أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الصحة والسلامة الجسدية والنفسية - جلال الصباغ - الامراض النفسية وعلاجها من منظورين مختلفين















المزيد.....


الامراض النفسية وعلاجها من منظورين مختلفين


جلال الصباغ

الحوار المتمدن-العدد: 8241 - 2025 / 2 / 2 - 22:30
المحور: الصحة والسلامة الجسدية والنفسية
    


تعد معدلات المرض والاضطراب النفسي بحسب الاحصاءات الصادرة عن مختلف الجهات هي الاعلى تاريخيا، اذ يعاني واحد من بين كل خمسة أشخاص، في الولايات المتحدة على سبيل المثال تجربة المرض النفسي، ويشخص واحد من بين كل 25 فرد باضطراب نفسي حاد. وفي عام 2013 تم وصف عقاقير لعلاج امراض نفسية لأكثر من 8 مليون طفل، مليون طفل منهم تحت سن الخامسة. فيما ارتفع استخدام مضادات الاكتئاب وحدها بنسبة 64% بين عامي 1999 و2014، إذ يتناول 13% من سكان الولايات المتحدة هذه العقاقير في الوقت الحالي1.

الى ذلك فقد أفادت منظمة الصحة العالمية في تقرير لها بأن معدلات الانتحار حول العالم قد ارتفعت بنسبة 60 % على مدار الـ 45 عاما الماضية ، وهو ما يمثل نصف إجمالي حوادث الموت العنيفة بين الرجال و 71 في المائة من حوادث الموت الناجمة عن العنف بين النساء. كما اوضح تقرير المنظمة ان الانتحار هو السبب الرئيسي للوفاة بين الفتيات المراهقات اللائي تتراوح أعمارهن بين 15 و 19 عاما في الولايات المتحدة ، فيما تضاعف معدل انتحار الفتيان السود الذين تتراوح أعمارهم بين 5 و 11 عامًا منذ التسعينيات في ذات البلد.

لا يتم التركيز على الاسباب الحقيقية وراء ازدياد معدلات المرض النفسي، وازدياد نسب المتعاطين للعقاقير والعلاجات النفسية ، كما لا يتم التركيز بالدرجة الكافية على: ما الذي يدفع النساء والمراهقات والسود في امريكا على سبيل المثال الى الانتحار؟

هنالك العديد من الاتجاهات لتفسير المرض النفسي، وتنطلق غالبية هذه التوجهات من ارضية تفصل الاضطراب والمرض النفسي عن بيئته الاجتماعية والظروف الاقتصادية والسياسية، ونمط الانتاج السائد في مرحلة تاريخية معينة، وتركز غالبية مدارس العلاج النفسي المعنية بتحليل وتفسير وعلاج الاعتلال النفسي على الجوانب الفردية والوراثية والبيولوجية، باعتبارها المحدد لصحة الانسان النفسية، او استعداده للإصابة بالمرض النفسي. وتلقى هذه الاتجاهات رواجا كبيرا في اوساط الاطباء والمعالجين النفسيين وكذلك الاكاديميين والباحثين في مجالات علم النفس والصحة النفسية والارشاد ومختلف العلوم الاجتماعية الاخرى.

وابرز هذه الاتجاهات هي اتجاه التحليل النفسي وما نتج عنه من فروع. ورغم الاختلاف الظاهري لمنظري هذا الاتجاه، الا ان مختلف المتبنين للتحليل النفسي يجدون ماضي الافراد وشكل علاقاتهم بوالديهم، اضافة الى ما تسمى بعمليات التثبيت المنطلقة من المناطق الشبقية ( فمية، شرجية، قضيبية). كما ان العمليات اللاشعورية وميكانزمات الدفاع المنبثقة عن الطاقة الجنسية المكبوتة، والصراعات فيما بين مكونات الجهاز النفسي ( الهو والانا والانا الاعلى) جميع هذه المفاهيم، وبغض النظر عن علميتها، هي من تحدد فيما اذا كان الفرد سيصاب بالمرض النفسي ام لا. ورغم وجود منظرين داخل مدرسة التحليل النفسي لم يتبنوا ما طرحه فرويد بشكل حرفي، انما جاء كل منهم بمفاهيم جديدة، او حاول مزج مذهب فرويد مع مذاهب اخرى قريبة منه، او حتى بعيدة عنه كل البعد. وكما عملت على ذلك مدرسة فرانكفورت، من خلال محاولات مزج التحليل النفسي بمنهج المادية التاريخية لكارل ماركس.

ومن دون الخوض في تفاصيل موقف كل منظر بقيت تفسيرات اتباع التحليل النفسي ، تستند الى كون الفرد منعزلا عن محيطه المادي بما يحتويه من صراع في سبيل تحقيق حاجاته، والقاء اللوم على شكل العلاقة فيما بين الطفل وامه وابيه، دون البحث فيما يعانيه الاب والام من مشقات وصعوبات وما يفرضه نمط الانتاج على العائلة والمجتمع بشكل عام. كما ان محاولة المزج التعسفي بين فرويد وماركس انما هي محاولة توفيقية بين فكرين متناقضين احدهما يعتمد المنهج المادي الديالكتيكي في تفسير والعمل على تغيير الواقع بالنسبة للمجتمعات وكذلك الافراد، وبين فكر يجعل حياة كل فرد وكأنها جوهر مستقل وقائم بذاته.

ان علاج المرض النفسي وفق تصور التحليل النفسي يركز على استعادة المشاعر والأفكار اللاواعية التي تكونت داخل الشخص نتيجة المرور بتجارب معينة في مرحلة مبكرة من عمره، حيث يعمل هذا العلاج على إظهارها وكيفية التعامل حيالها، من اجل التوصل إلى طريقة أفضل للخلاص من اثارها. وهذا المنهج يركز على ماضي الانسان فيما يتجاهل تحديات الحاضر والقلق من المستقبل، وهذه التحديات مرهونة بمعيشة الانسان وعمله وسكنه والاجر الذي يحصل عليه، وعلاقاته مع الاخرين من الذين يتحكمون بشكل هذه الحياة وموقعه هو داخلها، اضافة الى التهديد المستمر لإمكانية فقدان مصدر الرزق او عدم القدرة على الحصول على عمل، او شعوره بالعجز امام التحديات التي تقف بوجه قدرته على الحصول على الخدمات والاحتياجات المختلفة، خصوصا اليوم وفي ظل اكتساح نمط النيوليبرالية الاقتصادي ، الذي يزيد الفجوة بين الفقراء والاغنياء كل يوم بشكل رهيب.

اما الاتجاه الاخر فهو المعتمد على العلاج بالأدوية والعقاقير، وهو السائد لدى الكثير من الاطباء والمعالجين، ويتم تطبيقه اما لوحده او بالتزامن مع احد العلاجات غير الدوائية مثل العلاج التحليلي، او السلوكي - المعرفي او غيرهما. وفلسفة هذا العلاج تستند بالدرجة الاساس على ان المرض النفسي، ما هو الا تغيرات في كيمياء الدماغ تتعلق بالأسباب الوراثية او المزاجية او غيرها من الاسباب الاخرى. ويشكل هذا المنهج الذي يستبعد او يتجاهل العوامل المادية المحيطة بالإنسان والمشكلة لشخصيته والمؤثرة في صحته النفسية، سواء اكانت سياسية ام اقتصادية ام اجتماعية ام ثقافية، تحديا وعائقا امام المريض، لان السبب وفق هذا التصور دائما ما يكمن بالمريض نفسه، وعليه القبول بالفرضية القائلة إن المرض النفسي دائما ما يكون عبارة عن اختلال في التوازن الكيميائي الذي يحدث داخل الدماغ.

وعلى الرغم من أن الاتجاه المعتمد على الادوية في اطار علاج المرض النفسي يعود تاريخه إلى مئات السنين، فإن تطبيقه بشكل واسع في علاج الامراض النفسية والعقلية يعود للستين سنة الاخيرة. يؤكد هذا النموذج أن المرض النفسي يتأثّر بالجينات، وما مشكلات الصحة النفسية البارزة، كالاكتئاب والفصام، الا نتيجة للطبيعة الكيميائية الحيوية داخل الدماغ، وهو موقف معروف على نطاق واسع بنظرية عدم التوازن الكيميائي، وتستند المعالجة الفعالة بحسب هذا الاتجاه بالدرجة الاولى على العقاقير، اذ يرى المعالجون وفق هذا النهج أن الأدوية هي الركيزة التي تبنى عليها عملية معالجة المريض.

تعكس هيمنة البيولوجيا والوراثة، دون الاخذ بنظر الاعتبار عوامل البيئة التي يعيش داخلها الفرد، تعكس ما تعمل عليه السياسة الاقتصادية النيوليبرالية بدرجة كبيرة، اذ تتمحور اهم أسباب الاضطراب والمرض النفسي وحلوله في دماغ الفرد، وما يعدل الاختلال في الدماغ هي الادوية. بالمقابل يمثل نمو صناعة الأدوية المستخدمة في علاج الامراض النفسية وإنتاجها موردا للشركات، اذ تقوم هذه الشركات بتحقيق ارباح طائلة من وراء هذه السياسة. وهي سياسة إرجاع مصدر المشكلات إلى ادمغة الافراد، ما يعني التعمية وحرف الانظار عن الاسباب الكامنة وراء حدوث المشكلات النفسية، التي هي في جوهرها نتيجة للأوضاع السياسية والاقتصادية.

ان الرجوع الى الاسباب المادية سواء اكانت اقتصادية او اجتماعية او سياسية، كبيئة ضاغطة ومساهم اساسي في نشوء المرض النفسي، لا يلغي التأثير لكيمياء الدماغ ولا للعوامل الوراثية، كما انه لا يقلل من اهمية الادوية والعقاقير في علاج بعض الامراض والاضطرابات من هذا النوع، لكن اعتماد ما يحصل داخل دماغ الفرد كسبب اساسي ونهائي للمرض وليس كنتيجة، هو تعبير عن مصالح البرجوازيات الحاكمة، التي تعمل عبر مختلف مؤسساتها للتنصل عن مسؤوليتها الفعلية وراء نشوء وتضاعف اعداد المرضى النفسيين والعقليين في مختلف بلدان العالم، وخصوصا في البيئات الفقيرة. فالأفراد يعبرون عن مرضهم او صحتهم النفسية بالدرجة الاولى من خلال تفاعلهم الديالكتيكي مع واقعهم المادي الذي يعيشونه، ومع المجتمع الذي يعملون فيه ويقيمون العلاقات داخله في مرحلة تاريخية معينة.
تقدر منظمة الصحة العالمية أن واحد من كل 8 أشخاص في العالم يواجه مشكلة نفسية، وفي ذات الوقت تؤكد المنظمة وجود 301 مليون شخص يعاني من اضطراب القلق و280 مليون شخص من اضطراب الاكتئاب. ويمثّل الاعتلال النفسي سببا اساسيا من أسباب العبء المرضي على مستوى العالم، وتفيد التقديرات أن الاكتئاب ثاني العوامل المسببة للإعاقة على مستوى العالم. وفي ذات السياق، تفيد بعض الاحصاءات بأن فردا من كل 6 افراد في بريطانيا يواجه في كل أسبوع مشكلة نفسية شائعة، من قبيل القلق او الاكتئاب. فمنذ منتصف العقد الأول من هذا القرن، ساءت نتائج الصحّة النفسية في بريطانيا، حيث زادت معدّلات الانتحار. أما في الولايات المتحدة، فيُبدي زهاء 19.8% من المجتمع اعراض احد الامراض النفسية2. ويمكن القول مستويات السعادة والشعور بالرفاهية النفسية ادنى من الاحصاءات والتقديرات المتداولة، فيما نسب المرض النفسي في الحقيقة أعلى من المعلن وفي مختلف البلدان لكن بنسب متفاوتة.

ان ما ينتجه نمط الانتاج الرأسمالي وسعيه الحثيث لتحقيق التوسع في الاسواق وكسب المزيد من الارباح، يدفعه الى شن الحروب وفرض الحصارات الاقتصادية، على دول وشعوب بأكملها، ما يجعل شرائح كاملة من المواطنين عرضة للصدمات والاضطرابات النفسية. اضافة الى ذلك فأن سلب قدرة الانسان على عيش حياة طبيعية هانئة، حتى في البلدان المستقرة، يدفع قطاعا واسعا من الناس الى ادمان المخدرات والكحول في سبيل التمتع ولو براحة وقتية وهمية. هذا وفي ظل نفس نمط الانتاج ومع السلب المتواصل لإنسانية البشر، وكنتيجة للضغوط المختلفة التي يتعرضون لها، يندفع الكثير من الافراد الى ممارسة العنف على الفئات الاكثر ضعفا في محيطهم الاجتماعي.

فقد اكدت الدراسات في الولايات المتحدة ان واحدا على الاقل من كل خمسة اشخاص يتعرض للتحرش، وواحدا من كل اربعة ينشأ مع مدمنين، وزوجا من كل ثلاثة ازواج يتورط في عنف جسدي تجاه زوجته او اطفاله3، وهذه الظروف تترك وبشكل حتمي اثارا في مشاعر وافكار ضحايا هذه الممارسات ، كما تشكل لهم في كثير من الاحيان صدمات نفسية قاسية، قد لا يستطيعون الخلاص منها مدى حياتهم، من دون تقديم الرعاية النفسية المناسبة. لكن يبقى السؤال، لماذا تحدث هذه الممارسات من الاساس؟ لماذا يدمن البشر على المخدرات والكحول؟ وما الذي يدفعهم الى ذلك؟ ومن الذي يشجع ويسمح بعمليات التحرش والاغتصاب وتعنيف الاطفال والنساء بهذا القدر الكارثي؟ اليس هو ذاته نمط الانتاج القائم على اساس الفوارق الطبقية وعدم المساواة؟ اليس هو ذاته الذي يكسب مئات المليارات سنويا من خلال تجارة المخدرات والجنس؟ اليس هو القائم على اساس الفوارق الجنسية والقومية والدينة؟ اليس هو الذي يرعى انظمة عنصرية ودينية تضطهد وتقمع وتنتهك حقوق البشر بمختلف فئاتهم وشرائحهم؟
وبالعودة الى اتجاهات العلاج السائدة في وقتنا الحالي، نود الحديث عن احد ابرز اساليب المعالجة النفسية على مستوى العالم الان، الا وهو العلاج السلوكي - المعرفي . تؤكد الاحصاءات ان خمسين بالمئة من المعالجين النفسيين يتبنون في الوقت الحاضر العلاج السلوكي المعرفي في الولايات المتحدة. وتشير ذات الاحصاءات ان هذا النوع من العلاج لم يكن معروفا في النصف الاول من القرن العشرين، لكنه يلقى رواجا منقطع النظير في اوساط العاملين في مجالات الطب والارشاد النفسي خلال العقود القليلة الماضية ولغاية اليوم.

يركز العلاج المعرفي السلوكي في منهجه على علاج الامراض والاضطرابات النفسية، من خلال رصد افكار المريض ومشاعره وتصحيح افكاره ورؤيته نحو ذاته والعالم، وبالتالي التخلص من المشاعر السلبية عن نفسه وعن المحيطين به، ومحاولة اعادة دمجه بالمجتمع. ان هذا النوع من العلاج هو الاخر يبتعد عن الذهاب الى الاسباب الحقيقية، التي قد تسبب الاكتئاب او القلق او الفصام او اية امراض اخرى، فهو دائما ما يجعل الامراض النفسية، نتيجة لأفكار راسخة وتصورات مغلوطة عن انفسنا وعن الاخرين وشكل علاقتنا بهم. ورغم ان هذا الاسلوب من العلاج قد اتى بثمار جيدة في علاج بعض الامراض خصوصا الاكتئاب والقلق، الا انه يشجع ولو بشكل غير مباشر على بث روح التكيف مع الظروف والاوضاع التي يعيشها الافراد داخل المجتمعات حتى وان كانت هذه الظروف غاية في البؤس. ان هذا الاتجاه في العلاج يجعل مختلف الامراض نتيجة لسوء تكيف الانسان مع بيئته، ونتيجة لتفسيراته غير العقلانية لما يدور داخل دماغه وفي محيطه الاجتماعي، ويهدف بالمحصلة النهائية الى القبول بالواقع كما هو. بينما الذي يجب تغييره هو الافكار التي عليها القبول بهذا الواقع، وخلق نوع من الرضا حتى وان كان وهميا حيال البيئة التي يعيش فيها الانسان.

ان فاعلية هذا الاتجاه من العلاج تبقى فاعلية مبنية على فرض القناعة على المريض وبان المشكلة تكمن داخله وتتعلق به شخصيا، ورغم تبني المشتغلين على هذا النوع من العلاج على ان القلق والاكتئاب، المرضين اللذين يتصدران قائمة الامراض النفسية في العصر الحديث، هما نتيجة لظروف الحياة المعاصرة وتحويل الحياة الى مجرد سعي من اجل المال والمنافسة وتحقيق الشهرة، والعمل على ازاحة كل فرد من شأنه الوقوف بوجه تحقيق هذه القضايا، الا ان الاصرار يبقى على معالجة النتائج وليس الاسباب. إن شعبية العلاج السلوكي - المعرفي خلال القرن الحادي والعشرين، هي مثال آخر حي على فردية المرض النفسي، وفصله بشكل قصدي عن ظروفه الاجتماعية، وعن الصراع الدائم الدائر داخل المجتمع وما يرافق هذا الصراع وما ينتج عنه من فقر وتهميش وعنف، وملايين الضحايا من المرضى والمضطربين نفسيا وعقليا.

اما العلاج الوجودي، فهو ايضا احد العلاجات السائدة في عصرنا الحالي، ويركز هذا الاتجاه على ما يصيب الانسان من احباط وقلق او ملل وشعور بالعبثية، وما ينتج عن هذه المشاعر من رغبة بالعزلة او الانتحار او الاصابة بمختلف الامراض النفسية. ان التقنية الاساسية التي يعتمدها هذا العلاج هي اعادة احساس الانسان "بالمعنى"، واعادة شعوره بالمسؤولية تجاه ذاته والمحيطين به، ويركز هذا الاتجاه على الإرادة والاختيار، لأن البشر بحسب منطق العلاج الوجودي يملكون الحرية، ولديهم القدرة على تحمل مسؤولية ما يحدث لهم بشكل فردي. ومن هنا فإن العلاج الوجودي يرتكز على الوصول إلى معنى الحياة وإدراك البدائل المتوفرة، ثم الحرية في اختيار ما يناسب المواقف التي يواجها الافراد، والتي تعوق عملية تكيفهم النفسي والاجتماعي.

يمكن القول ان العلاج الوجودي ومختلف اتجاهات العلاج التي تستبعد تأثير السياسة والاقتصاد وعلاقة الفرد بمحيطه الاجتماعي بحياة الانسان او تهمش هذه العوامل وازاحتها الى المرتبة الثانية او الثالثة، تنسجم الى حد بعيد مع متطلبات العصر الرأسمالي، والتي تتعامل مع الفرد باعتباره المحدد والمسؤول عن مصيره، بعيدا عن مجتمعه. ومن هنا يسهم العلاج الوجودي بأهمية تحمل بؤس واعباء الحياة، ليس من منطلق محاولة تغييرها بما يخدم البشرية بشكل جماعي، انما يكون الخلاص فيها فرديا، والبشر كل منهم على حدا يجب ان يتحمل مسؤوليته ويتخذ القرارات المناسبة له، وليس من خلال العمل الجماعي بالضد من المسببين الحقيقيين لكل هذا البؤس والاستلاب الانساني.

بدل توفير الظروف الاسرية والاجتماعية والمدرسية الحديثة والمناسبة، وبدل توفير مستلزمات الحياة العصرية، ومختلف الاحتياجات الاخرى لجميع المواطنين، تعمل الانظمة الرأسمالية على توظيف علماء النفس والتربية وخبراء الإعلان والإدارة من اجل الدعاية والترويج لنظام قائم على اساس التظليل والخداع؛ اذ يركز هؤلاء على ان المشكلة لا تكمن في نظام الاستغلال القائم على سيطرة اصحاب رؤوس الاموال وشركاتهم وتحالفهم مع السياسيين الذين يمثلون مصالحهم. بدل ذلك يتم التأكيد على ان المرضى والعاطلين والمشرين هم الذين اختاروا هذا الاسلوب من الحياة، بسبب كسلهم او جيناتهم او خياراتهم غير المسؤولة. وبالتالي فان عدم القدرة على العمل لأي سبب كان، انما هي نتيجة لقرار فردي، اما النجاح المالي او الدراسي او في أي ميدان اخر، انما تعود لإصرار وعزيمة وارادة الانسان الفرد.

ان الجوهر في علم النفس المادي هو الانطلاق من اساس أن الافراد لا يعيشون في الفراغ. وبدلا من ذلك، فإنهم مرتبطون بعمق في شبكة من العلاقات الاجتماعية التي تحدد صحتهم او مرضهم النفسي، وضمن سيادة نمط محدد من الانتاج، والذي هو نمط الانتاج الرأسمالي في العصر الحالي، فأن عدم المساواة والاستغلال والاغتراب الناتج عن انفصال الانسان عما ينتجه، اضافة الى اليات ووسائل السلطات والأنظمة البرجوازية المختلفة في فرض سيطرتها. كل هذا يسبب للفرد انفصالا عن انسانيته ونموه الطبيعي والسليم، ما يشكل له تحديا ويضع امامه العراقيل في سبيل تحقيق ذاته وتطلعاته، وبالتالي فانه يكون فريسة سهلة للمرض النفسي وحتى الجسدي.

ان الامراض النفسية – الجسدية (السايكوسماتية)، ترتبط هي الاخرى بقلق الانسان وخوفه الناتج عن طبيعة العصر الحالي، فمرضى الضغط والسكري وقرحة المعدة والقولون العصبي وامراض المناعة الذاتية وغيرها، ترتبط بحسب الدراسات، بالوضع النفسي والاحتراق الناتج عن ضغط العمل، او ضغط تكاليف الحياة او العلاقات المبنية على الاستغلال بين العامل ورب العمل، او بينه وبين زملائه، او قد تكون نتيجة علاقات متوترة وسيئة مع افراد اسرته او زملاءه في المدرسة والجامعة، وهم الذين يعيشون وينشؤون في ذات المجتمع، وبالتالي فأنهم يعانون من تبعات ضغط ظروف الحياة ذاتها. ما يجعل الحياة في هذه المؤسسات حياة يسودها التوتر والاضطراب النفسي. كما تذهب دراسات اخرى ان اعباء الحياة وظروف البؤس والحرمان، تلعب دورا مهما في حدوث وتفاقم امراض مثل السرطان وامراض القلب، وغيرها من الامراض التي تودي بحياة ملايين البشر سنويا.

إن العجز الذي يعتري الفرد في المجتمع الرأسمالي وانعدام أمنه، هو نتيجة هذا المجتمع الذي حوله إلى كائن يعيش وحيدا منعزلا يعاني القلق والخوف، وهو ما ابرزه العديد من الكتاب والادباء البرجوازيين امثال بلزاك وديستوفيسكي وكافكا وغيرهم. هذا الخوف يؤدي لاختلال منظومته النفسية ويصاب بالعجز والشك، ما يشل قدرته على الحياة بشكل طبيعي، بالتالي لا يبقى امامه سوى المرض النفسي، او القبول بالواقع بشكل يتعارض اساسا مع كونه كائن اجتماعي فاعل وايجابي.

تشكل الرأسمالية وتحدد ذات الفرد إلى حد كبير؛ اذ لا يسمح النظام الرأسمالي والعمل داخله من حيث المبدأ، بنمو وتطور الصحة النفسية المثلى للفرد، حيث يوجد تناقض بين احتياجات الرأسمالية واحتياجات الفرد. والعمل وطبيعة العلاقات داخل المجتمع هي العوامل المركزية في معاناة وبؤس الكثيرين في ظل الرأسمالية. أن العمال بحاجة على الارتباط بمنتجات عملهم كتعبير عن إبداعهم الداخلي. لكن في ظل الرأسمالية، يكون العمل تجربة اغترابية كما يؤكد ذلك كارل ماركس. وما من خيار أمام الغالبية الساحقة في ظل الرأسمالية سوى الانخراط في العمل المأجور من أجل القدرة على البقاء. وعادة ما يكون العمل الزاميا ورتيبا ومملا ومرهقا.

وفي الختام، فان الصحة او المرض النفسي من وجهة نظر علمية مادية تنبع بالدرجة الاولى من تأثير الظروف البيئية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، منذ لحظة كنا اجنة في ارحام امهاتنا مرورا بالطفولة والشباب والكهولة ولحين الوفاة، وكل ما يحصل لنا من ضيق او اعتلال نفسي يجب بحث اسبابه في مجمل منظومة الحياة المتكاملة، وليس الاعتماد والبحث داخل الفرد ودماغه والدائرة الضيقة من المحيطين به فقط. والتجربة التاريخية منذ سيادة نمط الانتاج الرأسمالي تعلمنا انه ومع كل ازمة يقوم بها هذا النظام سواء اكانت حرب او ازمة اقتصادية او تعمق في الفوارق الطبقية داخل المجتمعات، فان نسب الامراض النفسية والعقلية تزداد بشكل كبير. اما علم النفس والصحة النفسية من منظور البرجوازية فهو محاولات لدمج الفرد واقناعه بالقبول بوضعه، والعمل الحثيث على تبرئة النظام الرأسمالي من تهم سوقه ملايين البشر سنويا ليكونوا فريسة للقلق او الجنون او الانتحار.
جلال الصباغ
1/ 2/ 2025
------ -------------------- ----------------------- ----------------------
1- المعلومات وردت في مقال مترجم عن Aeon ومنشور في موقع ميدان تحت عنوان (عقاقير وأدوية.. كيف تدمرنا صناعة الطب النفسي؟)
3- المرض النفسي مرض رأسمالي مقال لديڤيد ماثيوز، ترجمة علاء بريك هنيدي،23 نيسان 2024 مقال منشور على شبكة الانترنت.
3- جسمك يتذكر كل شيء، دور الدماغ والعقل والجسم في عملية الشفاء من الصدمات النفسية ( بيسيل فان دير كولاك) ترجمة محمد الخاخني . دار الكرمة للطباعة والنشر



#جلال_الصباغ (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لماذا الحرب؟ حول الرسائل المتبادلة بين فرويد واينشتاين
- الشيوعي العراقي والموقف من تصريحات السيستاني
- معرض بغداد الدولي للكتاب وأسلمة المجتمع
- ملاحظات حول رد سمير نوري على مقال لمؤيد احمد
- ملاحظات حول دعوة احد رجال الدين للتظاهر
- حول حرية الصحافة في العراق والمنطقة
- حول حركة سلم الرواتب
- عام الإنجازات!
- حركات الاسلام السياسي والعلاقة مع الغرب
- الحزب الشيوعي العراقي والمرتد كاوتسكي
- مشاركة الأحزاب المدنية في انتخابات مجالس المحافظات
- الرأسمالية وتدمير الحياة على كوكب الأرض
- حول مآسي الأطفال في العراق
- حول ازمة التعليم في العراق
- بغداد - كابل- الرقة .... ذات السلطة تنتج القوانين ذاتها
- الأجهزة الامنية في خدمة النظام
- البديل الاقتصادي للجماهير بين الليبرالية الجديدة والاشتراكية
- اتحاد الادباء والثوابت الايمانية وسعدي يوسف
- في العزلة عن الجماهير
- الجلوس على التل ام النضال من أجل الخلاص؟


المزيد.....




- -جزيرة إنستغرام-.. أكثر من 200 زلزال يضرب سانتوريني في اليون ...
- -لم أتوقف عن البكاء-.. رصاصة تخترق جدار منزل وتصيب طفلًا نائ ...
- تشييع جثمان حسن نصرالله وهاشم صفي الدين في 23 فبراير.. وهذا ...
- -9 آلاف مجزرة وأكثر من 60 ألف قتيل- في غزة.. أرقام مرعبة يكش ...
- الرئيس الكولومبي يصعّد انتقاداته لسياسات الهجرة الأمريكية وي ...
- الجيش الإسرائيلي يفجر 23 مبنى سكنيا في مخيم جنين
- كيف نطق الإنسان؟ أهم الفرضيات حول أصل لغة البشر
- ملك الأردن يلتقي ترامب بواشنطن في 11 فبراير
- نائبة أيرلندية: إسرائيل دولة فصل عنصري والعالم بدأ يدرك ذلك ...
- دفعة ثانية من الجرحى والمرضى تغادر قطاع غزة عبر معبر رفح


المزيد.....

- الجِنْس خَارج الزَّواج (2/2) / عبد الرحمان النوضة
- الجِنْس خَارج الزَّواج (1/2) / عبد الرحمان النوضة
- دفتر النشاط الخاص بمتلازمة داون / محمد عبد الكريم يوسف
- الحكمة اليهودية لنجاح الأعمال (مقدمة) مقدمة الكتاب / محمد عبد الكريم يوسف
- الحكمة اليهودية لنجاح الأعمال (3) ، الطريق المتواضع و إخراج ... / محمد عبد الكريم يوسف
- ثمانون عاما بلا دواءٍ أو علاج / توفيق أبو شومر
- كأس من عصير الأيام ، الجزء الثالث / محمد عبد الكريم يوسف
- كأس من عصير الأيام الجزء الثاني / محمد عبد الكريم يوسف
- ثلاث مقاربات حول الرأسمالية والصحة النفسية / سعيد العليمى
- الشجرة الارجوانيّة / بتول الفارس


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الصحة والسلامة الجسدية والنفسية - جلال الصباغ - الامراض النفسية وعلاجها من منظورين مختلفين