سيروان عبدول
الحوار المتمدن-العدد: 8242 - 2025 / 2 / 3 - 13:00
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
إنّ مقتل سلوان موميكا يشكّل، بطبيعة الحال، ضربةً خطيرةً لحرية التعبير ونيلاً من كلّ مسعى يهدف إلى نقد الأديان على أسس حقوقية وإنسانية. غير أنّ المفارقة الأكبر تكمن في أنّ الذين يحتفلون بمقتله هم أنفسهم من يتكبّدون أشدّ الخسائر.
في التعليقات والحوارات على منصات التواصل الاجتماعي، تتعالى أصوات تعبّر عن فرحتها بإسكات ناقدٍ حادّ للإسلام، غير مدركة أن ذلك يجعلهم ودينهم أكثر عجزًا عن مواجهة التحديات. عندما يُقصى الناقد بالعنف، تفقد الديانة وأتباعها فرصة كشف عيوبها ومواجهتها، فتتحجّر كأيديولوجية عقائدية لا تستحق أي احترام. وهذا بالضبط ما حدث للإسلام: فمنذ اللحظات الأولى لظهوره وطوال تاريخه حتى يومنا هذا، أدّى قمع النقد والناقدين إلى حالة من الجمود والانغلاق في المجتمع المسلم. وعندما يُقصى الناقد، لا يبقى إلا فراغٌ يملؤه المتطرفون بقيم التعصّب، فيختنق بذلك الفضاء المخصص للحوار والنقد البنّاء، وتتحوّل الممارسات الدينية إلى عقائد جامدة تفقد صلتها بالقيم الأخلاقية التي يمكن أن تبعث على الفخر.
فبغضّ النظر عن الوهم الذي يحمله بعض المسلمين بشأن سمعة دينهم، فإنّ الواقع هو أنّ الإسلام قد تقلّص للأسف في العقود الأخيرة إلى أيديولوجية سياسية قائمة على الكراهية والعنف أكثر من كونه دينًا. وليس من العدل القول إنّ هذه السمعة جاءت بلا سبب، خاصة في ظلّ تصاعد التطرف الإسلامي منذ عهد سيّد قطب.
٭ ٭ ٭
من الواضح أنّ الإسلام في وضعه الحالي يمرّ بأزمة عميقة، لا لأنّ حرية التعبير أو الاكتشافات العلمية والعلمانية الغربية تُوجّه له انتقادًا موجعًا، بل لأنّ حركات إسلامية متشددة تعمل على تلقين المسلمين الغضب والعنف ردًّا على النقد، ثم تستغلّ هذه النزعة في حملاتها الإرهابية والمدمّرة للمجتمع. يعمد هؤلاء المتطرفون إلى تأجيج المشاعر لدى المسلم العادي وترسيخ فكرة أنّ الإسلام مهدّد باستمرار وأنّ المسلمين يتعرّضون للاضطهاد الممنهج، فيبقون البيئات المسلمة أسيرة حلقة مفرغة من العنف وانعدام التسامح.
كثيرًا ما تتلقى هذه الاستراتيجية دعمًا من بعض اليساريين في الدول الغربية، الذين يسهمون من حيث لا يدرون في تعزيز السردية الخادعة حول مظلومية الإسلام. فهم يصرّون على تصوير المسلمين كضحايا دائمين لـ«كراهية الإسلام»، متجاهلين الأضرار الجسيمة التي أحدثتها الإسلاموية وأسلمة المجتمع، خاصة في المجتمعات التي ينتمي إليها المنتقدون المتفانون في نقدهم للإسلام. وبهذا، ترسَّخ صورة مغلوطة لدينٍ ألحق بأتباعه أضرارًا كبيرة عبر التاريخ، وتحول في مراحل عديدة إلى أيديولوجيا توسّعية تفرض هوية متشدّدة على المجتمعات الإسلامية.
٭ ٭ ٭
إنّه في ظلّ هذا الوضع المظلم، تبرز الحاجة الماسّة إلى أشخاص يتحلّون بشجاعة استثنائية، كالتي أظهرها سلوان موميكا، لكسر جدار الصمت المفروض من الداخل، وفتح الباب أمام إخضاع الإسلام لنقد جادّ وحاسم. فالانتقادات العادية أصبحت عاجزة عن إحداث أي تأثير في بيئاتٍ تتشابك فيها المعتقدات الدينية والمصالح السياسية، إذ أصبح تجنّب إزعاج المسلمين شديدي الحساسية هو المعيار الذي تُحدَّد على أساسه حدود حرية التعبير في مجتمعاتنا. وهكذا، لم تكن ظواهر مدمّرة مثل داعش والقاعدة سوى نتيجة طبيعية لهذا الإصرار على مراعاة المشاعر المفرطة في الحساسية لدى المسلمين.
في ظلّ هذا الواقع، قد تكون الصدمات الاستفزازية آخر وسيلة متاحة لتحريك المياه الراكدة ومساعدة المجتمعات المسلمة وشعوبها، التي تعدّ الضحية الأكبر للتعصب الإسلامي. حين يتجرّأ شخص مثل موميكا على استخدام أساليب صادمة، فهو يُجبر المسلمين ومجتمعاتنا على مواجهة الحقائق التي يحاولون تجاهلها. وبرغم قسوته الظاهرية، يهدف هذا النوع من الاستفزاز إلى تحدّي السطوة الشمولية التي تحيط بالإسلام كجدارٍ صلد، لا يُسمح لأحد بلمسه دون أن يُتهم بالخيانة أو يُستهدف بالقمع، في محاولةٍ لكسر هذا الحصار المفروض على النقد وفتح ثغرةٍ في جدار المحرّمات المسوَّرة بالخوف والتقديس.
٭ ٭ ٭
قد يعتبر البعض حرق القرآن أو نشر الرسوم الكاريكاتورية للنبي استفزازًا استفزازًا غير مبرّرًا للمسلمين، ويدينون هذه الأفعال بحجة أن المسلمين لا يتحمّلون هذا النوع من النقد، وأن حساسيّتهم المفرطة يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار. أنّ هذا الموقف يعكس في جوهره نظرة دونية تجاه المسلمين، وتفترض أنهم أقل قدرةً من غيرهم على تحمّل النقد. فلا تعترف هذه النظرة بأنّ المسلمين، شأنهم شأن جميع الشعوب الأخرى، قادرون تمامًا على أن يصبحوا أفرادًا يتقبّلون النقد ويتمكّنون من التعايش مع الاختلاف.
إنّ رفض النقد الديني ليس قدرًا محتومًا أو خاصيةً متأصّلة في الثقافة الإسلامية؛ بل هو نتيجة استراتيجية سياسية ممنهجة تهدف إلى تقليص تسامح المسلمين مع النقد تدريجيًا، في إطار لعبة سلطوية تُبقيهم أسرى الغضب وتحول دون أي محاولة إصلاح.
إنّ التنديد بأيّ نقد استفزازي بحجة أنّه يجرح مشاعر المسلمين، والسعي إلى حمايتهم من التعرّض لأيّ انتقاد، لا يحمي كرامتهم بل يرسّخ ثقافة الوصاية عليهم، وكأنّهم غير مؤهلين لمواجهة الأفكار المختلفة. وبدل أن يساعدهم على التطوّر كمجتمع قادر على التجديد والحوار الحرّ، يرسّخ هذا النهج الانغلاق ويعمّق التعصّب ويحدّ من قدرتهم على الاندماج في عالمٍ متنوّع فكريًا.
٭ ٭ ٭
الإسلام لن يخسر شيئًا إذا أصبح أكثر تسامحًا مع النقد؛ بل العكس، فإن أفضل ما قد يخدمه هو أن يعتاد أتباعه على تقبّل النقد، كما هو حال المسيحية ومعظم المسيحيين اليوم. فالمعتقدات التي تواجه التساؤلات دون اللجوء إلى العنف تصبح أكثر رسوخًا، وتكسب قدرًا أكبر من الاحترام.
لهذا، فإنّ دعم كلّ من يجرؤ على تحدي التعصّب، مثل موميكا، يظلّ ضروريًا، ليس فقط لحماية حرية التعبير بل للحيلولة دون استمرار العنف كوسيلة لحسم الخلافات. أما الذين احتفلوا بمقتله، فظنّوا أنهم أطفأوا صوته، لكنهم كشفوا في الواقع عن هشاشة معتقداتهم؛ إذ لا يحتاج الفكر القوي إلى الرصاص لقمع مخالفيه. لقد توهموا الانتصار، لكن ما جنوه هو إضاعة فرصة نادرة لمواجهة الأسئلة الصعبة التي طالما تهرّبوا منها، ليظلّ الإسلام والمجتمعات الإسلامية عالقين في الدوامة ذاتها التي يدّعون الدفاع عنها، وعواقب ذلك مزيد من الجمود والانغلاق.
#سيروان_عبدول (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.