|
الزحام
أبوبكر المساوي
...
(Aboubakr El Moussaoui)
الحوار المتمدن-العدد: 8242 - 2025 / 2 / 3 - 02:52
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
في الزمن الماضي، وفي خضم ركام المسلمات الذي أنقض ظهورنا، والذي رافق مرحلة طفولتنا التي كانت دائما حاملة لأكياس مكدسة بالأوامر والنواهي، والقيود التي لا تنتهي (حرام، استحي، البعبع، الغول، الجن، الثعبان الأقرع، جهنم، قل بسم الله، كل بيمينك، لا تفضحنا مع الضيوف، أسكت يا حمار، ما هذا السؤال؟ ...) والتعرض للضرب المهين والرفس والركل بسبب وبدون سبب، في البيت وفي الشارع وفي المدرسة من طرف كل شخص استطاع إلى ذلك سبيلا... كان الزحام، وكانت الفوضى في كل مكان، في البيوت غير الصالحة للسكن في أغلب الأحيان، وفي كل الأماكن العمومية الخالية من التهيئة والإعداد اللائق بالإنسان، وفي المؤسسات التي يلجأ إليها عباد الله أو الرعايا (أشباه المواطنين) والمواطنين من الدرجة الثالثة والثانية لقضاء حوائجهم، أما المواطنون من الدرجة الأولى فلا يليق بمقامهم العالي الاختلاط بكل من سبق ذكرهم، هم يقضون حوائجهم عن بعد، بالاتصالات السلكية واللاسلكية وبإصدار الأوامر للسعاة والخدم. في البيت توجد عشر كائنات أو أكثر في أغلب الأحيان، أو أقل بقليل في حالات نادرة، دون احتساب الحيوانات الأليفة، كائنات ناتجة عن حوادث جينية أو جنسية أو نتيجة للمد الإيديولوجي العابر للزمان والمكان، الداعي لإكثار سواد الأمة ليرهبوا به كل من سولت له نفسه التفكير بشكل مختلف، أو لخوف مما قد يتعرض له الإنسان من مكروه من طرف الإنسان الآخر -فالإنسان ذئب للإنسان حسب قول الفيلسوف البريطاني توماس هوبز- أو بسبب غوص بغير رجوع في وحل الجهل والخرافة، أو نتيجة كل هذه الأسباب مجتمعة. اختلطت الأشكال والألوان والأحجام واختلط الصغار بالكبار والذكور بالإناث، إلى درجة يتعذر معها معرفة من يكون من، من مِنَ الأسرة ومن الزائر؟ من سيبقى للتزاحم على العشاء الهزيل المصحوب بالوصايا العشر التي سبق ذكرها؟ من سيبقى للمبيت وتقاسم الحصير والغطاء المهلهل، ومشاركة روائح الضراط عوض الأوكسجين؟ ومن سيأتي يا ترى غدا صباحا بدون إشعار؟ وهل سيأتي بدجاجة للغذاء وبيض للفطور أم خاوي اليدين؟ وهل سيكون مصحوبا بسلة الفواكه الموسمية أم أنه سيتناسى ذلك لما يصاحبه من تعب الجني والحمل؟ النوم في الزحام، الأكل في الزحام، الكلام في الزحام، الميلاد في الزحام، الموت في الزحام... تداخل الزحام في الزحام حتى ضاق الزحام بنا وبنفسه ذرعا واختنق، وكاد يحمل حصيره ويرحل لولا وصول فوج آخر من الكائنات التي سدت كل الفجوات والمخارج. بعيدا عن كل مخاوفنا وهواجسنا المادية والنفسية وعقدنا، والمكبوتات الجنسية طوال الطفولة المغتصبة، والمراهقة المرفوضة جملة وتفصيلا -إلا الذين كانوا يمشون على الأرض هونا خوفا من غضب الله والأهل والمعلم والفقيه والمجتمع، وطمعا في رضا الجميع إلا ما تعلق برضاهم عن أنفسهم، ما أدى في الأخير إلى انطفاء مصابيح عقولهم وأدى بهم إلى الجنون أو تحول أحدهم إلى درويش من دراويش الحي، أو دفعه انقياده الأعمى ورغبته في تحسين صورته أمام الكل إلى الذهاب للجهاد في أفغانستان أو في البوسنة أو في الشيشان، أو الالتجاء للأعمال الحقيرة والمسكنة لملء النواقص والثقوب والشقوق التي تملأ دواخله، مثل تنظيف مراحيض مسجد الحي بدون مقابل مادي، وربما في أحسن الأحوال قد يتحول أحدهم إلى إمام في مسجد قبيلة من القبائل البعيدة عن كل مظاهر الحياة، بعد أن تعرض لغسيل المخ لسنين طويلة في أبشع الظروف التي قد يتعرض لها أي إنسان على وجه الأرض– وطوال فترة الشباب الحائر التائه الذي لا يملك من التجارب إلا ذلك البعبع الذي يعرقل خطواته، والذي يخنق أنفاسه بشكل يليق بالوضع الاجتماعي والاقتصادي والفكري للطبقة التي ينتمي إليها صاحبنا، طبقة عباد الله. بعيدا عن التجارب الفاشلة التي لم و لن تنفع أحدا في يوم من الأيام، ومعارفنا ومداركنا التي غالبا ما تأتي متأخرة وفي غير محلها، وطوفان الأحلام الذي مر دون أن يترك لنا قشة حلم واحد تحقق في الماضي لنتعلق بها، ونبني عليها أملا لتدارك أحلام أخرى ضاعت مع الزمن، واضطررنا لمحوها من ذاكرتنا خوفا من إعادة المحاولة، أو فشل أو صدمات محتملة نتيجة عدم تحقيقها، مع الأسف، وخوفا من محاكمة المجتمع الذي ينزل بكل ثقله على المخطئ، بكل حمولاته الآتية من عمق التاريخ من تقاليد وأعراف محلية، وحدود دينية آتية من سياقات مختلفة عن السياق الراهن التي أنتجت ثقافة هجينة لا تمت للتناسق والانسجام بأية صلة، مجتمع لا يغفر الخطأ لأي كائن، معصوم إلى درجة الإمساك والاحتقان (الفكري)، مجتمع الوصفة الفكرية الواحدة التي لا تقبل شريكا في الفكر ولا منافسا، ذلك الذي يخاف من الخطأ والوقوع خوفا مرضيا، مجتمع يعتقد كل فرد من أفراده أنه سيد الفضيلة ومنبعها والوصي على رعاية الاخلاق الحميدة، حيث أن المحاكمات عندنا جاهزة، وفيها الأبيض والأسود فقط ولا مجال فيها لدرجات الرمادي ولا للألوان الأخرى. من يذهب للصلاة في المسجد على مرأى ومسمع من الناس هو سيد الأفاضل والمحترمين وإن زنا وإن سرق في الخفاء، تطبيقا لمقولة (إذا ابتليتم فاستتروا) وتبعا للحديث الذي يقول: (ما مِن عَبْدٍ قالَ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، ثُمَّ مَاتَ علَى ذلكَ إلَّا دَخَلَ الجَنَّةَ قُلتُ: وإنْ زَنَى وإنْ سَرَقَ؟ قالَ: وإنْ زَنَى وإنْ سَرَقَ قُلتُ: وإنْ زَنَى وإنْ سَرَقَ؟ قالَ: وإنْ زَنَى وإنْ سَرَقَ قُلتُ: وإنْ زَنَى وإنْ سَرَقَ؟ قالَ: وإنْ زَنَى وإنْ سَرَقَ علَى رَغْمِ أنْفِ أبِي ذَرٍّ وكانَ أبو ذَرٍّ إذَا حَدَّثَ بهذا قالَ: وإنْ رَغِمَ أنْفُ أبِي ذَرٍّ) ومن احتسى قطرة خمر في العلن فذلك في أسفل سلم الأخلاق وإن قدم حياته فداء للإنسانية، أما إن تجرأ، وفكر وقدر، وأبدى رأيا مخالفا لمعتقدات مجتمعه فما عليه إلا الرحيل أو فليستعد للرجم. عميقا في الزمن الماضي، وفي خضم مراحل العمر السابقة المليئة بالجروح المادية والنفسية والقروح التي تركت من الآثار ما يكفي لهدم وتفتيت كيان الفرد من الداخل، وبعيدا عن كل تلك السياقات غير المريحة، أرى أن التعرف على ما تبقى من تلك الرواسب وعلى كل ما يؤلم الفرد وتشخيصه بشكل دقيق مسألة ضرورية لتحديد كيفية التعامل معه واختيار العلاج المناسب على أمل تنحيته نهائيا من الوعي ومن اللاوعي، طبعا في إطار ما يمكن تسميته بالعلاج الذاتي، ثم العمل على ذلك بجدية وباستمرار حتى يتسنى للإنسان الفرد تحسين أحواله وتحقيق أفضل نسخة من ذاته مع مرور الأيام والمساهمة بشكل إيجابي في تحسين وتطوير أوضاع مجتمعه ومحيطه. بعيدا عن كل هذا وذاك وبعيدا عن كل ما ذكرت وما تناسيت، أجد نفسي أحن إلى ذلك الرضيع الذي يحدق بعينيه البراقتين في كل شيء فرحا باكتشاف العالم من حوله، مبتسما، ضاحكا، بريئا، عفويا، منطلقا... والذي كان من المفترض أن يحافظ على كل تلك الثروة لولا تدخل أيدي وأفواه الذين يدعون الرشد ومعرفة كل الأشياء المتعلقة بأمور الحياة. إليك يا من تعتقد أنك سيد الفضائل كلها، فك أسرك وتخلص من أغلالك واسمح لنفسك وللآخرين بالخطأ والسقوط ولو لمرة، وتخلص من ركام الأقنعة التي جعلت وجهك شبيها بمومياء، لعلك تتخلص من ذلك السد العالي الذي يحول بينك وبين معرفة ذاتك، والذي يمنعك من إعطاء معنى لحياتك، ولتفسح المجال لغيرك من الأصغر سنا لتنفس هواء نقي خال من القيود والأغلال والنكد والهم، ولعل وقوفك يستقيم يوما، وتتحرر من ركام الإمساك الذي تعاني منه في يقظتك ومنامك. إليك أيها الإنسان الذي تحمل أثقال الزمن، سنك الستين والسبعين وحتى المئة أو أكثر إنما هو مجرد عبء على كاهلك ليس إلا، ما دمت تدعي امتلاك الحقيقة المطلقة، وتدعو للقضاء على كل فكر مخالف لطريقة تفكيرك وقناعاتك ومعتقداتك بدعوى أنه باطل وغير مجد.
#أبوبكر_المساوي (هاشتاغ)
Aboubakr_El_Moussaoui#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
خاطرة
-
الرغبة واللذة
-
الخوف
-
الشيزوفرينية
-
الحرية
-
مثل ديك على حبل
-
الغثيان والاشمئزاز والتقزز
-
أجيال في الوحل
-
جلد الذات
-
عقدة الذنب عندنا
-
-النحن- و -الأنا- و الفعل و رد الفعل
-
الزوايا المظلمة من تاريخ الإنسانية
-
التبن والشعير والحمير
المزيد.....
-
الأمم المتحدة تدعو إلى ضبط النفس وسط العنف الطائفي في جنوب ا
...
-
الضربات الجوية الأمريكية في بونتلاند الصومالية قضت على -قادة
...
-
سوريا.. وفد من وزارة الدفاع يبحث مع الزعيم الروحي لطائفة الم
...
-
كيفية استقبال قناة طيور الجنة على النايل سات وعرب سات 2025
-
طريقة تثبيت تردد قناة طيور الجنة بيبي الجديد 2025 TOYOUR BAB
...
-
الأوقاف الفلسطينية: الاحتلال اقتحم المسجد الأقصى المبارك 21
...
-
” أغاني البيبي الصغير” ثبت الآن تردد قناة طيور الجنة بيبي عل
...
-
زعيم المعارضة المسيحية يقدم -ضمانة- لتغيير سياسة اللجوء إذ أ
...
-
21 اقتحامًا للأقصى ومنع رفع الأذان 47 وقتاً في الإبراهيمي ا
...
-
24 ساعة أغاني.. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 على النايل
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|