلق عليها " المدينة الحدودية " ولا يمكن التغاضي عن الدور الاقتصادي في هذا المجال، إضافة إلى الأبعاد الاجتماعية والرمزية، كوجود صلات بين العائلات والقبائل هنا وهناك واشتراك المنطقتين في رأسمال شعبي محدد ( ظاهرة الراي والركادة مثلا ) وكثير من العادات والتقاليد، فالحدود هنا، لا تأخذ فقط دلالاتها المعروفة كحواجز مقننة ومحروسة ومناطق تماس متحفظ عليها، بل يمكن القول أن لها أبعادا اقتصادية واجتماعية وثقافية ونحن نسجل ما هو واقع، بعيدا ما أمكن عن أحكام القيمة المجازفة على وجه العموم . إذا انتقلنا إلى نموذج الدارالبيضاء، التي تمثل وما زالت أكبر مدينة في المغرب، نجد أن الخانة التي صنفت فيها، تتجسد في أول قطب صناعي وتجاري بالبلاد، فهي العاصمة الاقتصادية دون منازع وهذا التوصيف ورثناه بالطبع عن عهد الحماية، بسبب توفر شروط أساسية للنشاط الصناعي، كالمواد الفلاحية والمعدنية والبنية الطرقية والسككية والميناء، علاوة على سهولة الأراضي والامتداد الحيوي، مع وجود يد عاملة متاحة وفرص مثالية للمستثمرين ( سواء منهم الأجانب سابقا أو المغاربة حاليا ) ويصعب في هذا المجال الحديث عن بعد سياحي أو رمزي لهذه المدينة العملاقة (رغم وجود مواقع جذب أساسية كمسجد الحسن الثاني وحديقة عين السبع والمدينة القديمة وحي الأحباس وساحة الجامعة العربية غيرها ) كما أن هناك بالنسبة للدار البيضاء ارتباطا بين الحياة الإدارية ونظيرتها الاقتصادية عبر الشركات والمؤسسات، الشيء الذي يزاحم نوعا ما العاصمة الإدارية للمملكة أي الرباط، التي تمتعت ومنذ عقود بنظام خاص على اعتبار أنها تحضن المصالح الإدارية والحكومية والقصور الملكية والوزارات والسفارات والسلك الديبلوماسي، مما صبغ المدينة بهذا الطابع دون غيره. هذا رغم وجود فضاءات أثرية تعود إلى الموحدين، بل قبل ذلك إلى الرومان وبني مرين ( نمودج فضاء شالة الأثري ) فالبعد السياحي حاضر إذن لكن الجانب الإداري باعتبارها عاصمة للبلاد يغلب على غيره وذلك منذ تحويل العاصمة من طرف ليوطي Lyautey أول مقيم عام فرنسي بالمغرب، من فاس إلى الرباط سنة 1912، كما أن الحركة الاقتصادية والتجارية عموما على مستوى الرباط تنشط على قاعدة دينامية المؤسسات الإدارية والوزارات والهيئة الديبلوماسية . ضمن التحولات الهامة التي تشهدها المدن المغربية الكبرى على الأقل ومنذ عقدين من الزمن، ظهور أقطاب اقتصادية أخرى بدأت في النمو وقد تزاحم الدارالبيضاء كمواقع طنجة والناضوروالقنيطرة وهو شيء له بعد إيجابي في كل الأحوال ضمن اللاتمركز الاقتصادي وتحقيق نوع من التوزيع المتوازن في هذا المجال مع تسجيل وجود أحياء صناعية في باقي المدن تراوح بين الذبول والتألق، حسب أوضاع المقاولة الوطنية والأحوال المتقلبة للسوق الاقتصادية . تشكل مدينة فاس ( وهي في المرتبة الثالثة حاليا بين مدن المملكة بفارق سكاني ضئيل عن طنجة التي أصبحت القطب الحضري الثاني بعد البيضاء وفقا لآخر إحصاء ) أبرز نموذج للمدينة الإسلامية بالمغرب، فهي تجمع عوامل الموقع الجغرافي والعمق التاريخي الحضاري والديني، إذ تمثل العاصمة العلمية للمغرب، بحكم احتضانها لأقدم جامعة في العالم، أي جامعة القرويين، إضافة إلى ارتباطها بالعديد من الأعلام والمنشآت الحضارية والعمرانية واللقاءات الثقافية، يضاف إلى كل ذلك، الموقع الأساس للصناعة التقليدية والبعد التجاري، الذي خضع للمد والجزر وفقا للأحوال العامة في البلاد، علاوة على ماكان للزراعة والإنتاج الفلاحي من أهمية في ازدهار المدينة ذاتها، باعتبار وقوعها بين حوض سبو وهضبة سايس الخصبة. يتضح إذن أن هذه الحاضرة قد توفرت على جميع ما يؤهلها، لأن تصبح قطبا كبيرا على مستوى شمال البلاد ككل، غير أن هذا الامتياز برمته قد تأثر بمتغيرات لم تكن في كثير منها إيجابية، منها على الخصوص، أزمة الصناعة التقليدية التي عرفت اندثار كثير من أنشطتها وتراجع إن لن نقل اختفاء صناعة النسيج الذي كانت فاس رائدة له وطنيا ( إغلاق معمل كوطيف على سبيل المثال لا الحصر ثم هجرة بعض الفئات النشيطة وخاصة التجار نحو الدارالبيضاء أو بلدان إفريقيا السوداء ) الشيء الذي فاقم من أوضاع الساكنة اقتصاديا واجتماعيا بل وأدى إلى هزة اجتماعية يوم 14 دجنبر 1990 وقد حاولت الجهات المعنية منذ ذلك الوقت تلافي أسباب التوتر وزاد من الاهتمام بالعاصمة العلمية وضعها الجديد في ظل مشروع احتضان المغرب لكأس العالم 2030 . الأفق التنموي الجهوي الذي يراهن عليه المغرب حاليا، يمكن أن يستوعب المشاكل والظروف الصعبة التي تتخبط فيها مناطق ومدن متعددة بجهة فاس / مكناس كنموذج فحسب، فالوظيفة السياحية بحكم عراقة المنطقة ومحطاتها التاريخية الحاسمة ووجود مواقع جذب طبيعية، قد تلعب دور قاطرة التنمية المستدامة، مع مراعاة الحكامة الجيدة ومحاربة الفساد بمختلف أنواعه، توخيا لعدالة مجالية ملموسة خاصة وأن هذه الجهة تحضن تسعة أقاليم لا تقل مؤهلاتها عما تتوفر عليه حاضرة فاس عاصمة الجهة، وإن عدم التوازن في تنمية المناطق المعنية يفرض أسئلة ملحة، تبعا لاكتساح عاصمتها أغلب المجال الثقافي والرمزي ومن ثمة، استقطاب الاهتمام الأكبر من طرف الفاعلين جهويا ومركزيا ويمكن جرد العديد من هذه المظاهر على مستوى مكناس العاصمة الإسماعيلية وباقي المدن كتاونات وتازة وإيفران وصفرو وبولمان والحاجب ومولاي يعقوب ومن شأن تفعيل الحكامة الجيدة والأبعاد التضامنية بين أقاليم الجهة تعزيزما ينعت بالإنصاف المتوازن وما يصحبه من عدالة مجالية، حيث يمكن أن تحظى كل منطقة بنصيبها من التنمية، ونذكر هنا تشجيع السياحة الاستغوارية والجبلية بإقليم تازة، كمثال جاذب وتثمين الصناعات الفلاحية بمكناس علاوة على ما أقدم عليه المغرب من شرعنة الاتجار في القنب الهندي مثلا . وعلى مستوى جنوب البلاد فهناك قطب اقتصادي قوي آخذ في التشكل، نقصد أقاليمنا الصحراوية المسترجعة وخاصة ولاية العيون، الشيء الذي جعلها تقفز عبر مراحل في مجالات التنمية المختلفة، وتربح بشكل حاسم رهان تلك التنمية، ضدا على كل مؤامرات خصوم البلاد وأعداء الوحدة الترابية للمغرب، كما أن العاصمة العلمية لتلك المناطق وهي مدينة السمارة أصبحت تشكل موقعا ثقافيا وروحيا لمواطنينا، سواء المنحدرين من أقاليمنا الصحراوية أو باقي إخوانهم المغاربة، الشيء الذي يتطلب تثمينا مستمرا لذلك التراث الروحي، دون أن ننسى الوظيفة السياحية المتألقة لمنطقة الداخلة الساحرة، وقد شكلت الجهات الجنوبية سابقا كمناطق مراكش وسوس والجنوب الشرقي ( أكادير- تارودانت – إيفني – تافروات - ورزازات وتافيلالت ) قطبا سياحيا متميزا وجسرا أساسيا نحو أقاليم الجنوب، إلى جانب الأنشطة الأخرى، مع تشابه المسارات بين مراكش وفاس باعتبارهما العاصمتين التاريخيتين للمغرب . هناك مناطق ومدن أخرى في البلاد لا تقل مؤهلاتها الطبيعية والثقافية عما ذكرنا، من الساحل الأطلسي نسجل نماذج الصويرة وآسفي والجديدة وأزمور، وداخليا بني ملال وقصبة تادلة وخنيفرة وآزرو ووزان وشقشاون ثم تطوان في الشمال وقد تميزت هذه الأخيرة بوظائف وطنية وثقافية مشهودة، مما يطرح سؤال الإطارات الثقافية حاليا ودعم وصيانة الذاكرة والتراث الرمزي . الوضع الخاص للبوادي المغربية تميز باستمرار الهجرة القروية وخاصة في الأقاليم الضعيفة اقتصاديا واجتماعيا، مما يفرض تعميم البنيات الأساسية وفك العزلة وخلق أنشطة مدرة للدخل كتعويض نبيل عن استمرار السنوات العجاف للجفاف وتراجع عطاء الفلاحة المغربية على وجه العموم . لا يمكن تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية في ظل اختلال التوازنات القائم، الأمر الذي لن يحصل - من وجهة نظرنا - دون بعد جهوي حقيقي، ترفده عدالة مجالية منصفة، وتوزيع متوازن للاعتمادات والموارد المختلفة وتحفيز واقعي للاستثمار الوطني، وإنعاش المقاولة المغربية المواطنة، خاصة في ظل عولمة جارفة لا ترحم وعبرها، من حقنا أن ننحت لأنفسنا النموذج التنموي الموافق لخصوصياتنا الثقافية وشخصيتنا الوطنية .
#عبد_الإله_بسكمار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مشور تازة : دلالات عمرانية وتاريخية
-
....ويحدثونك عن تصنيف مدينة تازة تراثا وطنيا
-
قبة السوق بتازة : قبس من ذاكرة ممتدة
-
المدارس المرينية بتازة من الوظيفة الأيديولوجية إلى الدور الس
...
-
تازة التي لم تخضع للاحتلال الروماني
-
المنتزه الوطني لتازكة : مكونات متنوعة تحتاج إلى تنمية مندمجة
-
أبواب تاريخية بتازة بين الإصلاح والإهمال
-
كيف انتقل اسطرلاب تازة من المغرب إلى إيطاليا ؟
-
متى تتم إعادة فتح مغارة فريواطو بتازة ؟
-
العودات بتازة بين البعدين التدجيلي والتطبيبي
-
عن أسرة التازيين بفاس
-
تاريخ تازة : أسرارملتبسة وبالجملة
-
عن زمن الانتهازية والانتهازيين
-
حول زمن الانتهازية والانتهازيين
-
إضاءات جديدة حول الرتاث التازي : نمذج العلامة علي بن بري
-
بعض مظاهر الصراع من خلال الإشكالية المائية بتازة
-
بيان إلى الرأي العام الوطني : الفساد قي قطاع الصحة بركة في ب
...
-
معركة غزة ضمن مسار صراع تاريخي
-
الزلازل في المغرب بين التفسيرالقدري والبعد المأساوي
-
جوانب من تاريخ مكناسة تازة
المزيد.....
-
وزير خارجية السودان: نشكر مصر قيادة وشعبا على كرم الضيافة وا
...
-
قطر تشارك في أعمال الدورة العادية الـ55 للجنة العربية الدائم
...
-
نتنياهو يلتقي ترامب: ما هي ادعاءات جرائم الحرب ضد إسرائيل وح
...
-
اعتقالات ومداهمات خلال عدوان الاحتلال المتواصل على طمون ومخي
...
-
الأمم المتحدة تعلن تشكيل لجنة خبراء لتيسير إجراء الانتخابات
...
-
الولايات المتحدة تبدأ ترحيل مهاجرين إلى معتقل غوانتانامو
-
-العفو الدولية- تطالب واشنطن باعتقال نتنياهو
-
مدريد تراهن على المهاجرين.. كيف ساهم الأجانب في تحريك عجلة ا
...
-
منظمة العفو الدولية: ترامب يضاعف من ترحيبه بنتنياهو بعدم اعت
...
-
العفو الدولية: واشنطن خالفت تعهداتها بمنع ارتكاب ابادة جماعي
...
المزيد.....
-
مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي
/ عبد الحسين شعبان
-
حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة
/ زهير الخويلدي
-
المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا
...
/ يسار محمد سلمان حسن
-
الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نطاق الشامل لحقوق الانسان
/ أشرف المجدول
-
تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية
/ نزيهة التركى
-
الكمائن الرمادية
/ مركز اريج لحقوق الانسان
-
على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
المزيد.....
|